لكنني آبَى الإقامة!

لكنني آبَى الإقامة!
        

          ليست هذه أول مرة أتحدث فيها عن علاقتي بالمدينة، فمنذ صدر ديواني الأول «مدينة بلا قلب» قبل خمسين عامًا من اليوم، والنقّاد والقرّاء يتحدثون عن علاقتي بالمدينة التي تداخلت فيها تجربتي في الحياة وتجربتي في الشعر. فالمدينة لم تكن مجرد موضوع لعدد كبير من قصائدي، وإنما كانت مع ذلك طرفًا أساسيًا في تجربة حية.

          والتداخل بين تجارب الشعراء في الحياة وتجاربهم في الشعر أمر مألوف، لأن الشاعر الذي يكتب القصيدة هو ذاته الإنسان الذي يعيش. ونحن لا نستطيع إلا أن نتحدث عن علاقة نزار قباني بالمرأة حين نتحدث عن شعره، وعن علاقة محمود درويش بأمه وخبز أمه، وعلاقة أبي نواس بالخمر، وعلاقة أي شاعر بموضوعه الأثير الذي ربما تعرّف عليه في الواقع خلال تجربته الحية، لكن علاقته به تتطور وتتحول حين يصبح موضوعًا شعريًا فيتحرر من الواقع ويستقل عنه، ويكتسب في الشعر وجودًا أسطوريًا لم يكن له في الواقع، وذلك حين ينجح الشاعر في توسيع مجاله، وتعميق دلالاته، وإنطاقه بلسانه عن تجاربه الأخرى. إن علاقة الرجل بالمرأة يمكن أن تصبح مجازًا لعلاقة الطاغية المستبد بالأمة التي قهرها، وعلاقة الإنسان بالخمر يمكن أن تصبح مجازًا لعلاقته بالغيب. والمدينة يمكن أن تكون وجهًا جميلاً أو قبيحًا للحضارة الصناعية كلها.

          أريد هنا أن أنبّه إلى أن موضوع الشاعر حين يحتل هذه المساحة في شعره ويكتسب هذه القيمة لا يبقى على حاله التي بدأ بها، ولا ينحبس في صورة واحدة، بل ينمو ككل كائن حي، ويخرج من المجال الذي بدأ منه ليدخل مجالات أخرى يتطور فيها ويتغير. فالمدينة التي تحدثت عنها في قصائد مثل «كان لي قلب»، و«الطريق إلى السيدة»، و«سلة ليمون»، و«إلى اللقاء»، و«مقتل صبي»، وغيرها من قصائد ديواني الأول تختلف كثيرًا عن المدينة التي تحدثت عنها في «هذا المساء يا عزيزتي جميل»، و«الدم والصمت»، و«موعد في الكهف»، و«يوميات الإسكندرية»، و«الأمير المتسوّل»، و«الموت فجأة»، و«لا أحد»، وغيرها من قصائد الديوان الثاني «أوراس» والثالث «لم يبق إلا الاعتراف». وهذه المدينة تختلف - بلاشك - عن المدينة التي تحدثت عنها في «مسافر أبدًا»، و«الرحلة ابتدأت»، و«اغتيال» و«مرثية لأنطاكية»، و«ثروبادور»، و«تقاطعات»، و«غرفة المرأة الوحيدة»، و«مصابيح الشوارع»، و«أغنية للقاهرة»، و«أشجار الأسمنت» وغيرها من قصائد الدواوين الأخيرة.

          لكن الصور الجديدة التي يتحول إليها الموضوع لا تقضي على صورته الأولى التي تكتسب في القصيدة الجيدة حياة متصلة، لأنها تلبي حاجات تتجدد في كل جيل. وكما وجد جيل الخمسينيات الذي شاركني تجربة الحياة في القاهرة، وقرأ قصائدي الأولى فيها حين نشرت لأول مرة - كما وجد هذا الجيل نفسه في هذه القصائد التي صورت فيها المدينة قاسية ظالمة، وجدت الأجيال التي ظهرت في الستينيات والسبعينيات نفسها في هذه القصائد التي لاتزال تقرأ ولاتزال موضوعًا لحديث النقاد بالرغم من أن صورة المدينة تغيرت في دواويني التالية، كما لابد أن يحدث.

