الإسعاف الطبي

الإسعاف الطبي
        

          عندما يكون الإنسان محور المجتمع الذي ينتمي إليه، يسخر كلّ ما في ذلك المجتمع لخدمته وتحقيق سعادته، وإذا ما هُمّش الإنسان في مجتمعه أمسى كلّ شيء يسير ضده حتى الإجراءات التي من شأنها أن تحفظ حياته كما هو الحال وقت الإسعاف في الأزمات الطبية.

          فأين يقف المجتمع العربي في تقديم الخدمات الإسعافية لمواطنيه؟ وهل يختلف الأمر من بلد عربي لآخر؟

          ممّا لا شك فيه أن العالم العربي يعيش أزمةً حقيقية على جميع صعد مؤسساته إذا ما قورنت حالته بمثيلاتها في الدول المتقدمة. فالعمل المؤسساتي المنظم التآزري بين مؤسسات المجتمع العربي الطامح إلى هدف محدد مدروس ومثمر ضمن أطر متناسقة لايزال إما رهين أحلام وردية في بعض الدول العربية، وإما رضيعًا في مهده ينتظر من يرعاه ليشب طوقه ويشتد ساعده في بعض الدول العربية الأخرى. وممّا لا يخفى على أحد أن تغيير هذا الواقع لن يتحقق بالتمني، ولكنه يحتاج إلى جهود جبارة وفتح قنوات الحوار الصادق والتواصل البنّاء بين جميع العاملين في هذه المؤسسات، في جو من النقد الذاتي الذي يسوده جو من الاحترام المتبادل لكلّ الشركاء ليخلق الريح التي تقود السفينة إلى بر الأمان فيربح الجميع. ولكن هذا النقد وللأسف لايزال رهين الغيب المجهول يتحمل كل من الرئيس والمرؤوس في المؤسسات تبعاته، فالعامل أو الموظف أو أي عضو في أية مؤسسة، والذي يود أن يغيّر واقع المؤسسة بأسلوب اندفاعي عاطفي في أغلب الأوقات ممّا يؤدي بالطرف الآخر في سدة الإدارة إلى أن يحرمه الحق في نقد الواقع بأي أسلوب. وتئول النتيجة الحتمية في هذا الصراع اليومي المستمر إلى أن تمخر سفينة المؤسسة عباب بحر هائج من البيروقراطية الآسنة الكريهة، ويبقى الحال في العالم العربي أسير الواقع المر دون تغيير رغم سير العالم كلّه من حوله نحو الأفضل، وينعكس هذا الواقع عمليًا بظلال سلبياته على كاهل المواطن العربي ممّا يضطره لاجترار همومه الحياتية اليومية، التي لا يبدو عليها بوادر انفراج في الأفق القريب، منتظرًا المنقذين العاملين الذين يعيدون الحياة إلى نصابها السوي بعزيمة صادقة وإرادة مخلصة تطمح للكمال.

          وأضرب اليوم نموذجًا لأمر حيوي في حياة المجتمعات وهو تقديم الإسعاف الطبي للمواطن عند حدوث أزمة صحية من شأنها أن تودي بحياته، كحدوث أزمة قلبية أو دماغية أو حادث سير ممّا يضطر لنقل المريض إلى مراكز متخصصة لعلاجه. ولئن حظي هذا الأمر بعناية الدول المتقدمة التي تقيم لحياة مواطنيها وزنًا وتقدم كلّ ما من شأنه الحفاظ عليها، فتراها تعمل بكلّ مؤسساتها المتخصصة ضمن أوركسترا واحدة لتعزف سيمفونية الخلاص والأمان وسلامة المواطن, إلا أن عالمنا العربي لايزال يعيش أميالًا عديدة بعيدًا عن مثل هذه العناية. وليس هدفي من هذا المقال الإساءة لأحد أو لنظام صحي في أي بلد عربي، ولكن هدفي وأملي أن تصل أفكاري إلى آذان صاغية وقلوب واعية تؤمن أولًا بأن علينا جميعًا، أفرادًا ومؤسسات وحكومات عربية، دورًا جوهريًا للرقي بهذه المهمة النبيلة التي تخصنا جميعًا مهما كان حالنا ودورنا في مجتمعاتنا، وثانيًا توقن بأن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم.

