قلعة ماسادا اليهودية.. الأسطورة والوهم هيثم الكيلاني

قلعة ماسادا اليهودية.. الأسطورة والوهم

ظاهرة العنف قتلا للنفس واقتلاعا من الوطن وتدميرا للعمران ليست بجديدة على الصهيونية، فقد أعادت كتابة التاريخ اليهودي وفسرته على أنه تاريخ فرادة وتفوق واستكبار، وهذه النظرة في كتابة التاريخ وتفسيره هي التي تربط بين "أسطورة ماسادا" و"مرج الزهور" حيث نفي الفلسطينيون من وطنهم. إن خيطا سلوكيا أخلاقيا يمتد من قلعة ماسادا في العام 73م إلى مرج الزهور في العام 1993م.

تروي "الموسوعة اليهودية" قصة ماسادا بجوهرها الأسطوري، محاولة أن تفرغها في مفهوم الخرافة وأسسها، باللجوء إلى البحوث التاريخية والاكتشافات الأثرية والتنقيب في التراث اليهودي.

تقول الموسوعة إن ماسادا تقع على قمة صخرة عالية منعزلة على طرف الصحراء ووادي البحر الميت، وتبعد عن هذا البحر نحو 25 كلم، وتنحدر الصخرة في سفحها الشرقي انحدارا حادا يبلغ نحو 400 متر مقابل البحر الميت، ويبلغ ارتفاع الصخرة عن سطح البحر نحو مائة متر، وطول قمتها نحو 600 متر وعرضها نحو 300 متر، ويصل إليها الإنسان بممر جد متعرج اسمه "ممر الثعبان" وبممر آخر اسمه "الصخرة البيضاء".

والمصدر الوحيد للمعلومات عن ماسادا أسطورة وخرافة، جغرافيا وتاريخيا، هو كتابات يوسيفوس، يقول يوسيفوس هذا إن ماسادا كانت في الأصل محصنة، وتقول الموسوعة إن هيرود "ملك اليهود الذي نصبه الرومان على القدس" حول صخرة ماسادا إلى قلعة حصينة بين عام 37 وعام 31 قبل الميلاد، وهنا تنقطع المعلومات عن ماسادا بعد موت هيرود - والرواية دائما للموسوعة اليهودية - ويحتمل أن تكون حامية رومانية أقامت في القلعة من عام 6 إلى عام 66 بعد الميلاد.

اندلعت حرب بين اليهود أنفسهم فهرب مناحيم بن يهودا الجليلي من القدس ومعه جماعة من القنائين وهاجم القلعة واحتلها بالحيلة والخداع، وبعد أن قتل مناحيم هذا التحق ابن أخيه واسمه إليعازر بالقلعة، وأصبح قائدا لحاميتها حتى سقوطها عام 73 بعد الميلاد، وخلال هذه الفترة كان بعض القنائين يلتحقون بالقلعة حتى بلغ عددهم 960 رجلا وامرأة وطفلا.

في عام 72 بعد الميلاد سار الحاكم الروماني فلافيوس سيلفا إلى ماسادا آخر قلعة للقنائين على رأس الفرقة العاشرة وبعض القطعات المساعدة، وآلاف من أسرى الحرب اليهود، وبعد حصار طويل فتح سيلفا ثغرة في سور ماسادا، وبدأ إليعازر يقنع أتباعه بأن ينتحروا فيقتل بعضهم بعضا، وهكذا حتى يفنوا جميعا، فذلك خير من أن يقعوا بين أيدي الرومان، وقد أطال يوسيفوس في وصف الساعات المأساوية الأخيرة لماسادا: خطاب إليعازر وانتحار 960 رجلا وامرأة وطفلا، وحرق الأبنية ومخازن الأغذية.

وتقول الموسوعة في ختام روايتها "الأسطورة/ الخرافة" إن المؤرخ يوسيفوس أخذ الحكاية كلها عن امرأتين اختفتا في كهف مع خمسة أطفال، فلم يشتركوا في "الانتحار الجماعي".

وبعد يوسيفوس جاء مؤرخ صهيوني معاصر هو الجنرال ييغال يادين، فأصدر كتابا في عام 1966 هدف فيه إلى جعل الأسطورة/ الخرافة لماسادا، حقيقة تاريخية، إذ أجرى في القلعة حفريات أثرية ورسم لها خرائط ومخططات وأعاد بناء بعض البيوت والمرافق.

