ناميبيا.. جوهرة إفريقيا المنسية محمد المخزنجي تصوير: حسين لاري

ناميبيا.. جوهرة إفريقيا المنسية

خلجان شفافة لجحافل من طيور الفيلامينجو، وبرار لأسراب الغزلان الطليقة، صحارى تنبثق منها واحات النخيل الاستوائي، وغابات تربتها حمراء تلامس السحب، مدن تحتفظ بعمارة القرن التاسع عشر الأوربية، وأرصفة تعج بمنحوتات العاج والأبانوس الإفريقي، حكومة سوداء بها وزراء بيض، ونموذج ديمقراطي يحترم التنوع، تراث غائر من القهر العنصري، ونزوع طيب لتجاوز الماضي نحو حاضر لا يعرف التفرقة، جامعة وليدة تتحدث بلغة العصر، وطلاب لم ينسوا جذورهم الإفريقية. هذه بعض من وجوه ناميبيا التي تشبه جوهرة يأتلق فيها مائة سطح وسطح، لكنها جوهرة منسية لقارة منسية، نسيناها نحن الذين تعودنا أن تكون مواسم هجرتنا نحو الشمال ومهاوي أفئدتنا نحو الشمال، بينما الجنوب الودود يزخر بألف بهجة وبهجة للبصر وللبصائر، وألف ألف نداء دافئ خجول. ولقد لبت العربي النداء، رغم خفوت الصوت وحياء المنادي، لتكون أول مطبوعة عربية تقبس لقرائها بعضا من هذا الألق الحميم البعيد.

الخطوة الأولى في رحلتنا الطويلة إلى ناميبيا، عبر ثلاث قارات، اختارها لنا الكومبيوتر! فخط الطيران المتاح في طريق الذهاب إلى وايند هوك - العاصمة الناميبية - كان يمر بفرانكفورت، وكانت مصادفة تردنا من الحاضر إلى الماضي، ومن الماضي القريب إلى الماضي البعيد، فناميبيا الهاجعة بين الرمل والمحيط كانت مستعمرة ألمانية. وبينما كانت طائرتنا  تحلق فوق الأرض الألمانية استغرقني السؤال: ما الذي دفع بهؤلاء الألمان للذهاب إلى هناك، في أقصى جنوب الصحراء الإفريقية، ليلتهموا شريحة من الأرض تضرب أقدامها مياه المحيط الأطلنطي، وتسفع ذراها رياح الأوقيانوس، ويحيا على أعشابها - بعد مواسم المطر - الإنسان والحيوان والطير؟ ما الذي كان ينقصهم وقد كانت الأرض الألمانية كما تبين لنا من نافذة الطائرة باذخة الثراء، خضراء خضرة كثيفة ولا تنقطع عن الظهور في كنف خضرتها بحيرات بلا حصر وأنهر لا تكف عن الامتداد؟ إنه النهم الأوربي وروح المغامرة اللذان وضعا العالم بين ثنائية الاكتشاف والقسوة، ولم تفلت ناميبيا من هذه الثنائية رغم أنها ظلت ردحا من الزمان بعيدة عن شراهة أوربا الاستعمارية. كان شاطئها قاحلا فلم يثر حمية التنافس الكولونيالي الأوربي الذي اشتعل في القرن الخامس عشر - قرن الكشوفات الجغرافية والمذابح - حتى عندما وطأت هذه الأرض أقدام البحارة البرتغاليين في ذلك القرن لم يمكثوا فيها، أقاموا بعضا من صخور شاطئها كعلامات إرشادية لسفنهم الباحثة عن طريق إلى الهند عبر المحيط، ومضوا. من بعدهم لم يأت إلا صيادو الحيتان الأمريكيون - في القرن 18 - لكنهم لم يمكثوا، استراحوا ومضوا. أما الألمان فقد جاءوا في القرن التاسع عشر ليبقوا.

قطعة من كعكة العالم

كان قدر الألمان في ذلك الوقت لا يعطيهم إلا تلك القطعة المتروكة من كعكة العالم التي كانت تقتسمها أوربا الاستعمارية. مد الألمان سيطرتهم على هذه الأرض باستثناء خليج "والفز" الذي اتخذت منه بريطانيا ميناء يخدم مستعمرتها في "الكاب" (رأس الرجاء)، وظل ذلك الميناء تحت النفوذ البريطاني ثم آل إلى جنوب إفريقيا العنصرية حتى اللحظة التي واتانا فيها الحظ، وكنا حضورا في حفل عودة هذا الميناء إلى السيطرة الناميبية أثناء استطلاعنا. لقد بدأ هذا التزاحم الكولونيالي على هذه الأرض في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وحتى عام 1904 ظل أهل البلاد من القبائل الإفريقية مستمسكين بالصبر وبالسلام للحفاظ على استقلالهم، لكن الكولونياليين البيض لم يكونوا يقنعون إلا باستعباد السود أو إبادتهم. وبدأ التمرد الإفريقي فافتتح الأوربيون حمام الدم على هذه الأرض، لقد أبادت الكولونيالية الألمانية 60% من سكان هذه البلاد الأفارقة في جولة تطهير عرقي واحدة قبل أن يأفل نجمها في الحرب العالمية الأولى. أنانيون هؤلاء الأوربيون ومحيرون أيضا، فبقدر قسوتهم يبدعون مدنا جبارة الرهافة والرفاهية، كانت هذه المفارقة هي الهاجس ونحن ننتظرها فرانكفورت طائرة الخطوط الجوية الناميبية لتقلنا إلى وايندهوك. كل هذا الحاضر كان يردنا إلى ماض بعيد شرس وملون كنا في الطريق لمعاينة آثاره على أرض بعيدة في قارة أخرى. أعترف أنني كنت معبأ بالنفور من الجنس الأبيض وأنانيته التاريخية طوال الساعات الست التي قضيناها في فرانكفورت، لكن عندما ضمتنا قاعة الترانزيت تأهبا لركوب الطائرة الناميبية بدأت رؤيتي للرجل الأبيض تتبدل قليلا، فقد كان معظم ركاب الطائرة من الناميبيين البيض، أبناء وأحفاد الكولونياليين القدامى، كانوا شيئا مختلفا عن أقاربها الذين نزلوا في ضيافتهم في فرانكفورت، ريفيين أكثر وأقل صرامة ويتحدثون بأصوات مرتفعة مرحة مع أبناء وطنهم السود، كانوا ناميبيين لفحتهم شمس إفريقيا بدفئها حتى لم تعد تعرف هل هم أفارقة بوجوه بيضاء أم أوربيون بأرواح إفريقية! وركبنا الطائرة الناميبية التي فاجأتنا بنظافتها وكفاءتها إلى وايندهوك في رحلة طيران استغرقت الليل كله حتى أننا لم نر النهار إلا على الأرض الناميبية.