البنية التحتية الأولية

          تبدأ عملية الإسعاف في العالم المتحضر بمعرفة الإحداثيات الأولية لتعيين مكان الضحية أو المريض الذي يحتاج للإسعاف. ولذلك نجد أن جميع المدن والمناطق المأهولة هي مناطق منظمة يسهل عليك الوصول لأية بقعة فيها بسهولة ويسر، وإن لم تَرد تلك البقعة من قبل، فالشوارع أعطيت أسماء واضحة وكلّ بيت أو مؤسسة أعطي رقمًا واضحًا يميزه دون غيره، لا بل إن وجدت أرضًا لا يقوم عليها بنيان أعطيت رقمًا محددًا، حتى إذا ما عُمّرت وأُقيم عليها بنيان مستقبلًا لم يُخل ذلك بالمنظومة القائمة أبدًا.

          أما بالنسبة للطرق الواصلة بين المدن فقد وضعت علامات كلّ 300 - 500 متر تشير إلى مكان وقوف الشخص ليسهل عليه تحديد إحداثياته فيما لو تعرض لطارئ يستدعي إسعافه أو مساعدته.

          وعند تعرض الإنسان لأي حادث أو أزمة صحية يكفي أن يتصل بالطوارئ على الرقم العالمي 911 ويعطي عنوانه وينتظر النجدة التي تصل دونما صعوبة خلال دقائق معدودات. ويُجري سائقو سيارات الإسعاف والطوارئ الأخرى كالإطفاء مثلًا دورات تدريبية مستمرة للتآلف مع إحداثيات المناطق التي يغطونها، حتى إذا ما حدث طارئ ما وجدتهم ينتقلون إلى الموقع بسهولة بالغة دون ارتباك. ولقد رافقت سيارات الإسعاف لجلب المرضى بينما كنت في بريطانيا والولايات المتحدة فأعجبت بسرعة السائقين وقدرتهم على التعرف على بيوت المرضى كما يتعرف أحدنا على بيته، وربّما يعود السبب في ذلك إلى سهولة تحديد إحداثيات مكان المريض المصاب بسبب يسر وتنظيم البنية التحتية للمدن في العالم الغربي.

          أما في بلادنا العربية، فلا نزال بعيدين كلّ البعد عن ذلك، فالكثير من مدننا لاتزال تنمو بأسلوب «سرطاني» غير منظم تكثر فيه المخالفات. ولا يمكن لأحدنا أن يصل إلى بيت صديق له أيام الرخاء إلا بعد أن يصاب بالدوار وأن يسأل العشرات في طريقه إلى العنوان، الذي غالبًا ما يُرفق بنقطة علام للاستدلال كأن يذكر اسم صيدلية أو بقالة أو مؤسسة مشهورة لبيان موقع البيت بالنسبة إليها! حتى الشوارع التي تحمل الأسماء في المدن الكبيرة، هي مجهولةٌ لا لسائقي سيارات الإسعاف فحسب بل لمن يقطن الشارع نفسه، وأذكر يومًا أنني بعد عودتي من الولايات المتحدة كنت أبحث عن عيادة لي في دمشق فشاهدت إعلانًا لعقار في منطقة راقية في شارع يحمل اسم عبدالرحمن الغافقي جادة ابن حزم، ولكم راعني أن الكثير ممن يقطنون المنطقة لا يعرفون اسم الشارع ولا الجادة، فكيف للمنقذ أن يصل إلى الضحية لينقذها وقت الأزمة، وكيف لهؤلاء أن يرشدوه إن ضل السبيل؟!

