ما الذي حلّ بتقرير جولدستون؟

ما الذي حلّ بتقرير جولدستون؟
        

          قبل انعقاد الدورة الـ64 للجمعية العامة للأمم المتحدة (2009) بأسبوع واحد، صدر تقرير القاضي ريتشارد جولدستون، بخصوص انتهاكات القانون الدولي الإنساني والارتكابات المتعلقة بجرائم حرب. وقد أثارت «إسرائيل» ضجة كبرى حول قرار لجنة تقصي الحقائق الدولية بشأن الحرب على غزة ونعتته بأسوأ النعوت، فضلاً عن الانحياز وعدم الموضوعية، وإذا كانت إسرائيل لا تكترث بقرارات المنظمات الدولية بما فيها الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي، فلماذا قابلت بالتنديد على نحو لم يسبق له مثيل تقرير جولدستون؟

          لعل من باب المقاربة والاستذكار، أن غضب إسرائيل على تقرير جولدستون لم يوازه سوى غضبها على قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة 3379 الصادر في 10 نوفمبر العام 1975 والخاص بمساواة الصهيونية بالعنصرية، واعتبار «الصهيونية شكلاً من أشكال العنصرية والتمييز العنصري»، وقد وصفت جولدامائير، جهارًا نهارًا القرار 3379 بأنه: يثير الاشمئزاز ومدعاة للكراهية، وقام هيرتسوغ ممثل إسرائيل في الأمم المتحدة في حينه والذي أصبح رئيسًا لإسرائيل لاحقًا بتمزيق القرار ورميه من على المنصة الدولية، وعندما تولى دست الرئاسة أواسط الثمانينيات حلف بأغلظ الأيمان على إعدام القرار.

          وحصل الأمر بعد تصّدع الوضع العربي بغزو القوات العراقية للكويت العام 1990 وانهيار الكتلة الاشتراكية، لاسيما بعد سقوط جدار برلين 1989، الأمر قاد إلى إلغاء الأمم المتحدة لقرارها في سابقة دولية وقانونية خطيرة وليس لها مثيل، وذلك في 19 ديسمبر 1991.

          وعلى المنوال ذاته عزف شيمون بيريز رئيس إسرائيل الحالي حين وصف تقرير البعثة الأممية برئاسة ريتشارد جولدستون بأنه «فصل مخز»، فلماذا كل هذا الغضب، على الرغم من أن العرب الذين جاءهم نصر ديبلوماسي جاهز لم يستثمروه، بل لم يعيروه أي اهتمام يُذكر؟

          لعل السبب الأول لغضب إسرائيل يعود إلى احتمال المطالبة مجددًا بمحاكمة مجرمي الحرب، تلك التي بدأت تبرد، بل إن بعضها كان عاطفة أو مجرد فورة، بما فيها تشكيل لجان متابعة وإصدار قرارات لملاحقة المرتكبين، سبق لمنظمات فلسطينية وعربية واتحادات ونقابات محامين ونشطاء، بمن فيهم جامعة الدول العربية، أن أخذوها على عاتقهم، ولكن الأمر سيكون أكثر خطورة عندما تأتي الإدانة هذه المرة من بعثة تحقيق دولية، وليس من مجرد منظمات عربية أو جهات إسلامية، تعتبرها «منحازة».

          السبب الثاني للحملة الإسرائيلية ضد التقرير يعود إلى أن رئيس اللجنة القاضي ريتشارد جولدستون من جنوب إفريقيا، وهو يهودي الأصل ولا مجال لاتهامه بمعاداة السامية، مثلما تم اتّهام كورت فالدهايم الأمين العام الأسبق للأمم المتحدة عند صدور قرار الأمم المتحدة 3379 في 10 نوفمبر 1975، حيث «نُبش» ماضيه «النازي» لكونه كان مجنّدًا في الحرب العالمية الثانية في الجيش الألماني، في محاولة لإيجاد ثغرة للنيل منه وتأكيد عدم صدقيته، وكذلك حين اتُهمت قرارات مؤتمر ديربن ضد العنصرية العام 2001 بأنها ضد السامية، لدمغها ممارسات إسرائيل بالعنصرية والتمييز العنصري.

          ولعل حملة من النوع يمكن أن تطال أية شخصية أو هيئة أو منظمة أو دولة، حيث تم أخيرًا اتهام الصحفي السويدي بوستروم بمعاداة السامية لكشفه قصة الاتجار بالأعضاء البشرية، وقبل ذلك اتهم المفكر الروسي يفسييف بمعاداة السامية لموقفه من الصهيونية، وجرى التشكيك بكتبه وأبحاثه، حتى وجد مقتولاً في ظروف غامضة قرب موسكو العام 1990.

مسئوليات قانونية

          السبب الثالث أن هذا التقرير الذي يتهم «إسرائيل» بارتكاب جرائم حرب، لاسيما بعد حصار غزة الذي يستمر منذ نحو 4 سنوات، يرتّب مسئوليات قانونية، حيث يمكن أن تتبعها إمكان ملاحقة ضباط ووزراء ومسئولين في الخارج، وهو ما أقدمت عليه جهات إسبانية ودولية بالتعاون مع ناشطين حقوقيين وأجانب في إقامة دعوى فردية في المحاكم الوطنية التي تسمح قوانينها بإقامة مثل هذه الدعاوى مثلما حصل ضد بن اليعازر و6 من رفاقه، وقبل ذلك ملاحقة رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق أرييل شارون في بلجيكا. وبُعيد أشهر من حرب غزة، لوحقت وزيرة الخارجية الإسرائيلية السابقة تسيبي ليفني في لندن، واضطرّت إلى الهرب من باب خلفي من الفندق الذي كان مقررًا أن تلقي به كلمة في اجتماع خاص، وربما كان هروبها غير بعيد عن تواطؤ استخباري.

          وهناك جهود تنظيرية فكرية وقانونية وسياسية كبيرة تحتاج إلى إمكانات وفرق عمل متطوعة ومحترفة، مدعومة من جهات رسمية وشعبية لمواصلة هذا الطريق الصعب والطويل نحو العدالة الدولية، إذ إن حلمها أو حتى «يوتوبيتها» لابدّ أن تبقى مستمرة، وفي دائرة الضوء.

          السبب الرابع أن «إسرائيل» كانت تتخوف من أن يتقدم المدّعي العام أوكامبو وتحت ضغط الرأي العام باستدعاء بعض المسئولين الإسرائيليين العسكريين والمدنيين لاتهامهم بارتكاب جرائم حرب، وهذه الخطوة يمكن أن يتخذها مجلس الأمن بالرغم من الصعوبات الكبيرة بسبب انحياز الولايات المتحدة الكامل وحجبها أي قرار بهذا الخصوص، لاسيما بإمكان استخدام حق الفيتو، كما يمكن لأي دولة أن تتقدم إلى المحكمة الجنائية الدولية، تطلب مقاضاة إسرائيل وملاحقة المتهمين بارتكاب جرائم حرب، ويمكن توسيعها بجرائم إبادة جماعية وجرائم ضد الإنسانية، وهذه ستكون ثالثة الأثافي بالنسبة «لإسرائيل»، علمًا بأن منظمة «بتسليم الإسرائيلية» ذكرت أن 775 مدنيًا فلسطينيًا سقطوا ضحايا «أي أكثر من ثلثي مجموع الضحايا، وأن بينهم 325 طفلاً»، فضلاً عن عدد المصابين والجرحى الذين جلّهم من المدنيين، وهو ما أكّدته منظمة مراقبة حقوق الإنسان «هيومان رايتس ووتش» ومنظمة العفو الدولية «أمنستي إنترناشونال».

          وسبق للأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون أن صرّح عقب زيارته قطاع غزة بما يشير إلى ذلك، لاسيما عندما تحدث عن الوضع اللاإنساني والمأساوي. وقد وصف الرئيس الأمريكي الأسبق جيمي كارتر خلال زيارته قطاع غزة الوضع بعد العدوان عليها في مطلع العام 2009، وبعد حصارها الدامي بأن الفلسطينيين في القطاع يعاملون «معاملة الحيوانات» في إشارة إلى الوضع اللاإنساني الذي يتعرض له السكان المدنيون الأبرياء العزّل خلافًا لاتفاقيات جنيف العام 1949 وملحقيها لعام 1977.

          السبب الخامس أن «إسرائيل» أرادت لفت النظر في اجتماعات الجمعية العامة «الدورة الرابعة والستين 2009» إلى الملف النووي الإيراني وخطر ذلك على السلام في المنطقة وهو ما واصلته في حملة لاحقة في اجتماعات الجمعية العامة «الدورة الخامسة والستين 2010» وما بعدها، وإذا بصدور التقرير تتوجه الأنظار إليها، خصوصًا موقفها المتشدد من عملية تجميد المستوطنات وإصرارها على أن هذه المسألة مؤجلة إلى المرحلة النهائية من المفاوضات، تلك التي وصلت إلى طريق مسدود منذ العام 1999، وبالرغم من محاولات إعادة الحياة الى اتفاقيات أوسلو وواي ريفر وخارطة الطريق الجديدة - القديمة، لكن جميع المساعي أكّدت أن «إسرائيل» لا ترغب في إيجاد تسوية سلمية، حتى وإن كانت لا ترتقي إلى معيار الحد الأدنى فلسطينيًا وعربيًا.

          إن مبعث السخط الإسرائيلي على التقرير يعود إلى أن «إسرائيل» تدرك بأن موقفها سيضعف إزاء بعض ضغوط الرئيس أوباما بشأن تجميد الاستيطان لبدء عملية تفاوض، وهو ما حاوله الرئيس الأمريكي على هامش اجتماعات الجمعية العامة بين الرئيس الفلسطيني محمود عباس وبين رئيس الوزراء الإسرائيلي نتانياهو، خصوصًا أن مسألة الاستيطان تلقى معارضة دولية، بالرغم من أن البيت الأبيض بدا غير متفائل في نتائج اجتماع القمة الثلاثية.

تسفيهات إسرائيل للتقرير

          لعل «إسرائيل» لم تهدأ ولن تنام منذ صدور التقرير وقد عملت بدأب على تسفيهه وإبطال محتواه، في حين أن العرب، لاسيما الحكومات والجهات الرسمية، انشغلت عنه بأمور أخرى، فلم تتم متابعة الآليات التي على مجلس الأمن اتباعها بشأن إحالة التقرير إليه من جانب مجلس حقوق الإنسان، وما يترتب على ذلك من إجراءات أو عقوبات يمكن اتخاذها بحق إسرائيل، وتدريجيًا أصيبت الحماسة بشأن التقرير بشيء من الفتور، ولعل ذلك عادة تكاد تكون عربية، إذا اعتبرنا ذلك «مجازاً»، فالتقرير جاء بمجمله لمصلحة العرب، بالرغم من وجود بعض النواقص والانتقادات عليه، لكن ذلك لا يقلل من شأنه أو أهميته.

          وإذا كان هناك تحرك عربي شعبي، فقد بدا موقف السلطة الفلسطينية غريبًا حين طلبت بالاتفاق مع بعض البلدان العربية وقوى دولية كبرى تأجيل البت في التقرير، ولعل هذا الموقف كان مفارقة حقيقية، بل وفضيحة كبرى، جاءت لتبديد قلق إسرائيل، مزدرية رأي المجتمع المدني العالمي والعديد من القوى الدولية، التي كان تقرير جولدستون ينسجم مع وجهات نظرها، بل ويعطيها مبررات جديدة للضغط على إسرائيل، إن لم يكن إدانتها، في حين طالبت العديد من منظمات حقوق الإنسان بملاحقة مرتكبي الجرائم الإسرائيليين وإحالتهم إلى القضاء الدولي بالاستناد إلى الكثير من الوقائع والأسانيد والبراهين، التي جاء تقرير جولدستون ليؤكدها.

          لعل صدور قرار من المجلس الدولي لحقوق الإنسان استنادًا إلى تقرير جولدستون، كان بإمكانه أن يعزز عوامل النصر على المستوى الدولي ضد جرائم إسرائيل، ولكن - مع الأسف - فمثلما قابلنا النصر الكبير الذي تحقق العام 1975 بدمغ الصهيونية بالعنصرية بصدور القرار 3379 بشيء من الارتياح، ثم عدنا وتعاملنا معه لاحقًا بالإهمال حتى تم إلغاؤه، فإن القيادة الفلسطينية الرسمية ومعها بعض البلدان العربية، تعاملت بلا مسئولية إزاء قرار كان من شأن صدوره تعزيز الجهود الدولية لملاحقة مرتكبي الجرائم الإسرائيليين، وقد كان مجرد الطلب بتأجيل البت في القرار من جانب مجلس حقوق الإنسان في جنيف، ضربة لجهد مدني عربي ودولي مثابر، ولم يكن ذلك - بالطبع - حتى من باب حسن النيّة سوى اجتهاد خاطئ دون مسوّغات مقبولة، وهذا ليس اتهامًا بقدر ما هو إقرار بواقع أليم.

          لم تكتف «إسرائيل» بتنديدها بالتقرير، بل أصدرت وزارة خارجيتها تقريرًا مضادًا لتقرير جولدستون يقع بـ160 صفحة وزّعته في واشنطن على الإعلام والصحافة ومراكز الأبحاث الأمريكية والعالمية، شنّت فيه هجومًا ضد القاضي «جولدستون اليهودي»، وكما قالت إنه استخدم ذلك بمنزلة «ورقة توت»، وكان مجرد اختياره استفزازًا لمشاعر اليهود، فاليهود حسب إسرائيل معها بغض النظر عن قوميتهم وجنسيتهم، وكأنها تريد أن تقول إن وظيفتهم هي التستّر على جرائم الصهيونية.

          لقد كان صدور تقرير جولدستون الدولي فرصة تاريخية لتذكير الجميع بالتزاماتهم وتعهداتهم، لاسيما في المجتمع الدولي وبشكل خاص أعضاء مجلس الأمن الدولي تحديدًا، وذلك طبقًا لقواعد القانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة من جهة، ومن جهة أخرى استنادًا إلى الشرعية الدولية لحقوق الإنسان، واتفاقيات جنيف وقواعد القانون الدولي الإنساني بشأن ملاحقة المرتكبين وانسجامًا مع حلم العدالة الدولية الذي حاولت المحكمة الجنائية الدولية أن تجسّده، لاسيما في فضائها المستقبلي، كما أنه مناسبة لاستذكار الانقسامات العربية والضغط بجميع الوسائل الشعبية والرسمية بتأمين فريق عمل أو مؤسسة متخصصة لملاحقة المرتكبين في إطار معرفي وحقوقي، وفي ظل تحرّك دولي واسع، وهو الأمر الذي لانزال نفتقده.

          لقد أعطى التقرير مهلة لتحقيق مستقل ستة أشهر، وذلك قبل أن تتخذ القضية طريقها إلى القنوات الفضائية، وفقًا لوسائل تنظيمية ومتبعة. ولكن إسرائيل المتمرسة في التملص من التهم، فضلا عن محاولاتها لابتزاز الجهات التي تصرّ على المضي في التقرير إلى غايته، أحبطت بضربة بارعة من داخل البيت الفلسطيني والعربي المحاولات والجهود المضنية التي توّجت بتقرير دولي منصف يدين مجرمي الحرب، وهو الأمر الذي تم تبريره على نحو عديم الشعور بالمسئوليات على أقل تقدير، في حين أنها عاشت مرحلة قلق واضطراب لاتزال قائمة حتى الآن، على الرغم من استبعاد صدور قرار يدينها دوليًا أو يحيلها إلى القضاء الدولي.

          وإذا كان تقرير جولدستون قد أحدث كل هذه التداعيات لدى إسرائيل فأين هو الآن؟ وماذا حلّ به؟ وكيف السبيل لمواصلة الجهود بالتراكم لملاحقة إسرائيل؟ فوصول تقرير جولدستون يبقى مثار قلق دائم لإسرائيل.
-------------------------------
* باحث ومفكر عربي.

 

 

عبدالحسين شعبان*