تزوير التاريخ

هذا ما روته "الموسوعة اليهودية" عن ماسادا، وليست هذه الحكاية، إذا ما عرضت للتحليل التاريخي والنفسي وتحت ضوء خصائص العقيدة الصهيونية سوى أحد إفرازات الفكر الصهيوني وهو فكر مغرق في معاداته للتاريخ، وحينما يقرأ الصهيونيون التاريخ يحولونه كما فعلوا بماسادا، إلى أسطورة تضم تفصيلات يبدو عليها أنها بسيطة ومحايدة ولكنها تخدم هوى صانعيها، ولعل قراءة الصهيونية لتاريخ فلسطين على أنها أرض خالية من السكان تنتظر ساكنيها الأصليين من اليهود، "أرض بلا شعب لشعب بلا أرض" أكبر مثل على ذلك، وهكذا يختفي الشعب الفلسطيني بكامله من القراءة الصهيونية للتاريخ، ويصبح من "الأغيار" أو من "غير اليهود" على حد تعبير وعد بلفور، ويصبح بضع المئات من اليهود الذين سكنوا فلسطين لأسباب دينية محض "الشعب" الذي يجب أن يسكن فلسطين لأنه صاحب "الحق" بالسكنى والأرض.

هكذا تزور الصهيونية التاريخ وفي إطار هذا التزوير تنطوي حكاية ماسادا، لتغدو مثلا تقليديا على تزييف التاريخ وتسخيره لخدمة الرؤية الصهيونية، فقد حول المؤرخون الصهيونيون هذه الحكاية/ الخرافة إلى أسطورة، ثم أحاطوها بالهالات الصوفية وجعلوا منها رمزا "للشعب" الذي يفضل النضال والانتحار على الاستسلام، فأصبحت ماسادا بذلك تجسيدا لفكرة "الشعب الواحد" الذي يختار دائما أن يعيش منفصلا، فإذا مست مقدساته القومية فإنه يثور ثورة عارمة لا تبقي على أحد حتى ولا عليه ذاته. وتسهم إسرائيل في إشاعة هذه التصورات الرومانتيكية عن "الذات اليهودية" فتقوم أسلحة الجيش الإسرائيلي بترديد يمين الولاء على قمة ماسادا، ويقسم الجنود الجدد أن الماسادا لن تسقط ثانية، كما تنظم السلطات المختصة دورات سياحية لليهود والسائحين وطلاب المدارس الإسرائيليين وتدخل زيارة ماسادا في برنامج زيارات الزعماء الأجانب الذين يزورون إسرائيل، وفي عام 1969 أعادت إسرائيل "دفن المنتحرين" وفق مراسم الدفن اليهودية إمعانا في تعميق جذور الأسطورة/ الخرافة في "الوجدان اليهودي"، أسطورة "الشعب" الذي يفضل الانتحار على الاندماج والتعايش.

وإذا ما نظرنا إلى أسطورة ماسادا نظرة فاحصة متأنية ظهر لنا أن المؤرخين الصهيونيين أخرجوها من مساقها التاريخي، فأخفوا مجموعة من التفصيلات التي لا تلائم رؤيتهم المثالية العنصرية، فالثورة اليهودية التي تشكل الخلفية التاريخية الاجتماعية لأسطورة ماسادا لم تكن ثورة "قومية" كما تدعي الكتابات الصهيونية، وإنما كانت حركة اجتماعية جاءت تعبيرا عن شقاء فقراء اليهود ضد أثريائهم المتعاونين مع روما، الذين كانوا يحكمون فلسطين لصالح الإمبراطورية الرومانية ولخدمة مصالحهم الشخصية وثرائهم، والذين كانوا يحاربون مع الرومان جنبا إلى جنب.. وقد استمر الصراع الطبقي بعد ازدياد استغلال الرومان لمستعمراتهم في الشرق، فتكون تحالف بين بعض الفئات اليهودية الفقيرة المضطهدة، وكان القناءون عصب الحركة لأنهم كانوا سواد اليهود الفقراء، وقد بلغ الصراع الطبقي حدا دفع القنائين إلى قتل عدد من الأثرياء اليهود.

والقناءون إحدى الفرق اليهودية تشكلت في فترة ظهور المسيح عليه السلام وتزعمها يهودا الجليلي عام 6 قبل الميلاد، لحث اليهود على رفض الخضوع لسلطان روما، وقد تبعته في حركته الجماهير اليهودية التي أفقرها، كما ذكرنا، حكم أثرياء اليهود المتعاونين مع الرومان، ويتسم فكر القنائين بأنه فكر شعبي مشبع بالأساطير والخرافات، ويرى بعض المؤرخين أن هذه الفرقة مجموعة من المتعصبين الذين لجأوا إلى القيام بأعمال الاغتيال والفوضى ضد الرومان وضد اليهود أنفسهم، وكانوا يرتكبون جرائمهم علنا في الطرق ويمارسون أعمال النهب واللصوصية والفتك، ولهذا فقد أطلق عليهم "السفاكون" ومن أجل هذا يعد المؤرخون هذه الفرقة ضمن الفرق السياسية أو فرق العصابات.

تشويه الوقائع

أسقط المؤرخون الصهيونيون من أسطورة ماسادا هذا البعد الاجتماعي الذي يشكل قاعدة الحركة ومنطلقها، وبذلوا الجهد لكي يحولوا الصراع الذي انتهى في ماسادا من صراع اجتماعي داخل الفئات اليهودية إلى صراع أزلي بين اليهود و"الأغيار"، وهكذا ارتسم معلم جديد لمعالم هذا الصراع القومي بين هذين القسمين من البشر، يمتد إلى الأبد ويبلغ أقصى درجات العنصرية والشوفينية والتمييز العنصري.

وإضافة إلى هذا الفصل الواضح المقصود لأسطورة ماسادا عن مسار التاريخ، ركز المؤرخون الصهيونيون على محور يؤدي في نهاية المطاف إلى تغيير موضع الواقعة من التاريخ وفرض اتجاه أزلي محدد ومعنى متميز على التاريخ، فالكتابات الصهيونية التي أرخت لماسادا قدمتها على أن ما حدث في ماسادا هو القاعدة وليس الاستثناء، وينهار هذا المحور في إطار الحكاية ذاتها، فماسادا لم تكن سوى قلعة واحدة ضمن ثلاث قلاع أخرى كانت تشكل القلاع الأخيرة التي التجأ إليها القناءون، وكان الهجوم الروماني عليها جمعيها بالتتالي، فقد سقطت القلعة الأولى "هيروديام" دون مقاومة، واستسلمت الثانية "مكاريوس" بعد مقاومة بسيطة، وقد تم استسلام المحاربين في هاتين القلعتين بعد أن وعدهم الرومان بالسلام والأمان، ولم تنتحر إلا ماسادا. فجعلها المؤرخون الصهيونيون بعد أن فصلوها عن مسارها التاريخي، وبعد أن فصلوها عن المواقع الجغرافية المجاورة، القاعدة، وأسقطوا ما حدث في القلعتين المستسلمتين الأخريين.

وقد نتساءل هنا: لماذا لم تستسلم ماسادا كما فعلت القلعتان الأخريان، ولا يجيب المؤرخون الصهيونيون عن هذا التساؤل فقد أشرنا - نقلا عن الموسوعة اليهودية - إلى أن اليهود كانوا قد استولوا على ماسادا عام 66 بعد الميلاد بالحيلة والخداع، وتنطوي هذه الحيلة على إعطاء الحامية الرومانية الأمن والسلام، وبعد أن استسلم الرومان أبادهم اليهود عن بكرة أبيهم، وبخاصة أن هذه الفئة من اليهود كانت تضم مجموعة كبيرة من الشحاذين وقطاع الطرق ورجال العصابات، ولقد خشي يهود ماسادا أن يلقوا من المهاجمين الرومان المصير ذاته الذي لقيته الحامية الرومانية في ماسادا قبل سبعة أعوام، فآثروا الانتحار على الموت قتلا بيد الرومان، وليس مستبعدا أيضاً أن يكون القائد الروماني سيلفا قام بذبح يهود ماسادا بعد استسلامهم ثأرا لمذبحة عام 66 بعد الميلاد ولكن المؤرخ اليهودي يوسيفوس وهو المصدر الوحيد لحادثة ماسادا، حول المذبحة إلى انتحار جماعي قومي، وهكذا نجد أن إغفال تفصيلات "الحيلة" يحسن من صورة اليهود في التاريخ، ويجمل "الانتحار اليهودي" واقعة أزلية تشكل محور التاريخ اليهودي.

