اللغة حياة.. التأنيس غير التشخيص

اللغة حياة.. التأنيس غير التشخيص
        

          أشار بعض قرارات مجمع اللغة العربيّة في القاهرة إلى مفهوم أدبيّ، وصفه بأنّه طريقة معهودة في فنون الأدب العربيّ وغير العربيّ، وهو «إنزال غير العاقل، كالحيوان والنبات والجماد، والمعاني المجرّدة، منزلة العاقل، في التعبير والتصوير والخطاب».

          وعدّد القرار مصطلحات في النقد الأدبيّ الحديث مترجمة عن الأجنبيّة، ومُؤدِّية لذلك المفهوم هي «المغالطة الوجدانيّة، والإنطاق، والتجسيد، والتجسيم، والتشخيص، والأنسنة، والتأنيس»، مخيّرًا بين كلمات ثلاث من هذه يراها أنسبها، أولاها: التشخيص، لكنّه يحتاط من تأدية هذا المصطلح لـ «دلالات أخرى كالتمثيل وتحديد المرض»، وثانيتها «الأنسنة، وإن كانت اشتقاقًا من كلمة الإنسان على لفظها» يعني على ما فيها من زيادات، وثالثتها «التأنيس المشتقّ من أصل مادة الإنسان وهو الإنس».

          والحقيقة أنّنا نعرف مصطلح إنطاق الجماد، وقد أشار إليه القدماء، ولاسيّما ابن رشد حين استعمل عبارة «إقامة الجماد مقام الناطقين»، وذلك في تلخيصه لكتاب أرسطو في الشعر، لكنّنا لا نعرف مصطلحي المغالطة الوجدانيّة والإنطاق، وقد قرأنا على بعض صفحات الإنترنت تحليل أحدهم لقصيدة ينادي صاحبها النخلة بعبارة «يا سيّدة النخيل»، ويوحي بأنّها إلهة، وينسب صاحب التحليل هذا عبارة «المغالطة الوجدانيّة» إلى الأديب الفرنسي جان كوكتو. إلاّ أنّ سائر المصطلحات مختلفة المفاهيم ولا يجوز اعتبارها مترادفات، ولا سَلْكها في عقد واحد، وإن كان بعضهم يرى بين بعض هذه المصطلحات وبعضها الآخر ترادفًا، لكن على سبيل المجاز والتوسّع.

          فالتجسيد ترجمة لمصطلح Incarnation الذي يعني في الأدب جعل المجرّد في صورة الماديّ أو المحسوس، وهو مأخوذ من caro, carnis، أي: اللحم، ولا يختصّ بالإنسان، وأصله عند القدماء حلول الآلهة في جسد بشريّ أو حيوانيّ، أو استحالة تلك الآلهة لحمًا، ولذلك يستعملونه في الفلسفة لمعنى الحلول، وبعضهم يترجم ذلك المصطلح الأجنبيّ بالتجسيم، لكن للتجسيم في العربيّة معنى آخر هو إعطاء المادة جسمًا، ولا يختصّ بالعاقلين، ولذلك قالوا: إن الله منـزّه عن التشبيه والتجسيم، أي عن أن ينسب إليه جسم، ومن معاني التجسيم: التضخيم، إذ يقال: جَسُم الشيء جسامة: عظُم.

          وأمّا التشخيص في العربيّة فهو قريب من التجسيد، ويبدو أنّهم استغنوا، في الأدب، بأحدهما عن الآخر، مع زيادة التشخيص على التجسيد بدلالة الظهور والارتفاع، ومعناه جعل الشيء شخصًا، أي جسمًا مرتفعًا ظاهرًا. والشخص في العربيّة ليس نظير الكلمة الأجنبية «Personne-Person» التي تشتقّ منها كلمة Personnification، فـPersonne تعني في الأصل اللاتينيّ قناع الممثّل، وليس الجسم المرتفع الظاهر، وتطوّرت حتى صارت تعني: الكائن البشريّ أو جسمه. و Personnification التي يترجمونها بالتشخيص، تعني منح الفكرة صورة الجسم الحيّ، أي منح المجرّد والجامد، كالموت والملائكة والبلدان ملامح كائنات حيّة، بشريّة أو غير بشريّة، ومنه جعْل بعض الفنّانين التشكيليّين فرنسا، مثلًا، على صورة امرأة، وكذلك جعل الحريّة على صورة أنثى تحمل مشعلًا. وقد صوّرت مختلفُ النصوص الأدبيّة فرنسا في صورٍ جسديّة وخلقيّة متعدّدة: فهي وقور رائعة، عند رونسار، وأمّ مفجوعة عند أغريبّا دوبينيا، وصبيّة عند أراغون. ومن ذلك عبارتا هيجو «المَلَك الحُريّة» و«العملاق النور». فذلك ليس تشخيصًا بل هو إحيائيّة، وبعضه يدخل في التخييل في مفهوم عبدالقاهر الجرجانيّ، مثل استعارة اليد لريح الشمال، ونسبة الحُمّى والعرق إلى السحاب، ومنه استعارة الأظفار للموت، في البيت المشهور لأبي ذؤيب الهُذَليّ:

