«الممارسات الإبداعية وأحجية الانفجارات الحضارية»

«الممارسات الإبداعية وأحجية الانفجارات الحضارية»
        

          إن «الفزورة التاريخية» التي طرحها الأستاذ بهاء الدين في مجلة «الهلال» (يناير 1989) والتي شاركه فيها الدكتور محمد فتحي (مجلة العربي، العدد 622، سبتمبر 2010م، صفحة 168، منتدى الحوار)، هي فزورة  كانت ولاتزال تجول في فكر المثقفين جميعًا مع اختلافهم، بل وفي فكر غالبية العرب والمسلمين وفي فكر الكثير من الذين ينتسبون إلى ما كنا نسميها «دول العالم الثالث» بل  في فكر وكتابات المثقفين والمؤرخين الذين ينتسبون إلى الحضارات القائمة حاليًا.

          والفزورة التاريخية، أو السؤال المطروح هو: كيف ولماذا تنشأ الحضارات؟ وكيف ولماذا تضمحل وتتدهور وتنتهي أخيرًا بالانقراض؟

          لقد كانت هذه الفزورة، وبهذه الصيغة تقض مضجعي وأنا بعمر المراهقة، وعندما لم أجد لها جوابًا شافيًا، ولم يستطع أحد أن يجيبني بجواب شافٍ وعقلاني، قررت في ذلك العمر، ولحل هذه الفزورة، أن أعيش في مجتمع متحضر كي أستطيع مقارنته بالمجتمع المتخلف الذي كنت أعيش بكنفه، وبدأت أجتهد في المدرسة للحصول على درجات عالية تؤهلني للحصول على بعثة دراسية إلى الخارج.. إلى العالم المتحضر، وهكذا كان. وبعد انقضاء السنوات الدراسية (وبتفوق والحمدلله) كان هاجسي الأول والأخير الحصول على جواب مقنع لهذه الفزورة، وقد تحولت إلى السؤال بالصيغة التالية: لماذا ينعمون هم بهذا المستوى الإنساني المتفوق في كل مجالات الحياة، ونظل نحن نقبع في حياة القهر والفقر والجهل والمرض؟

          ولم أحصل على جواب غير واحد فقط: السبب لأنهم متحضرون يعيشون في خضم حضارة فاعلة، ناشطة ومتطورة ونحن متخلفون، لا حضارة لنا ونعيش لذلك على هامش حضارتهم وكل ما تنتجه من علم وثقافة ومعرفة وصناعة واقتصاد.

          نعم، ولكن هذا الجواب لم ينه حل الفزورة التي تقلقني وتقض مضجعي، فقد ولّد الجواب سؤالا مقلقًا آخر: كيف ومتى سنودع نحن تخلفنا الحالي ونبني حضارتنا الخاصة بنا لنعيش في عالم لا يسوده القهر والفقر والجهل والمرض؟ وشيئًا فشيئًا تحول السؤال إلى صيغة أعم وأشمل: كيف ولماذا تنشأ الحضارات وكيف ولماذا تتدهور وتضمحل؟

          وبدأت أقرأ وأبحث عن الجواب، وقد جاء بعد حين: هنالك شروط موضوعية لابد من وجودها عند الأمم والشعوب لتبدأ عملية النهوض والتحضر وبناء الحضارة الخاصة بها في ذلك الزمان والمكان.

          وهكذا تحول السؤال إلى الصيغة التالية: ما هي إذن هذه الشروط الموضوعية؟ ورحت أبحث في كتب التاريخ، وخاصة الرصينة منها، وبعد طول المعاناة الفكرية، وبحكم انتمائي إلى مهنة تتعامل مع الزمن والتفاعلات الكيماوية والشروط الواجب حضورها موضوعيًا كي تتم هذه التفاعلات في الطبيعة، وصلت إلى القناعة التالية: لكي تتم عملية النهوض والبدء بتكوين ونشوء الحضارات لابد من توافر العناصر التفاعلية اللازمة لحدوث هذا الانقلاب التاريخي من التخلف إلى التحضر. إذن فإن عملية النهوض وبناء الحضارات هي عملية تفاعلية بين عناصر ضرورية لحدوث هذا التفاعل الهائل، وهكذا تحول السؤال إلى الصيغة التالية: ما هذه العناصر الضرورية لحدوث هذا التفاعل الحضاري؟

          واستمر البحث والاستقصاء ليأتي الجواب التالي:

          الحضارات هي إبداعات بشرية خالصة تعمل على خلق مجتمعات يسودها العقل والعدل والحرية وتؤمن لهذه المجتمعات كافة المتطلبات الإنسانية والمادية منها والمعنوية، وصولاً إلى مجتمع الرفاهية، وللشروع ببناء هذه الصروح الحضارية لابد من وجود مجاميع بشرية تعمل وتبدع وتتفاعل مع بقية العناصر الضرورية لحدوث واستمرار هذا التفاعل التاريخي، وهذه العناصر هي: قيادة تاريخية واعية وفاعلة ومبدعة تقود وتتفاعل مع هذه المجاميع البشرية من خلال أيديولوجية (أو عقيدة) تاريخية متطورة وفاعلة ومبدعة.

          وهكذا يتم التفاعل التاريخي الحضاري المبدع بين هذه العناصر الثلاثة للشروع في بناء الحضارات، حاضرًا وماضيًا ومستقبلاً، ومادام التفاعل مستمرًا فسيستمر التقدم والتطور في بناء الحضارة.

          وتخبو الحضارات وتضمحل باضمحلال قوة وعنفوان هذا التفاعل إلى أن يهدأ بركان التفاعل تدريجيًا فيصار إلى برود الحضارة وتدهورها ومن ثم انقراضها، لترجع المجاميع البشرية المسكينة إلى حياة التخلف، حياة القهر والفقر والجهل والمرض حياة التبعية والاستغلال من قبل القوى الداخلية والخارجية.

عبدالعظيم أنيس- العراق