الوقائع الغربية لانفصال رأس ميم يوسف الشاروني

الوقائع الغربية لانفصال رأس ميم

صحا ميم ذات صباح ليحس ألما في رقبته وصداعا خفيفا في رأسه، قال: لعلي لم أضع رأسي في وضع مريح على الوسادة، ونسي الموضوع، لكنه عندما ذهب ليغسل وجهه وأحنى رأسه قليلا تحت صنبور المياه أحس الألم والصداع يشتدان، فعاد يتحسس رقبته لعله يحدد موضعه، فلما فشل قال في نفسه: لعله برد أصاب رقبتي، فقد تركت النافذة مفتوحة أول الليل، ثم حاول أن يتناسى الموضوع، وعندما ذهب ليتناول إفطاره كان الألم ما زال يضايقه، فقصد صيدلية البيت واختار حبتين مسكنتين، وعندما حاول ابتلاعهما بقليل من الماء أحس بغصة غير معهودة، لهذا عندما جلس يتناول إفطاره وجد أن عليه أن يبتلع لقيماته بهدوء - على غير ما تعود - قبل أن يغادر بيته مهرولا إلى مكتبه.

جاء في القاموس: الرقبة أي العنق، وتطلق على جميع ذات الإنسان، تسمية للشيء باسم بعضه لشرفه وأهميته، وجعلت في التعارف اسما للمملوك، تقول: أعتق رقبة: عبدا أو أمة، وأعتق الله رقبته أي خلصه وأنقذه.

وما لبثت أن تتابعت على ميم ظهور أعراض أخرى تطلبت ضرورة ذهابه إلى الطبيب.

- كأنك كبرت دهورا، إنك ميم الذي رأيته منذ أسبوعين، وفي الوقت نفسه أنت لست ميم الذي رأيته منذ أسبوعين، ما هذه الفزورة؟

- نعم فزورة، لهذا جئتك لتساعدني على حلها.

فمع أن ميم لم يكن أبدا في سن المراهقة إلا أنه لاحظ أن جسمه بدأ يزداد ترهلا، كما أنه ازداد شبقا نحو زوجته أولا، ثم نحو الأخريات ناضجات ومراهقات، قريبات وزميلات وغريبات، كما أنه لم يعد يسيطر على انفعالاته في لحظات ثورته، فازداد عنفا مع أنه لا يحترم المنفعلين ولا الشرهين إلى الجنس أو الطعام، كان يحب الاعتدال، واشتهر طوال سني حياته الخمسين بالاعتدال، فالهزائم يقابلها بالنكتة، والنصر بالحكمة.

- هذه حالة لم ترد في كتب الطب، ولا مرت بي، ولا سمعت أنها - على ما أذكر - مرت بأحد زملائنا الأطباء.

- وما العمل إذن؟

- علينا أن نجري فحوصا أولا: تحاليل وأشعات.

- لكنني أعاني صداعا في الرأس وآلاما في الرقبة، فضلا عن شهوة مفرطة للجنس والطعام.

- إذن تأخذ بعض المسكنات والمهدئات إلى أن تظهر نتيجة الفحوص.

وكان ميم قد لاحظ أن سيطرة رأسه على جسمه أخذت تتراجع، فيتصرف تصرفات ما يلبث أن ينكر- عقلا - صدورها عنه، وقد تورطه في مواقف لا يعرف هو كيف يبررها أو يدافع عنها، لهذا يقرر ألا يعود إليها حتى لا تعرضه لمزيد من المآزق التي هو في غنى عنها، فتلك لم تكن طبيعته أبدا، حتى أنه فكر قائلا: لا بد أنها زيادة مرضية - وأرجو أن تكون عرضية - في الهرمونات أو لعله نقص في أنزيم من الأنزيمات، ولا بد أن أستشير طبيبا.

- أليس من المناسب أن تقيس طول الرقبة ومحيطها للمقارنة عندما أعود لأطلعك على نتيجة الفحوص؟

- ومحيط كرشك ووزنك أيضا، فكرة لا بأس بها.. ها هاها.

