الإشاعة من أين؟ وإلى أين؟ دخيل بن عبدالله الدخيل الله

الإشاعة من أين؟ وإلى أين؟

جاء في الصحاح: شاع الخبر يشيع، أي ذاع، وأشاع الخبر أي أذاعه، وكل قوم أمرهم واحد يتبع بعضهم رأي بعض فهم شيع. وفي هذا المقال سنتعرف على المصطلح الذي طالما انتشر تداوله، وهو ينطوي على مضامين سلبية لا تغيب عن أنظارنا. لذا وجب الإلمام بماهيته وآلياته، من واقع رؤية المشتغلين بدراسته حتى يمكن درء مخاطره. فما الذي يشيع؟ وكيف يشيع؟

تشير الإشاعة اصطلاحا، إلى أي معلومة غير محققة وليس بالضرورة أنها غير صحيحة، تنتقل من شخص إلى آخر - نسبيا - بسرعة كالقصص التي تنسج والروايات التي تحاك، والسير التي تروى من تلك التي تصور حياة المشاهير من قادة أو أبطال أو أثرياء أو مبدعين وخيرين أو حتى من أولئك المغمورين، رغبة في التأثير على مسار حياتهم، أو الأنباء التي تذاع حول شؤون الأقطار والأمم من امتلاك لثروة أو قوة أو وهن وضعف فيها وغيره، تأليبا وتحريضا للآخرين ضدها، أو تحطيما لمعنويات أفرادها، أو ضروب الإفك التي يسوقها بعض الحاسدين ضد خصومهم زورا وبهتانا بغية إيذائهم أو تعكير صفو حياتهم.

والإشاعة نفسية اجتماعية في تكوينها موضوعا ومصدرا، لذا فإن أمر ظهورها مرتبط بعاملين رئيسين، يمثلان قانونا نفسيا اجتماعيا يحكم نمو الإشاعة، قال به كل من ألبورت وبوستمان (1947 م)، وهذان العاملان هما:

1- الأهمية: وتشير إلى درجة الاهتمام التي يحظى بها موضوع الإشاعة عند الأفراد، حدثا أو حديثا. والأفراد لهم حاجاتهم واهتماماتهم المرتبطة بمعطيات بيئاتهم. كما أن فضول الناس في استطلاع أمر ما واستجلاء الأنباء حوله، يحمل في طياته مدى أهمية ذلك الأمر بالنسبة لهم. فإذا كان أمر الحرب والسلم مما يعنيهم فإن أي معلومة سواء كانت في صورة خبر أو قصة أو مقالة أو نكتة أو رواية سوف تثير اهتمامهم وتذكي فضولهم مما قد يدعوهم لمتابعتها أملا في إشباع هذا الاهتمام ومقابلة ذلك الفضول.

2- الغموض: ويشير إلى درجة الوضوح من عدمه والمتعلق بتفسير موضوع الإشاعة. وكلما ازداد الموضوع غموضا في أسبابه ومسبباته، ازدادت أهميته ونما فضول الأفراد في استقصاء حقيقته مما يهيئ المناخ لنمو الإشاعات حوله في صورة تفسيرات لحقيقته، قد يكون فيها إشباع لحاجة في نفوس المشيعين ويجد فيها المشاعة لهم ضالتهم في إشباع نهم فضولهم.

