"بوم - بوم" ..قصة الكاتب الفرنسي: جول كلاريتي فؤاد دوارة

"بوم - بوم" ..قصة الكاتب الفرنسي: جول كلاريتي

تمدد الطفل فوق سريره الأبيض الصغير، عيناه متسعتان يحدق بهما أمامه بنظرة جامدة، يرى بها المريض ما لا يراه الأصحاء، أمه عند قدميه تفرك يديها لتمنع نفسها من البكاء، وهي تراقب في ألم حزين تقدم آثار المرض على وجه الطفل المحتقن، أما الأب العامل القوي فبذل جهدا واضحا ليكبح دموعه فلا تنساب من عينيه الحمراوين.

كان صباحا جميلا في شهر يونيو، تسلل الضوء ساطعا قويا، وملأ الحجرة الصغيرة في شارع الراهبات، حيث يحتضر الصغير "فرانسوا" ابن "جاك ليجران" وزوجته "مادلين ليجران".

إن "فرانسوا" في السابعة، أشقر الشعر، مورد الوجه، وحتى ثلاثة أسابيع مضت كان يفيض بالقوة والحيوية كطائر جميل، لكن الحمى أصابته، فعادوا به من المدرسة ذات مساء، ثقيل الرأس، ملتهب اليدين، من يومها وهو راقد في فراشه لا يكف عن الهذيان المحموم، كلما لمح حذاءه الأسود الصغير مدهونا بعناية وقد وضعته أمه في أحد الأركان، ردد المرة بعد الأخرى: - "حذاء فرانسوا يمكنكم أن ترموه! الصغير فرانسوا لن يلبسه بعد ذلك أبدا! الصغير فرانسوا لن يعود إلى المدرسة أبدا.. أبدا".

فيصرخ الأب بأنين:

- اسكت، اسكت يا صغيري!!

وتدفن الأم الشاحبة رأسها الذهبي لا وسادته لكي لا يسمعها فرانسوا الصغير وهي تنتحب.

في تلك الليلة لم يهذ الطفل، ولكن الطبيب كان قلقا مع ذلك بسبب انهيار غريب بدا عليه، كأنه استسلام للموت، وكأن الصغير ذا السبع سنوات لم يعد راغبا في أن يعيش أكثر من ذلك، كان منهكا وصامتا وحزينا، ينقل وجهه الناحل فوق الوسادة من ناحية لأخرى، وقد غابت البسمة عن شفتيه المحتقنتين، وعيناه الزائغتان تبحثان وتريان هناك، هناك بعيدا جدا شيئا لا يعرفه أحد.. فكرت مادلين وهي ترتعد: لعله يرى السماء!

رفض كل محاولاتهم لإقناعه بتناول قليل من الشاي، أو العصير، أو الحساء، وظل مصرا على رفض أي شيء..

- هل تريد شيئا يا فرانسوا؟

- لا.. لا أريد شيئا..

كان الطبيب قد قال:

- هذه الغيبوبة الفظيعة يجب أن يخرج منها بأي طريقة! أنتما أبواه وتعرفان ابنكما جيدا، حاولا أن تجدا شيئا يمكن أن يبعث الحياة مرة أخرى في هذا الجسد الصغير، ويعيد إلى الأرض هذه الروح التي بدأت تحوم بالفعل بين السحب!

وذهب

- "حاولا!!"

نعم، لا شك أنهما يعرفان صغيرهما فرانسوا جيدا! يعرفان كيف يحب أن يتنزه في الريف بعد ظهر كل يوم أحد، ثم يعود إلى باريس محمولا على أكتاف والديه، وقد حمل معه كمية كبيرة من الزهور البرية، أو يتفرج على مسرح العرائس في "الشانزلزيه" مع أولاد الأثرياء.

ذهب جاك ليجران واشترى لعبا لفرانسوا كـ"الديسكوب" وجنودا مذهبة، أخرجها ووضعها فوق سرير الصغير ورقصها أمام عينيه الحائرتين، وحاول بكل وسيلة إضحاك الصغير وهو نفسه تكاد الدموع تطفر من عينيه.