لكن ميم لم يجد هناك ما يضحك، لهذا لم يجار طبيبه ضحكا بضحك، ولو على سبيل المجاملة، بل كان مهموما مأزوما مغموما، يخشى هذا النمو وعواقبه، وعندما لاحظ صديقه الطبيب ذلك، قال يطمئنه:

- صبرا حتى تظهر نتيجة الفحوص.

أما زوجته فقد أحست أن حبها لزوجها بدأ يشوبه شيء من الخوف، وأن علاقة الند بالند أخذت تتحول إلى علاقة المستأنس بالأشرس، فهي الآن تخشى انفعالاته وثوراته وشراهته الجنسية التي ترتاب في أنها لم تعد تقتصر عليها، وعليها أن تحاول ترويضه وترويض نفسها على ما جد من تطورات، وما لبثت أن قالت له ذات يوم وهي فزعة:

- ألم تلاحظ في المرآة شيئا غريبا فيك؟ إن رقبتك تزداد طولا كما تزداد نحولا، وأرجو أن يكون ذلك مجرد وهم، بينما جسمك يزداد سمنة وترهلا.

- جسمي لاحظته، أما رقبتي..

وقصد المرآة، لا ليتحقق بل ليزداد فزعا.

- لا تؤاخذني يا ميم، لماذا تعطى لنفسك كل هذه الأهمية؟ فكل منا يتصور أن مشكلته هي المشكلة المصيرية، ما قيمة أن تموت أنت أو أموت أنا؟ مات من هم أعظم منا وظلت البشرية موجودة بعدهم كما كانت قبلهم.

- كلام نظري وجميل يا دكتور، لا يحول دون ما أعانيه كفرد، وأقول: لماذا أنا بالذات الذي أصاب - دون الآخرين - بهذا المرض الشاذ اللعين؟

- من أدرانا، ربما وقعت حالات مماثلة لم يذكرها تاريخ الطب، لأنها كانت في بيئات لا تعرف الأسلوب العلمي بعد.

- مجرد فرض لا سبيل إلى التحقق منه.

وفي العمل لاحظ أن زملاءه ينظرون إليه نظرات تتأرجح ما بين الريبة والاستنكار، والإشفاق والتساؤل، زميله بالمكتب هم أن يعلق غير أنه تحرج فيما يبدو، ولعله لم يكن واثقا من هذا التناقض الذي لا يزال في مراحله المبكرة بين رقبة ما تنفك تستطيل كأنها مشروع رقبة زرافة، وجسد متورم كأنه مشروع درقة سلحفاة عجوز مائية ضخمة، لكن رئيسه كان أكثر صراحة - ربما بحكم رياسته الوظيفية - إذ قال له: شكلك اليوم غريب يا ميم، هل عرضت نفسك على طبيب؟ بادر إذا لم تكن قد فعلت.

ليلتها اضطرب نومه.

في اليوم التالي رئي ميم وهو يضع - في عز الحر- كوفية حول رقبته، كما قرر الذهاب في المساء إلى عيادة طبيب صديق.

- مبروك، الفحوص تقول إنه ليس عندك مرض.

- عجبا، أحيانا لا أحس مرضا وتقول الفحوص إنني مريض، والآن المرض عرض واضح، وتقول الفحوص العكس، ما معنى هذا؟

- معناه أن فحوصنا لم تصل بعد إلى طريقة لتشخيص هذا المرض النادر.

- وإلى أن تصل، بم تشير على أن أفعل؟

- أن تظل تحت الملاحظة الطبية لئلا تصاب أعصاب رقبتك أو شرايينها بسوء أو تشوهات. وفي كتاب طبي جاء: وبالعنق الفقرات السبع العليا من العمود الشوكي، وتحمل الجمجمة وتسمح بحركة الرأس، وقد تصاب بالكسر كما في حوادث السيارات حيث يحتمل إصابة الحبل الشوكي، وشلل جميع العضلات تحت مستوى الإصابة، كما قد تصاب بنوع من الالتهاب الذي قد يسبب للعظام لينا أو تصلبا.