الأرض واسعة وأطماع البعض أوسع

"الإحساس بالحرية" ذلك هو ما يمنحه الانطباع الأول الذي يتكون مع أول خطوة على أرض هذه البلاد سواء في مطارها الصغير الجميل فائق النظافة أو على الطريق من المطار إلى قلب العاصمة، ولقد كان هذا الإحساس الذي قرأت عنه مثار نقاش في الطائرة مع أحد أفراد بعثة إذاعة وتلفزيون كولونيا الذاهبة لتسجيل لقاء مع الرئيس الناميبي "سام نوجوما"، أخبرني هذا الألماني الذي زار ناميبيا من قبل بهذا الإحساس الذي عاينه بنفسه مع كل زيارة لهذه الأرض، وأضاف "إنه إحساس حقيقي وليست متخيلا"، ورحنا نبحث في سماء الليل - الذي لم يغمض لنا فيه جفن - عن سر هذا الإحساس؟ لعله انفساح الأفق الرحيب أمام البصر، أو ترامي صفحة السماء النقية، أو صمت الرمال وسكون الجبال المتعاقبة، نعم، إنه إحساس مختلف عما نحس به في مدن الزحام والضوضاء والعجلة، "الإحساس بالحرية" إحساس غريب يتناقض مع الفعل التاريخي الذي اقترفه الأوربيون على هذه الأرض والذي كان كعادتهم مدا لبساط حريتهم واختزالا لحرية الآخرين - رغم أن هذا لم يكن مبررا أبدا، فالأرض ظلت واسعة وظل عدد السكان قليلين - البيض والسود معا، فعدد سكان هذه الأرض الآن يقدر بمليون ونصف مليون نسمة بينما مساحتها تساوي ضعف مساحة ألمانيا. لكنها أنانية الأوربي الكولونيالي الذي كان يمارس أنانيته وضغائنه حتى على أرض الآخرين، فبعد أن ورثت بريطانيا ناميبيا عن ألمانيا المهزومة في الحرب الأولى،  اقتطعت من قلب ساحلها ميناء يخدم مستعمرتها في رأس الرجاء، فيما أوكلت عصبة الأمم أمر هذا البلد لحكومة البيض في جنوب إفريقيا، ومن عصبة الأمم إلى الأمم المتحدة - بعد الحرب العالمية (الأوربية) الثانية - تجدد توكيل جنوب إفريقيا للسيطرة على ناميبيا، وراح النظام العنصري يمارس شروره في هذه الأرض، فقد قسمها إلى 6000 مزرعة ليمتلكها المستوطنون البيض وحدهم، أما السود فقد تحولوا إلى عمال أجراء تحظر حركتهم عبر المدن إلا بتصريح عمل وجواز مرور! بينما النساء والأطفال والعجائز محرم عليهم مغادرة المعازل المخصصة للسود، وظل هذا الإهدار الفادح لحرية سكان البلاد الأصليين حتى بعد أن رفعت الأمم المتحدة يد جنوب إفريقيا عن ناميبيا بقرار الجمعية العامة سنة 1966. وكان طبيعيا أن تولد حركة مقاومة إفريقية جمعتها منظمة "سوابو" (اختصار لكلمات: منظمة شعب جنوب غرب إفريقيا)، وكانت هذه الحركة تبحث عن الحرية للسكان السود والبيض على السواء، فقد كان البيض منهوبين أيضا من قبل نظام جنوب إفريقيا العنصري والشركات عابرة القارات التي تسيطر على تجارة الثروات المعدنية الباذخة لهذا البلد، الماس واليورانيوم والنحاس، إضافة للثروة السمكية والمراعي والحياة البرية. أكثر من ذلك كانت جنوب إفريقيا تستخدم ناميبيا كقاعدة انطلاق لشن حرب ليس للناميبيين فيها عير أو نفير، فقد كانت وحدات الجيش الجنوب إفريقية تجتاح هذه الأرض  لمقاتلة القوات الكوبية في أنجولا التي تحررت بعد إعتاقها من النير البرتغالي عام 1975 وكان ثمن هذه الحرب مدفوعا من جيوب الناميبيين - سودا وبيضا - على السواء، ويقدر بنحو 480 مليون راند سنويا "160 مليون دولار تقريبا".

لهذه الأسباب كلها كانت حرب العصابات التي يشنها مقاتلو حركة "سوابو" ضد الاحتلال الجنوب إفريقي مؤثرة وتحظى بتأييد الناميبيين، وكان طبيعيا في لحظة من لحظات الهدنة بين قطبي النظام العالمي السابق - الاتحاد السوفييتي وأمريكا - أن تعقد صفقة كانت ناميبيا هي الرابحة فيها، فقد عقدت بمباركة القطبين مباحثات ضمت كوبا وأنجولا وجنوب إفريقيا، تقرر على أثرها سحب قوات جنوب إفريقيا من ناميبيا وسحب قوات كوبا من أنجولا. وفي نوفمبر 1989 جرت انتخابات لحكم وطني في البلاد فازت فيها حركة "سوابو" وبعد اتفاق بين جميع الأحزاب الناميبية وضع دستور جديد لنظام ديمقراطي متعدد الأجناس و"الألوان" في فبراير 1990، ودشن الاستقلال الناميبي بانتخاب زعيم حركة سوابو الأسود "سام نوجوما" (ينطقونها نيوما) رئيسا لجمهورية ناميبيا في مارس 1990، ورغم الصفة الأيديولوجية السابقة للرئيس نوجوما إلا أنه ينهج اليوم نهجا عمليا، فيقيم علاقات ودية مع كل جيرانه بمن فيهم أعداء الأمس، وروح التسامح هذه ليست فقط نوعا من الفطنة السياسية، إنها طبيعة الناس الذين تتسم ملامحهم برقة تشبه رقة الإريتريين والإثيوبيين ورهافة أعوادهم، ولقد شملتنا هذه الطيبة الصافية ابتداء من ابتسامة ضابط الجوازات المتمهل الودود، حتى عمال المطار ومندوب رئيس الجامعة الذي كان في انتظارنا مع الدكتور محمد الطوخي أستاذ الاقتصاد العربي في جامعة ناميبيا. كانا متطوعين باستقبالنا ولم يكونا مكلفين.

وكان كل شيء هادئا وصافيا في الطريق إلى وايندهوك التي تبعد عن المطار ثلاثين كيلومترا يمضيها الطريق صاعدا بين ضفتي رمال معشبة وجبال تتوالى وسكينة شاملة توحي لنا بسلام هائل يمتد من الآفاق الرحيبة حتى صدورنا التي ملأناها بهواء الصبح الإفريقي الشفيف.

قلب صغير في مهب الريح

دخلنا "وايندهوك" فتولانا العجب، وتبادلنا النظرات - زميلي المصور حسين لاري وأنا - وفهم سر نظراتنا الدكتور محمد الطوخي فابتسم مومئا، نعم إنها مفاجأة، بل أكثر من المفاجأة، فالمدينة فائقة النظافة والدقة والتنسيق. تبدو قطعة من أوربا، بل أجمل، لأنها أوربا القرن التاسع عشر مضافا إليها لمسات القرن العشرين مع روح مشرق يتجلى في بهجة الألوان  ورقتها التي لا بد هي لمسة إفريقية مهذبة، وكانت نسائم أول الربيع "في نهاية أغسطس" تلفنا بانتعاش فتستدعي التساؤل: وأين الرياح، فالكلمة "وايندهوك" تعني - بالألمانية - ركن الرياح، أو: في مهب الريح. المدينة الفاتنة ترتفع 1650 مترا فوق سطح البحر تحيطها سلاسل جبال أواس وايروس، عمرها منذ احتلها الألمان يقل عن مائة عام. وتزخر بملامح ثلاث ثقافات أوربية هي الألمانية بتأثير بناتها الكولونياليين. والهولندية بتأثير "الأفريكانيين" القادمين من جنوب إفريقيا، والإنجليز الوافدين من مستعمرة الكاب "رأس الرجاء"، وإضافة لتلك الثقافات الأوربية يوجد خليط ثقافات القبائل الإفريقية من الأوامبو "ساكني الشمال" والدمارا والناما والبوشمان والهيريرو "الذين تتميز نساؤهم بالطول الفارع والأجسام الوارفة والملابس الفيكتورية زاعقة الألوان". كل هذه الثقافات تنعكس في لغات مختلفة تسمع رنينها جميعا في شوارع قلب مدينة وايندهوك، وهو قلب صغير يكاد يتكون من شارع واحد هو شارع "الاستقلال" وتفرعاته، لكنه قلب رائع الجمال يجعلك تحس وكأنك تتحرك داخل حكاية خرافية ملونة. ورغم تنوع العمائر العصرية في هذا القلب إلا أن الطراز الغالب هو طراز العمارة الألمانية الكولونيالية. عمارة القرن التاسع عشر ذات الأبراج والباحات المليئة بالزهور والنوافذ المسدلة عليها ستائر الدانتيلا.

مدينة فاتنة تزخر واجهات محالها بمعروضات الماس الذي تنتج ناميبيا أفضل أنواعه "جم"، والمصنوعات الجلدية من فراء عجول البحر "الفقمة" وجلود النعام، إضافة لمنحوتات العاج وخشب الأبنوس الإفريقي. قلب صغير جميل هو قلب مدينة وايندهوك، لكنه لا يخلو من بعض الأسى، فهناك الأطفال السود الناحلون الذين يمدون إليك أياديهم بالسؤال، أو يتسولون  بطريقة مبتكرة، فيقدمون لك كشفا به أسماء المتبرعين وجنسياتهم والمبالغ التي تبرعوا بها ويكون عليك أن تستجيب لإلحاحهم: "تبرع لمدرستنا بخمسة راندات أيها السيد"، ولقد كنت أتبرع، لا غفلة عن زيف الحيلة، ولكن إعجابا برقتها!!

إنها مفارقات القلب الصغير الفاتن لمدينة وايندهوك - ركن الرياح - التي اجتاحتها جماليات القرن التاسع عشر الأوربية وخلفت فيها أيضا آثار أنانية الأوربيين. ولقد كان علينا أن نغادرها في اليوم التالي لطواف واسع في جزء كبير من هذا البلد الرحيب. كان أمامنا طريقان إلى الساحل، إما طريق كوماس المرصوف جيدا والذي يشق طريقه بسهولة في السهل عبر أطراف صحراء كالهاري، أو طريق كوماس هوكلاند الدائري الممهد - ليست إلا - والذي لا يكف عن الانحدار بين سلاسل جبال لا تكف عن التعاقب، ولقد أوصانا به - بعد أن تحدثنا عن الأدب والفن كثيرا - الدكتور بيتر كاتشا فيفي رئيس جامعة ناميبيا الذي تكرم بزيارتنا في الفندق فجعلنا نحس بلمسة راقية من روح التواضع الناميبي.

بيض وسود على الطريق

كان الطريق ممهدا وليس مسفلا، فكان الحصى يتطاير وينقر هيكل سيارتنا المحكم الإغلاق بلا انقطاع والغبار الأحمر يتصاعد من حولنا عند الوهاد، لكنه ينقشع مع صعودنا من جديد. فجأة لمحنا عبر الطريق المحمر ظلالا سوداء صغيرة تعبر من ضفة العشب إلى ضفة العشب، إنها قافلة من القردة عندما اقتربت السيارة منها أسرعت بالفرار، كانت تولي الأدبار وهي تتلفت وكأنها بشر أصابهم الذعر ثم اختفت بين الشجيرات والعشب.

على هذا الطريق الوعر تجاوزنا عربة خشبية يجرها حصان مغبر ومهر إلى جواره، وعلى ظهر العربة كانت أم سوداء شابة وطفلاها يلوحان لنا بمرح. في هذا الوادي الجهم يعيشون، يجدون قوتهم القليل ولا تغيب عنهم روح الرضا وبهجة المودة، البؤس ليس بؤس العيش إنه بؤس النفوس أولا وقبل كل شيء، وإفريقيا تراث هائل من وهج الشمس ودفء الروح، ولم يكن هذا التراث من الدفء وقفا على السود أبناء تلك الأرض وحدهم بل امتد مزيحا برودة الشمال التي أتى بها البيض الذين ابتدأوا بالمجيء غزاة ومغامرين ومستكشفين. فعلى جانبي هذه الطريق الوعرة نفسها كانت تقابلنا بين الحين والحين وعلى فترات متباعدة بساتين خضراء كثيفة الخضرة في عمق الوديان الرملية، وقررنا أن ندخل إلى إحداها رغم أننا عرفنا من سائقنا "بن" أنها مزرعة لأحد المستوطنين البيض.

دخلنا عبر الممر الترابي الممهد بين حائطي أشجار السرو فتكشف لنا البيت الأبيض الجميل ذو الطابق الواحد، وعمارة القرن التاسع عشر الأوربية، حمام السباحة في ظل الأشجار والحيطان مثقلة بالنباتات والزهور. رأينا مجموعة من العمال السود يلوذون بظل الفناء الخلفي. ومن باب جانبي تقدم منا صاحب الدار، رجل أبيض ضخم ذو وجه محمر وعيون تختلط فيها الزرقة بالخضرة، خليط من الهولنديين والألمان، "تحياتنا" بادرته، فأجابني "مرحبا.. من أين أنتم"؟ حدثته عن مهمتنا وتساؤلاتنا فرحب بنا ودعانا للدخول إلى الدار لأخذ قسط من الراحة وتجرع شراب بارد يروي ظمأنا، ثم إن سيارتنا كانت في حاجة إلى مزيد من الوقود لمواصله الرحلة إلى الساحل وتطوع كريما بأن يمدنا بهذا المزيد، وفي داخل البيت وجدنا القرن العشرين يعود إلى بداياته الأولى بإضافات من نهايته أيضا. أخبرني الرجل أنه ناميبي من أصول ألمانية، وأنه ورث هذه المزرعة عن أبيه، وهم في هذا المكان يعيشون في وطنهم الذي لا يعرفون وطنا غيره، يحصلون على الماء من بئر ينزحها محرك يعمل بطاقة طاحونة هوائية، ويحصلون على الكهرباء من مولد يعمل بالبنزين، يرعون الأغنام والأبقار بعد مواسم المطر وشبوب العشب، وفي مواسم الجفاف يعيشون مما اختزنوه ويفتحون دارهم كاستراحة للمسافرين. وقد رأينا في داخل الدار سبع غرف نضيدة نظيفة مجهزة لإقامة العابرين وصالة للشاي والطعام وغرفة استقبال يبيعون فيها مصنوعات يدوية إفريقية ولوحات وقطعا فنية إفريقانية "نسبة إلى المستوطنين البيض في إفريقيا". وفي نهاية زيارتنا قدم لنا صاحب الدار وزوجته دفترا كبيرا لنوقع فيه. كتبنا في الخانات المخصصة أسماءنا وأسماء بلادنا وتوقيعاتنا واكتشفنا أننا العرب الوحيدون الذين مروا بالمكان بعد مئات العابرين الذين جاءوا من أوربا وأمريكا واليابان منذ عشرات السنين حتى يومنا، يلتمسون الهدوء - وقد كان سابغا - في دفء الشمسي وفي البراح وفي بكارة الوديان الناميبية. وودعنا مضيفينا الناميبيين  الأبيضين اللذين لم تلون بشرتيهما شمس إفريقيا وإن كانت قد ملأتهما بالمودة والدفء الريفي، وواصلنا رحلتنا على الطريق الموغل في الوعورة.

كان الطريق بين الجبال الحمراء والبنية يتلوى وينذر بالخطر، فأدنى خطأ يعني السقوط من حالق حيث تتحطم سيارتنا وننسحق داخلها دون مغيث قريب في هذا التيه الجبلي الذي يوحي بفترات ما قبل التاريخ، فترات طفولة الأرض وخوائها الموحش.

الطريق يتلوى بين الجبال وكلما ظننا أننا سنخرج من منحنى لندخل سهلا نجد أننا ندخل في منحنى جديد وتحدق بنا جبال أخرى، حتى أطبق يأس صامت على أرواحنا وكأننا سنقضي في هذا المكان دون أن نخرج منه أبدا. لكننا بعد ثلاث ساعات قاسية وجدنا أنفسنا في السهل الفسيح حيث مراعي العشب التي تماس الأفق وتحدها على جانبي الطريق أسيجة الأسلاك الشائكة يلوح خلفها نعام شارد أو بضعة أبقار أو قطيع أغنام، وكل بضعة كيلومترات نقابل على جانب الطريق مدخلا ولافتة تحمل اسما أوربيا. لمن هذه المراعي الفسيحة؟ إنها للبيض، ولماذا لم يمتلك أبناء الأرض السود شيئا منها؟ نسأل سائقنا "بن"، فيجيب: "لم يكن مسموحا للرجل الأسود بامتلاك مزرعة، لم يكن مسموحا". يجيب بن في تحسر رقيق يشي بالأسى لكنه لا ينبئ أبدا عن أية ذرة من الحقد، روح غريبة سنلمحها كثيرا فيما بعد كخصيصة من خصائص الناميبيين الذين لم يستطع النظام العنصري أن يشوه نفوسهم، رغم اكتوائهم بالكثير والمرير من نيران القسوة. ويلوح البحر قريبا ونلمح صواري وفنارات قديمة ولافتة على الطريق ضخمة يزحف عليها الصدأ لكننا نقرأ فيها: "والفزباي" "مرحبا بكم في جنوب إفريقيا". ولولا أننا تسلحنا بقدر من المعرفة لظننا أننا ضللنا الطريق، لا، إننا لم نضل الطريق، بل ندخل في بقعة من أضاليل التاريخ الكولونيالي العجيبة.

ميناء يعود إلى أرضه!

لعله لم يحدث في جغرافية الدنيا وتاريخها أن كانت هناك دولة يخضع ميناؤها الرئيسي لنفوذ دولة أخرى، ولا بد لأبناء البلد من الحصول على جواز سفر وتصريح حتى يمروا بميناء بلدهم أو يدخلوه!

كان ذلك وضع ميناء "والفزباي" الناميبي الذي يقع في صدر ناميبيا المفتوح على مياه الأطلنطي لكنه يعتبر جزءا من جنوب إفريقيا ويخضع لنفوذها، وقد تصادف أننا وصلنا إلى والفزباي في يوم فاصل من تاريخها، ففي هذا اليوم (28 أغسطس 1993) كانت جنوب إفريقيا ترفع يدها عن الميناء ليعود إلى وطنه، ويصير تحت السيادة الناميبية.

مررنا بالجزء الأوربي من المدينة ونحن نبحث عن مكان الاجتماع الذي يحضره وزير الخارجية مع سفراء من معظم دول العالم، ولم يدلنا أحد. في ضاحية البيض كانت البيوت الجميلة ذات الحدائق الفاتنة تخلب ألبابنا، والطرقات حريرية ونظيفة. ثم دخلنا في مناطق السود القاحلة ذات البيوت البسيطة، والشوارع التي يكثر فيها الناس، وعند الإستاد الصغير لمحنا الزحام والأعلام وكانت أصوات مكبرات الصوت تعلو كلما اقتربنا، ترجلنا - زميلي المصور وأنا - ومضينا وسط بحر من المواطنين السود يتدفق باتجاه الملعب الذي يقام فيه الاحتفال، حاولوا منعنا عند البوابة حيث كانت تجرى عملية تفتيش محمومة وبدائية، وما أن عرفوا أننا صحافيون عرب حتى تركونا نمر بترحاب ومودة، وكان الملعب مليئا بالبشر في المدرجات، وفي جانب الملعب أقيمت منصة يجلس عليها الضيوف ويقف في صدرها الخطباء، صدحت موسيقى وغنى أطفال بيض وسود تحت المنصة. وبدأت الكلمات وكان الهتاف يدوي "ناميبيا واحدة، دستور واحد" مما يعني وحدة كل الناميبيين سودا وبيضا، لكن الملاحظ أن البيض كانوا غائبين عن الاجتماع وكانت الهتافات المدوية والأيادي التي ترفع قبضاتها المضمومة في الهواء، جميعا سوداء! فما زال البيض - أو أغلبهم - يتمترسون وراء عهد مضى، ويتشبثون بامتيازات عنصرية ولى زمانها، ومع ذلك كانت الحكومة السوداء تمد حبال الصبر إلى غايتها، فالهدف أن تظل "ناميبيا واحدة"، كان الهتاف يتكرر بين فقرات الخطب الحماسية احتفالا بعودة الميناء إلى أهله، ولا غمرة الحماس الناميبي اجتزنا بحر البشر في منطقة الاستاد وعدنا إلى سيارتنا و"بن" الذي مكث ينتظرنا في الخارج، واتجهنا لنبيت في سواكابوند ونمضي فيها يومين. كنا على موعد مع الأطلنطي، ومدينة بديعة تتكسر عند أقدامها أمواج المحيط وعلى شواطئها يقيم مليونا طائر من الطيور البحرية.

مفرق رأس الفقمة

في صباح مدينة سواكابوند الرائق جاءت إلينا المرأة الدليل، سيدة عجوز من البيض وبصحبتها حفيدتها فقد كان اليوم يوم أحد، والمدارس في عطلة، وواضح أن الطفلة تعلقت بجدتها الشغوف بها، ولكم ملأت أرواحنا صحبة هذه الصغيرة بالمسرة فقد كانت عذبة وأليفة. ومضينا في الطريق إلى محمية الطيور البحرية على الساحل، والمرشدة العجوز تقود السيارة على مهل فوق جسور من الأرض الرملية بين الماء والماء، إنها حقول الملح والطريق إليها يسمى طريق الملح، ونتوقف أمام بوابة خشبية تظهر وراءها ساحة يرتفع فيها تلان من الملح الأبيض الناصع، ونقرأ "شركة الملح المحدودة - يحظر الدخول إلا بتصريح خاص" ونزلت مونيكا الصغيرة لتفتح البوابة بالمفتاح الذي ناولتها إياه جدتها، إن الصغيرة تعرف المكان ولا بد أنها جاءت إليه مرات عديدة من قبل.

ندخل فتعود مونيكا الصغيرة وتغلق البوابة وراءنا وترجع إلى السيارة لننطلق على الشريط الساحلي بين خلجان للمياه وجسور بين هذه الخلجان، يستوعب اتساعها بالكاد مرور سيارتنا المبطئة غاية الإبطاء، فالجسور مغطاة بالطيور، نوارس وبط بري وقواديس داكنة، أما طيور البشروس "الفلامينجو" فقد كانت تقف على أقدامها الطويلة الرشيقة وسط مياه  الخلجان الضحلة صانعة صفوفا مترامية الامتداد من هذه الطيور البيضاء التي تنعكس صورها على صفحة الماء بينما هي منتظمة في اتجاه واحد ميممة شطر جهة وغاية واحدة. وأسأل المرشدة عما إذا كانت هذه الطيور مقيمة أم مهاجرة عابرة، فتخبرني أن هذه الطيور مقيمة وآبدة وأن عددها في المنطقة يقدر بنحو مليوني طائر بحري. وإذ أردنا أن نلتقط صورا للطيور أثناء تحليقها، أخبرتنا العجوز بالحيلة التي ينبغي علينا أن نتبعها وكانت مونيكا الصغيرة معنا. ترجلنا ورحنا نمشي محاذرين ببطء ببطء، وكان مفترضا أنه عندما نقترب من صف طيور الفلامينجو أن نصفق دفعة واحدة فيفزع السرب وينطلق طائرا، لكن الطيور خذلتنا فقد رحنا نصفق ونصفق، بل نتصايح، والعجوز تضرب زامور السيارة دون جدوى وتقول العجوز "لقد صارت الطيور ذكية" فأقول لها "ولعل الإنسان هو الذي صار أقل ذكاء" فتضحك، لكن طيور الفلامينجو في نهاية المطاف لم تحرمنا رؤية بهائها عند التحليق، فقد تسنى لنا أن نشاهدها وهي تنطلق محلقة ثلات مرات فيما بعد، وهي إذ ترفرف تبين في أجنحتها صفوف الريش الأحمر المتوهج والأسود العميق، وعندما تطير نرى في الهواء أعلاما ثلاثية الألوان: أبيض وأحمر وأسود، تنطلق خفاقة مرفرفة وتنعكس صورتها الملونة على صفحة الماء.

راحت سيارتنا تمضي على مهل فوق الجسور الفاصلة بين حقول الملح والخلجان الضحلة، ثم بدا أنه لا بد من نزول أحدنا لهش الطيور حتى تفسح طريقا للسيارة فقد كانت الجسور مغطاة بل مثقلة بالطيور، جحافل من الطيور، ونزلنا ثلاثتنا - مونيكا الصغيرة وأنا وزميلي حسين لاري - وكنا بالكاد نشق ركام الطيور ونبعدها حتى تمر سيارتنا لنعود من حيث أتينا. وفي طريق عودتنا توقفت المرشدة أمام عنابر ذات أسوار من الأسلاك وأسقف جمالونية من القصدير، وهبطت مونيكا ودخلت إلى أحد هذه العنابر وعادت ترينا شيئا بين يديها الصغيرتين، إنه المحار يربونه في مزارع لتقدم أطباقه الشهية في المطاعم المنتشرة على ساحل الأطلنطي.

اجتزنا "طريق الملح" وأوغلنا في الشريط الساحلي المسمى "شاطئ الهياكل"، ربما لأن كثيرا من هياكل السفن القديمة كانت ترميها أمواج المحيط الأطلنطي لتنغرز في رمال الشاطئ، ولقد رأينا بضعة منها على مسافات متباعدة، وبعد 25 كيلومترا وصلنا إلى محمية "مفرق رأس الفقمة"، ولم يكن هذا مفترق طريق لتلك الحيوانات البحرية وحدها بل كان مفترق طريق تاريخي في عمر هذه البلاد، فعند هذه البقعة من الساحل نزل البحار البرتغالي "ديوجو كاو" فكان أول أوربي تطأ قدماه الجزء الجنوبي من القارة الإفريقية، ومازالت أقدام أوربية كثيرة تخوض في هذه البقعة التي تحتشد على صخور شاطئها آلاف من حيوانات الفقمة التي رأيناها بالآلاف رابضة على الصخور مستندة على أقدامها الزعانف بينما رءوسها الصغيرة التي تشبه رءوس الجراء مرفوعة، دائمة الحركة، وعيونها شبه المطفأة تحدق في السحب. أقدام صيادين تخوض مصوبة بنادقها كاتمة الصوت، المحشوة برصاصات خاصة جدا صغيرة وغير مدببة إلى رءوس هذه الحيوانات البحرية، والهدف هو قتل هذه الحيوانات دون تشويه جلودها التي ستتحول إلى معروضات ثمينة في أفخر محال الأزياء الأوربية، ومنطقة التصويب تكون عادة بقرب أذن هذا الحيوان البائس الذي يصدر صوتا كبكاء الأطفال. ويقدر المسموح بصيده في كل موسم بنحو 48 ألف عجل بحري من 700 ألف تفد إلى هذه البقعة من الشاطئ الناميبي لتتم فطام صغارها ثم يبدأ موسم التزاوج الذي فتحت طقوسه بابا من أبواب جهنم على أجساد هذه الحيوانات المسكينة، فالذكر من هذه الحيوانات يتزوج حفنة من الإناث يسهر عليهن في موسم التزاوج دون كلل لمدة شهر يواصل فيه الليل بالنهار وبعد أن يتم مهمته يدخل في سبات عميق وطويل يمتد حتى الموسم التالي، وقد تكونت من هذه الظاهرة أسطورة عن الفحولة - ولعلها حقيقية - روجها  التجار الأوربيون لتسويق أجزاء من أجساد هذه الحيوانات لزبائن جدد - غير أوربيين على الأرجح - فصارت رءوس هذه الحيوانات التي لا تدري من أمرها شيئا مطلوبة لفرائها الثمين ولأعضائها التي يقال إنها تباع للطالبين بأسعار فلكية. وسواء كان الهدف هو الفراء أو الأعضاء فإن ذلك الصيد الفادح الذي يسمى موسم حصاد عجول البحر، كان مثار نقاش مع أحد مسئولي المنطقة وقد تابعته فيما بعد عند لقائي بوزير شئون البيئة أولنجا بن أولنجا، لقد قال الوزير شيئا يطابق تقريبا ما قاله المسئول في المفرق: "لقد قلت الأسماك وآلاف من هذه الحيوانات تموت من الجوع فهل نتركها تموت وتفسد أم نصيدها ونستفيد منها، ثم إن الصيد تضبطه معدلات محددة للحفاظ على النوع، وعندما تكون المشكلة هل تطعم الناس أم تطعم الحيوان ماذا يكون الاختيار؟" كان هذا هو السؤال. ورغم أنني أجبت مداعبا: كليهما، إلا أن السؤال ظل محيرا، ورغم الحجة والحجة المضادة فقد تركنا "مفرق رأس الفقمة" ومضينا على "شاطئ الهياكل" عائدين، بينما كانت أصوات الفقمات لا تزال تتجاوب أصداؤها في داخلنا، تشبه بكاء الأطفال.

للحرية رائحة.. حلوة

غادرنا "سواكابوند" التي تشبه مدينة ملونة في حكاية خرافية في الصباح الباكر، ودعنا المدينة الساحلية الصغيرة الجميلة ونحن نملأ صدورنا بنسيم المحيط الأطلنطي الذي لا يشبهه نسيم آخر في قدرته على إنعاش النفس وإيقاظ البدن، ومضينا على الطريق المرصوف إلى واحة "ووتر برج" التي قدرنا أننا سنبلغها عند الظهيرة، وعلى الطريق الطويل كان المدى يتفتح آفاقا رائعة من سماوات تهجع تحتها ظلال الجبال البعيدة، وعلى جانبي الطريق كانت الأرض التي يبس فيها العشب تسيجها أسلاك شائكة تقسم الأرض، وتكتنفها بوابات تحدد أسماء مالكيها بلوحات صغيرة مكتوبة بحروف لاتينية ولغة إفريقانية، إنها بصمة النظام العنصري في جنوب إفريقيا على هذه الأرض التي قسمها ووزعها على البيض وحدهم، ورغم أن المزارع قاحلة إلا أن الأسلاك ما زالت قائمة واللافتات لم تنزل عن البوابات، نوع من وضع اليد "لعل وعسى"!

عبرنا خلال مدينة "أوتاجارنجو" والتي تعني "المكان اللطيف" أو "المكان الذي ترعى فيه الأغنام السمينة" وكانت مدينة تكرر سمات المدن التي ابتناها البيض عبر الوديان، البيوت الجميلة والحدائق المزهرة والشجر الكثيف في الشوارع، لكننا لاحظنا كثرة من السود في جنبات هذه المدينة.

خرجنا من "المكان اللطيف" إلى البراري، وقبل أن نصل إلى "ووتر برج" رأينا الجبل الضخم يلوح من مبعدة خمسين كيلومترا كمائدة كامل استواء سطحها، شبح بنفسجي مضبب لمائدة كنا نتوق إلى وليمتها التي تنتظرنا أو ننتظرها، غنية بالحياة البرية والأحياء الطليقة، حيوانات وطيور وزواحف وعدتنا بها الكتب والنشرات، وكلما اقتربنا كانت قمة ووتر برج تتضح أكثر فتبدو مهيبة بألوان تضاريسها البنية والحمراء وتناثر البقع الخضراء فيها، ثم الغابة التي يبين شجرها عند القمة التي تحوم حولها الطيور وتتعلق تحتها السحب، منظر فريد يرد الإنسان إلى الإحساس بأنه جزء صغير سابح في دنيا الله الساحرة والزاخرة. هذا السلام الذي تتسع له آفاق الطبيعة البكر يبتعث نقيضا مريرا صنعته يد البشر فوق هذا الجبل الغابة، فقد كانت تعيش هناك قبيلة "الهيريرو" ثم جاء الألمان بحديدهم ونارهم فسحقوا البشر النحاف العراة إلا مما يستر العورة، لكن حمدا لله أنهم لم يحتملوا العيش في الغابة ولم تحتمل الغابة عيشهم فيها، فنزلوا بحديدهم ونارهم ليقيموا معسكرهم على منحدرات جبلها وخارج مراح الطير والحيوان والعشب.

لقد ركبنا عربة مكشوفة تتسع لاثني عشر راكبا وتسير بسرعة 20 كيلومترا يحظر تجاوزها، صعدنا مدارج الجبل حتى صرنا على قمته المستوية، ومكثنا نطوف عبر دروبها الممهدة الحمراء نهارا كاملا، وإنها لتجربة للبصر وللبصيرة لن تتسع للإحاطة بها أبدا هذه السطور الموجزة فهي تجربة باتساع الروح، فأن تمضي في دروب حياة لا أبكر ولا أصفى، شيء يردك إلى إشراق الكون كله، لقد أدهشتنا طلاقة حياة الغزلان والحمر الوحشية والقردة والزراف والنعام والبقر الوحشي (إذ لم تكن هناك وحوش كالنمور والأسود في ووتر برج) ورأينا تناغم الغابة كلي الاتساق، فلقد لاحظت أن الأشجار في الغابة تشيخ وتموت وتتحلل مفسحة أماكن لأشجار جديدة، في نوع من الرضا الغريب إذ إن الأشجار لا تقتلع، كما لاحظت أن الحيوانات نظيفة وفتية وللغابة رائحة حلوة هي خليط من روائح العشب والحليب الطازج والتراب والمطر، شيء مختلف تماما عن رائحة حدائق الحيوان وغبرة جلود الحيوانات الحبيسة فيها والتي لا تفلت من السوء حتى في حدائق حيوان أوربية رأيتها، كأن للحرية عطرا حلوا وحيا، وكأن فيها أيضا نظافة.

ولقد تأكدت من تلك الملاحظة في غابة أخرى هي غابة ايتوشا التي تبعد 400 كيلومتر عن ووتر برج، وتضم إضافة إلى ما رأيته، الحيوانات المفترسة كالأسود والنمور مع الأفيال ووحيد القرن، الحيوانات أيضا نظيفة والغابة حلوة الرائحة، وفي ايتوشا لم يكن مسموحا لنا ركوب سيارة مكشوفة نظرا لوجود الحيوانات المفترسة، فكنا نجول فيها سجناء وراء زجاج "التيوتا" الرانج روفر، وإنه لإحساس غريب أن يجد الإنسان نفسه محبوسا بينما الحيوانات طليقة!! لقد كنا نعثر على الحيوانات عند عيون الماء وراقبناها من كوخ مخصص لذلك قرب إحدى البحيرات، عبرنا إلى داخل الكوخ من دهليز حوائطه من الجذوع المدورة المتلاصقة المدهونة بالقار وسقفه شبكة معدنية حتى لا تتسلل إليه الحيوانات المفترسة والأفاعي، وفي القاعة المشيدة من الخشب المطلي بالقار أيضا "حتى تقاوم المطر وتكون مظلمة فلا تكشف عن القابعين داخلها" جلسنا وراء شق رفيع نتابع في صمت قدوم الحيوانات للشرب من مياه البركة، وكانت طقوسا مدهشة، فالأفيال تنفخ في الماء "تروقه" قبل أن تأخذ جرعات بخرطومها، تسكبها في أفواهها بتمهل، والشرب لديها حفل كامل ترعاه الفيلة القائدة الأم التي يحييها قبل الشرب كل فرد في القطيع. والأسود عندما تأتي للشرب تفسح لها الغزلان الطريق لكنها لا تفر، إذ إن للافتراس وقتا ونذراً، وللحياة العادية وقت ونذر، ويبدو أن الغدر شيمة بشرية محضة!

الغابة، أو المحمية الطبيعية، عالم من المحسوسات والمعاني، بقدر ما ترد الإنسان إلى بكارة الحياة يمكن أن ترده إلى اكتشاف ذاته في منظومة الحياة والكون، ولكم أحببنا البقاء أطول لكن الوقت كان يطاردنا، فملأنا صدورنا من أنفاس الغابة بعد ثلاثة أيام من التجوال بين جوانحها وثلاث ليال في أكواخها المثيرة، ثم انطلقنا مع الشروق والشفق الأرجواني في رحلة العودة الطويلة - سبع ساعات - إلى وايند هوك.

جامعة تطل على كل الجهات

مرة أخرى كنا في العاصمة وكانت الحرارة قد ارتفعت قليلا لتصبح 25 درجة مئوية في النهار، فالموسم هو الربيع الذي يتقدم باتجاه الصيف. عكس مناخاتنا نحن في بلدان شمال خط الاستواء، فذروة صيف ناميبيا - الواقعة جنوب خط الاستواء - في ديسمبر، وذروة شتائها البارد في يوليو. في دفء هذا الربيع مضينا إلى الجامعة بدعوة من رئيسها الدكتور بيتر كاتشا فيفي، وكنا نصعد من قلب وايند هوك الصغير الجميل إلى ذروة من ذرى العاصمة، كانت الجامعة في مرتفع يطل على وايندهوك من كل الجهات، فمن جهة ترى قلبها الملون، ومن جهة أخرى ترى الضواحي التي تمتد حتى سفوح الجبال البعيدة. كانت الجامعة تطل على كل الجهات بالمعنى الحرفي وبالمغزى أيضا، فقد كانت خلاصة الرؤية ومحور النقاشات هي استراتيجية الجامعة الوليدة التي بدأت أول أعوامها الدراسية في مارس 1993، ماذا ستفعل هذه الجامعة في موقع بين الأورَبة والأفْرَقة؟ بين جذور القبائل الإفريقية والمدن الأنجلوساكسونية؟ بين اللون واللون، والجنس والجنس، وكانت المؤشرات تتجه الاتجاه نفسه الذي يتخذه النظام الديمقراطي الحاكم الآن في ناميبيا، أي: مقرطة الجامعة في تكوينها وطرق التدريس وسير الأبحاث، واحترام التنوع في مجتمع متعدد الأجناس والألوان واللغات.

ولقد كانت جولتنا في الجامعة والتي استمرت يوما كاملا فرصة لعقد ندوتين أدارتهما العربي ونأمل أن تنشرا في وقت لاحق، أولاهما في كلية العلوم مع عميد كلية العلوم الدكتور تيد هانيمان والدكتور دتيلوف فون، وثانيتهما في كلية التربية مع الدكاترة ماكاندا ويري وبوتالا وبانكي زيمبا، إضافة للقاءات المطولة مع نائب رئيسا الجامعة الدكتور دافيز ورئيس الأبحاث الدكتور "إفريقا" ورئيس الجامعة الدكتور كاتشا فيفي بالطبع، وبإيجاز فإن حصاد الحوار كان يتلخص في أن الجامعة تعي خطورة "الصدمة الثقافية" بين الأصيل والمعاصر، وتعمق الحس الديمقراطي في الدرس والبحث، ويتجه مسارها نحو نشر التعليم أولا داخل البنية الديمقراطية الجديدة في البلاد والتي صارت تعطي الحقوق نفسها لجميع المواطنين سودا وبيضا وملونين، إضافة لتكوين كوادر المتخصصين المتدربين جيدا والبحث فيما يعمل على التنمية الاجتماعية والاقتصادية داخل البلاد. وعندما وجهت سؤالا عن دور الجامعة في مواجهة القرارات السياسية واحتمالات الفساد الحكومي الذي لوحظ في كثير من بلدان إفريقيا في أعقاب تحررها، كانت الردود مطمئنة فالانتلجنسيا "المثقفون" تلعب دورا متقدما داخل النظام الجديد فالدكتور سام نوجوما رئيس الجمهورية هو الرئيس الأعلى للجامعة، وعلاقة الجامعة بأهل الحكم وثيقة، ثم إن الديمقراطية تفسح قناة للمعارضة في الإذاعة والتلفزيون والجرائد مفتوحة لشتى الآراء، وليست تلك صورة للذات قدمت لنا، فالواقع يؤكد ذلك كما تابعنا في قاعات الدرس ورأينا خارج الجامعة، وفي الصحافة والتلفزيون، ولقد كان الرئيس الناميبي ثاني رئيس من العالم الثالث يقابله الرئيس الأمريكي كلينتون تقديرا للنهج الديمقراطي الحقيقي الذي تتبعه ناميبيا، وكان هذا النهج في الجامعة أيضا حيث رأيناه في "سيمنار" بأحد المعامل بكلية العلوم وفي محاضرتين بكلية الفنون وكلية الاقتصاد والعلوم الاجتماعية، حيث الأساتذة بيض وسود وملونون، والطلاب أيضا تتعدد ألوانهم وأصولهم العرقية، أما اللغة فهي الإنجليزية التي اختيرت لغة رسمية للبلاد، والجامعة حاليا في مبنى مؤقت صغير وجميل كما كل الأبنية الناميبية. لكن ثمة مجمعا معماريا أوسع يعد لتنتقل إليه الجامعة التي تتطلع إلى تعاون فعال مع الجامعات العربية ومع هيئات البحث والإنماء في الوطن العربي.

كانت الجامعة ونحن نغادرها تطل على المدينة البديعة الملونة كما دأبها، وكانت العيون الشابة للطلاب في الأروقة تلتمع بألق الشباب الحلو رغم تباين ألوان بشراتهم وكانوا معا، و نأمل أن يكبروا معا ويظلوا معا في بلد إفريقي يوشك أن يضرب مثالا للعالم في ضرورة التعايش الذي يحلم به البشر، بعد أن أرهقته تناحرات الأعراق والألوان والأوهام القديمة.

حديث عربي في وداع ناميبيا

أوشكت جولتنا في ناميبيا على الانتهاء، ولم يكن معقولا ونحن في عاصمتها ألا نلتمس بعضا من الحق العربي الذي عايش التجربة الناميبية عن قرب فذهبنا إلى عميد السلك الدبلوماسي العربي هناك، السفير حسين الصدر، الذي لم نتمكن من الاتصال به منذ البداية لوجوده خارج العاصمة، ولقد كان لقاء رائقا مع نفس صافية وعقل لامع وعارف بظواهر وبواطن الأمور في هذا الجزء من العالم، حكى لنا عميد السفراء العرب - الذين يوجد منهم أربعة في العاصمة الناميبية - عن قدرة هؤلاء الأفارقة على الوفاء، وحكى عن استقبال رئيس الجمهورية للوفد الكويتي أثناء المحنة، وكيف أعلنت ناميبيا عن وقوفها مع الكويت ضد الغزو، وردا للجميل، فقد كانت الكويت تدعم حركة فترة الكفاح. وأشار السفير الصدر إلى ضرورة توثيق العلاقات العربية مع هذه الدولة الوليدة، ليس بمنطق المساعدة فهذا المنطق صار باليا ومستهلكا، ولكن بمنطق المشروعات المشتركة التي تعود بالفائدة على كل الأطراف، مع الجامعة الوليدة، وفي مجالات خصبة كالثروة السمكية والرعي والسياحة، وأومأ إلى أن هناك بوادر في هذا الاتجاه بين الكويت وناميبيا كما في مشروع الميناء ومصنع الألومنيوم والمناطق الحرة.

وفي معرض رده عن سؤال لنا حول المستقبل واحتمالات الاستقرار في ناميبيا، أكد السفير الصدر أن ناميبيا الآن وغدا هي من أكثر الدول استقرارا لأنها قامت على أساس ديمقراطي، وتنتهج سياسة معتدلة، وتصر على مبدأ التصالح الوطني، ونظامها مقبول من كل الأطراف.

تشعب حديثنا العربي في رحاب ناميبيا، وعندما سألني عميد السلك الدبلوماسي العربي عن موعد مغادرتنا، قلت: بعد غد، ونبهني زميلي أن موعدنا هو الغد، فأدركت أن النفس تصبو إلى البقاء أكثر، وأنها تكتنز هذه الرغبة في عمق ثناياها.. في ما تحت الشعور. وهكذا بدأ افتقادنا لهذا البلد الجميل الطيب قبل أن نرحل عنه.

 

محمد المخزنجي 

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية  
اعلانات




صورة الغلاف





ناميبيا جوهرة إفريقيا المنسية





وايندهوك-العاصمة.. مدينة أوربية في قلب إفريقيا تقع بين سلسلتين من الجبال





خريطة ناميبيا وعلمها والمواقع التي شملتها الاستطلاع





امرأة من قبيلة الهيريرو تصنع الدمى الإفريقية عند مدخل فندق صحراء كلهاري في قلب العاصمة





الرعي في البراري الناميبية مهمة  يقوم بها السود لصالح الملاّك البيض غالبا





زوج وزوجة من الناميبيين البيض في مزرعتهما على طريق كوماس





ناميبي أبيض في باحة داره عدد البيض حوالي 5% من عدد السكان





المصنوعات اليدوية الإفريقية ليست مجرد تجارة للسياحة إنها عطر من الروح الإفريقي قوي وعميق





ناميبيون سود يتأملون صرحا تذكاريا عن الحرب العالمية الثانية





مونيكا مرشدتنا الصغيرة تعرض ثمرة من ثمار مزارع المحار





في ملعب نادي والفز باي يحتفلون بتحرير آخر قطعة من الأرض الناميبية





في مسابقة ملكة جمال ناميبيا كان  الجمال أبيض





في مسابقة ملكة جمال ناميبيا كان  الجمال أبيض





في مسابقة ملكة جمال ناميبيا كان  الجمال أسود أيضا





في مسابقة ملكة جمال ناميبيا كان  الجمال أسود أيضا





مليون طائر بحري تحط على الساحل الناميبي ومونيكا الضغيرة تهش آلافا من طيور القادوس حتى سيارتنا على الطريق





شجر الحكايات الخرافية موطنه الوحيد في العالم هو ناميبيا





طيور الدراج.. حرة على الطريق في غابة ووتربرج





الحمر المخططة والغزلان والبقر  الوحشي، معا في الأدغال





البانجالور أكواخ مكيفة الهواء على حافة الغابة في أيتوشا





المحرر مع الدكتور كاتشا فيفي- رئيس جامعة ناميبيا





بيض وسود نامبيون يدرسون معا في الجامعة الجديدة التي لا تعرف التفرقة العنصرية





صار ممكنا في ظل النظام الجديد أن يتلقى أبناء البلاد السود تعليما جامعيا حرموا منه فيما قبل





على الكمبيوتر ناميبية ملونة في سكرتارية الجامعة





درس مفتوح في مختبر بكلية العلوم الديمقراطية طالت طريقة التعليم أيضا





على الطرق الوعرة في البراري  الناميبية أفارقة يواصلون الحياة برضا وفرح وطيب





السفير حسين الصدر





وزير البيئة أولنجا بن





الدكتور بيتر افريقا





الدكتور محمد الطوخي





الممثل أبيض والمتفرجون أطفال بيض وسود وملونون والضحكة الطفولية لا تعرف التفرقة