- انظر، ها هي ذي معركة كبيرة تدور- بانج! بوم! وهذا هو الجنرال، لقد رأينا مرة جنرالا في غابة بولونيا، أتذكر؟ إذا أصبحت ولدا ظريفا وشربت شايك فسأشتري لك جنرالا حقيقيا بمعطف من القماش السميك، وشارات ذهبية على كتفيه، نعم، جنرال، هيا قل لي - هل يعجبك؟

وبصوت خشن من تأثير الحمى أجاب الطفل:

- لا.

- هل تريد مسدسا، وبعض البلي الملون - قوس وسهام؟

وبحسم قريب من العنف أعاد الصغير:

- لا.

كل ما قالوه وما ذكروه من لعب وبالونات، لم يقل عنه الصغير غير: " لا، لا، لا". وأبواه يتبادلان النظرات اليائسة.. سألته أمه:

- "ولكن أليس هناك ما تريده يا صغيري؟ ماذا حدث؟ كنت دائما تطلب أشياء كثيرة". ثم وضعت خدها فوق وسادته وهمست في أذنه برفق، وكأنها تبوح له بسر:

- "قل لي - قل لأمك".

وإذا بالطفل يجلس في فراشه، وفي عينيه نظرة غريبة، ويمد يده الصغيرة نحو شيء لا يرى، ويجيب فجأة، بصوت آمر ومتوسل في الوقت نفسه:

- أريد بوم - بوم!

- بوم - بوم!!

نظرت مادلين البائسة إلى زوجها بجزع، ماذا يقول الصغير؟ هل هو هذيان الحمى مرة أخرى - هذا الهذيان الفظيع - هل عاوده من جديد؟

بوم- بوم!.. لم تفهم، وأفزعتها الكلمة الغريبة التي ظل الطفل يعيدها المرة بعد الأخرى، وكأنه كان عاجزا من قبل عن تشكيل حلمه، فلما عثر عليه، تشبث به بعناد لا يقهر..

- نعم، بوم - بوم! بوم - بوم! أريد بوم - بوم!

أمسكت الأم بيد زوجها بانفعال شديد وقالت بصوت خافت مبحوح، وكأنها أصيبت بالجنون:

- جاك، ما معنى هذا؟ لقد انتهى! انتهى!

لكن تقاطيع وجه الأب التي حفر عليها العمل الشاق آثاره القاسية، انفرجت عن ابتسامة تنم عن قدر من السعادة، لا تخلو من شك مع ذلك، كتلك الابتسامة الخجلى التي تعلو وجه المحكوم عليه بالإعدام وهو يستمع إلى من يحدثه عن الحرية.

"بوم - بوم"! ها هو ذا يتذكر جيدا، صباح أحد عيد الفصح، يوم صحب فرانسوا إلى السيرك، وما زالت ترن في أذنيه صرخات الفرحة التي أطلقها الطفل حين ظهر المهرج في ثوبه الأسود اللامع وعلى صدره فراشة ذهبية كبيرة، وأخذ يرقص على المسرح ثم سار على أربع كالحيوانات، واعتلى ظهره فارس صغير، ثم وقف على رأسه، وأخذ يطوح بقدميه في الهواء، ويضع على رأسه قبعات من القش واحدة فوق الأخرى حتى كون هرما عاليا.

في كل دورة ومع كل حيلة جديدة كان المهرج يصيح الصيحة نفسها: بوم - بوم! وتصاحبه الموسيقى كل مرة بعزف صاخب، بوم - بوم !، لكأنه يصنع بها فاصلا مرحا ضاحكا بين كل لعبة وأخرى.

بوم- بوم! وكل مرة يقولها يضج المسرح كله بالتصفيق، ويضحك الصغير ضحكته العالية.

هذا إذن "بوم - بوم" الذي يريده فرانسوا، إنه مهرج السيرك المحبوب هو الذي يريد فرانسوا رؤيته والحصول عليه، ولكنه لا يمكن أن يحصل عليه أو يراه، لأنه راقد هنا في فراشه الأبيض الصغير وقد اشتد عليه المرض.