ولم يكن صديقه الدكتور الجمل متخصصا في أمراض العنق، لكن ميم لم يكن يعرف هل هذه الأعراض من اختصاص طبيب باطني أم جراح متخصص في الغدد والهرمونات أم حتى طبيب نفسي. على أية حال سيكشف عليه الدكتور الجمل كشفا مبدئيا، وفي ضوء ذلك يتم تحديد الطبيب المختص.

وهكذا، ولهذا، قصد ميم عيادة صديقه الطبيب، وانتظر حتى يفرغ له صديقه من مرضاه، وفي غرفة الانتظار مضى يتأمل السقف والجدران، وما علق عليها من لوحات بها أبيات شعر مكتوبة بخط النسخ مرة، والخط الكوفي مرة أخرى، تمدح مهارة الطبيب وتعترف بفضله على مبدع الأبيات ومهدي اللوحة:

حباك الإله بحب وعلم

غزير العطايا قريب المنال

محياك يبعث فينا السرور

طبيبا قديرا أنيس الخلال

سمعت مديحك في كل آن

شيوخا نساء وكل الرجال

كما مضى يتأمل آخر المنتظرين دورهم في الكشف، كانوا ثلاثة لكن من الواضح أن المرضى منهم اثنان فقط: شاب شاخ قبل الأوان، أما الآخران فزوجان تجاوزا منتصف العمر، ومن غير الواضح أيهما المريض، فعلامات الصحة تبدو - فيما يبدو - عليهما، كما أنه ليس هناك ما يبرهن - أولا يبرهن - على أن لديهما أبناء. كانا منهمكين في حديث هامس تتخلله من حين لآخر ضحكات هامسة مما أدخل في روع ميم أنهما لا يعتقدان أن مرض أحدهما يمكن أن يكون خطرا، ورغم أن الزوجة لم تكن شابة ولا مفرطة لجمال إلا أن ميم لم يستطع أن يكبح استيقاظ غرائزه التي ضج بها جسده أخيرا. ومع ذلك فإن هذا كله لم يشغله لحظة واحدة عن ذلك الإحساس الغريب الواضح الغامض، والذي كأنما يتخلل شعيرات رقبته وأعصابها وخلاياها، إحساس بين الألم الجسدي والحذر النفسي، هل ترى استطال بلعومه وحنجرته أم قناته الهضمية وقصبته الهوائية؟ لا شك أن الأشعة ستكشف ذلك، المهم هل ستتوقف هذه الاستطالة الشاذة لرقبته أو تستمر إلى أن يخبط رأسه الأسقف، أو يؤدي به تطور الحالة إلى الوفاة قبل ذلك كما يحدث مع من تطول قاماتهم أو تزداد سمنتهم إلى الحد المفرط.

تلك بعض الهواجس التي شغلت ميم أخيرا، وربما كانت وحدته وهو في انتظار دخوله لصديقه الطبيب سببا في ازدحام رأسه بها.

- هل تعتقد أنهم يستطيعون وقف الإصابة إذا لم يكن هناك تشخيص يعرف الأسباب، وبالتالي لا يعرفون علاجها؟

- اسمع يا صديقي ميم، لإرادة الحياة دورها في الشفاء من أمراض مستعصية، حاول أن يظل رأسك مسيطرا على جسمك.

دخلنا في باب الكلام، رقبتي تطول كرقبة الزراف، جسمي يتورم كجسم فيل، الفيل فيه تماسك، أما ترهلي فبعثرة، يتلكأ العرق في ثنيات لحمي فأصاب بالالتهاب والتسلخ، أستخدم مسحوقا ودهانا يسكنان ولا يشفيان.

عندما دخل ميم على صديقه الطبيب رحب به ضاحكا، لا بد أنه لم يلحظ - في أول الأمر - شيئا غير عادي، كما أنه لم يكن يعرف سبب الزيارة، هل تراه مجرد لقاء ودي، أم ودي وعلاجي، فلم يشأ ميم أن يتصل بطبيبه تليفونيا مسبقا حتى لا يحرجه ويعطله عن مرضاه بإدخاله غرفة الكشف فور إبلاغ من ممرضه - الذي يعرفه جيدا - بوجود صديقه في الانتظار. كان ميم يفضل أن تكون هذه اللقاءات الودية في غير مواعيد العيادة، لكنه قصد الآن العيادة لأنه يطلب استشارته الطبية في أمر بدا له جديا وخطيرا.

رفع ميم الكوفية فكشف ما يخجل منه ويخشاه: رقبته.

خرج ميم من عيادة الطبيب إلى معامل الأشعة والتحاليل: تعرى، تغطى، كشف عن ذراعه اليمنى مرة واليسرى مرة أخرى، بشكة أخذوا منه عينة دم ثالثة، كما أخذوا أكثر من عينة من فضلاته.

- هل لديك مانع من عرض حالتك على القومسيون الطبي العام في محاولة لتشخيص مرضك بالخارج، أنت تعرف أن لديهم معاهد أبحاث اكتشفت كثيرا من الأمراض أشهرها أخيرا مرض الإيدز، لماذا لا نجرب؟ نجرب الحصول على موافقة القومسيون، ونجرب البحث عن علاج بالخارج، لن نخسر شيئا، ربما توقف على الأقل - لا تؤاخذني - هذا التدهور.

صمتي شجعه فاستطرد: غدا تحصل من عملك على تحويلك للقومسيون، وسأعد بدوري تقريرا طبيا عن حالتك يدعم هذا التحويل، ثم نلتقي بعد غد في مكتب مدير عام القومسيون التاسعة والنصف صباحا ليحددوا لك جلسة فحص، أنا أعرفه.

- وهل يكفي لنجاح المحاولة التحويل والتقرير ومعرفة مدير القومسيون؟

- ولماذا نسيت أهم شيء: حالتك هي مرشحك الأقوى؟ لو تطلب الأمر فسأتصل برئيس الوزراء، إنه طبيب كما تعلم، كنا أعضاء معا في اللجنة الوطنية للطلبة منذ أكثر من ثلاثين عاما، هو يذكرني بلا شك، لم يسبق أن التمست منه شيئا منذ وصل إلى ما وصل إليه، سيستجيب لمحاولتي البكر.

- بعدها يلقى الطلب الثاني في سلة المهملات.

- تلك هي القاعدة، ولكل قاعدة استثناءاتها.

شكرت الصديق الطبيب الذي أبدى رغبته في أن نستأنف ما انقطع من لقاءاتنا المنتظمة ليفضي كل منا بهمومه للآخر، ولنتابع إجراءات القومسيون.

في مساء ذلك اليوم عاد ميم إلى بيته فاستقبلته زوجته متسائلة بلهفة:

- هل من جديد؟ هل من أمل؟

أجابها ميم مغنيا:

- يا خفي الألطاف نجنا مما نخاف.

اللهم لا نسألك رد القضاء، لكننا نسألك اللطف فيه.

فزعت الزوجة وحدست أن هناك تصورا أخطر، وأحست بغربة تنتصب بينها وبين ميم، وأن هذا الكائن الواقف أمامها برقبته التي استطالت ونحفت وجسده المترهل وشرهه وشبقه، ليس هو ميم ذلك الشاب العاشق الطموح الممتلئ حياة ونشاطا وآمالا، ولا هو- فيما بعد - ذلك الزوج الذي يجمع بين الوقار والدعابة، والحكمة والنكتة، والحزم والمرونة. وتساءلت: هل تلك يا ترى علامات شيخوخة شاذة؟ ووجدت نفسها تنفر- ولا تنفر- منه، إذ تتصارعها عشرة طويلة واجها فيها الحلو والمر معا، ثم تجد الآن نفسها مع مسخ فيه - وليس فيه - بقايا ملامح العشيق والزوج، بحيث أصبحت تقشعر وتخشى منه على نفسها - وهو جزء من نفسها. ووجوده في حياتها كان يؤكد وجودها، ووجوده - بل لا وجوده الآن - ينفي وجودها وتساءلت مضطربة: أتراني في يقظة أم كابوس؟ لكنها أعلنت في سريرتها: لن أتركه أبدا في محنته، سأقف إلى جانبه، فأنا - بالرغم من هذا كله - أحتاج إليه، وهو يحتاج إلي.