الإشاعة كاستجابة جمعية

وتمثل الإشاعة في مضمونها محاولة جمعية للخروج بفهم مشترك لتفسير أي موقف يتعرض له الأفراد في سبيل تحديد ما يناسبه من استجابات، فيعمدون إلي تقديم ما في جعبتهم من روايات سعيا وراء الوصول إلى شرح مناسب للحدث الغامض موضوع الإشاعة. فالناس تريد أن تعرف سر أو حقيقة ما يدور إذا كان يعنيها. ومادام تفسير الأمر يكتنفه غموض، فالميدان رحب للتبارز بينهم في تقديم التفسير الذي يرونه مناسبا، لبواعث نفسية اجتماعية: استعراضا لاستعداد أو قدرة، أو طلبا للشهرة والسمعة، أو طمعا في المتعة والسلطة، أو لغموض لدى البعض منهم لغياب المعلومة الصادقة الدقيقة التي تجلو ما يكتنف موضوع الإشاعة من غموض. ويلعب الإيحاء النفسي دورا أساسيا في نمو الإشاعة، فمع ازدياد حالة الغموض وتزايد درجة الاهتمام والرغبة في جلائه، يصبح المرء مهيأ لأن يكون أسيرا لإيحاءاته التي قد يذكيها توافر بعض القرائن ذات العلاقة بالتفسيرات المقدمة من قبل المروجين أو القائلين بها، مما قد يؤصل لشيوع الخبر المنقول على الرغم من الضعف في مصداقية روايته. وإبان غمرة الأحداث الأخيرة في ربوع الخليج مثلا، أدت روعة الأحداث وغموض مواقف بعض الأنظمة من الأزمة وتذبذب أخرى في مواقفها إلى فتح الباب على مصراعيه لظهور كم هائل من الإشاعات روجت لها كثير من وسائل الإعلام والأفراد، كان لها أثرها البالغ في تحريك جموع الناس صوب ما هو مرغوب من قبل مروجيها. والتي كادت توقد أوار نار لا تحمد عواقبها. ولا شك أن الغموض مبعث ارتباك وتوتر عند أي فرد مادام أن أمره يعنيه، لذا فإنه مهيأ لقبول أي معلومة من شأنها مساعدته على حل هذا الغموض والخلاص من الأعراض التي عادة ما تكون مصاحبة له أو سببا فيه.

الوسائط

وتنتقل الإشاعات عادة عن طريق الكلمة المنطوقة مباشرة أو من خلال وسائل الإعلام المرئية والمقروءة والمسموعة، ونسبة الاستماع لها هي الأكبر. كما يلعب مروجوها - أحيانا - دورا رئيسيا في اختلاقها عمدا رغبة منهم في التأثير على العامة بطريقة معينة يتحقق لهم معها ذيوع الخبر وانتشاره، على الرغم من أنه لا أساس له من الصحة على الإطلاق.

فمقولات التآمر ومزاعم الخيانة، المصاحبة عادة لحوادث الاغتيالات والجرائم السياسية ترد على هيئة مضامين في سياق المطبوع من كتب وروايات أو مقالات وخواطر ومذكرات، أو في المبثوت من رسائل إذاعية وتلفزيونية موجهة، تلتقط من قبل شخص يمررها بدوره إلى آخر. وقد يكون مثل هذا الأسلوب سمة مميزة لكثير مما تبثه أجهزة الإعلام في العالم الثالث في جهودها الحثيثة لتضليل الرأي العام في موقفه من سوء ممارساتها، ظنا منها بأنها بمثل هذه الأساليب تتحكم فيه وتقيده، وغالبا ما يعود عليها بآثار مغايرة لما خططت له، Contrast Effect ولا يغيب عن ذهن القارئ العزيز ما أودت به كثير من هذه الإشاعات من ظلم لأبرياء، أو فجور في أهل وهتك لعرض أو تغييب لحقوق معنوية كانت أم مادية، ذهب ضحيتها الكثير من فكر وعتاد ومال وأهل وولد، مارستها أجهزة أمن كثير من بلدان العالم النامي، في الوقت التي تدعي فيه بأنها القائمة عليها، بل لها حق الوصاية في تحديد أنسب المناهج والأساليب لرعايتها وضمان حفظها.

أسلوب التأثير وأسسه

تسري الإشاعة عبر شبكة اتصالية من الأفراد، يرتبطون ببعضهم اجتماعيا، غير أنها غالبا لا تنتقل بينهم كما رويت أول مرة. إذ عادة ما يسلك الأفراد واحدا من نمطين في المناقلة:

النمط الأول: أن تنتقل الإشاعة بالتسلسل من شخص لآخر في سلسلة من التفاعلات ذات الطابع المنفرد بين كل واحد وآخر منهم. وعند كل نقطة من هذه السلة، يكون أحد المتفاعلين على علم بموضوع الإشاعة والآخر لا علم له به.

النمط الثاني: يتضمن سماع عدد كبير من الأفراد للإشاعة من مصادر عدة. وواقع ما يحدث في هذا النمط من التناقل، هو أن الأفراد يستمعون إلى عدة روايات حول تفسير الحدث أو الواقعة موضوع الإشاعة، من عدة مصادر، مما يتيح لهم فرصة المراجعة والمطابقة بين الروايات المختلفة إلى الدرجة التي يتحقق معها التكامل والانسجام. ومن ثم التسليم بالمضامين التي تنتهي إليها عملية المطابقة بين ما لديهم مما سمعوه أو قرأوه أو شاهدوه.