في ذلك المساء اشترى جاك ليجران لابنه لعبة على شكل مهرج ذي مفصلات وملابس حمراء لامعة، كان ثمنها غاليا جدا يعادل أجر أربعة أيام من عمله الشاق! لكنه كان على أتم الاستعداد للتضحية بأجر عشرين أو ثلاثين يوما، بل للتنازل عن أجر سنة ليجلب البسمة إلى شفتي طفله العزيز المريض.

نظر الطفل إلى اللعبة اللامعة عدة لحظات وهي ملقاة على ملاءة السرير البيضاء، ثم قال بحزن:

- هذا ليس بوم - بوم! أريد أن أرى بوم - بوم!

آه، لو أن جاك يستطيع أن يلفه في أغطية السرير ويحمله إلى السيرك، ليريه المهرج وهو يرقص تحت الأضواء الساطعة، ويقول له "تفرج"! ولكن الأب المهموم فعل ما هو أفضل، ذهب إلى السيرك وسأل عن عنوان المهرج، ثم في خجل صعد درجات السلم المؤدي إلى شقة الفنان في "مونمارتر" صعدها درجة درجة، وساقاه لا تكادان تحملانه من الاضطراب، فقد كان ما يفعله جريئا في نظره، ولكن ألا يرحب كل الفنانين بالغناء وإلقاء الشعر في بيوت الكبراء، فلعل المهرج يوافق على الذهاب معه - مقابل أي شيء يطلبه - ليقول لفرانسوا "صباح الخير".

ولا يهم كيف، استقبل جاك ليجران هناك في بيت بوم بوم، إنه ليس بوم - بوم، بل مسيو مورنز، والحجرة الأنيقة بكتبها ولوحاتها، وبقية الأدوات الفنية، تكون إطارا ملائما لذلك الرجل الساحر الذي صحب جاك إلى حجرة مكتبه الصغيرة، وكأنها حجرة طبيب.

تأمله جاك، فلم يتعرف فيه على المهرج، فأخذ يطوي قبعته بين يديه ويفردها، والرجل ينتظر، ثم اعتذر الأب عن مجيئه، وطلبه الغريب، فلولا الصغير ما كان ليتجرأ ويأتي إلى هنا..

- إنه طفل رائع يا سيدي! وشديد الذكاء! هو الأول على صفه الدراسي في كل المواد، باستثناء! الحساب، إنه خيالي - ذاك الصغير - نعم خيالي، وهاك الدليل يا سيدي.

تردد جاك وتلعثم، ثم استعاد شجاعته وعبر عما يريد دفعة واحدة:

- الدليل أنه يريد أن يراك، وأنه لا يفكر في شيء سواك، فأنت موجود هناك، كنجم يتوق للوصول إليه، ولا يكف عن التطلع إليه!

حين انتهى الأب من حديثه بدا وجهه شاحبا، وعلت جبهته حبات عرق كبيرة لم يجرؤ على النظر للمهرج، ترى ماذا سيقول "بوم - بوم" العظيم؟ هل سيطرده؟ هل سيظنه مجنونا؟ أم سيكتفي بأن يريه الطريق إلى الباب؟

ولكنه سمع صوت بوم - بوم يسأله:

- أين تسكن؟

- آه، في شارع الراهبات، قريب جدا من هنا!

فقال الرجل:

- هيا بنا إذن، إن ابنك يريد أن يرى بوم - بوم، جميل، سوف يرى بوم - بوم.

فتح الباب ودخل المهرج مع جاك ليجران الذي ارتفع صوته عاليا:

- فرانسوا، أنت محظوظ أيها الشقي! ها هو ذا - ها هو ذا بوم - بوم!