في العمل بدأ زملاؤه يتهامسون، ثم يتساءلون ويتعجبون، ثم يجدون مادة بها يتندرون ويثرثرون، مثيرين بذلك الانتباه جاذبين الأسماع.

قال مدير القومسيون: المشكلة في تعيين المستشفى والطبيب المختص الذي يمكنه تحديد موعد معه لفحص الحالة.

كان رجلا متعاونا لكنه ليس مغامرا، مغرما بالحسابات شديد الحذر، هكذا بدا لميم. وكان الدكتور الجمل قد تأهب لمثل هذا الاعتراض، فبادر قائلا:

- لماذا لا ترسلونه إلى معهد أبحاث النمو البشري في لندن، فهم يجرون هناك أبحاثا على عوامل النمو البشري السوي والشاذ. ومما يجعل فحص ميم أمرا ملحا في هذا المعهد، إن حالته حالة من النمو الشاذ طولا في الرقبة وعرضا في الجسم مما يهدد بانفصال الرأس عن الجسد. ومما يثير شهية الأطباء نحو اكتشاف مرض جديد.

- على أية حال ستكشف عليه اللجنة المختصة بالقومسيون، فإذا وافقت على المبدأ سنرسل أوراقه إلى المعهد وننتظر الرد.

وعندما هم ميم بالاستعداد للسفر إلى الخارج حدث تطور خطير. فلقد لاحظ رأسه أنه كلما هم باتخاذ إجراء من إجراءات السفر كاستخراج التأشيرات أو تذكرة الطيران، أن الجسم يزداد ثقلا فوق ثقله كأنما يقاوم أو يحتج على فكرة السفر بحيث كأنما كان على الرأس - وليس القدمين - أن يحمل الجسم وينتقل به من مكان إلى مكان، مما أصبح يهدد القشة الأخيرة في العلاقة المتدهورة بين رأس ميم وجسمه، لا سيما عند محاولات الشد والجذب بينهما، بحيث بدا أن أقل عنف على وشك أن يعصف بالاثنين معا. وبدا لرأس ميم أن هذا داع إضافي لضرورة السفر. ولما كان لا يزال للرأس بقية من سيطرة، فقد استطاع أن يتغلب على مقاومة الجسم، وأن يرحلا معا إلى لندن بحثا عن علاج أو حتى مجرد التشخيص.

ولقد استقبلته لندن بجو شديد البرودة عاصف ممطر مظلم في منتصف النهار، تومض سماؤه بالبروق وتقعقع بالرعود، وكان ميم قد هيأ لهذا المناخ جسمه ورأسه بما أعده من ملابسه وقفازات وأغطية للرأس والأذنين.

وفي المعهد بهرته نظافة المكان ودقة المواعيد وبشاشة الترحيب مما طمأنه إلى دقة الفحوص، والتشخيص إن أمكن، والعلاج إن وجد. وكانت مفاجأة له حين اكتشف أن الإخصائي الذي عرضوا عليه نتائج التحاليل والأشعات ليس إلا عربيا متجنسا بالجنسية الإنجليزية، واستطاع بكفاءته أن يصل إلى هذا التخصص الدقيق متجاوزا أبناء الوطن الأصليين. وقد تبسط معه الدكتور غانم حين رأى على وجه ميم علامات تساؤل فقال: لو أعطوني في بلدي عشر ما يعطوني هنا من ميزانية لأبحاثي لعدت فورا وبشرط أن أتجنب معوقات الروتين ومنغصات أعداء النجاح. ثم همس في أذنه: هنا هم أحد اثنين: على المستوى الشخصي - لاسيما إذا كنت ضيفا - هم في غاية الرقة والدقة والتحضر، أما على المستوى العام فهناك أكثر من كيل طبقا لمصلحتهم، ومصلحتهم فوق كل ما تلقناه من أسرنا في بلادنا من مثل وأخلاق حتى ولو أدى ذلك إلى ذبح شعوب.