          ولذلك فإنني أقترح إذا ما سعت المؤسسات الطبية في العالم العربي لتحسين الخدمات الإسعافية الطبية أن تبادر للعمل الوثيق التآزري مع كلّ المحافظات وبلديات المدن والقرى، لتشجيع نشر ثقافة التنظيم العمراني في المجتمع فلا تقبل فاتورة الكهرباء أو الماء أو أي من الخدمات إلا بإعطاء العنوان الكامل الذي يحمل اسم الشارع الذي يقطنه المواطن واسم الجادة الفرعي ورقم البناء ورقم الشقة أو المنزل. كما يمكن التعاون في هذا المجال مع وزارات التربية لوضع المناهج اللازمة لخلق جيل واع منظم عمرانيًا. وهل يضيرنا أن نكلّف أطفالنا بواجب بيتي قوامه استقصاء الأحياء التي يعيشون فيها ليعوا الأسماء الحقيقية للشوارع والجادات وأرقام الأبنية التي يقطنونها وأرقام منازلهم، وينقلون ما تعلموا لذويهم وإخوانهم الذين يعيشون معهم تحت سقف واحد. كما يمكن لوسائل الإعلام المختلفة أن تلعب دورًا حيويًا بإرشاد المواطن العربي وتوعيته إلى ضرورة معرفة حيه والشوارع والجادات المحيطة به، ليتسنى له الإفادة منها وقت الملمات وحالات الإسعاف. وكلّي يقينٌ أن هذه الإجراءات ستنعكس إيجابا على العملية الإسعافية في المستقبل بسهولة تحديد إحداثيات الضحية.

فقه المرور الإسعافي

          بعد الحديث عن البنية التحتية للمدن وأهميتها في تحديد موقع وإحداثيات الضحية، لا بد من الحديث عن سير مركبة الإسعاف وسط المدن للوصول إلى الضحية وإنقاذها. والعالم المتحضر سن من القوانين ما يضمن وصول المنقذين إلى من يحتاج المساعدة في وقت مثالي، ولا تزال هذه القوانين قيد الفحص والتمحيص والنقد البنّاء، بما يضمن تقصير الوقت المنقضي بين اتصال المريض أو الضحية ووصول المساعدة اللازمة إليه، وألا يتجاوز هذا دقائق على أية حال. ولكن كيف أمكن لهذا الأمر أن يتم؟

          لقد تم هذا الأمر بسنِّ عدد من القوانين التي تنظم جميع مراحل الإنقاذ، والسهر الدائم على حسن سير هذه القوانين وتطبيقها، ومعاقبة كلّ من تسول له نفسه أن يخترقها. ويبدأ الأمر مرةً أخرى من البنية التحتية للمدن التي سنّت وجود مسرب خاص لسيارات الإسعاف والإطفاء وكلّ فرق الإنقاذ الأخرى، واشترطت تلك القوانين على ألا يٌستخدم ذلك المسرب إلا لتلك الفرق حصرًا حتى في أشد أيام الازدحام. وتعتبر المخالفة المرورية لمن سولت له نفسه السير على هذا المسرب، حتى في حال غياب أية حالة طوارئ في الأفق، أضعافًا مضاعفة من المخالفات المرورية العادية وما هذا إلا ليذوق المخالف سوء ووبال ما جنت واقترفت يداه، وحتى لا توسوس له نفسه العودة لهذا الأمر مرةً أخرى.

          فأين هذه المسارب في الطرق العربية؟

          لئن قال قائلٌ بأنها موجودةٌ في بلد لم تتح لي فرصة زيارته بعد، فالسؤال هو: هل تحترم قدسية تلك المسارب الإسعافية فتُترك لما وجدت أو قُدرت له؟

          ومن القوانين الأخرى التي سنت لفرق الإنقاذ والإسعاف خاصة أنه عند سماع أو مشاهدة سيارة الإسعاف خلال تأديتها لمهمتها لابد أن يتنحى الجميع لها، ويلزموا اليمين حتى لا يعوقوا سير حركتها وإن وجد مسرب خاص لها، وخرق هذا القانون قد يفقد المرء رخصة قيادته، ولا يستعيدها إلا بعد أن يخضع لدورات «تأديبية»، غايتها أن يدرك المرء أهمية إخلاء الطريق لفرق الطوارئ لإنقاذ حياة إنسان. وتركز تلك الدورات على إدراج سيناريوهات تضع المشاركين الذين خرقوا القانون في موضع يحتاجون فيه أنفسهم للإسعاف، ويرصدون تفاعلاتهم فيما لو جاء من تصرف بمثل ما تصرفوا هم به من عدم فسح المجال للوصول للضحية. وممّا لا شك فيه أن هؤلاء المارقين على القانون لن يعودوا إلى ما كانوا عليه، بعدما تبين لهم عِظَمَ ما اقترفت أيديهم من تعطيل إنقاذ حياة إنسان وربّما كانوا السبب في وفاته لعدم تلقيه العلاج المناسب في الوقت المناسب.

