22 شارع جان دارك

2 شارع جان دارك
        

          ليلة البارحة، قبل أن أغمض عينيّ وأنام، تنبّهت إلى أنني لم أطفئ النور، أطفأته وعدت إلى سريري. طار من جفني النوم، حلّت محله حوادث النهار، منذ الصباح في السرير.. الذي أنا فيه الآن، والنوم قد طار، وعادت أفكار وحوادث حدثت لي ولغيري تشغلني عن النوم، وكلما تقدمت بالتفكير والوساوس، زادت في عينيّ اليقظة، وبعُد النعاس إلى أن وصل إلى حدود الأرق، والقلق من مرور الليل كله وأنا في هذه الحالة.

          كان استغرابي كبيرًا عندما رنّ جرس الهاتف في هذه الساعة، وكانت الثالثة صباحًا، نسيت أن أقول، وكان يجب عليّ أن أبدأ بأني في باريس، وليس في بيروت، قال لي الصوت: قم أنا في انتظارك، قم بسرعة، أجبتها: مجنونة! في هذه الساعة؟ قالت إن لم تأت فسآتي إليك حالاً، قلت: سآتي إذًا.. سآتي.. مجنونة.. قالت: هذا ما تحبّه فيّ كما أعتقد أليس كذلك؟ لم أرد.

          وصلت إلى منزلها، أو إلى غرفتها في شارع جان دارك رقم 22، صعدت إلى الطابق السادس، استقبلتني كما يجب، وجلست بقربها كما يجب، وسألتها: لمَ هذه الدعوة العاجلة؟ وفي هذه الساعة؟ قالت: كنت سأنتظر الصباح لأخبرك، لكني لم أستطع النوم، خرجت إلى مقهى السلكت Le Select, ثم عدت بعد ساعة، قلت: فلأحاول الاتصال بك، قاطعتها: ولكن ماذا حصل لك؟ فأجابت: أتدري ما حصل لبرنارد Bernard؟ قلت مندهشًا: لا.. ماذا؟ ماذا حصل له؟ تابعت: اتصل بي صديقه كيم Kim سائلاً إذا كنت أرى برنار وهو لم يره منذ أكثر من أسبوع، تابع كيم: ذهبت إليه في غرفته في شارع «بونابرت»، طرقت الباب ولا من مجيب، ولم أسمع كلمة، نزلت لأخبر حارسة المبنى، فتحنا الباب، برنار كان على سريره ممدّدًا وبقربه حبّات من أدوية.

***

          صرخت هلعًا وحزنًا، خرجت راكضًا، لا أدري إلى أين، لحقت بي «جانين» Janine التي أخبرتني بأن برنارد دُفن منذ يومين، انهارت أعصابي وأصبحت لا أقوى حتى على البكاء، برنار كان صديقي، كنا نتبادل المأكل والملبس، وكان طالبًا في «السربون» يدرس الحقوق، وكنا نلتقي يوميًا بعد الغداء في مقهى «بونابرت» في ساحة «سان - جرمان»، مجموعة مختلطة من جامعات مختلفة. كانت باريس تعجّ بالفنانين الأجانب والحركة الفنية غنية جدًا، في تلك الأيام وُلدت السينما الجديدة التي سمّيت «الموجة الجديدة» La Nouvelle-Vague، وكان أول أفلامها يدور في مقهى «بونابرت» واسم الفيلم «Les Tricheurs»، وكأن الممثلين والممثلات هم نحن، مجموعة هذه المقهى، هذه المجموعة التي صار ينقصها الآن نجمها برنار الأجمل والأحب، بكيت، بل شعرت بأن دموعًا تنساب من عينيّ دون بكاء. عدت وجانين، سرنا باتجاه نهر السين، ومشينا بقربه وكان هادئًا، أخذت باريس تستفيق من نومها، وهي في هذه الساعات أجمل من باريس النهار. عدت إلى غرفتي، ورغبت جانين في مرافقتي لئلا أبقى وحدي وأنا في حزن عميق. كنت أفكّر طوال الوقت كيف سأمضي الأيام والسهرات وبرنار تحت الأرض، وتركت لدموعي أن تسيل بغزارة من عيني وجانين تنظر إليّ وعلى وجهها يرتسم حزن شديد، هي كانت عشيقة برنار لسنوات عدة، إلى أن فترَ العشق وبقيت صداقة قوية بينهما. كنا سبعة أشخاص، ثلاث فتيات وأربعة شبّان. برنار يدرس الحقوق، كذلك جانين، وكيم Kim الفيتنامي الشيوعي، اهتمامه كان بالسياسة وبالفتيات، وأنطونيو الطلياني الذي بدأ حياته قسيسًا، نراه قبل أسابيع من حلول عيد الميلاد ورأس السنة، حيث كان يهيئ الديك الرومي الأطيب من ديك الرومي عند مطعم «مكسيم» وإن لم أدخله مرة واحدة في حياتي، نسيت أن أذكر الهولندي، سائق التاكسي نهارًا ومساؤه مخصص لحضور الحفلات الموسيقية والمسرحية، وقد أخذته رفيقًا لي لهذا السبب، إذ كنا نترافق في حضور الأمسيات. عندما أذكر برنار كما أذكره الآن، فإنني لا أنسى أول «سينماتيك» في باريس، وكنا نعرف صاحبه ومديره، كان يقف على باب السينماتيك والكائنة في شارع ULM في الحي اللاتيني، شاهدت أهم الأفلام العالمية القديمة على شاشة هذه السينما، وكان تعرّفي على أعمال المخرج السويدي الكبير انغمار برغمان والمخرج الإسباني الشهير، صديق الرسام دالي والشاعر الإسباني لوركا، أعني به لويس بنويل.