وإذ فصل المؤرخون الصهيونيون ماسادا عن التاريخ ومساره وقوانينه، أهملوا أية إشارة إلى موقعها من الاحتلال الروماني لفلسطين، فالتاريخ يذكر أن القائد الروماني تيتوس رحل عن فلسطين بعد أن أخمد الانتفاضة اليهودية، وترك موضوع تصفية القلاع الثلاث ومنها ماسادا إلى الحاكم الروماني في فلسطين، فضرب هذا حصارا حول القلعة لمدة ست سنوات ثم اقتحمها بعد أن اخترق أسوارها، وإذا ما أخذنا في الاعتبار أن الانتفاضة اليهودية كحدث لم تكن مصدر قلق للإمبراطورية الرومانية، وأن الانتفاضة ذاتها لم تكن ذات خطورة على كيان الإمبراطورية، حق لنا أن نستنتج أن حادثة ماسادا حشرت في التاريخ اليهودي حشرا وركب معظم أجزائها تركيبا مصطنعا، أدى في نهاية الأمر إلى فصلها عن مسار التاريخ، وكان هذا الفصل نتيجة حتمية لتكوين الحادثة واصطناعها.

تقويم مصدر الأسطورة

ومن أبرز وقائع التزوير والاصطناع في أسطورة ماسادا، وأكثرها قحة، إغفال الكتابات الصهيونية ذكر حقيقة أن هناك مصدرا وحيدا للأسطورة، وهذا المصدر مشكوك ومطعون فيه، وهو كتابات المؤرخ اليهودي يوسيفوس فلافيوس "38- 100 بعد الميلاد".

وتاريخ حياة يوسيفوس يلقي ضوءا على أسطورة ماسادا التي انفرد بها وحده في الدنيا ودون مؤرخي عصره فقد كان بلا ضمير وخان قومه حين سلم للرومان عام 66م المنطقة التي كان يحكمها، وهرب إلى روما حيث بدأ يكتب تاريخه، وحاول في كتابه أن يلتمس الأعذار لانشقاقه عن بني جلدته ويرد عن نفسه تهمة الخيانة التي ألصقت به، وقد صور الحرب اليهودية ضد الرومان على أنها من صنع بعض المهووسين القنائين، أي أنها حرب لم يردها اليهود قط وإنما فرضت عليهم فرضا من قبل جماعة من اللصوص لم تترك إثما إلا اقترفته، على حد قوله، وقد وصفت الموسوعة اليهودية هذا المؤرخ بأنه لا يعتد به كمؤرخ، فطموحه كان أساسا طموحا أدبيا كما وصفت كتبه بأنها ذات قيمة أدبية بالدرجة الأولى.

وبالرغم من كل هذه الشكوك التي تحيط بيوسيفوس من النواحي الأخلاقية والنفسية والعلمية، استندت الصهيونية إلى روايته كمصدر وحيد لتخلق أسطورة ماسادا، ومن ثم عقدة ماسادا. لقد ركز يوسيفوس على التفصيلات الدقيقة، حتى يزيد من استمتاع القارئ بهذا العمل الأدبي، وليمكنه من معايشة التجربة المثيرة قدر المستطاع، وجعل يوسيفوس من شخصية إليعازر قائد اليهود المحاصرين، شخصية بطولية خارقة، فهو أول من توصل لفكرة الانتحار وشخصيته كما رسمها يوسيفوس ذات أبعاد خرافية تشبه شخصية شمشون الجبار وأنبياء العهد القديم.

سجل يوسيفوس خطبة إليعازر الطويلة وفيها يطلب أن يقتل الأطفال أولا ثم الزوجات، ثم "يقتل الواحد منا الآخر ولكن قبل كل شيء فلنتلف نقودنا وقلعتنا بالنيران حتى يخفق الرومان في الإمساك بأجسادنا أو الاستيلاء على أموالنا، مما سيدخل على قلوبهم الحزن".

وتصل الأحداث المثيرة في حكاية يوسيفوس إلى قمتها في المشهد الأخير، حينما ينظر آخر الأحياء في مسادا إلى جميع الجثث ليتأكد من أن جميع اليهود وعددهم 960 قد ماتوا وحينما يتأكد من ذلك يضرم النار في القصر، ثم يغمد سيفه في جسده ويخر صريعا إلى جوار المنتحرين الآخرين.

