جمال العربية: لغةٌ.. وإبداعُ لغة
جمال العربية: لغةٌ.. وإبداعُ لغة
مجمعيات: «الاستشعار من بعيد» من بين ما تُتهم به مجامعنا اللغوية بطؤها في بحث الظواهر اللغوية الجديدة، والحرص على دراستها دراسة وافية. ويبدو أن هذه الدراسة الوافية هي التي تفتح بابًا لاتخاذ بعض القرارات والتوصيات المتأخرة، بعد أن تكون الأصوات المطالبة بالمواجهة والتطوير والتيسير والانفتاح على العصر قد بُحَّتْ، ويكون بعض الجديد المستحدث من ظواهر اللغة نتيجة للترجمة أو التعريب أو الاشتقاق أو النحت أو القياس على غير سند صحيح من اللغة قد شاع واستقرّ، ولم يعد إلى تصويبه من سبيل. لكن هذا الموقف، المتمثل في اتهام, لأصحابه العذر فيه، وفي انتظار طويل لإيقاع مجمعي مغاير في أساليب البحث والأداء والاستقصاء، لا ينبغي أن يحجب عنا ما قام به مجمعيون رواد، واجهوا ما نواجهه الآن، وقاموا بدورهم على خير وجه، وكانوا أمناء لمسئوليتهم تجاه اللغة، عكوفًا ودراسة وتقليبًا لوجهات النظر، ووصولاً في ختام الأمر إلى ما يقضي به العلم والعقل معًا. من بين هذه الوقفات المجمعية أمام ما شاع في لغة العلميين في العقود الأخيرة من القرن الماضي تناول بعض العلماء تعبير: الاستشعار من بعيد أو عن بُعد، باعتباره مصطلحًا يطلقه قائله على علم ما على ظهر الأرض وما في بطنها من شيء برسائل شتى، منها ما يتمّ عن طريق الذبذبات التي تصدر عن الطائرات ونحوها فتصور ما على الأرض من زروع ومبان ومُعدّات، أو تصور ما في جوفها من نفط وماءٍ ومعادن. وكون هذا المصطلح لحداثة استعماله وحداثة عهده بالحياة (في ذلك الوقت) قد يؤخذ عليه أنه غير صحيحٍ لغويًّا. ففي اللغة: «شعرت بالشيء شِعْرا: علمتُ به، وأشعرته الأمر: أشعرته به وأعلمتهُ إياهُ، واستشعرْ خشية الله: أي اجعلها شعار قلبك». وفي المذكرة التي تقدم بها الأستاذ مصطفى مرعي عضو لجنة الألفاظ والأساليب إلى اللجنة - للقيام بالبحث والدراسة الواجبيْن وتبيان رأي اللغة فيه، وهو البحث الذي تقدم به الأستاذ علي النجدي ناصف عضو المجمع وجاء فيه: «الاستشعار من بعيد» مصطلح علمي من محدثات العصر الحاضر، يعني به قائلوه ما على ظهر الأرض وما في بطنها من شيء، إذ هم طائرون في جوّ السماء، وسبيلهم إلى ذلك أنواع من الأشعة منها ما يرسلونه إلى الأرض في منطقة ما، ليصوروا منها كلَّ ما يريدون أن يصوروه من زروع وأشجار ومن جيوش ومعدات حروب، وهكذا, ومنها ما يرسلونه إلى الأرض فينفذ إلى باطنها ثم يرتد إليهم بصور ما صادفه هناك: من ماءٍ، ونفْطٍ، ومعادن، حتى إذا بلغوا من ذلك أربهم، قدموا خرائط الصور - التي عليها من ظاهر الأرض وباطنها إلى الحاسب الآلي فيترجم الصور، ويميز أصنافها. وفي مصر مركز لهذا الاستشعار، يتولى أمره وتصريف شئونه علماءُ متخصصون. ذلك هو الاستشعار من بعيد في معناه والمراد به. وهو لحداثة عهده بالحياة، وجدّة اصطناعه فيها، والإفادة منه لمطالبها، حقيق أن يُدرس، وأن يعرض على اللغة لترى رأيها فيه. وقد بيّنا معناه وجدوى استعماله. وهذا ما تقول اللغة في أسلوبه: الاستشعار: مصدر «استشعر»، وهو فعل مزيد مجرده «شعر»، وفي الفعلين يقول الأساس والمصباح واللسان والتاج : «شعرت بالشيء - من باب قَعد - شِعْرًا وشِعرةً بكسرهما: علمتُ. وليت شعري: ليتني علمت، وسُمِّي الشاعر شاعرًا لفطنته وعلمه. وما يُشعركم؟ أي ما يدريكم؟ وأشعره الأمر وأشعره به: أعلمه إياه. وأشعرته فشعرَ، أي أدريتُه فدري. واستشعرْ خشية الله: أي اجعلها شعار قلبك. واستشعر فلان الخوف: إذا أضمره، وهو مجاز. واستشعر القوم: تداعوا بالشعار في الحرب، وهو علامتهم التي ينادون بها ليعرف بعضهم بعضا». ويتبين من نظر هذه النصوص اللغوية أن كلاًّ من الشعر والشعور، ومن شعر وأشعر: يدلُّ على العلم حقيقة. وأنّ الشعار واستشعر يدلان عليه مجازًا. فالشعار: وسيلة الجند التي يتعارفون بها في الحرب، واستشعر الخوف: أضمره، وخشيةَ الله: جعلها شعار قلبه. وكلٌّ من الخشية والخوف من الأمور المعنوية التي تشبه العلم، وتستكن مثله في الصدور. إذن يمكن أن يقال إن لفظ الاستشعار في المصطلح يعني الاستعلام أي طلب العلم، ويكون تأويل الأسلوب هكذا: «الاستشعار من بعيد»: طلب العلماء علم الأشياء التي على الأرض أو فيها من بعيد. وحُذف من أسلوب المصطلح «الاستشعار من بعيد» فاعل المصدر ومفعوله معًا، كما حذفا في قوله تعالى: (ربنًا وتقبَّلْ دعاءِ) أي دعائي إياك. إذن يمكن بعد هذا كله أن يقال: إن مصطلح «الاستشعار من بعيد» صحيح الاستعمال، ولا مانع من اللغة يحول دون تداوله. وقد أقرّ المجمع استخدام المصطلح بصيغته ومعناه في الجلسة الحادية عشرة من مؤتمر الدورة السابعة والأربعين بعد أن ووفق عليه في الجلسة الحادية والثلاثين لمجلس المجمع، وبعد أن رأى أن مادة الشعور تحمل معنى العلم، وأن صيغة «استشعر» واردة، ولذلك فهو يجيز استعمال «الاستشعار» في دلالته المعاصرة. إبداع لغة: في السابعة والعشرين من عمره رحل عن عالمنا الشاعر الشاب المبدع صالح علي الشرنوبي، الذي ولد في مدينة بلطيم التي تقع على بحيرة البرلس في دلتا مصر، وانتهت حياته قتيلاً تحت عجلات القطار في بلدته، وهو في غيبوبة شعرية سببتها الكوارث التي أحاطت به في صباه وشبابه، وفشله في تحقيق العلاقة العاطفية التي كان يحلم بها طيلة حياته. كانت حبيبته فتاة ريفية فقيرة، لكنها جميلة، وكان الشاعر يهوى الفقيرات الجميلات ويرى فيهن تجلّي لمسات الطبيعة ومشاعر الصدق وبراءة النشأة والتكوين. ونجح الشرنوبي في إبداع صيغة شاعرية تجمع بين روح شعراء أبولو في عاطفيتهم ورومانسيتهم وفيض مشاعرهم وعشقهم للطبيعة وهيامهم في حبهم لدرجة الصوفية والبناء الكلاسيكي الرصين، الذي يتكئ على تقاليد القصيدة الشعرية العمودية في مسارها الطويل، وامتلائها بكل جماليات الشعر العربي. ومن هنا جمع شعر الشرنوبي بين الانطلاق العاطفي والرصانة المحكمة، وأكسبه رحيله المبكر معنًى لافتًا عن حجم هذه الموهبة العبقرية: فماذا كان يمكن أن يُحدث من إبداع شعري لو امتدّ به العمر وأسعفه الأجل؟ وهناك من يقرنه بأبي القاسم الشابي رمز الشاعرية التونسية في القرن العشرين الذي رحل هو الآخر عن خمسة وعشرين عامًا وهو في أوْج نبوغه الشعري واكتمال موهبته وعبقريته. في ذكرى أمير شعراء العصر الحديث أحمد شوقي، يبدع الشاعر صالح الشرنوبي الذى تحتفل الحياة الثقافية والأدبية بذكرى رحيله الستين - قصيدته عن «الشاعر» يودعها ويضخّ في ثناياها تصوّره وفكرته عن الشاعر وحقيقة تكوينه والمعنى الذي يرمز إليه وجوده في قومه. ويبدو أن قصيدة علي محمود طه ومطوّلته الشهيرة عن «الله والشاعر» التي أفصح فيها عن رؤيته الشعرية والفكرية للشاعر ودوره ويقول في مستهلها: لاتفْزعي يا أرضُ، لا تَفْرَقي *** مُدّى لعينيه الرِّحابَ الفِساحْ *** أتسمعين الآن في صوْتهِ *** في وقْفة الذاهلِ أَلْقَى عصاهْ لكن الشرنوبي يتخير لبنْية قصيدته طرازًا آخر هو طراز القصيدة العمودية الموحّدة القافية، بالرغم من أنه أبدع قصائد عدة في قالب الرباعيات الذي اختاره علي محمود طه لقصيدته. ويبدو أن قصيدة علي محمود طه كانت أمامه وهو يبدع قصيدته «الشاعر» التي يستهلّها بقوله: قبل أن يُبصرَ الظلامَ الضياءُ ثم يقول الشرنوبي في قصيدته «الشاعر» مُوضّحًا من هو الشاعر الحقيقي، وهو في رأيه «شاعر الكون»، وساحر النور والظلام، وقلب الحياة الذي يشدو، وهو روح مُجَسَّدٌ، وهو طائر عشُّه الزمان، ومِزهرٌ لحنهُ الحياة، وغُنوة ذابت الأحاسيس فيها، وقلبه العالم الكبير: شاعرُ الكونِ لايُقَيِّدهُ الكو وفي ختام قصيدته يقول الشرنوبي مخاطبًا في شخص شوقي كلَّ شاعرٍ سواه ومستشرفًا قول الخالق الأعظم: فاحْيَ للناسِ، لا لنفسكَ يا شا فأية روعةٍ إبداعية، وأيُّ بهاء وجلال في رسم هذه اللوحة الشعرية البديعة عن شاعر يعانق الخلود؟!. ---------------------------------------- يا إخوَتي! هذا الترابُ ترابُنَا توفيق زياد
|