          وأنا أكتب هذه السطور، أشم رائحة باريس والمترو والغرف والمصاعد والمقاهي، لم أسكن مرّة في بناء به مصعد كهربائي وهذا بسبب ضيق الحال في تلك الأيام، كان سكني في الغرف العليا المسمّاة «غرف الخدم» وكثير من الرسامين والشعراء سكنوا هذه الغرف التي كانت أرخص سعرًا للاستئجار. تقطع جانين علي أحلامي وذكرياتي مع برنار قائلة: لماذا لا تجيب؟ قم لنخرج قليلاً، أدعوك لشرب قهوة وحليب في مقهى «الدوم» Le Dome، كالعادة المقهى زبائنه مداومون، أكثرهم من الفنانين والشعراء، وكثير من الشقراوات «الاسكندنافيات» والألمانيات. بقينا في المقهى ساعات، وكان «الغارسون» يعرفنا جيدًا، يمر من حين إلى حين ويزيد في فنجاني وفنجان جانين حليبًا أو قهوة وكأن الساعات الطوال منذ اتصال جانين بي لتخبرني بانتحار برنار، جعلتنا نقترب من بعضنا أكثر، حبّنا لبرنار جمع بيننا ويكاد أن يجعل منا حبيبين، أنا شعرت بذلك، وهي أيضًا، إبدال فنجان قهوة بكأس زاد في هذا الشعور.

          عندما لم يبق ما نتحدث عنه، اشترت جانين خبزًا وجبنة، وقالت إن في غرفتها ما يصلح للشرب. دخلنا الغرفة، كانت دافئة، ولم نخرج منها إلا بعد مرور يومين، وكأن برنار أهدى إلينا حبًا ربطني بجانين وارتبطت  هي بي، لكن باريس تربط الناس بشعور تلقائي وتحلّهم أيضًا تلقائيًا، لم أكن أفكر بهذا، لكني أنتظر يومًا ينفرط العقد الذي ربطني بجانين، ونعود عندئذ صديقين كما كنا.

          وأنا أكتب هذا، أهرب من التفكير ببرنار، وبالتساؤل والاستغراب عن سبب انتحاره.

***

          ذات صباح، دخل عليّ برنار، على غير عادته، في مثل هذه الساعة الباكرة، وقد غابت عن وجهه الابتسامة، قلت لابدّ أنه يخبئ عني شيئًا.. خبرًا، لم يقل كلمة واحدة، تركته وعدت إلى سريري، عندها قال لي: هل نمت جيدًا؟ وكأنه يريد أن يتكلم بأي موضوع كان، أو يبدأ بأي جملة ليقول عن سبب مجيئه في هذه الساعة، وعلى وجهه مسحة حزن، لكني أعلم أنها لن تدوم عندما نبدأ بالتحدّث عن أي شيء، عن معرض زرناه أو عن فتاة، أو عن مشكلات «كيم» العاطفية، وكأننا نخفي همومنا المالية بأحاديث بعيدة عن المال والحاجة التي كنّا فيها، وهو الموضوع الذي كنا نخفيه حتى عن أنفسنا.

          بعد مضي ما يقارب الساعة في مقهى «بونابرت» دخلنا إلى حديقة اللكسمبورغ التي أحبها وأفضّلها عن كل حدائق باريس، جلسنا حول الحوض، قال برنار إنه لم يرَ أهله منذ سنة، استغربت لتكلمّه عن عائلته، وكانت المرّة الأولى التي يذكرها لي ولبقية الأصحاب، أخبرني بأنه لا خلاف بينه وبين عائلته، أنا لم أسأله إذا كان هناك خلاف بينهم، تابع قائلاً إنه اعتاد العيش في «السان جرمان» منذ دخوله «السربون» وأن عائلته تسكن في الدائرة السادسة عشرة، أي أنها عائلة ثرية، عندها تمعّنت جيدًا في حوض الماء وراح نظري يلاحق سمكة حمراء وكأني لم أسمع شيئًا مما يخبرني إيّاه، مع أني أسمع كل حرف يتفوّه به وباستغراب، كيف يعيش معنا، أنا اللبناني وكيم الفيتنامي وأنطونيو الطلياني، وهو من عائلة من عائلات الدائرة السادسة عشرة المعروفة بغناها. برنار لم أعرفه إلا بزي مخملي أسود كلون شعره الأسود الأملس وبحذائه الأسود كشعره.. لكن كل ما كان يلبسه هو بحالة يرثى لها، الاهتراء في ثيابه وحذائه لا يظهر عليه، كأنها ثياب جديدة يلبسها للمرة الأولى، قلت له وأنا أتابع تنقّل السمكة من زاوية إلى زاوية: لماذا لا تذهب لزيارة عائلتك؟ قال: إن الأعياد علـى الأبواب والسنة الجديدة الأسبوع القادم، وزيارتي للعائلة هي مرّة واحدة في هذا التاريخ من كل سنة، لكني، قلت: لكن ماذا؟ قال: كنت أرغب أن أحمل باقة زهور لوالدتي لكن أنت تعلم، قلت له قم.. قال: إلى أين؟ ذهبنا مشيًا على الأقدام حيث يعمل أنطونيو، عندما رآنا خرج لملاقاتنا.. أخبرته بأن برنار بحاجة لبعض الفرنكات لشراء باقة زهور ليعايد أمّه، سيذهب لزيارة العائلة، دخل أنطونيو إلى محله وعاد وأعطى برنار مائة وخمسين فرنكًا.

***

          عندما انتهينا من قصة برنار وباقة الزهور وزيارة العائلة.. اتفقنا على سهرة رأس السنة ككل سنة عند الصديق أنطونيو.

          كان يسكن في الضواحي الباريسية، عندما نزلنا من المترو، تابعنا سيرنا بين الحقول، وكان عددنا يتجاوز العشرة أشخاص.

          أمضينا من الحادية عشرة حتى الثالثة صباحًا محاطين بأنطونيو وهو يهيئ الديك الرومي السنوي، الذي لم أر مثله ضخامة إذ إن حجمه قد زاد لحشوه بالدجاج المحشي وبالطيور وغير ذلك من الأعشاب وأنواع البهارات والأرز والصنوبر والجوز والزبيب وغير ذلك.

          عبق البيت بهذا العطر الشهي الذي ابتدأنا بأكله قبل أن نبدأ فعلاً بالتهام الديك المحمّر.

          .. وهكذا، كلما أردت التحدث عن برنار، تشتّت فكري، وأحوّل حديثي إلى موضوع آخر أو أحدّث نفسي عن أشياء لا فائدة منها.. الحديث عن برنار يأخذني إلى مواضيع أخرى، بل إنني ألجأ إليها هربًا لئلا أتذكّره وأحزن.

 

 

 

أمين الباشا