          الموضوع يتغير في الشعر ويتطور لأن وعي الشاعر ينضج وأدواته تتبلور وتكتمل، ولأنه يستفيد في كل قصيدة يكتبها مما اكتسبه من قصائده السابقة. وكما تطورت لغتي الشعرية تطورت بالمثل علاقتي الحية بالمدينة.

***

          لقد بدأت هذه العلاقة ضمن شروط أنتجت تلك الصورة الأولى التي قدمتها عن المدينة وعن علاقتي بها في اليوان الأول. شاب ريفي ينهي دراسته ويقرر الهجرة إلى القاهرة بحثًا عن مكان له فيها، فيجد نفسه غريبًا وحيدًا لا بيت له، ولا أسرة، ولا عمل، ولا صديق في مدينة ضخمة شامخة شاهقة غارقة في زينتها وأضوائها ومطاعمها ومقاهيها وملاهيها، مستغنية بنفسها وبأهلها، ترفض الغرباء وتغلق في وجوههم وجهها. ثم تمضي شهور قليلة يتمكن خلالها هذا الشاب الشاعر من نشر أشعاره الأولى، ويتعرف على كتاب وشعراء من جيله ومن أجيال سابقة، ويجد عملاً في دار صحفية مرموقة، ويستأجر لنفسه مسكنًا. ويومًا بعد يوم تتصل أسبابه بأسباب هذه المدينة وتنتظم فيها حياته وأوقاته، فيعرف المطعم الذي يتناول فيه غداءه، والمقهى الذي يلتقي فيه أصدقاءه، والمنتدى أو المسرح أو الملهى الذي يقصده بين الحين والحين، ثم تكتمل هذه المسيرة بتجربتين حيويتين: ينخرط في صورة من صور النشاط السياسي، ويقع في الحب، فيصبح عندئذ مواطنًا وعاشقًا، أي يصير قاهريًا مائة في المائة، وإن بقيت المدينة في شعره تحمل الكثير من ملامحها الأولى مع إضافات اكتسبت بعضها مما طرأ على حياة الشاعر، وبعضها مما طرأ على فنه، أي على وعيه وأدواته التي تتحكم في رسم صورة المدينة أكثر مما تتحكم فيها الحقائق الموضوعية. ومن هنا تتغير هذه الصورة أو تختلف حتى في الديوان الواحد، لأن ما يريد الشاعر قوله في قصيدة يختلف عمّا يريد قوله في قصيدة أخرى.

في «الطريق إلى السيدة»

          في «الطريق إلى السيدة» كنت أريد أن أهجو القاهرة، وكنت أريد أن أقول إن صورتها تتناقض مع حقيقتها، فالمآذن ترتفع فيها، لكن قلبها لا يعرف الرحمة. وهكذا، فالطريق إلى حي السيدة زينب لا يعطي السائر ما كان يطمع فيه ويحتاج إليه من دفء ومودة وأمن، وإنما ينتهي به إلى شعور ساحق بالضياع والوحشة والعجز والاغتراب. الطريق إلى السيدة - إذن - لا يؤدي إلى السيدة، أي أنه لا يؤدي إلى ما تمثله حفيدة الرسول صلى الله عليه وسلم - السيدة زينب رضي الله عنها - وما توحي به. والمدينة التي تتظاهر بالإيمان والتقوى لا تعرف في حياتها الفعلية إلا القسوة والجحود:

          يا قاهرة!
          أيا قبابا متخمات قاعدة
          يا مئذنات ملحدة
          يا كافرة!
          أنا هنا لا شيء، كالموتى، كرؤيا عابرة
          أجر ساقي المجهدة
          للسيدة!
          للسيدة!

          غير أن هذه الصورة التي رسمتها للمدينة في «الطريق إلى السيدة» لم تمنعني من أن أرسم لها صورة مختلفة في «حب في الظلام»، وهي قصيدة أخرى من قصائد الديوان الأول تحدثت فيها عن تجربتي العاطفية الأولى:

          أحس كأن المدينة تدخل قلبي
          كأن كلامًا يقال وناسًا يسيرون جنبي
          فأحكي لهم عن حبيبي!

          هكذا كانت صورة المدينة تختلف من قصيدة إلى قصيدة، لأن التجربة الحية تختلف، ولأن القصيدة تفرض نفسها على مادتها، وتشكّل موضوعها، وتمنحه دلالته ومعناه.