واطلع الطبيب العربي الإنجليزي على تقارير زملائه الأطباء المصريين فقال باسما: من قال إن مرضك نادر؟ بل هو منتشر كالوباء هذه الأيام، لكنهم محقون في أن معاهد الأبحاث في العالم لا تزال تبذل جهدا دءوبا لاكتشاف أسبابه، فلسنا نعرف حتى الآن هل هو خلل وظيفي أم مرض فيروسي. لكن حالات الشفاء التي حدثت حتى الآن تمت بفعل المقاومة الذاتية ونشاط الجهاز المناعي كما يحدث في بعض حالات السرطان.

ولقد ازدادت اتساعا شقة الخلاف بين رأس ميم وجسمه على أثر عودته من الخارج. فما كان يحصل عليه الرأس من دخل في الصباح يريد الجسد أن ينفقه ليلا في مجالس الأنس والطرب، وأصبح للرأس أصدقاؤه وللجسم ندماؤه وهكذا كانا يقتربان شيئا فشيئا من استحالة العيش معا، يعجلان وهما يدريان - أولا يدريان - بانفصالهما المحزن المهول.

كما تضاعف هذا التباعد الجسم نفسي حين لوحظ أن الرأس أولى اهتمامه للاغتسال أكثر من مرة يوميا، وتمشيط الشعر بعناية وحلاقته كلما طال، وحلاقة الذقن يوميا وتعطيرها وحف الشارب، بينما أهمل استحمام الجسم وتركه يفوح برائحة العرق ولزوجته وعفونة مخارجه، حتى أصابته حكة ضاعفت هياجه وثورانه، كما لم يعد الرأس حريصا على تغيير ملابس الجسد إلى أن حال لونها وأصبحت رثة تفوح بعبق العرق ومزيج الخل والنوشادر، حتى أوشك الجسد أن يتخلص منها وينطلق عاريا يدب في شوارع المدينة وأزقتها حاملا فوقه الرأس الحليق النظيف المغسول ذا الشعر المسبسب والوجه الحليق المعطر، وهكذا أصبح حرف الياء حرف انفصال - وليس اتصال - بين الميمين.

عندئذ بدأت تنتاب رأس ميم حالة نفسية، إذ أصبح يكلم نفسه متوهما أنه لا يزال يأمر الجسد أو يتفاهم معه. ففضلا عن الحديث الصامت اللا منطقي الذي كان يدور في رأس ميم بسبب ما انتابه من أعراض ما تنفك تزداد خطورة يوما بعد يوم، فإن الأذنين لم تعودا إلا في خدمة الرأس، فكانتا تصغيان لحديث الرأس باستمتاع حين كان ميم يتحدث إلى نفسه بصوت مسموع لكي يصبح تفكيره أكثر تركيزا وأكثر منطقا، بينما الجسد كان قد استغنى عن الرأس تماما فأصبح لا يرى ولا يسمع. ولقد كان حديث الرأس مع نفسه من ناحية، واستغناء الجسم عنه من ناحية أخرى، إيذانا بتوحش الجسم.

فلقد حدث ذات أمسية أن كان الطلب المتواضع لرأس ميم هو مجرد تصفح جريدة يومية وهو يستمع إلى أغنية أو لحن، لكن الجسم أبى على الرأس هذه المتعة الصغيرة معلنا أنه يريد أن يهيم في الشوارع بحثا عن امرأة حتى ولو امتلكها اغتصابا، مما جعل الشعر في رأس ميم يقف وهو يقول: لو كنت أملك السيطرة على بدني لاقشعر من هول ما يحدث، يالفظاعة مصيرك يا ميم، يا للعار. كان الرأس عنيدا، وكان الجهد في إحدى ثوراته العارمة. وهكذا ضاعت الليلة في شد وجذب صاخبين بحيث أنه لا الرأس ولا الجسد حقق ما يريد، بينما زوجة ميم تبكي بحرقة على ما آل إليه زوجها.

تلك كانت بداية النهاية، إذ ما لبثت أن جاءت اللحظة المروعة المتوقعة ذات مساء حين لم يعد رأس ميم يرتبط بجسمه إلا بما يشبه قطعة حبل واهية يكاد يترنح فوقها لأنه لا يجد شيئا صلبا يمسك به. في تلك اللحظة وقع شجار عنيف لا يعرف أحد سببه حتى اليوم ولا حتى زوجة ميم نفسه. كل ما تعرفه أنها شاهدت تدفق الدماء كالنافورة في صالة بيتها، فأسرعت تستدعي رجال الإسعاف.