وتحظى الإشاعة بقبول أكبر كلما كانت منسجمة مع معطيات بيئتهم الثقافية من مبادئ وقيم وأعراف وعادات وتقاليد ومعايير سلوكية. لأنها بهذا تكون أقرب لمعارفهم ولمداركهم، وبالتالي تأويلاتهم أو تفسيراتهم. بل قد يتحقق لها بهذه الصيغة التماثل مع ما لديهم من انطباعات عن موضوعها ومن ثم التأصيل لموقف ثابت من مضمونها.

وعلى النقيض من ذلك، عندما تتعارض مع هذه المعطيات الثقافية فإن الناس سوف يساورهم شك منها، وبالتالي فإن محتواها سوف يخضع للتمحيص والتدقيق قبل أن يحظى بالقبول، وقد تنتهي بالرفض.

المواقف التي تظهر فيها الإشاعات

والإشاعة يمكن أن تظهر في أي موقف أو وسط اجتماعي، لكن غالبا ما يشتد ظهورها في مواقف الضغط الاجتماعي كالكوارث والنكبات أو القلاقل والحروب والثورات التي تمنى بها الشعوب والجماعات. وأحيانا تظهر الإشاعات بعد حوادث الإعدامات أو الاغتيالات أو مصاحبة للإجراءات الأمنية التي تتبناها بعض الأنظمة في حق معارضيها، خاصة حينما تكون مثل هذه الإجراءات تعسفية ظالمة في محاولة من هذه الأنظمة لتقديم تفسير مناسب لما حدث، ترضى عنه، وفي الوقت نفسه، تحد من الآثار السلبية التي قد تتمخض عنه. وعادة ما تجند الإشاعات الناس للتصرف تصرفا جمعيا، وخير مثال على ذلك حالات الجمهرة والشغب وبالذات ما يعرف منها بمرحلة الفوضى الجماهيرية، فإن منشأها غالبا ما يكون إشاعات هادفة أو مغرضة. وماضي الأمة وواقعها يعج من الأمثلة بالكثير، وما حدث إبان أزمة الخليج ليس عنا ببعيد. ويعني هذا أن الإشاعات تميل إلى الظهور في المواقف التي تكون فيها العمليات الإدراكية في حالة ارتباك أو فوضى لغياب الضابط المعرفي المبني على معلومات واضحة ودقيقة.

سريان وتشويه

ويرى ألبورت بأن انتقال الإشاعة يتم على ثلاث مراحل سيكولوجية هي:

الإدراك والتذكر والإدلاء، ومهما يكن، فالإشاعة تتعرض للتحريف أو التشويه خلال عملية تناقلها ومن مظاهر التشويه التي قد تتعرض له، في نظر ألبورت وبوستمان (1947):

1- التبسيط أو التسوية: Leveling

ويشير إلى ميل الأفراد إلى اختزال الإشاعة حتى يسهل فهمها وتناقلها.

2- التقليم: Sharpening

ويشير إلى عملية التهذيب الذي تتعرض له الإشاعة عن طريق التأكيد بصورة انتقائية على مظاهر معينة من محتويات الإشاعة وإغفال مظاهر أخرى - إحياء لجوانب معينة من موضوعها وقتلا لسواها.

3- التمثل: Assimilation

تتضمن عملية التمثل إضافة عناصر جديدة للإشاعة لتنسجم مع لغة ومعتقدات أو اهتمامات ناقليها.

ولا يغالبنا شك بأن للمصلحة الذاتية أثرها في الإبقاء على صيغة الإشاعة كما رويت أول مرة أم لا! لذا قيل: "آفة الأخبار رواتها" وهذا ما يؤكده كل من شاشتر وبيردك 1955 م، من واقع تجربة: بأنه إذا كان للأفراد مصلحة في الإبقاء على الإشاعة كما رويت أصلا، فإنها سوف تصبح أكثر دقة وضبطا في تواتر روايتها من شخص لآخر.

