استنشاق الموت .. نوع غريب من الإدمان العصري! خليل فاضل

استنشاق الموت .. نوع غريب من الإدمان العصري!

تعد مشكلة إدمان استنشاق المواد الطيارة المنبعثة من البنزين، الغراء، المذيبات، الأصباغ، البخاخات (الإسبراي)، ماسح الأحذية O.K (أوكي)، (غاز البيوتان) الموجود بالقداحات، من أخطر المشكلات التي تواجه أطفالنا الآن. في هذا المقال سنحاول إلقاء الضوء على نوعية هؤلاء الذين يستنشقون الغازات ومدى خطورتها ولماذا تبرز مثل هذه المشكلة، وكيف يمكننا مساعدة مثل هؤلاء المدمنين؟!

أي طفل وأي إنسان من الممكن أن يقع في دائرة الخطر، لكن يجب التفرقة بين ثلاثة أنواع من الناس، الفئة الأولى التي تجرب فقط، والثانية التي تجرب لفترة مع الأصدقاء والرفاق، والثالثة المعتمدون كلية: الذين يستنشقون الغازات والمذيبات بشكل منتظم ولمدد طويلة.

أي طفل يمكن أن يدمن على هذه المواد الخطرة سواء كان من بيئة فقيرة أو من أسرة غنية، والأمر هنا ليس له علاقة بالتربية الصحيحة من عدمها بشكل مطلق، لأن الأمر في بعض الحالات قد يكون مجرد عقوق للوالدين، رفض للمجتمع وللأسرة وتجريب المخاطرة من قبل ذوي السن الصغيرة لإثبات الرجولة، أو لاقتحام عوالم غريبة. نادرا ما تحدث المشكلة قبل سن الحادية عشرة من العمر، وتصل إلى ذروتها ما بين سن الـ 13- 15 سنة. وعلى الرغم من أن أغلبية هؤلاء المدمنين الصغار تحت سن العشرين إلا أن بعضهم يستمر في تلك العملية المخيفة لسنوات طويلة، وغالبا فإن مدمني استنشاق الغازات المزمنين تكون لديهم مشاكل أخرى نفسية واجتماعية وصحية مصاحبة لعملية الإدمان أو سابقة لها.

مدى خطورة المذيبات

المذيبات والغازات مخدرات وعقاقير تؤثر على الجسم والعقل معا.

قد يتساءل البعض هنا قائلا: وماذا بعد؟! أليس النيكوتين والكافيين والكحول عقاقير يتناولها الناس في صورة خمر وشاي وقهوة وسجائر؟!

نعم، لكن تلك المذيبات ليست للاستخدام الآدمي، لأن لها أغراضا صناعية ومنزلية بحتة، وهذا لا يعني أن الدخان والخمر ليست لهما آثار سلبية على صحة الإنسان، لكن معظم تلك المذيبات والغازات ما هي إلا مجموعة من الكيماويات المختلفة من الصعب تحديد مصدر الخطر القاتل فيها.

إن تأثير استنشاق تلك المذيبات والغازات شبيه بتأثير الخمر عندما تذهب بالعقل، لكن تأثير الاستنشاق يكون سريعا جدا بالمقارنة بغيره، لأن المادة الطيارة تدخل من الرئتين إلى مجرى الدم دون أن تمر على المعدة مما يحدث الانسمام للمتعاطي بسرعة دون أن يحس، ويزول هذا الأثر أيضا بسرعة، ومن ثم لكي يستمر المدمنون في الإحساس بالنشوة الزائفة يضطرون إلى الاستمرار في الاستنشاق، فإذا توقفوا فجأة لأي سبب فستظهر عليهم أعراض الانسحاب بما فيها من تهيج واضطراب، وستنتابهم الهلاوس، بمعنى رؤيتهم لأشياء لا يرونها أو لا يرون ما أمامهم، أو يخطئون فيما يرون، فيعرفونه بشيء آخر وهكذا، فإن مدمني المذيبات قد يكون سلوكهم غريبا وخطيرا في آن واحد. وعلى الرغم من أن هذه المواد أحيانا ما تتسبب في أضرار جسدية إلا أنها عندما تحدث تكون بالغة الخطورة وتستهدف في تأثيرها الضار: الكبد، الكلى، نخاع العظام والجهاز العصبي.

إن الانسمام بالمذيبات يشكل خطورة لا حد لها، لأن تجربة المدمن تكون جديدة، ولأن المواد المستخدمة كما ذكرنا سالفا تتكون من أكثر من عنصر، ومن هنا نجد أن المدمن يختنق وقد يفقد الوعي، وقد يموت اختناقا بقيئه الذي يسد الممرات التنفسية والرئتين مؤديا إلى الوفاة.

ولأن مسألة استنشاق الغازات تشكل سلوكا غريبا وشاذا فإن المدمن قد يلجأ إلى أماكن مختفية بعيدا عن العيون كالأماكن الخربة، الشواطئ المتطرفة وغيرها بكل ما تحمل من مخاطر في حد ذاتها. كذلك فإن استنشاق تلك المواد يؤدي إلى الهياج الذي بدوره يؤدي إلى أفعال خطرة تتسبب في الحوادث والإصابات والموت، خاصة إذا كان المكان الذي تمارس فيه طقوس الاستنشاق ذا خطورة خاصة.

إن استنشاق هذه المواد من الممكن أن يكون قاتلا فعلا، فالموت المحقق يحدث نتيجة الحوادث التي يمر بها المدمن أثناء تعاطيه للمادة المخدرة، أو أن يختنق نتيجة انغلاق الممرات الهوائية، أو نتيجة انحسار نسبة الأكسجين، أو أن المادة التي تستنشق تؤثر مباشرة على القلب فتميته.

وعلى الرغم من أن العلماء لا يدركون بالفعل ماهية ما يحدث للقلب، إلا أن النظرية الأكثر قبولا في هذا الشأن هي أن المذيبات تسبب نوعا من الحساسية الزائدة لهرمون الأدرينالين الذي يرفع ضغط الدم ويزيد من دقات القلب ويزيد كذلك من نشاط الجهاز العصبي الذاتي.

في الأحوال العادية يزيد نشاط الأدرينالين في ظروف معينة مثل أداء مجهود عند الجري بسرعة، والخوف الشديد، ومن ثم ينصح بعدم تعقب مدمني استنشاق الغازات بالعدو خلفهم بعد تعاطيهم للمخدر.

كما أن بعض تلك الغازات بالتحديد تلك الموجودة في القداحات (الولاعات) والبخاخات (الإسبراي) تبطئ من عمل القلب خاصة إذا رشت مباشرة داخل الفم، ومن المعروف أن كثيرا من حالات الوفاة الناتجة عن استنشاق الغازات تصنف تحت اصطلاح (موت الاستنشاق المفاجئ).

لكن لماذا يدمن هؤلاء على استنشاق تلك المذيبات والغازات؟!

* لأنها رخيصة والحصول عليها أو سرقتها أمر سهل نسبيا.

* من الممكن أن تكون بديلا عن الخمر أو المخدرات المعروفة.

* صغار السن يعدونها متعه ونشاطا جديدا غريبا خاصة عندما يتم ذلك في مجموعات الرفقة.

* يفضل بعض الأطفال والمراهقين تجربتها من باب الإثارة المتوقعة رغم عوامل الخطر التي قد تضيف إليها طعما خاصا.

* أحيانا ما يكون استنشاق الغازات بالنسبة للأطفال والمراهقين وسيلة للبحث عن شعور جديد وغريب، جسدي في المقام الأول، ونفسي بها تؤثر به تلك المواد على الإدراك والوعي، واجتماعي بمعنى آثاره المختلفة على الآخرين بما في ذلك صدمتهم وخوفهم من العملية كلها.

* يستنشق البعض تلك المواد لمجرد أن الأصدقاء والرفاق قد دعوهم إلى تجربتها.

* على الرغم من أن الهلاوس التي تصاحب استنشاق الغازات قد تكون خطيرة ومخيفة إلا أنها أحيانا ما تكون متعة زائفة وخاصة، شيء ما أشبه بغواية أفلام الرعب، أم وسيلة للهروب من العالم الحقيقي بكل منغصاته! ولو حتى لوقت قصير، لكن ربما يؤدي ذلك إلى نهاية غير سعيدة.

وقد يتمكن بعض المدمنين من التحكم الجزئي في هلاوسهم بمعنى تركيب خيالاتهم الخاصة وأحلامهم الفردية عليها، ومن ثم ومن خلال الجلسات الجماعية تشكل ظاهرة استنشاق الغازات نوعا من الحل الوهمي لمشكلات الواقع وصراعاته.

ما هو السبيل لتفادي المشكلة والحد من انتشارها؟

إذا حددنا الهدف بالإقلال قدر الإمكان من عدد الذين يبدأون استنشاق الغازات لاستطعنا خفض درجة الإصابات الحوادث التي تنجم عن مثل هذا النوع من الإدمان، وهنا يبرز الدور الأكبر للدور التعليمي والإرشادي في المدارس على اختلاف مستوياته، وفي الجامعات بكل كلياتها، وفي كل مراكز تجمع الشباب.

لكن كيف؟

من الواضح - مثلا - أن عرض أفلام مفزعة تثير الصدمة وتبعث بالرعب عن آثار استنشاق الغازات والمذيبات ليس كافيا وليس مؤثرا أيضا؟ فالمراهقون وغيرهم يرون هذه الأفلام ويشاهدون تلك البرامج ويتساءلون: ثم ماذا؟ بل إن البعض يعتقد أن مثل تلك الوسائل الإعلامية أحيانا ما تحقق هدفا عكسيا بمعنى فتح أبواب المعرفة عن الظاهرة، وتشجيع البعض الآخر على طرق باب المخاطر والتجريب.

إن تعليم الناس وتوعيتهم بأخطار المخدرات والغازات والمذيبات، يجب أن يكون ضمن البنية الأساسية لمناهج التعليم بشكل تلقائي وعادي، لا موسمي ورد فعل لانتشار عرض معين، أو لخوف فجائي، أو حتى لنشرة سريعة قد تصل من منظمة الصحة العالمية مثلا. تعليم الطلاب لا يكون بحشو أدمغتهم بالمعلومات، لأن مثل هذا الأسلوب أثبت قلة فاعليته وعدم جدواه.

إن على المدرسين وأولي الأمر أن يحتكوا مباشرة بالناس، وأن يتعاملوا معهم عن قرب، ويتحدثوا إليهم عن مشاعرهم وأفكارهم وآرائهم بخصوص المخدرات والمذيبات والسبيل إلى حماية الصغار من هذا الوحش، وتعليمهم رفض إغراءات رفاق السوء، وتوضيح أن مسألة الإثارة وتجربة المشاعر الغريبة أمور زائفة مرضية تنتج عن إساءة استخدام كيماويات لها مفعول السم.

من ناحية أخرى يجب تعليم أولادنا كيفية التفكير إيجابيا، بمعنى التركيز على: نعم للصحة والحيوية ولا للضعف والوهن، التركيز على رعاية أجسادنا والحفاظ عليها وكيفية احترام النفس وتقديرها.

إن هناك كثر من سبيل للوصول إلى تلك الأهداف أهمها معاملة أطفالنا وشبابنا باحترام أكثر، لا اعتبارهم مجرد أشياء أو نكرات تعيش بين ظهرانينا، ومن ثم يجب إتاحة الفرصة لهم للتعبير عن آرائهم وتحقيق استقلالهم الذاتي. كما على الأسر أن تشارك في النشاطات المختلفة وأن تشعر أبناءها بالانتماء والولاء، وعلى الآباء أن يشاركوا الهيئة التربوية وضع التصورات العملية المختلفة لحل المشاكل في حينها، وعلى المدى البعيد، ومن المهم أيضا على الآباء وأولي الأمر أن يكونوا للجيل الجديد قدوة حسنة، بأن يتخلوا عن عاداتهم السيئة كاحتساء الخمر والتدخين وغيرهما.

كيف نساعد مدمن استنشاق المذيبات؟

* من المهم جدا أن نعرف أن معظم الأطفال والمراهقين الذين يستنشقون المذيبات يفعلون ذلك مرارا دون علم أولياء أمورهم.

* إذا حدث واكتشفت أن أحد أبنائك أو من هم تحت رعايتك يستنشق بالفعل تلك المذيبات؟ فعليك بالهدوء والحديث المتأني المتعقل عن كل أخطار المشكلة، دون وعظ أو تشنج.

* قد يكون الأهم هو الإنصات إلى صغيرك لا الحديث إليه، أتح له فرصة التعبير عن نفسه، دعه يبح لك بذات صدره؟ فلربما كانت المشكلة منحصرة في إحساسه بالوحدة أو نزوة مراهقة أو إحساس قاس بعدم الثقة بالنفس، وقد يكون لذلك علاقة باضطراب عائلي، ببيت مفكك وأسرة مبعثرة أو مشكلات لا حصر لها مع المدرسة والمدرسين. وليست هناك غضاضة في أن يدرك ولدك قلقك عليه وانشغالك به وأن يعرف وجهة نظرك بكل قوة، وأن يعرف أنه قد سبب لك توترا، لكن كل ذلك يفضل أن يتم بشكل بناء.

* مساعدة طفلك خلال مرحلة الانتقال من الطفولة إلى المراهقة ليست عملية سهلة، كثير من الأهل يقومون بها بشكل رائع وتلقائي، لكن لا خجل من طلب المشورة والعون من المختصين مثل الإخصائيين الاجتماعيين، والمرشدين النفسيين، ورجال الدين والأطباء، كلهم يمكنهم مساعدتك في تناول مشكلات المراهقة المختلفة بحرص وأناة.

* إذا كانت هناك مجموعة من المراهقين تستمتع بعملية استنشاق المذيبات كجماعة فمن المفيد جدا توفير البديل الذي يمتص طاقتهم مثل الرياضة البدنية وألعاب شغل أوقات الفراغ ذهنيا وبدنيا، بمعنى آخر يجب أن يكون البديل أكثر روعة وقوة من ذلك التأثير الزائف لاستنشاق الغازات والمذيبات.

* على الناس ألا يعتمدوا بشكل كلي على الخدمات الطبية؟ فالإدمان مشكلة اجتماعية في المقام الأول، لهذا يجب أن يكون للأهل دور إيجابي في عملية الوقاية، العلاج، والتأهيل.

* من المهم أن يعرف الذين وقعوا في شرك استنشاق المذيبات - نوعياتها المختلفة - درجة خطورة كل منها وكيف يحدث الانسمام.

* من المفيد عدم التركيز على عملية الاستنشاق في حد ذاتها بالنسبة لهؤلاء الذين تورطوا فيها لمدة طويلة، بل يجب التركيز على المشكلات والمصاعب التي يعاني منها المدمن؟ ففي أحيان كثيرة يكون حل تلك المشاكل هو الحل لاستنشاق المذيبات، على أن تسدي النصائح لهؤلاء المتورطين بكيفية تجنب تدمير صحتهم العامة (مثل تجنب استخدام الأكياس البلاستيكية على الرأس - وتجنب استخدام الإسبراي وغاز القداحات وعدم الاستنشاق وحيدا وفي أماكن خطرة).

هذا بالطبع بجانب تناول المشكلة بكامل أبعادها النفسية والاجتماعية والصحية.

 

خليل فاضل

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




الصغار أيضاً يتهددهم خطر الإدمان





الغازات والمذيبات باتت تنافس الكوكايين هذا القاتل القديم