علت وجه الطفل ابتسامة سعيدة، ونهض بجسده مستندا إلى ذراع أمه، واتجه ببصره نحو الرجلين، ظل لحظة يحاول أن يتذكر من يكون هذا السيد الواقف إلى جوار أبيه ولكنه لا يعرفه، من يكون هذا السيد ذو المعطف الثمين والابتسامة الحيية،. حين أخبروه أنه بوم - بوم تراجع إلى الوراء ببطء، ودفن وجهه في وسادته، حيث ثبت عينيه الزرقاوين الواسعتين، يبحث وراء جدران الغرفة الصغيرة عن ثوب بوم - بوم اللامع وفراشته الذهبية، كما يبحث العاشق عن معبوده.

قال الطفل بصوت لم يعد خشنا، بل شديد الحزن:

- لا، لا، هذا ليس بوم - بوم.

نظر المهرج الواقف إلى جوار السرير الصغير، إلى الطفل المريض نظرة تفيض بالرقة والحزن، ثم قال وهو يرمق الأب القلق والأم محطمة القلب:

- إنه على حق، هذا ليس بوم - بوم.

وذهب.

أخذ الطفل يردد:

- لن أرى بوم - بوم أبدا! لن أرى بوم - بوم بعد ذلك أبدا!

بدا صوته شفافا وكأنه يخاطب الملائكة، فلعل بوم - بوم عندهم هناك حيث سيذهب فرانسوا بعد قليل.

قبل أن تمر نصف ساعة على اختفاء المهرج، فتح الباب فجأة، وإذا به في ردائه الأسود اللامع، وعلى صدره فراشته الذهبية الكبيرة، وعلى ظهره أخرى، وابتسامة عريضة تملأ وجهه المطلي بالمساحيق، إنه بوم - بوم.. بوم - بوم الحقيقي، بوم - بوم السيرك الذي يحبه الناس ويتوق فرانسوا لرؤيته!

من فوق فراشه الأبيض ضحك الصغير، وقد أطلت فرحة الحياة من عينيه، صرخ بسعادة، وصفق بيديه، وأخذ يصيح بمرح طفل في السابعة، دبت الفرحة فيه فجأة كأنما اشتعلت بعود ثقاب:

- إنه بوم - بوم! بوم - بوم حقا هذه المرة! ها هو ذا بوم - بوم! مرحى، مرحى بوم - بوم! كيف حالك يا بوم - بوم؟

***

حين عاد الطبيب في ذلك اليوم وجد إلى جوار وسادة فرانسوا مهرجا مصبوغ الوجه يداعب الطفل، وهو يذيب له قطعة من السكر في كوب الدواء، ويقول:

- أتعلم يا فرانسوا أنك إذا ا تشرب هذا، فإن بوم - بوم لن يأتي بعد ذلك.

أطاع الطفل وشرب الدواء، فقال المهرج للطبيب:

- دكتور، يجب ألا تغار إذا قلت لك إن حيلي أفادته بقدر ما أفادته أدويتك!

وبكى الأبوان، ولكن من الفرح هذه المرة.

وإلى أن شفي فرانسوا وغادر فراش المرض، ظلت عربة تأتي كل يوم من مونمارتر وتتوقف أمام بيت العامل في شارع الراهبات، وينزل منها رجل متدثر بمعطف واسع، وقد رفع ياقته إلى أعلى، وتحت المعطف كان يرتدي ملابس السيرك اللامعة.

حين جلس الطفل في فراشه لأول مرة، قال جاك ليجران للسيد المهرج:

- ترى بكم أنا مدين لك يا سيدي؟ لا شك أني مدين لك بالكثير!

مد المهرج يديه الاثنتين نحو الوالدين وكأنهما يدا هرقل، وقال:

- بهزة يد من القلب.

ثم طبع قبلتين طويلتين على وجنتي الطفل حيث عادت إليهما دماء الصحة ثم أضاف وهو يضحك:

- وكذلك بأن تأذنا لي أن أضيف إلى بطاقتي الشخصية هذه العبارة:

"بوم - بوم مهرج طبي، والمعالج الخاص للصغير فرانسوا".

 

فؤاد دوارة

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات