فاطمة الحاج تكشف باللون والموسيقى عن رياض الروح

فاطمة الحاج تكشف باللون والموسيقى عن رياض الروح
        

          تركت للخريف باب محترفها مفتوحًا، فدخل بأوراقه الصفراء ولبس لوحاتها، غار الربيع منه فأبى إلا أن يطرّز رداءه بألوانها، خرج الفصلان معًا إلى الحديقة التي زرعتها يومًا، فكانت للشتاء والصيف زيارة أخرى لذاك المحترف سرقا فيها لونًا أبيض بلون الثلج والنور.

          قبل عصر الباطون.. كان لشرب القهوة معنى آخر، كان لها طقس خاص، وشرفة تطل على شجرة خضراء وعصفور طليق. بعد عصر الباطون... بات لشرب القهوة خيار وحيد هو لوحتها..هي تتوحد مع الطبيعة، تتماهى بها، تغوص في تفاصيلها وتنصت بصمت إلى إيقاعها.. كأنهما يوم قررتا الانجاب، أنجبت الأولى لوحة والثانية زهرة برية.

          لم تبرز في مجتمعنا العربي الحديث فنانة أكثر إخلاصًا للأرض منها ، حين كنا تلامذة في العشرين وكانت هي في الخمسين، كانت تسابقنا إلى اكتشاف العناصر وكأنها لم تزر هذه الأماكن على امتداد عشرين سنة من التعليم. كان التراب بألوانه المختلفة يدلّها على مكانه لاشتياقه لراحتيها وكانت هي تعرف ذلك جيدًا فتدلله وتزيل شوائبه وتعلن له حياة أخرى في لوحتها.

          الفنانة اللبنانية فاطمة الحاج، ليست اسمًا عابرًا في عالم الفن، كما هي ليست شخصًا عابرًا في الوجود الإنساني المطلق، لا ينبغي أن تعرفها عن قرب، لتكتشفها، كل ما عليك هو الاستغراق في تأمل أعمالها، والتعرف على تجربتها التي تمتد لأكثر من ثلاثين سنة، لتدرك مدى تبحرها بمفاهيم اللون وحرفيتها العالية مع سطح اللوحة، هذا تقنيًا، أما عاطفيًا فهي تتعامل مع اللوحة كأنها موقد تحرق في أتونه كل انفعالاتها، فخلف ذاك الجدار اللوني الذي تتراءى منه أنوار وظلال، تفتح لوحة الحاج نوافذ كثيرة على عوالم بصرية وتشكيلية، فيها من الحالات العاطفية ما يغرينا ويشوّقنا لاكتشافها، عوالم أشبه بحافلة لونية تتجه بسرعة نحو محطة انتظار ركابها، وهم منكفئون على أنفسهم يقرؤون.. منهمكون بنسج مطرزات شرقية... يتعانقون أمام الشمس ويعلنون عشقهم وولاءهم للأرض والطبيعة، للتربة والهواء.. هناك دائمًا مساحة للتأمل والتنسك، تتحرك داخل مساماتها ضربات الفرشاة بحساسية عالية تلتقطها الحاج من أجواء الطبيعة التي تجاور محترفها. فحديقتها ولوحتها عالم واحد يتوسطه مرسم لا يفارقه الضوء، وكأن سطح اللوحة نبتة خضراء تمتص كل النهار إشعاعات النور، لتعيد بناءها في الليل ألوانًا ومساحات تكسر أي رتابة ونمطية في الإيقاع.

          بالرغم من الشفافية الواضحة التي تعكسها أعمال فاطمة الحاج، إلا أن هناك دائمًا مساحة مهمة من الغموض والإبهام، سرٌّ صغير تلقيه في زوايا اللوحة، تترك إمكانية رصده وقراءته للمتلقي، أمام كل مساحة لونية واضحة ومشعّة هناك مساحة من العتمة والألوان الداكنة، هناك رجال ونساء يقفون في الظلام وآخرون يواجهون النور، أما الموسيقى فأساس ذاك العالم... دونها لا سعادة ولا صفاء... ضمن هذه الأجواء، المرأة تتربع على عرش الموسيقى، تعزف دائمًا على آلة وترية، تشبه في شكلها رحم الأمومة، أمومة الأرض لأبنائها البشر وأمومة الأم لأطفالها الأبرياء.

رحلة داخل النفس

          في معرضها الفردي الثالث في الكويت والذي احتضنه هذه المرة «فا غاليري» بعنوان «رياض الروح»، تبرز الحاج كفنانة مثقفة وصاحبة موقف إنساني وحضاري مهم، فهي تعود لتنادي برسالة الفن التشكيلي وتحديدًا اللوحة، في إشاعة الصفاء والنقاء في أرواحنا التي تسير. ومع تغيرات الحياة بشكل سريع يعيق الإنسان عن اكتشافها والتعرف عليها، تقول فاطمة عن تسمية المعرض: «انطلق من هذا العنوان بإطاره المباشر، لأنطلق إلى معانٍ أخرى أكثر عمقًا، فالرياض هنا وإن كانت تمثل في لوحاتي مشاهد طبيعية عامة، التقطتها من لبنان والمغرب وغيرهما من المدن الجميلة التي أرّختُ زياراتي لها في أعمال فنية، إلا أنها في الحقيقة رمز إلى تلك الحدائق والجنائن الموجودة في أرواح كل منا»، وتضيف: «علينا أن نبحث مليًا داخل نفوسنا، سنجد حتمًا كل ما نبحث عنه من صفاء وسكينة، سنجد رياضًا أرحب من كل رياض الدنيا». تذكرنا الفنانة بوصفها هذا ببيت شعر قاله ابن سينا:

          أتحسب أنك جرم صغير
          وفيك انطوى العالم الأكبر

          مقاربة فكرية واردة تركز على حصيلة واحدة، هي التأكيد على إعادة اكتشاف الروح والتمتع بجمالياتها، والعودة ثم العودة إلى جذورنا الإنسانية التي أبعدتنا عنها حركة العالم المضطرب، المتناهي السرعة.

          في أعمال أخرى لها تقدم فاطمة الحاج تحية إلى الواسطي، فتتخيل حضوره وسط تلامذته، أو جلوسه في المكتبة وحوله آلاف المخطوطات والكتب. يروق لها تأمل أعمال الواسطي وتصفه بعبارة واحدة «رائع هو الواسطي»، ترى ما هو ذاك النفس الذي التقطته من منمنماته؟ تجيب: «عالمه التصويري يغوص في التأمل، لقد استطاع التخلص من قوالب الهندسة الجامدة فتحرر من الخط المستقيم، مقدمًا نقلة نوعية في عالم المنمنمات، ومع أنه ارتكز على مقامات الحريري في عالمه هذا، إلا أنه تلبس تلك الشخصية المشاغبة في النصوص المكتوبة وبات هو نفسه مشاغبًا في صياغة النص البصري، كان محللاً لونيًا حداثيًا، عرف كيف يوزع الكتل الحامية والباردة، حتى خطوطه التي كتبها بيده كانت حرة غير متقيدة بأجزاء العمل، ليخرج عن المألوف ويؤثر تأثيرًا واضحًا فيمن بعده، وصولًا إلى بول كلي..»

          وكجزء من إعادة اكتشاف مخزوننا الحضاري العربي أو الشرقي عمومًا، ركزت الحاج في لوحات أخرى على جماليات العمران في البيئة المغربية التي سحرتها بعد زيارة أخيرة لها، فنراها تعالج بمساحات بيضاء وترابية تلك الأعمال لتركز على البيوت المغربية، إضافة إلى ترجمة جماليات النور من خلال المتناقضات اللونية المختلفة، كما ركزت على التفاصيل العمرانية الأخرى كالأبواب والنوافذ واللباس الشعبي، ليبقى عطر المكان الذي ستشتمه حتمًا ما إن تطيل الوقوف أمام العمل. لقد جاءت هذه الأعمال كتحية أخرى لتلك الأماكن التي استلهم منها المستشرقون أعمالهم، تحية لذاك الضوء الجميل الذي فتح للفن أوسع أبوابه. وكواحد من أبرز عناصر التأكيد على الإرث الثقافي الشرقي العربي، آلة العود التي تلازم أغلب الأعمال، حتى ليبدو أن المعرض قد يحتمل تسمية أخرى لها علاقة بتلك الآلة الموسيقية الرائعة التي تعزف وجعًا أو ربما فرحًا.

          في عمل ضخم مساحته «225 × 250سم» ويحمل عنوان «موسيقى حزينة» تبعث الحاج بسلام من القلب إلى القدس على وقع الأحمر المعجون بالألم والأزرق الحالم بالسلام والأصفر الذي يصوّر حلم العودة المُتعب الذي أنهكته المعاهدات... وتظهر في العمل خيالات إيحائية تناشد معالم فلسطينية أبرزها قبّة الأقصى المحتل، وامرأة تعزف على عودها نشيد الانتظار وقطة خانعة إلى جانبها، خدّرها حزن الأنين المنبعث من قلب العود، وتكسر سأم المشهد غصون شجرة ليمون وزيتون في دلالة على وجود الأمل والتمسك بالأرض والجذور. أشخاص ينتظرون في زاوية العمل تبرز الفنانة هيكلهم الخارجي فقط، عبر خطوط سوداء يدخلون في خلفية العمل لا أكثر ويتماهون مع السطح في دلالة ربما على الأيدي العابثة التي مزّقت قدسية المكان بأسلحة الدمار وهمجية اغتصاب حق الإنسان في العيش على أرضه.

تراكم انفعالي

          تحمل الألوان في هذه اللوحة عدة أوجه على الرغم من أن الموضوع قد يستقر في قلب المشاهد ألمًا قويًا يبرزه التذكر الدائم للقضية، إذ إن الحاج حرصت على تصغير مساحة الأصفر الباهت، وبالتالي تحجيم مقدار التعب من الحلم باسترداد الأرض واستعاضت عنه بإرسال ذبذبات تبشيرية مطمئنة من خلال توزيع الأزرق في مواضع عدة من العمل، أما الأحمر فقد حظي بالمساحة الكبرى كونه اللون الأكثر احتمالا للتأويلات الشعورية، فهو وباحتمالاته العديدة في الحالات العاطفية المختلفة يرسل إلى المشاهد زغاريد فرح مكبوتة بحلم الشهادة والصمود، كما يعكس حالات تراجيدية تطلقها الحاج بشكل محموم، يتجه تارة نحو الراحة وتارة أخرى ينطلق بقلق يشوبه حزن دفين.

          من خلال مجموعة لوحات تقارب الثلاثين، تبدو تجربة فاطمة الحاج التي تشتغل عليها أخيرًا أكثر ميلًا إلى التبسيط والاختزال، وعلى الرغم من مقدار الفرح الكبير الذي تبثه ألوانها لا يمكن إلا الوقوف أمام ذاك النفس الدرامي الذي تبرزه العجينة اللونية وحركات الخطوط والألوان على سطح العمل، ولعل هذا التقابل بين الحالات العاطفية هو أكثر ما يعطي للوحاتها هذه الخصوصية والتفرد على السواء، فهي تستخدم كل ما تتطلبه العملية الإبداعية من تنويع وغنى، لتبدو اللوحة في نهايتها كتراكم انفعالي يبدأ من طبقة أولى هي مرحلة الإسقاط الأول المفعم بالعفوية، ثم تلحقه طبقات وخطوط كثيرة ومساحات كثيفة من الألوان، ليقرر العمل نفسه الاكتفاء قائلًا لها: «أمي.. لقد شبعت».
--------------------------
* فنان تشكيلي من لبنان.

 

 

 

عبدالرزاق القادري*   

 




 





 





جموح - مواد مختلفة على قماش





غيمة صفراء - مواد مختلفة على قماش





بعد الظهر - مواد مختلفة على خشب





 





الصمت





من مراكش