          وإذا المَنِيَّةُ أَنْشَبَتْ أَظْفارَها
                                        أَلفَيْتَ كُلَّ تَميمةٍ لا تَنْفَعُ

          ومنه ما أدخلوه في الغلوّ، كنسبة الخوف إلى النُطف قبل خلقها في قول أبي نواس:

          وأَخَفْتَ أَهْلَ الشِّرْكِ حتّى إنَّهُ
                                        لَتَخافُكَ النُّطَفُ التي لَمْ تُخْلَقِ

          ومن أروع التخييل وصف البحتريّ المشهور للربيع، إذ جعله طَلْقًا يختال ويضحك - والضحك من خصائص الإنسان - وجعل الورد ينام ويصحو وذلك من خصائص الإنسان والحيوان -، يقول:

          أَتاكَ الرَّبيعُ الطَلْقُ يَخْتال ضاحِكًا
                                        مِنَ الحُسْنِ حَتّى كادَ أَنْ يَتَكَلَّما
          وَقَدْ نَبّّهَ النَّوْروزُ في غَلَسِ الدُّجى
                                        أَوائِلَ وَرْدٍ كُنَّ بالأَمْسِ نُوَّما

          ومن العبارات الشائعة في هذا المجال: عَضَّهُ الدهر بنابه، وابتسم له الحظ، أو حالفه الحظ، وقد أحيا العرب الدهر فجعلوا له بناتًا ووجهًا ويدًا، ونسبوا إليه الأكل والشرب واللعب والروغان والتعاسة ، الخ. فمصطلح Personnification يشمل العاقلين وغير العاقلين، ولا يقتصر على الشكل كالتشخيص.

          يبقى مصطلحا التأنيس والأنسنة، وواضح أنّهما ليسا مرادفين للإحيائيّة، وإن كانا ضربًا منها، ذلك أنّ التأنيس هو المصطلح النقديّ الوحيد المختصّ بالعاقلين، وهو نظير (Prosopopoeia Prosopopée) ويعني منح المجرّدات والجوامد صورة وحركة وكلامًا، أي حياة بشريّة كاملة أو شبه كاملة، فهو يزيد على التجسيم أو التجسيد بمعنى الحركة والنطق، ويدخل فيه إنطاق الجماد عند ابن رشد. ومثاله القول المنسوب إلى عنترة، وقد ذكره ابن رشد نفسه في تلخيصه المشار إليه، وهو:

          أَعْياكَ رَسْمُ الدارِ لَمْ يَتَكَلَّمِ
                                        حَتّى تَكَلَّمَ كَالأَصَمِّ الأَعْجَمِ

          وكذلك نسبة المثقّب العبديّ كلامًا إلى الناقة، تشكوه فيه، ومنه:

          تَقولُ وَقَدْ دَرَأْتُ لَها وَضِيني
                                        أَهذا دِينُهُ أَبَدًا وَدِيني؟

          ومثاله أيضًا حوار مجنون بني عامر مع جبل الثُوبان أو التوباذ، ومنه:

          وَأَجْهَشْتُ لِلثّوبانِ لَمّا رَأَيْتُه
                                        وَكَبَّرَ لِلرَّحْمان حين رآني

          حيث لم يكتف المجنون بتأنيس الجبل بل جعله، فوق ذلك، مسلمًا يكبّر للرحمان.

          لكن هل التأنيس كالأنسنة؟ يغلب على الظنّ أنّ التأنيس إذا كان يصلح نظيرًا لـ (Prosopopoeia (Prosopopée فالأَنسنة تصلح نظيرًا لـ Humanisatio، بمعنى الاعتقاد بكون الشيء إنسانًا أو على صورة إنسان، مثل أنسنة الآلهة في الأساطير اليونانيّة، وفي معتقدات كثير من الشعوب القديمة، ومثل ما يَعُدّه النصارى أنسنة للمسيح، أي جعله إنسانًا، وهو عند معظمهم إله، كما هو معروف، وجعْل العرب الزُهرة على صورة امرأة فاتنة، وجعْلهم العُزّى على صورة امرأة حبشيّة نافشة شعرها، وأنسنة الشعوب للأرواح الخفيّة كالجن والملائكة، وبعضهم كان يعبد الجنّ، أي أنّ التأنيس مصطلح أدبيّ ويعني نسبة الصفات والأعمال الإنسانية إلى المجرّدات والجوامد، والأنسنة مصطلح دينيّ ويعني الاعتقاد بكون الموصوف إنسانًا أو على صورة إنسان.

          وزبدة القول أنّ بين المصطلحات المترجمة المشار إليها فروقًا معنويّة، فوق أنّ بعضها لا يدخل في اللغة النقديّة الأدبيّة، وأنّ الناس يخلطون بين المصطلحات النقديّة منها، وهو خلط معلّل، لأنّ تلك المصطلحات أجنبيّة، وقد خلط حتّى الأجانب بينها، ويسمح التوسّع أحيانًا بتجاوز المفهوم إلى ما يجاوره، لكن لا شكّ أنّ الخير في الدقّة، وفي التمييز بين الحقول العلميّة والمفاهيم.

 

 

مصطفى الجوزو