في الأزهار هندسة عبقرية عزت عامر

في الأزهار هندسة عبقرية

يقدم العالم النباتي عديدا من الأشكال المدهشة، ومن التكوينات المتناسقة، كتلك التي يمكن ملاحظتها عند تأمل زهرة عباد الشمس، والصنوبر، أو ما هو أبسط من ذلك في تنظيم الأوراق على الغصن. ويضاف إلى ذلك ما تم معرفته منذ وقت طويل، فيما يخص اتصاف هذه الأشكال بخواص هندسية ورياضية فريدة تماما. كيف يمكن لهذه الترتيبات أن تتكون خلال نمو النباتات؟ لقد أثار هذا السؤال فضول الباحثين منذ أكثر من قرن ومازال يثير الفضول ويحفز البحث.

حديثا جدا، سمحت بعض التجارب الفيزيائية وبعض طرق المحاكاة الرقمية، بالحصول على تكوينات حلزونية مماثلة لتلك التي نلاحظها في النباتات. وكما يختص الأمر هنا بالفيزياء، فإنه يقدم رؤية جديدة لموضوع التخلق أو التشكل، مع البقاء تماما في مجال دراسات علماء النباتات.

منحنى حلزوني يتبع العدد الذهبي

مهما كان ما نلاحظه قليلا، فإن تنظيم الأوراق على الغصن، أو تنظيم الزهيرات في قرص زهرة عباد الشمس، يثبتان تناسقا غير متوقع تماما. ومن المدهش على وجه الخصوص معرفة ارتباط هذه التنظيمات (في أغلب الحالات) بشكل مباشر بمتتالية أعداد معروفة تماما بالنسبة لعلماء الرياضيات، متتالية فيبوناسي، مما يجعل هذه التنظيمات ترتبط بالتالي بالرقم الذهبي. كيف يمكن تفسير مثل هذا التنظيم في النباتات، تنظيم له هذه الخصوصية والشمولية؟ هذا سؤال رئيسي في جزء من علم النبات يسمى (انتظام الورق على الغصن)، والذي يدرس التنظيمات الخاصة بالأوراق. وينفرد هذا السؤال بإثارته لفضول كل من علماء النبات والفيزيائيين وعلماء الرياضيات. وتفسر هذه الخصوصية والتاريخ الطويل لهذا الحقل العلمي كيف ساهم علم انتظام الورق على الغصن بدرجة مهمة في التقييم العام للأفكار في هذا المجال.

فلنفحص أولا مم تتكون هذه التنظيمات؟. يميز العلماء بين نوعين من التوزيع للأوراق على الغصن: إما أن يظهر عديد منها في آن واحد على الارتفاع نفسه، مكونة دوارة (تجمع الأوراق حول محور واحد)، أو تتعاقب واحدة فأخرى تبعا لشكل حلزوني. وتم وصف هذه العائلة الثانية (الأكثر انتشارا) منذ زمن قديم. لكن الكتاب مثل ليوناردو دافنشي لم يميزوا حتى عصر النهضة إلا التنظيم المرتب على شكل خماسي، حيث إذا تم عد ست أوراق على طول الغصن، فإننا نجد السادسة فوق الأولى. وإذا تم ملاحظة وضع الأوراق الست المتتالية، بالنسبة لمحور الغصن، فإنها تشكل في هذه الحالة نجمة لها خمسة أفرع.

وكان يجب انتظار تطور الأبحاث التجريبية في مطلع القرن التاسع عشر للحصول على أوصاف دقيقة. وكمثال لذلك، فبعد أن قام عالم النباتات الكسندر براون بترقيم الأوراق، ورسم على الغصن أقرب الخطوط الممكنة بين قواعد الأوراق المتتالية، أمكن الحصول على منحنى حلزوني منتظم تماما يلتف فوق الغصن، وسمي بالمنحنى الحلزوني "المنشئ"، حيث يلتف هذا المنحنى بالاحتمالية نفسها سيان ناحية اليمين، أو ناحية اليسار، وتبعا للغصن الذي تم دراسته قام ك. شمبر والكسندر براون عندئذ بقياس الانفراج، أي الزاوية المسجلة بين قاعدة ورقة ما والورقة التالية لها، مرئية بالنسبة إلى محور الغصن.

وكم هو فريد ومثير للدهشة الانتظام والتناسب في هذا المنحنى الحلزوني المنشئ، حيث يكون الانفراج ثابتا عبر طول الغصن كله. إنه يقترب تماما من التطابق في مختلف عينات النوع الواحد. ليس هذا فقط، بل قام شمبر وبراون بإجراء حساب رياضي، توصلا من خلاله لوجود الانتظام ليس فقط في عينات النوع الواحد، بل في مجموعة من الأنواع، ووجدا أن قيمة الانفراج هي عدد دورات المنحنى الحلزوني المنشئ بين ورقتين مقسوما على عدد الأوراق الموجودة في هذه المنطقة من المنحنى، وأنها تتبع المسلسل الرياضي المعروف تماما 1، 1، 2، 3، 5، 8، 13، 21، 34، 55، 89، 144..... حيث كل حد يتم الحصول عليه من جمع الرقمين السابقين له. وهي متتالية فيبوناسي (عالم رياضيات إيطالي ولد في عام 1180). وهذه المتتالية ترتبط أيضا بالرقم الذهبي المشهور (رقم يناظر نسبة تعتبر جمالية على وجه الخصوص)، ويرمز له بالحرف الإغريقي "تاوآ".

المقطع الذهبي

وفي الوقت نفسه، فإن متسلسلة الانفراجات التي قام بقياسها شمبر وبروان تقترب من قيمة زاوية خاصة، تسمى بالمقطع الذهبي، ويرمز لها بالحرف الإغريقي "فاي" تعادل 30 137ْ.

وإذا عدنا إلى عام 1837، نجد الأخوين أوجست ولويس برافيه، يحتجان على القول بأن أي ورقة تكون رأسية تماما بالنسبة للورقة الأخرى، واقتربت قياساتهما بشكل أدق، من القيم القريبة جدا وباستمرار من المقطع الذهبي.

وقد قام الأخوان برافيه من جهة أخرى، بتطوير طريقة جديدة في تسجيل هذه التنظيمات الورقية، حتى يكون من السهل تصور المنحنى الحلزوني المنشئ لها، حيث يصعب في الواقع تحديد ترتيب ظهور الأوراق، ويصعب بالتالي القيام بترقيمها، لأنها تكون متقاربة جدا. حيث قام الأخوان باقتراح اسطوانة افتراضية لتحليل تنظيم العناصر النباتية مثل الأوراق، حيث يتم ترقيمها حسب ترتيب ظهورها، وتوصيلها على التتالي للحصول على شكل المنحنى الحلزوني تربط بين قاعدة ورقة ما وبين الأوراق الأكثر قربا منها. وتتشكل هذه المنحنيات أو الحلزونيات على هيئة مجموعات، تلتف بعضها متوازنة نحو اليمين والأخرى نحو اليسار.

وعند تطبيق المنهج السابق على الأجزاء الأخرى للنبات، مثل حرشف الصنوبرة أو الأناناس، أو زهيرات زهرة عباد الشمس، أو طلع (عضو تذكير) زهرة شجيرة المغنولية وغير ذلك... يتضح أن تنظيمها أكثر شمولا أيضا، ليس فقط بالنسبة للأنواع المختلفة للنباتات الحلزونية، بل بالنسبة للأجزاء النباتية المختلفة للنبات الواحد أيضا، ومن المدهش بشكل خاص أن نجد دائما كيف أن الرقمين الخاصين بالحلزونيات اليمنى واليسرى، يناظران رقمين متتاليين في مسلسلة فيبوناسي. وهذا الانتقاء الطبيعي بالذات دقيق جدا، حيث يظهر في زهرة عباد الشمس مثلا، عدد من المنحنيات الحلزونية 89، 144 ولا يحدث أبدا أن يكون هذا العدد 90، 143.

وأشار الأخوان برافيه إلى العلاقة بين الانفراج وعدد المنحنيات الحلزونية المشار إليها عندما وجدا أن كل الأوراق تقع على حلزون منشئ منتظم، يكون انفراجه ثابتا ومساويا للمقطع الذهبي، وقد أشارا أيضا إلى أن عددي المنحنيات الحلزونية يتبعان بالضرورة مسلسلة فيبوناسي، حيث النسبة بين العددين المتتاليين تقترب أكثر فأكثر من العدد الذهبي. وتم ملاحظة أن أعداد المنحنيات دالة لخطوة المنحنى الحلزوني المنشئ، أي الارتفاع الذي يتقدم به المنحنى بعد كل دورة.

وساعد اختراع الميكروسكوب الأكروماتي (عديم اللون) عام 1825، في الوصول إلى مزيد من دقة الفحص في فسيولوجيا النبات. فقام عالم النباتات الألماني ولهالم هوفمايستر عام 1868 بوصف التنظيم البرعمي. وتوالت الاكتشافات حتى عام 1907، حيث طور عالم النباتات الهولندي ج. فان إتيرسون الشبكات المنتظمة للمنحنيات الحلزونية التي درسها الأخوان برافيه، واهتم بشكل خاص بدراسة هندسة انتظام الأوراق على الغصن، حيث استعاض عن الأسطوانة الافتراضية التي استخدمها الأخوان برافيه في شرح وجهة نظرهما، بأشكال أقراص، وبأخذ مقاطع أفقية، ومقاطع على شكل مخروط ليصل أيضا إلى تطابق التنظيمات النباتية مع مسلسلة فيبوناسي.

دراسات حديثة لبنية الحلزون النباتي

أوحى موضوع انتظام الورق على الغصن إلى عالم الرياضيات البريطاني آلان تيرنج بمدخل جديد إلى مشاكل قوانين التخلق أو التشكل، وساهمت أفكاره في تطوير مجال جديد للرياضيات والفيزياء، هو مجال الديناميكية التي تدرس (من خلال نظم بسيطة) تحقيق عدة قواعد لعمليات تكامل أطوار الحياة. والتطورات التي شهدها هذا المجال قد عدلت (بعمق) فهمنا لموضوع نشوء الأشكال، مثلما حدث في نظرية السلوكيات الفوضوية. ويتم التوصل إلى بنيات الأشكال بسهولة من خلال دراسة تطور النظم البسيطة. ومن النتائج المهمة لهذه الدراسات، إمكان ما يماثل السلوك الديناميكي، والبنية، وفي النظم الفيزيائية، رغم اختلاف مجالها. وتم تطبيق هذه الدراسات لتفسير ظهور التنظيمات الخاصة في علم انتظام الورق على الغصن، وفي عديد من التجارب، ومن عمليات إنتاج الحلزون بالمحاكاة الرقمية تم الحصول على أشكال حلزونية توضح قوانين نشأتها في النباتات، مثل قانون الاتزان الميكانيكي، أو قانون تحقيق أفضل الاحتمالات. حيث يسمح المعيار الهندسي عندئذ بالتوافقات والانتقالات التي قد يمنعها النمو الديناميكي. وهكذا أمكن النظر إلى انتظام الورق على الغصن وانتظام الزهور كنظام ديناميكي مبسط للغاية.

وأخيرا، فالجينات تحكم أيضا عمليات الانتظام في النشوء النباتي، ودورها واضح في تفسير التشابه بين النماذج المختلفة في النوع النباتي الواحد. كما يعتبر النظام الوراثي (الجيني) مسئولا عن التنظيم الذاتي في النبات، وفي التمايز بين الأنواع المختلفة. لكن انتظام الورق على الغصن وفي الأزهار والبراعم يدل على وجود التنظيمات نفسها في كل الأنواع.

 

عزت عامر

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




في الأزهار هندسة عبقرية





المقطع الذهبي





دراسة حديثة لبنية الحلزون النباتي