السمات المميزة لمروجي الإشاعة

ويؤكد علماء النفس والاجتماع أن من أبرز السمات الشخصية المميزة لناقلي الإشاعات أنهم ممن يتسمون بالحرص الشديد وعدم القدرة على تحمل الغموض وأكثر تطلعا لاستكشافه وأقل معرفة ووعيا بعمق آثار الإشاعة. وهؤلاء غالبا أول من يبادر إلى ترويج الإشاعات خلافا لأولئك الأشخاص الذين يتسمون بالتفكير المنطقي الناقد والقدرة على ضبط النفس وحسن التعامل مع مواقف الشك والغموض. ولا شك أن للمستوى التعليمي أثره على هذه السمات والخصائص، كما أن لأساليب التنشئة الاجتماعية المبنية على المعطيات الثقافية لكل جماعة أو مجتمع آثرها في ذلك أيضا.

الإشاعة والمسئولية الاجتماعية

إن التعرف على أي ظاهرة: طبيعتها والمبادئ أو القوانين التي تحكمها وكذلك عمق آثارها، يساعدنا ولا شك في فهمها وبالتالي حسن التعامل معها إما استحداثا لها وتطويرا أو تحويرا وتغييرا: بتعزيز الإيجابي من آثارها وتفادي السلبي منها. ويجمع علماء النفس والاجتماع وعلم النفس الاجتماعي على ما للإشاعة من محاذير ومخاطر لعبت دورا حاسما في قلب موازين القوى لصالح مروجيها في الحاضر والماضي، فهي سلاح نفسي فتاك في الصراعات والحروب وأسلوب من أساليب تقويض الروح المعنوية على صعيد الفرد والمجموع، ولا عجب أن نجد الإسلام قد نص على ضرورة الحيطة منها من تبصير بسمة مروجها وتحديد لصيغتها وتوعية بعمق آثارها، فقال تعالى في محكم التنزيل: يأيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين.

وفهم حقيقة الإشاعة على هذا النحو، يمكننا من القدرة على حسن التعامل معها في تجنب الأسباب المؤدية لها ومحاربة مروجيها، فلا نكون - مثلا - في الطرح والمعالجة لأمورنا غامضين بل نسعى جاهدين إلي تجنب أي غموض في القول والعمل مادام ذلك سوف يقود إلي نمو إشاعات لها آثارها السلبية على سلامة أمننا وواقع معاشنا. ومن هنا وجب علي الجميع في مجتمعاتنا حكومات أو أفرادا الابتعاد عن كل ما من شأنه إثارة فضول الآخرين وتساؤلاتهم وتركهم بفعل ذلك ضحية للتأويلات والتفسيرات الخاطئة مما يذكي روح الإشاعة بينهم، وذلك بتجنب مواقف الغموض في القول والعمل. ولا يخالجنا شك أن في مبدأ المشاركة مخرجا من المخارج على صعيد الفرد والمجموع. ففي المشاركة مصارحة والمصارحة من شأنها أن تقطع الطريق على التفسير الخاطئ للوقائع وتوصد الأبواب أمام ذرائع التأويل السالب للمواقف وتذكي الإحساس بالالتزام للواجب واستشعار المسئولية مادام الفرد شريكا في صنع واقعه الذي يهمه ويعنيه. ولعل من سد الذرائع المؤدية إلى ظهور الإشاعات الحد من كل ما يثير حساسية الآخرين وانفعالاتهم في غير وجه حق وما يستدعيه ذلك من قضاء لحوائج الناس أفرادا أو جماعات والصدق معهم في بلوغ الرغبات والتطلعات والرقي باهتماماتهم ومقابلة فضولهم في حدود المعقول والمقبول، مما لا يترك سبيلا لنمو إشاعة كاستجابة لشكوى أو تذمر أو تظلم وإيحاء.. ومن جانب آخر، تقع على الأفراد مسئولية محاربة الإشاعات، وهي مسئولية تتطلب وعيا ذاتيا وجماعيا باستشعار كل فرد من أفراد مجتمعاتنا لما له وما عليه، فلا يتقوقع حول ذاته بالبعد عن الأثرة والأنانية وإذكاء روح الجماعة مؤثرا مصلحة المجموع على طموحات الذات وفي هذا قمة الإيثار، وليكن الفرد منا مثالا حيا للسمو في المدارك والاهتمامات وللجمع بين صدق القول مع سلامة العمل.

إن هذا مطلب اجتماعي ملح قوامه استشعارنا بعمق ووعي لمعنى المسئولية الاجتماعية الملقاة على عواتقنا على صعيد الفرد والمجموع، تلك المسئولية التي حملنا إصرها منذ الأزل.

 

دخيل بن عبدالله الدخيل الله

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات