تبديد ظلام الليل من الفضاء

تبديد ظلام الليل من الفضاء

بقلم: المهندس سعد شعبان

إنجاز فضائي باهر، تم في الفضاء في مايو 1993، سيكون حجر زاوية في ركب المدنية مستقبلا، وستترتب عليه آثار كبيرة على كثير من مظاهر الحياة. فقد فاجأ "السوفييت" العالم بتعليق مرآة في إحدى مركبات الفضاء، وعلى هذه المرآة انعكست أشعة الشمس موجهة إلى الأرض، فمرت في مسار عبر ست مدن أوربية، فبددت ظلام الليل الدامس للحظات. ولقد أتت هذه التجربة بعد محاولات بدأت بأفكار جريئة منذ بضع سنوات وكللت بالنجاح. ولذلك يهمنا أن نلقي الضوء على هذا التطور الفضائي المثير.

ما زال العلماء يؤكدون أن الطاقة الشمسية غير مستغلة على الأرض إلا بقدر ضئيل، رغم أنها منحة من الله بلا ثمن. ورغم أنها إحدى صور الطاقات النظيفة، لا تلوث البيئة ولا تهلك الزرع ولا الضرع.

والإحصاءات العلمية تشير إلى أن متوسط الإشعاع الشمسي الذي يصل إلى الأرض سنويا يبلغ "2500" كيلو وات - ساعة / على كل متر مربع في الصحراوات القاحلة، ويقل إلى "1500" كيلو وات - ساعة / على المتر المربع في خطوط العرض العليا. كما أن 47% من هذه الطاقة تصل إلى الأرض في صورة إشعاعات حرارية، بينما يتبدد الباقي في الفضاء الكوني ويصل قدر منه إلى الأرض في صورة ضياء، يغمر نصف الكرة الأرضية في اليوم الواحد بضع ساعات من النهار.

ورغم التقدم التكنولوجي الذي نعيش في ظلاله الآن؟ فإن الإنسان مازال عاجزا عن استغلال الطاقة الشمسية بالقدر الكافي حتى اليوم. فعلى سبيل المثال، لو استغلت المملكة العربية السعودية - أغنى الدول بآبار البترول - 1% فقط من الطاقة الشمسية التي تسقط عليها،؟ لكان ذلك كافيا لإعطاء طاقة تعادل تلك التي يولدها البترول السعودي كله.

ولقد حاقت بالبيئة آثار مدمرة يكتوي بآثارها جميع البشر، نتيجة اللجوء لتوليد ألوان من الطاقات غير النظيفة، ومازالت آمال العلماء معلقة على استغلال أكبر للطاقة الشمسية باعتبارها أهم مصادر الطاقات النظيفة في الحياة.

ولعلنا نذكر كيف استطاع أجدادنا استخراج الملح بمجرد ترك بعض الماء المشبع به، ليتبخر بحرارة الشمس.

وكيف استطاع "أرشميدس" أن يصنع سلاحا فتاكا، من تسليط أشعة الشمس نحو مرآة مقعرة، فأحرق بالأشعة التي تركزت في بؤرتها سفن أعدائه.

محاولة صهر المعادن

بالأسلوب نفسه الذي استخدمه "أرشميدس" منذ آلاف السنين، راودت الفكرة بعض العلماء السوفييت لمحاولة الحصول على معادن ذات درجة عالية من النقاء، إذ أقاموا منذ سنوات قليلة محطة ضخمة لإنتاج الطاقة من الشمس، وتركيزها على الأرض في مركز عدد كبير من المرايا، حتى تصل درجة الحرارة إلى ثلاثة آلاف درجة مئوية. وكان هذا القدر من الحرارة كافيا لصهر عدد كبير من المعادن. ولقد أشرف على هذه المحطة التجريبية العالم السوفييتي "صادق عظيموف" الذي استخدم في أواخر السبعينيات مرآة يبلغ قطرها ستة أمتار واستطاع أن يصهر بها مقادير كبيرة من الألومنيوم والماغنسيوم والنحاس، في محطة تجريبية أقيمت في مدينة "باركنت" بالقرب من طشقند في موقع يتمتع بسطوع الشمس على مدار 300 يوم على الأقل طوال العام.

واستطاع "عظيموف" أن يطور فكرته؟ بإقامة مرآة ضخمة على ارتفاع عال يزيد على خمسين مترا، ويوجه أشعتها من هذا الارتفاع إلى (62) مرآة أصغر قطرا، وعمل على توجيه هذه المرايا لتتابع حركة الشمس، ليظل الضوء ساقطا عليها طوال النهار. واستطاع بهذا الأسلوب البسيط أن يصنع ما يمكن اعتباره فرنا ضخما لإذابة المعادن داخل برج صناعي تصهر فيه المعادن إلى درجة الغليان.

ومضى عظيموف في تطوير ابتكاره، فاستخدم مادة "التلريوم" في تغطية السطوح المقعرة للمرايا إذ تبين له أنها أفضل في تحقيق انعكاس ضوء الشمس عليها، وأكثر جدوى من الألومنيوم والفضة. وفضلا عن ذلك فهي أرخص وتستطيع أن تقاوم العوامل الجوية مددا أطول.

حلم يتحقق

في عام 1984 أفصحت الأوساط العلمية السوفييتية عن فكرة "المرآة الفضائية" في مقال مفصل في جريدة برافدا. وتتركز الفكرة حول وضع عواكس ضخمة على مدارات فضائية بحيث يمكن أن توجه إلى الأرض. وكان الهدف المعلن من الفكرة آنذاك، وهو أن يستطيع الاتحاد السوفييتي مواجهة مشكلة تجمد المحاصيل خلال شهور الشتاء القارس، الذي تنعدم فيه المحاصيل الزراعية ، لأن الجليد يكسو أغلب سطح الأرض. إلى جانب إمكان استخدام جزء من الضوء المنعكس في تبديد ظلام بعض المدن التي يسودها الظلام شهورا طويلة، وهي التي تقع في المناطق القريبة ممن القطب والتي تعلو خط عرض "1/2 67" درجة شمالا.

ووقتها أسرف العلماء السوفييت في تصور آمال المستقبل التي يمكن أن تحققها "المرايا الفضائية" إذا تيسر أن تكون كبيرة القطر، إذ ستوفر طاقة تشتد الحاجة إليها على الأرض. ولقد بلغ الإسراف في هذه الآمال إلى القول بإمكان تركيز أشعة هذا الضوء وتوجيهها إلى الأرض، إلى حد إمكان استخدامها في تحويل الماء إلى بخار، واستخدامه في المولدات البخارية لتوليد الكهرباء، التي انصرف المهندسون منذ عدة سنوات عن استخدامها.

والحقيقة أن هذا كان تطوير لفكرة طموح ترددت في الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا منذ الثمانينيات، بعدما نجح مكوك الفضاء الأمريكي في تكرار رحلاته في الفضاء، إذ فكر العلماء في استخدام المكوك في تجميع "منصات فضائية" على مدارات عالية في الفضاء وتعليقها مع وضع آلاف من الخلايا الكهرو - ضوئية عليها، لتقوم بتحويل ضوء الشمس إلى كهرباء. ومن هذه المنصات يمكن تحويل هذه الكهرباء إلى إشعاعات متناهية القصر تبث إلى الأرض، عبر الفضاء، لتستقبل بواسطة هوائيات كبيرة القطر، لتحول مرة أخرى إلى طاقة يمكن أن تستخدم في شتى الأغراض.

لكن كبر المساحة المقدرة للمنصات الفضائية، مازالت تقف عقبة أمام تحقيق هذا الحلم الجريء، لأن المساحة المقدرة لكل منصة، لا تقل عن مسافة ملعب لكرة القدم. كما أن علماء البيئة وقفوا محذرين من أن مثل هذه الطاقة الضخمة ستزيد في إتلاف وتلويث الغلاف الجوي للأرض بقدر سيهدد أرواح كثير من البشر بكوارث صحية. لأن درجة الحرارة ستزداد ارتفاعا في الغلاف الجوي نتيجة اختراق هذه الطاقة عبره، وستتفاقم مشكلة "الإحرار" التي يحذر منها علماء البيئة تعقيدا، إذ إن أقل أضرارها أنها ستكون سببا في اختفاء عشرات المدن الساحلية، لتزايد مشاكل النحر على سواحل البحار؟ وفناء كثير من أنواع الأحياء الدقيقة، فضلا عن اتساع فجوة الأوزون التي لا تقف زيادة اتساعها عند حد.

المرآة الفضائية

لكن فكرة المنصات الفضائية على جرأتها، تقوم على توليد الكهرباء في الفضاء، وتبدو خيالية في محاولة نقلها إلى الأرض. لكن الإنجاز الفضائي السوفييتي بالمرايا الفضائية تخلص من سلبيات الفكرة الأنجلو - أمريكية وعمد إلى شيء مختلف وهو عكس أشعة الشمس إلى الأرض كما هو ولكن بتركيز، بدون تحويلها إلى كهرباء فكرر بذلك، فكرة "أرشميدس". ولكن لا ليحرق، بل ليضيء، ويبدد ظلام الليل على الأرض.

لقد عمد السوفييت في شهر مايو 1993 إلى رفع المرآة الفضائية على متن شاحنة الفضاء الذاتية الحركة "بروجريس" والتي تقوم بمهام الإمداد والتموين للمحطة المدارية السوفييتية "مير". إذ يتبع السوفييت أسلوب الإمداد المتعدد بتوجه الشاحنة "بروجريس" من آن لآخر لتصل إلى المحطة "مير" حاملة الوقود والملابس والغذاء والبريد إلى الرواد الموجودين بها. وتتحكم المحطات الأرضية في حركة بروجريس لتوجيهها نحو المحطة المدارية، لأنها بلا رواد، حتى تلتحم بها ثم يقوم الرواد بنقل المؤن منها عبر أنبوب توصيل.

ولقد بلغ فطر المرآة الفضائية الأولى 20 مترا، وهو قطر ليس بالهين. ولكنه كان كافيا لعكسه قدر من أشعة الشمس حقق نجاح التجربة. ولقد صنعت المرآة الفضائية من الألومنيوم الذي كسي بمادة لامعة خاصة أشبه بنسيج رقيق، وأحيطت المرآة بإطار متين من البلاستيك.

ولقد نجحت المرآة في أداء مهمتها الأولى، في عكس بقعة من الضوء إلى الأرض، مرت بمدن ليون في فرنسا، وجنيف وبرن في سويسرا، وشتوتجارت وميونيخ في ألمانيا، وبراغ في تشيكوسلوفاكيا ووارسو في بولندا، بالإضافة إلى إحدى مدن روسيا البيضاء.

وكانت المسافة بين الشاحنة الفضائية، والأرض نقرب من عشرة كيلومترات، أي أنها كانت داخل الغلاف الجوي في طبقة التروبوسفير، ولم تتجاوز المشارف الدنيا للفضاء.

وقد ذكر شهود عيان في جنوب فرنسا، أنهم شاهدوا بقعة الضوء تمر بسرعة بالغة، وقد رجح العلماء أن عدم رؤية البقعة في كثير من المناطق التي مرت بها، مرجعه إلى سرعة حركتها، إذ إن التجربة لم تستغرق أكثر من ست دقائق. وقد أطلق على هذه التجربة اسم "الراية". وربما كان السبب أيضا أن الضوء المنعكس إلى الأرض لم يكن باهرا بحيث يلفت الأنظار؟ بل كان خافتا إلى حد ما فلم يلحظه الناس بسهولة. ولقد تخلصت الشاحنة الفضائية "بروجريس" من المرآة بعد ذلك وأكملت رحلتها في الفضاء إلى المحطة "مير".

ولا شك أن البقعة الضوئية قد حققت مهمتها الثانية إذ قامت بتصوير المناطق التي سقطت عليها أثناء الليل، وأرسلت صورها إلى محطات المتابعة الأرضية.

بهذه التجربة التي لم تستمر غير بضع دقائق نجد أن هذا الإنجاز الفضائي الجديد، قد فتح أبوابا جديدة تنشر بتكنولوجيا متطورة في عدة مجالات.

ذلك أنها قد حققت نجاحا بعد أن كان العلماء في الاتحاد السوفييتي، يخططون لها منذ حوالي عشر سنوات. أما في الولايات المتحدة الأمريكية، فيبدو الأمر متواضعا لأن المرآة الفضائية لم تحلق على مدارات عالية في الفضاء بل طافت مع الشاحنة على مدار منخفض في الغلاف الجوي. وقد كانت أحد خطط برنامج "حرب النجوم"، تعليق مثل هذه المرآة، بل عدة مرايا على ارتفاعات عالية في الفضاء لتكون سلاحا يركز الضوء، ويسلطه لا نحو الأرض، ولكن نحو الصواريخ والأسلحة الفضائية المعادية. ولم يكن الغرض أن يكون الضوء المنعكس إشعاعات ضوئية من الشمس، بل ضوءا مركزا من فصيلة "الليزر" ليكون بمثابة سلاح إشعاعي قاتل كالمدافع غير المرئية الطلقات. ولأن الأمر يحتاج إلى تكنولوجيا متقدمة، فقد كانت خطط المرايا الفضائية، أحد ما سيخطط له مع سائر برامج حرب النجوم في أوائل القرن المقبل. ومن ناحية أخرى فقد أدى تفكك الأوصال السياسية للاتحاد السوفييتي، إلى تراجع خطط التحدي، وانعدام المنافسة الأمر الذي أودع أغلب برامج حرب النجوم في ثلاجات التربص والانتظار.

أما من الناحية النظرية فإن الذي لا شك فيه، أن هذه التجربة سيكون لها ما بعدها من نتائج جمة، في القريب العاجل أو الآجل على السواء. لأنها قد فتحت الأنظار على استخدامات شتى يمكن أن تتحقق، سواء بمرآة واحدة أو بعدة مرايا، وسواء في المجالات المدنية أو العسكرية. ودعونا نقفز إلى المستقبل لنرى إلى أين تتجه الخطط لاستثمار ما تحقق، بتطبيقات ستسهل كثيرا من الأمور.

- أولها توسيع نطاق الزراعة، في المناطق التي تعاني من تجمد المحاصيل أو التي يكسوها الجليد خلال شهور الشتاء. كما يمكن استخدامها لتدفئة المحاصيل التي تتعرض للصقيع كبديل للمحميات الزراعية المعروفة باسم "الصوبة".

- يمكن أن تكون الأشعة المركزة أسلوبا جديدا لتبديد ضوء الليل الحالك، في القرى أو المدن البعيدة عن العمران والتي يصعب أن تمتد إليها خطوط الكهرباء.

- كما يمكن أن يستغلها العسكريون كأسلوب لتصوير التحركات التي تتلفع بستر الظلام للأطراف المعادية، وتصبح أسلوبا معاونا لما تقوم به الأقمار الصناعية لالتقاط الصور للتجسس.

- قد تتطور الأمور مستقبلا، ويرى رجال الأمن أن مثل هذه الوسيلة يمكن أن تكون وسيلة لمتابعة المجرمين والفارين والكشف عن أماكن اختبائهم.

 



أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




المرآة الفضائية أحد أسلحة حرب النجوم





مرآة الفضاء تمسح ظلام الليل