          ولقد ذهبت بعض الولايات في الولايات المتحدة الأمريكية إلى إجراءات رائدة في سبيل تيسير وصول الضحايا والمرضى إلى المشافي بأسرع وقت ممكن ليصار إلى إنقاذ حياتهم. ومن هذه الإجراءات ما شهدته في مدينة فارجو Fargoمن ولاية داكوتا الشمالية North Dakota على الحدود الكندية، حيث تم تزويد رجال الإسعاف والإطفاء والشرطة بأجهزة تحكم عن بعد «Remote Control» تعمل على إشارات المرور في المدينة بحيث تضمن هذه الفِرق أن طريقها سيكون أخضر خلال اجتيازها للإشارات الضوئية ممّا يقلل من أخطار الحوادث، ثم تعود هذه الإشارات لسابق عهدها بعد عبور سيارات الإنقاذ.

أخلاقيات الإسعاف وثقافة المجتمع

          إن أخلاق الإسعاف تكمن في عدم استغلال المسعفين للقوانين الطارئة التي يعملون بمقتضاها، حتى تُحترم هذه القوانين من قبل أفراد المجتمع وتصان قدسيتها بما يعود على الضحية بالفائدة العظمى والخير كلّه. ولاأزال أذكر ذلك اليوم الذي لمست فيه احترام العالم المتحضر ممثلًا بالقائمين بمهمة الإسعاف لهذه القوانين. كان ذلك عام 1996، وكنت يومها مقيمًا في مشفى مدينة ووترفورد الإقليمي «Waterford Regional Hospital» في الجنوب الإيرلندي، وخلال مناوبتي في قسم الأمراض الداخلية كان عليّ أن أقوم بتغطية قسم الإسعاف والطوارئ للحالات الداخلية، وبعد منتصف الليل بقليل، جاءني اتصال من قسم الإسعاف لتقييم رجل جاء بتغيم في الوعي، هرعت إلى قسم الإسعاف وفحصت المريض ، ثم طلبت له تصويرًا للدماغ لنفي وجود نزف دماغي، لاسيما أنه كان يعاني من ارتفاع في الضغط الشرياني ولكنه يتناول أدويته حسب توصيات الأطباء. وما هي إلا دقائق حتى جاء التقرير الشعاعي بوجود نزف يستوجب نقل المريض إلى مركز الجراحة العصبية في جامعة كوركCork University بمدينة كورك أقصى الجنوب الإيرلندي. وكان عليّ أن أرافق المريض مع ممرضة للعناية به خلال الطريق، هرعنا على الفور إلى سيارة الإسعاف التي شقت طريقها مسرعة عبر الظلام الدامس من الثلث الأخير لليل نحو المركز المنشود. كانت كورك تبعد عن مدينة «ووترفورد» مسير أربع ساعات، اخترقت السيارة خلالها العديد من المدن الصغيرة المتناثرة على الطريق بين المدينتين. وقد لفت انتباهي أن السائق لم يكن ليطلق صفارته المدويّة خلال المدن النائمة، وعندما سألته عن السبب أجاب أن الغاية من الصفارة تنبيه الغافل لفتح الطريق، فعلام يطلقها والطريق مفتوح وخال من المارة، إن إطلاقها خلال ذلك الوقت من الليل قد يسيء للناس النيام فيقض مضجعهم ويزعجهم. وعندما سألته عن سبب تشغيله لأضواء الإسعاف أجاب أن ذلك ضروري ليُعرف أنه في مهمة رسمية وأنه يحمل مريضًا بحاجة للإسعاف.

          تم إيصال المريض إلى المشفى الجامعي وكان فريق الجراحة العصبية الدائم التواصل معنا خلال الطريق بانتظار المريض، فهرع به فور وصولنا إلى غرفة العمليات حيث تم إنقاذه. تناولت وسائق الإسعاف والممرضة المرافقة فطورًا سريعًا في مطعم المشفى وعدنا أدراجنا لمدينة ووترفورد.

          خلال عودتنا في الصباح، كانت الطرقات مكتظةً بأناس متوجهين إلى أعمالهم ومدارسهم أو كلّياتهم، وكان علينا أن ننتظر طويلًا عند إشارات المرور. وبعد ضجري من طول الطريق سألت السائق : هل لك أن تطلق أضواء الإسعاف لسيارتك أو تطلق الصفارة ليصار إلى فتح الطريق لنا؟ أجاب السائق لا يمكن لي فعلُ ذلك وأنا لا أحمل مريضًا في السيارة. قلت ممتحنًا له: ومَن سيوقفك ؟ قال: لا أحد، ولكن إن حصل أي طارئ لنا كأن ندخل في حادث لا سمح الله ، وتبين أننا لا نحمل مريضًا معنا فسيفقد الإسعاف والمسعفون مصداقيتهم في المجتمع وهذا ما لا أريد أن يكون من إنجازاتي أو يؤثر عليّ في حياتي، آسف يا دكتور لأنك لم تعتد هذه السفرات الطويلة في سيارة الإسعاف، ولكن هناك خطوطًا حمراء لا يمكننا تعديها أو تجاوزها، نظرت بعيني الإعجاب إلى ذلك المخلص بعمله وإلى احترامه لقوانين مهنته وإلى صبره على أداء مهمته على الوجه الأمثل وقلت له: لا عليك يا عزيزي فسفرٌ طويل برفقة أمثالك لَهو مكسبٌ ومصدر فخر نقلد به صدورنا.

خبرة كوادر الإسعاف

          يعتبر الكادر الإسعافي حجر الزاوية في العملية الإسعافية. ويتطلب تأهيل هذا الكادر تدريبًا خاصًا على جميع مراحل عملية الإسعاف والإنقاذ، فالأطباء المشاركون في الإسعاف يتلقون تدريبًا خاصًا فيما يسمى طب الطوارئ، وهو اختصاصٌ بدأت بعض الدول العربية تفتح عينيها على أهميته حديثًا فأدرجته ضمن الاختصاصات في مشافيها التعليمية. وهذا في الواقع أمر محمود وإن لم يلقَ هذا الاختصاص الحيوي بعد العناية اللازمة لنموه وازدهاره، ولاتزال خطواته حتى هذا اليوم متعثرة تبدو عليها سيماء الخجل وهي تسير في ثقافة لم تع بعد أهمية اختصاص كهذا. ولايزال الأمل يحدوني بازدهار طب الطوارئ في البلاد العربية لأنه وكما يقول المثل الصيني «رحلة الألف ميل تبدأ بخطوة واحدة».

          وأما بقية الكادر الإسعافي من غير الأطباء كالممرضين أو مساعدي الأطباء فعليهم قبل الانخراط في إسعاف المرضى أن يخضعوا لتدريب إسعافي ودورات اختصاصية مكثفة تؤهلهم للحصول على رخصة موظف إسعاف Paramedic . وتركز مثل هذ الدورات على مبدأ أساسي في الحياة العملية ككلّ، ولكنه يكتسب أهمية أكبر عند العمل على إنقاذ إنسان وهو العمل المتناغم ضمن الفريق الواحد Working in a team أو كما يحلو للبعض أن يسميه روح الفريق Team Spirit. ولا يكمن لأحدنا أن يدرك أهمية هذا المبدأ إلا إذا كان نفسه عنصرًا في فريق الإنقاذ وشارك بنفسه في إسعاف مريض. حينها يدرك أحدنا أن لتناغم القائمين في الإسعاف وتوزيع الأدوار من قبل قائد الفريق «Team Leader» أهمية لا يمكن إغفالها لتكلّل عملية الإنقاذ بالنجاح. إن وجود روح الفريق بين عناصر الإسعاف يضفي على العمل الإسعافي إتقانًا وسرعة حركية مدهشة، فيعمل الجميع كخلية نحل متناسقة تسعى لهدف نبيل واحد هو حفظ الروح البشرية التي صانتها القوانين والشرائع كلّها. وعلى الطرف الآخر يمكن لأحدنا أن يتكهن النتائج التي سيجنيها لو كان يومًا موضع إسعاف من قبيل لا يتناغم عمله ولا يتولى كلّ عنصر فيه لأن يُجري الأمر على هواه وبما يراه، دون وجود منظومة واحدة يعمل الجميع تحت سقفها. وفي هذا المشهد الأخير ستظهر الاتكالية القاتلة التي يلقي فيها كلّ فرد بالمسؤولية على سواه سواءً بحسن نية أو سوئها، ويكون الخاسر الوحيد في هذا الفصل الدرامي هو الضحية التي تنتظر الفرج من المسعفين.

الخبرة الإسعافية المتجددة

          لم تكتف النظم الطبية بالإعدادات الطبية الأساسية لكلّ من الأطباء وموظفي الإسعاف، بل حتمت على الجميع الخضوع لدورات دورية كلّ عامين لمراجعة الخبرات الإسعافية، سواء القلبية منها أو الصدمية. أو الرضية. أما الدورة الأولى فتسمى الإنعاش القلبي المتقدم Advanced cardiac life support، وتتضمن رفد المتدرب بآخر المستجدات العلمية والتغييرات في الإنعاش القلبي ولفت انتباهه لآخر التوجيهات العملية Practical Guidelines في هذا الميدان. ُثم تُخضع الدورة بعدها المتدرب لممارسة عملية لهذه المعلومات على دُمىً بشرية خاصة تتيح للمشارك سبر فهمه وإدراك عملية الإنعاش القلبي كوحدة متكاملة. ثم يخضع المتدرب لامتحان نظري ينال بعد تخطيه شهادة منعش قلبي صالحة لمدة عامين فقط. ويمكن قول الأمر نفسه بالنسبة لدورة الإنعاش الرضي Advanced Trauma life support. ولا يمكن لأي عنصر في فريق الإسعاف أن يشارك في الإنقاذ ما لم تكن إجازته نافذة المفعول، وإن سولت لأحد نفسه أن يشارك في الإسعاف وهو لا يحمل هذه الرخصة أو شارك برخصة منتهية الفاعلية لم يكن حظه أحسن ممن ساق سيارة بغير رخصة قيادة أو رخصة قيادة منتهية الفاعلية!

          وتوصي هذه الدورات التأهيلية المشاركين بأن يواصلوا تدريب أنفسهم واكتساب المهارات الميدانية بطريقة بارعة ومبدعة عن طريق مناقشة كلّ حالة إنقاذ سواءً كانت ناجحة أو فاشلة للوقوف على أسباب النجاح ومحاولة إعادتها في المستقبل، أو أسباب الفشل ومحاولة تجنبها في المرات القادمة. ويقف قائد فريق الإسعاف، والذي غالبًا ما يكون أول من شارك في الإسعاف، بعد انتهاء عملية الإسعاف ويشكر فريقه ويثني على الجميع، ثم يطلب أن يدلي الجميع بدلوه عن رضاهم عن عملية الإنقاذ وسيرها وتسليط الأضواء على السلبيات والإيجابيات. ولكم كنت أستمتع بهذه اللحظات من النقد الذاتي لأنفسنا عندما كنت أشارك كمقيم في عمليات الإسعاف في المشفى، كنت أشعر أننا كنا كمن يضع يده على جرحه ليبريه أو يده على كنز ثمين ليربيه أو يثريه. بينما لايزال عالمنا العربي يصم أذنيه عن كلّ نقد ذاتي صادق ويطرب لعبارات الثناء والمدح ولو كانت كاذبة، وإن كان تراثنا يزخر بأولئك العظام الذين وسعت قلوبهم كلّ نقد بناء لا بل راحت تنشده من الآخرين وتثني على من جاء منه، فها هو ذا الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: «رحم الله امرأً أهدى إليّ عيوبي».
-----------------------------
* استشاري أمراض الدم ومعالجة الأورام.

 

 

صائب عايش الشحادات*