وكان الحجاج بن يوسف الثقفي والي الأمويين على العراق، قد دخل الكوفة وأعلن في خطبته بمسجدها قولته الشهيرة: إني لأرى رءوسا قد أينعت وحان قطافها وإني لصاحبها، وكأني أنظر إلى الدماء بين العمائم واللحى.

وعندما وصل الرجال وشاهدوا الرأس مفصولا عن الجسم وسط بركة الدماء نظروا إلى الزوجة الوفية في ارتياب وهو يغنون معا في شبه جوقة مرددين: نحن لا نحمل قتلى لي سياراتنا، لا نحمل قتلى.

غير أن الزوجة أنشدت بدورها في ولولة غنائية.

أسرعوا أسرعوا،

ألا ترون الحياة لا تزال تدب في الرأس، في الرأس.

ولا تزال تدب أيضا في الجسد، تدب في الجسد.

أنقذوهما، أنقذوهما.

وفي يناير عام 1793 فصلت المقصلة رأس لويس السادس عشر في الميدان الذي كان معروفا باسم ميدان "لويس الخامس عشر" وأصبح الآن ميدان الجمهورية. وظلت محكمة الثورة الفرنسية تعمل بجد ونشاط حتى ازدحمت السجون، وكان فصل الرءوس عن أجسامها بالمقصلة هو العقوبة التي طبقت على الجميع ابتداء من الملكة ماري انطوانيت حتى مؤيدي الثورة أنفسهم.

غير أن الجسد لم يعط فرصة إنقاذ لأحد، لأنه ما لبث - أمام دهشة الجميع - أن قام يدب على قدميه الغليظتين المليئتين بالشعر، ليجلس بعجيزته الضخمة على الرأس التي كانت لا تزال بها بقية من حياة، فتخمد أنفاسها بينما كانت تسمع قرقشة عظام الجمجمة تحت ثقله.

قال الراوي: إن الملك شهريار رمى عنق زوجته الخائنة وكذلك أعناق الجواري والعبيد الذين شاركوا في حفل الخيانة. وصار الملك شهريار يأخذ كل ليلة فتاة يزيل عنها بكارتها ثم يضرب عنقها من ليلتها، لم يزل على ذلك مدة ثلاث سنوات.

قال الراوي: وكذلك فعل شهريار إنجلترا الملك هنري الثامن مع بعض زوجاته الثماني غير الخائنات.

وتساءل المجتمعون المصدومون: كيف يمكن لجسد أن يحيا بلا رأس. وجاءتهم الإجابة بأسرع مما يتوهمون، إذ ما لبث أن ارتمى الجسد بدوره جثة هامدة بجوار الرأس الذي انفصل عنه وجثم عليه.

وجاء في القاموس: فصل بين الشقين فصولا أي فرق بينهما، وفصل الشيء عن غيره أي أبعده، وفصل الشيء أي قطعه، وفصلي المولود فصلا أي فطمه فهو فصيل. وفاصل شريكه أي فض ما بينهما من شركة، وافتصلت المرأة رضيعها أي فطمته، وانفصل الشيء أي انقطع، وانفصل القوم عن المكان أي فارقوه، والفاصلة علامة ترقيم تفصل بين الجمل المتعاطفة، وحاكم فاصل أي قاطع باتر. وعندما كانت الزوجة تتلقى العزاء سمعوها تقول: سيعود الرأس للجسم كما أعادت جدتي في فجر التاريخ أشلاء زوجها. وقد علق البعض قائلا: إنها أصيبت بلوثة جعلتها تهذي، وفي أحسن الأحوال إنها تنفس عن صدمتها بالكلام أمام شلل الفعل، بينما قال آخرون: بل إن لديها بصيرة تستمد من الماضي ما تستطيع أن تخترق به حجب المستقبل. والله أعلم.

 

يوسف الشاروني

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات