معرض في كتاب.. حق العودة إلى القُدْس: أشرف أبواليزيد

معرض في كتاب.. حق العودة إلى القُدْس: أشرف أبواليزيد
        

          في الخامس عشر من مايو العام 1948 تم إعلان قيام دولة الاحتلال الإسرائيلي على الأراضي المنهوبة من فلسطين، مما جعل من ذلك اليوم تاريخًا لأقسى النكبات العربية في العصر الحديث. المدن التي اغتصبت، والقرى التي طمست، والفلسطينيون الذين رحلوا وشردوا، والآثار التي نالها العبث والإهمال، لا يمكن أن تهددها ذاكرة النسيان، ليس فقط لأنها محفورة في المخيلة، بل لأنها، كذلك، محفوظة في أرشيفات مصورة ومدونة، تعاود الظهور يومًا بعد آخر، لتجدد لنا حق العودة إلى فلسطين، وعاصمتها القدس، حتى ولو كانت مجرد عودة بصرية، كما في الصفحات التالية.

          «يُجلُّ كل المسلمين مدينتي مكة المكرمة والمدينة المنورة، ويبجل المسلمون الشيعة مدينتي كربلاء والنجف، ويقدِّرُ الكاثوليك روما، ويعظم البروتستانت جنيف عاصمة روحانية، ويعتز اليهود بمدينة الخليل، لكن مدينة القدس هي في قلب كل المسلمين، والمسيحيين كافة، وقاطبة اليهود. إنها المدينة المقدسة للديانات السماوية الثلاث، كما أنها وطن لآثار مقدسة في كل دين».

          أحببت أن أورد هذه الترجمة لكلمات الدكتور أكمل الدين إحسان أوغلو، الأمين العام لمنظمة المؤتمر الإسلامي، في افتتاحية وضعها بالإنجليزية بصدر ألبوم ضخم، ضم في أكثر من 430 صفحة عشرات الصور لمدينة القدس في العصر العثماني، لأن هذه السطور تعد مفتاحا لأقسام الألبوم التي قدم لها الدكتور خالد إرن مدير عام مركز الأبحاث للتاريخ والفنون والثقافة الإسلامية في إستانبول (إرسيكا) ناشر هذه «الموسوعة» السخية بصورها.

          المركز الذي يجمع بين كونه مؤسسة دولية وحكومية يعد الوجه الحضاري لمنظمة المؤتمر الإسلامي التي تضم 57 دولة، وقد أصدر أرشيفات مصورة لمصر وإستانبول، قبل أن يظهر هذا الألبوم عن القدس، وقريبا يصدر مجموعته الرابعة عن مكة المكرمة. يقول الدكتور خالد إرن: إن جزءا كبيرا من هذه الصور مختار من مجموعة صور سراي يلديز، (قصر السلطان عبدالحميد الثاني) آخر سلاطين الدولة العثمانية، ومقر مركز الأبحاث للتاريخ والفنون والثقافة الإسلامية في ضاحية بشكيطاش الغناء بمدينة إستانبول. ويقدم الألبوم 454 صورة من بين 734 يضمها أرشيف القدس المصور، سواء لدى المركز، أو في مكتبة جامعة إستانبول.

          كان مصطلح «مصور شمسي» الذي يظهر على أحد الجدران بهذه المجموعة يقدم ترجمة لكلمة «مصور» ونحن نعرف أنه بحلول العام 1840 كانت القاهرة، والقدس حاضرتين خاضعتين للوالي محمد علي باشا، وقد أراد خديو مصر أن يحسن من علاقاته مع الدول الأوربية، فسمح لحاملي جوازات السفر الأوربية بحرية التجول في حاضرتيه. كانت مصر ـ بالفعل ـ مقصدا للمستكشفين والسياح الأوربيين، الذين أسرهم النيل الجميل، والأهرامات، وجبل سيناء، وكان سماح الباشا لهؤلاء دافعا للشجعان منهم لعبور صحراء سيناء قاصدين القدس وبيت لحم والناصرة، ومدنًا أخرى فلسطينية.

          هكذا، وبعد عام وحسب من اختراع «التصوير الشمسي» في 1939م، سافرت الكاميرا إلى القدس، التي نحن بصدد التجول بها، وقد زاد طلب الناس على تلك الصور أن افتتحت محلات للمصورين في أحياء المدينة التاريخية، خاصة بعد تطوير مواد كيماوية في التحميض سنة 1871م. وكان صدور الصحف مطلع القرن العشرين سببًا في قلة بيع الصور، لكنه كان دافعا لزيادة الطلب على البطاقات البريدية المصورة، وهي البطاقات التي عرفت ما يمكننا أن نسميه اليوم بتقنية اللعب في الصور، حيث إن كثيرا من تلك البطاقات كانت «للتصوير المعلب والمعد سلفا» وليس للتوثيق الحي التلقائي الذي نراه على صفحات هذا الألبوم.

          وتوزعت الصور حسب أقسام هي: بانوراما القدس، المسجد الأقصى، المدينة وناسها، الأماكن المقدسة، تاريخ المدينة كما تحكيه أبوابها ودروبها، شوارع القدس، فصول مهنية ووجوه إنسانية في القدس العثمانية، زيارة القيصر ويليام الثاني إلى القدس، الجنود العثمانيون في القدس دفاعا عن المدينة، وهناك فصل لصور تم تلوينها، وأخير حمل عنوان «صور خاصة».

مقبرة النبي زكريا

          في بقعة من وادي الجوز، بين جبل الزيتون ومدينة القدس العتيقة يقع هذا المكان الخالد لمقبرة النبي زكريا، بقبتها الهرمية، والتي لم يتغير حولها المشهد كثيرا، وأعلى الصورة تتصدر الهضبة مستشفى المقاصد خلف كنيسة سان ماري ماجدلين الأرثوذكسية الروسية.

الطريق إلى القدس
وثيقتان

          قبل الدخول إلى الألبوم المصور، يمكن أن نطالع معًا وثيقتين، صدرت أولاهما عام 1911م تصرح لمحمد أفندي عبد السلام ببناء منزل له على ثلث مساحة أرض يمتلكها، شريطة أن يترك الثلثين مساحة خضراء، ولا يفوتنا أن نشير إلى أن هذه المساحة خارج أسوار المدينة. أما الوثيقة الثانية ـ وتاريخها 1874م، فهي تؤكد ملكية الأرض في القدس للإمبراطورية العثمانية التي أرادت الحفاظ على بنائها الديموغرافي، وهو ما مثل مشكلة لليهود الذين قدموا من أوربا لشراء أراضي المدينة.

المسجد الأقصى

          من الخارج حيث تبدو قبة الصخرة من العين الناظرة إليها في الساحة الغربية الشمالية. تتميز البوابة هنا بأنها تحمل اسم «بوابة السماء»، حيث تبدو إلى اليمين قبة المعراج.

          أما داخل المسجد، خلال الحقبة العثمانية، فهناك زخرفة خشبية من الأبنوس اللبناني محلاة بحواف لتصميمات بيضاء. أما اليوم، فإن السقف الخشبي الذي يربط الأروقة نجده مزخرفا بألوان زرقاء وخضراء وذهبية، بعد أعمال ترميم هي الأحدث له. وبذلك فقد السقف القديم تواضعه العثماني، بعد أن عمد الترميم إلى أن يكون سقف المسجد مشابها لقلب قبة الصخرة.

مدرسة مقدسة

          في الروزنامة التي يتبعها الزوار المسيحيون لفلسطين يمر السياح الدينيون بأربع عشرة محطة تمثل مراحل حياة النبي عيسى عليه السلام، وقد أصبحت إحدى هذه المحطات مدرسة ابتدائية يؤمها الحجاج المسيحيون، بل يمكنهم خلال الإجازة المدرسية الأسبوعية ـ يوم الجمعة ـ أن يؤدوا بها طقوسهم، كما يبدو في هذه الصورة التي تعود إلى العام 1905م.

احتفالات - صلوا للمياه

          في باحة المسجد الأقصى، حيث وصلت المياه الجارية إليه، وقف قاضي ومفتي القدس في 27 نوفمبر 1901 مع الحاكم العثماني للمدينة، والأجانب الذين يقطنونها، بمن فيهم المعماري البريطاني كونراد تشيك، الذي عاش بالقدس، والذي سجل في يومياته أن صلاة الاحتفال بالمياه أمها الشيخ يوسف أفندي (صاحب اللحية البيضاء الرابع إلى يمين الصورة)، وقد عزفت الفرقة العسكرية موسيقاها بعد ذلك.

عروس على صهوة الخيل

          بمرور الزمن، تحول الجمل الذي يحمل هودج العروس إلى دار زوجها إلى حصان، بينما بقي السيف تحمله العروس على صهوة الجواد، لم تشِ الجغرافيا بالمكان الذي التقطت فيه الصورة قبل قرن، ولكنه حتما في الطريق إلى القدس.

مشاهد معمارية.. وأقواس حجرية

          خلال المرحلة العثمانية من تاريخ القدس، تم ربط المنازل بأقواس حجرية، كي تكون دعامة للمنازل حتى لا تسقط، وقد أسهم هذا الشاهد المعماري من اتكاء البيوت على غيرها، في متانة علاقات أصحاب البيوت بجيرانهم، فساهمت شواهد الحفاظ على عمارة المكان في إعمار العلاقات الإنسانية.

شوارع مسقوفة

          شارع مسقوف ومدرج في القدس، يربط الدربين الرئيسيين للمدينة، اللذين قطعناهما إلى ثلاثة أقسام، وفي نهاية هذا الطريق شارع الوعد، وبطرفه الآخر شارع خان الزيت. يمكن للمتأمل في عمق الصورة أن يرى أقصى اليسار مدخل قصر ست تونشوق، وهو القصر الذي تم ضمه إلى الأملاك السلطانية بعد الغزو العثماني.

متاجر وباعة

          يبدأ هذا الطريق من باب دمشق شمالا في مدينة القدس بإتجاه شارع الوعد وتبين الحياة اليومية قبل أكثر من قرن، الطعام لدى الباعة الجائلين والدكاكين، في الخمسة عشر عاما الأخيرة من حكم العثمانيين، طريق تمر بها قوافل الحجاج المسيحية واليهودية لأنها تفضي إلى حائط المبكى.

مقهى وجرامافون

          اطلب مرغوب. هذا هو الإعلان الذي يعلو الجرامافون في قلب الصورة التي تبين مقهى شعبيا في القدس (التقطت الصورة بين عامي 1900 و1920). لا يفوت المدقق بالصورة أن مدخن النارجيلة يضع أمامه أسطوانات لا شك أنه يستمتع باللحن قبل أن يأمر بإبدال الأسطوانة الفينيل.

دار المكتبة

          فيها كتب قيمة. هذا هو الشعار الذي يعلو لافتة مكتبة الخالدية في صورة التقطت بين عامي 1889 و1914م، على بوابة المكتبة شيوخ وباحثون تدل سحناتهم على أنهم ليسوا من أهل المدينة، وداخل المكتبة التي تقع بأملاك عائلة الخالدي بشارع داوود،

مكتبة وباحثون

          يقف ويجلس زوار (دار الكتب في القدس) كما تقول لافتة ورقية على رف الكتب، في صورة تذكارية.

وجوه بدوية.. محارب قديم

          بدوي يزين خصره بحزام من الرصاص لا يساوي شيئا، فقد جاء تعليق الصورة بأن هذا البدوي المحارب قد أصبح معتادا على الحياة الحضرية.

عرض أزياء

          أربعة من البدو يمكن أن يكونوا في داخل أو حول القدس، وقد اختار المصور لهم هذا الوضع لكي يقدم صورة لأزيائهم، وهي صورة من بين المجموعة التي تم تلوينها، ربما لتكون بطاقة بريدية تذكارية.

طاحنتا الذرة

          صور النساء في القدس كانت تمثل الأعمال المنزلية دائما، وهنا صورة لسيدتين تطحنان الذرة بمطحنة حجرية ، بينما يفرز الحبوب لهما فتى يافع.

جالبتا الحليب

          في أسواق القدس، كان يمكن أن نرى مثل هاتين السيدتين اللتين جلبتا الحليب من المرعى لكي يقوما ببيعه، ربما جلبتا الحليب من سوق الماشيه قرب بركة سليمان غرب أسوار المدينة، الذي ظل يستخدم حتى العام 1914م.

القيصر والمخفر والعسكر
القيصر يزور المدينة

          بين 26 أكتوبر و4 نوفمبر 1898 زار القيصر الألماني ويليام الثاني مدينة القدس، وهي زيارة تاريخية دعمت صورة الإمبراطورية العثمانية، وحذرت في الوقت نفسه الأقطار الأوربية من خطر تحالف الألمان الجديد، كان توفيق باشا حاكم القدس آنذاك، وقد استضافت زوجته الرسامة نجيه نيال حرم القيصر، وقد حكى توفيق باشا وزوجته عن تلك الزيارة باستفاضة في مذكراتهما، والصورة للموكب القيصري يمر تحت قوس مصنوع خصيصا للمناسبة يحمل علم السلطنة العثمانية والعلم الألماني.

ساحة السجن

          في ساحة سجن بالقدس، بضعة من المحبوسين، جالسون، يقرأ بعضهم، وهم مغلولون، يحيط بهم عاملون بالمؤسسة العدلية.

ساعة الحرب

          خلال الحرب العالمية الأولى، لحظة تحرك الجيش العثماني من وادي الجوز إلى شرق المدينة القديمة، يتبع الجنودَ مدنيون وطلاب دينيون ممن يدرسون بالمدرسة الصالحية، يقودهم مفتي المدينة.

حق العودة إلى القدس

          تلك كانت عودة مصورة إلى القدس، لكنها تخفي رغبة حقيقية في عودة كل من هجروها أو هُجِّروا منها. متى تتنفس الديار والآثار هواء الحرية لتمنح زائريها عطر المكان الذي سكنه أهلوها فملأوه حياة وبهجة؟ قد لا تستطيع الصور أن تقدم أكثر من الإطلالة، لكنها تحيي التفاصيل الصغيرة التي تكون موزاييك مدينة تنتظر حق العودة إلى أهلها.

 

 

أشرف أبواليزيد