          أريد مرة أخرى أن قول إن قصائدي عن المدينة ليست مستلهمة من تجربتي العملية في المدينة وحدها كما يتصوّر بعض القرّاء والنقّاد، وإنما استلهمتها من تجارب ومصادر مختلفة منها فكرتي عن المدينة التي سبقت هجرتي إليها، وهي فكرة تمتزج فيها الحقائق بالأساطير. وفي ديواني الأول قصائد نظمتها عن القاهرة وأنا فيها، لكنها تتحدث عمّا كنت أسمعه عنها قبل أن أعرف الطريق إليها.

          قصيدتي «مقتل صبي» مثلاً تتحدث عن صبي ريفي سقط صريعًا تحت عجلات سيارة مسرعة في شارع مزدحم من شوارع المدينة. وهي حادثة تقع كثيرًا، لكني عرفتها وانفعلت بها قبل أن أرى القاهرة وقبل أن أسكنها، وذلك حين تناقل أهل قريتنا خبر سقوط أحد أبنائها تحت عجلات الترام في القاهرة ووصول جثمانه إلى القرية ليدفن في مسقط رأسه.

          وباستطاعتي أن أقول إن ما سمعته في طفولتي من أهل القرية عن المدينة وعن رجالها ونسائها، وما فيها من مفاسد وشرور وأخطار تهدد الإنسان في روحه وجسده، ودينه وخلقه وماله، كان هو المادة الأولى التي شكّلت صورة المدينة في شعري. والغريب أن تكون زيارتي الأولى للقاهرة مصدقة تقولات أهل القرية عن القاهرة وعن رجالها ونسائها الغارقين في اللهو والمجون.

          كان ذلك في أواخر أربعينيات القرن الماضي حين قرر زعماؤنا في مدرسة المعلمين بشبين الكوم أن نقوم بمظاهرة رأينا بعد قيامنا بها أن نركب القطار جماعة إلى القاهرة كما تعّود الطلاب في ذلك الوقت أن يفعلوا بعد كل مظاهرة. وفي هذه الرحلة كانت زيارتي الأولى للمدينة. سار بنا القطار ساعتين أو ثلاثًا حتى وصلنا إلى باب الحديد فنزلنا لنخترق شارع إبراهيم الذي أصبح اسمه الآن شارع الجمهورية، وفجأة وجدنا أنفسنا في قلب المبغي الذي كان قبل إلغائه يقع بالقرب من حديقة الأزبكية. في ذلك الوقت، كنت في الرابعة عشرة من عمري، وكانت هذه أول مرة أرى فيها القاهرة.

***

          في تلك السنوات، أربعينيات القرن الماضي، كان الريف المصري لايزال منغلقًا على نفسه بعيدًا لأسباب متعددة عن المدن، وخاصة عن العاصمة التي كانت محصّنة هي الأخرى بترسانة من النظم والقوانين والفوارق التي لا يستطيع الريفيون تجاوزها. كما كان الريف محصنًا بمعتقداته وتقاليده الموروثة التي توهم أهله بأنهم أرقى وأنبل من أهل المدن، وإن كان هؤلاء أغنى وأكثر اتصالاً بالعصر. وتلك هي الثقافة التي كانت تقوم سدًا بيننا وبين العاصمة، وتثير فينا مشاعر الحسد والغيرة التي كنا نقاومها بما نعتقد أنه فضائل نملكها وحدنا ولا يشاركنا فيها أبناء المدن. وهو اعتقاد كنا نجد ما يصدقه في أنفسنا وفي حياتنا التي نخالط فيها الطبيعة، ونتعلم منها البراءة والبساطة والتواضع والاكتفاء وتقديس القرابة والصداقة والجوار.

قصائد المدينة

          ومن المنطقي أن هذه الثقافة كانت تثير فينا - نحن الشبّان الريفيين المتعلمين - مشاعر متضاربة تدفعنا أحيانًا في اتجاه التمرّد والخروج على القواعد الصارمة والتقاليد المتحجرة، وتدفعنا أحيانًا أخرى في اتجاه الماضي الذهبي الذي كنا نحلم به ونتغنى بأمجاده. وفي هذا المناخ عرفنا الرومانتيكية وقرأنا الرومانتيكيين، ففي الرومانتيكية تمرّد على الحاضر، وحنين للماضي، وتوق للحرية، وعبادة للطبيعة والمرأة.

          وقد قلّدنا الرومانتيكيين في كل شيء، في الكتابة والسلوك، كنا - ونحن لانزال في الخامسة عشرة - ندخن، ونسهر، ونهمل مظهرنا، ونحب من غير أمل، ونثور على قواعد الكلاسيكيين وأساليبهم في التفكير والكتابة. وكنا ننظر حولنا في ذلك الوقت - أربعينيات القرن الماضي - فيثير اعتزازنا وثقتنا بأنفسنا أن نجد عددًا من أهم الكتاب والشعراء والفنانين المصريين من أصول ريفية غير قاهرية: طه حسين، والعقاد، وهيكل، وتوفيق الحكيم، وعلي محمود طه، وإبراهيم ناجي، ومحمود حسن إسماعيل، والهمشري، والشرنوبي، وأم كلثوم، والسنباطي، وغيرهم. وكانت الرومانتيكية هي التيار الغالب، وكما كانت الرومانتيكية مدخلي للوقوف في وجه المدينة واتخاذها موضوعًا رئيسيًا في شعري، كانت مدخلي أيضًا للانخراط في حركة التجديد. فقد علّمتني لغة الرومانتيكيين التي تحررت من اللغة التقليدية، أن أبحث عن لغتي الخاصة. ومن خلال هذا البحث دخلت عالمًا لا أتبع فيه سوى نفسي، ولا تقودني فيه إلا قصائدي التي كتبتها بالفعل وقصائدي التي لم تزل أحلامًا لم تكتب بعد. ولاشك أن المدينة كانت موضوعًا أساسيًا في هذا العالم، ولاتزال موضوعًا أساسيًا فيه حتى الآن.

          ولقد بينت في فقرة سابقة أن للمدينة في قصائدي صورًا متعددة تختلف من قصيدة إلى أخرى، لأني لم أعد طارئًا على المدينة، ولأن صورة المدينة في قصيدة حب لابد أن تختلف عن صورتها في قصيدة سياسية، كما أن صورتها الآن تختلف بالطبع عن صورتها في الخمسينيات. وفي دواويني الأخيرة لم تعد صورة المدينة سلبية كما كانت في دواويني الأولى. وبوسعي أن أقول إنني أصبحت الآن أعطف على القاهرة وأرثى لها، لأنها لم تعد تمثل لي ما كانت تمثله من قبل، ولأني لم أعد ضعيفًا كما كنت في الخمسينيات، وأخيرًا لأن القاهرة لم تعد المدينة الوحيدة في حياتي.

          لقد زرت عشرات المدن العربية والأجنبية، وأقمت شهورًا في دمشق حين كانت عاصمة الإقليم الشمالي في الجمهورية العربية المتحدة. ثم أقمت أكثر من سبعة عشر عامًا متصلة في باريس، وأنا أشعر الآن بأنني لم أعد أنتمي لمدينة بذاتها. أصبحت مسافرًا ولم أعد مقيمًا.

          أعبر أرض المدن الشماء بادي الجهامة
          أطفو على ليلاتها الزرقاء أشدو في الطريق
          أمنح قلبي كل يوم لفتاة أو صديق
          لكنني آبى الإقامة!.

---------------------------------------

ازرعوني زَنبقاً أحمرً في الصدرِ
وفي كلّ المداخلِ
واحضنُوني مرجةً خضراءَ
تبكي وتُصلي وتقاتلْ
وخُذوني زورقاً من خشبِ الوردِ
وأوراقَ الخمائلْ
إنني صوتُ المنادي
وأنا حادِي القَوافِل
ودمي الزهرةُ والشمسُ
وأمواجُ السّنابلْ
وأنا بركانُ حبٍّ وصَبَا
وهُتافاتي مشاعلْ
أيها الناسُ لكُمْ روحِي،
لكمْ أغنيتي
ولكم دوماً أقاتِلْ
فتعالوا وتعالَوا
بالأيادي والمعاولْ
نهدمُ الظلمَ ونبني غَدَنا..
حرّاً وعادلْ..

توفيق زياد

 

 

أحمد عبدالمعطي حجازي