ويلتقي يوسيفوس إحدى قريبات إليعازر، وهي المرأة التي اختبأت في كهف ومعها امرأة عجوز وثلاثة أطفال، فينقل عن هذه المرأة الخطبة بكاملها، على أنها حفظتها على طولها، عن ظهر قلبه، وتروي له هذه المرأة وكانت مختبئة مسلسل المشاهد بدقة وتفصيل وكأننا أمام فيلم سينمائي أنفقت على إخراجه أموال طائلة وحشد له أشهر الممثلين والمخرجين والمصورين.

سقوط الأسطورة

هكذا يتبين لنا أننا لا نتعامل مع واقع تاريخي وإنما نتعامل مع عالم أدبي أسطوري خرافي فقد كتبت الباحثة اليهودية ويبسي روز مارين "جريدة جويش بوست 24/ 8/ 1973 " أن نتائج دراستها تؤكد أن ماسادا محض خرافة وأسطورة، وأنه لا يمكن التدليل على سلامة الاكتشافات الأثرية "وهي اكتشافات الجنرال يادين" التي تستند إليها هذه القصة.

ولعل تاريخ حياة إليعازر هذا يلقي ضوءا على تركيب الأسطورة فقد كان إليعازر - كما جاء في كتابات يوسيفوس نفسه - أحد خوارج ثلاثة كانوا سببا في خراب القدس، ووصفه يوسيفوس بأنه كان "جبارا فاتكا داعرا حراميا" وأن جماعة انضمت إليه من "الحرامية" وأهل الشر، فكانوا يمضون إلى الشمال فيقتلون وينهبون ويعودون ثم صاروا يفعلون ذلك في مدن اليهود.

تلقفت الحركة الصهيونية أسطورة ماسادا ودفعت بها إلى أقصى حدود التقديس والإجلال، والتعميم والترسيخ، ورفعتها إلى ذروة المثالية والفداء والتضحية، وعنف المقاومة، والصبر على الشدائد حتى الموت، والإخلاص "لقومية الشعب اليهودي" وتفرده بين شعوب العالم.

لقد قرر إليعازر فرض ماسادا فرضا لأنه كما يقول يوسيفوس لم يفر "ولم يسمح لأحد بالفرار" وعلى هذا فقد فرض إليعازر الانتحار على فئة من يهود القلعة كانت تريد الفرار أو الاستسلام، وجعل إليعازر - بقراره هذا - يهود ماسادا محور التاريخ مدعيا معرفته بإرادة الله..

ثم جاءت الحركة الصهيونية من بعد وادعت لنفسها مثل إليعازر محورية تاريخية فهي تقف ضد مسار التاريخ وتفرض على اليهود - مثل ما فرض إليعازر على أهل القلعة الانتحار - تصوراتها بخصوص ما تسميه بالشخصية اليهودية الانتحارية، ثم تلقي بالإسرائيليين في أتون الحروب والمعارك، المرة تلو المرة، مدعية أن "الوطن اليهودي" هو الوطن الأسمى في العالم، وأن "الشعب اليهودي" هو الشعب الذي لا يرقى إليه أي شعب في التاريخ، قديمه وحديثه.

وحتى لا تسقط ماسادا ثانية دعت الصهيونية يهود العالم جميعهم إلى الهجرة إلى "ماسادا - فلسطين" ولم تدخر أي أسلوب ولو كان إجراميا من أجل تنفيذ هذه الدعوة.

لقد عبرت المجموعة اليهودية عن نفسيتها ونزعتها الانتحارية في أسطورة ماسادا، وكانت هذه الأسطورة وليدة تصور المجموعة اليهودية نفسها أنها "شعب الله المختار" وأنها "متفردة" و"حالة غير عادية" في التاريخ، وأنها "خالدة إلى الأبد" وأنها "وحيدة" في الوجود بصفاتها وعناصرها، ولذلك فهي "معزولة" عن العالم، وأن العالم "الأغيار" معاد لها، وليس لها إلا أن تسيطر عليه وتقوده في مصيره، وتجعله في خدمتها إلى الأبد.

ومن خلال هذه العقدة "عقدة ماسادا" يمكننا تفسير سلوك إسرائيل في احتلال الأرض والتوسع فيها وهدر فرص السلام، وتنكب السلاح إلى الأبد وامتطاء مركب "القتال والحرب" وقتل الأطفال وإبادة الشعب الفلسطيني، وطرده من وطنه، وسعيها إلى فرض إرادتها على ما حولها من أقاليم ودول.

 

هيثم الكيلاني

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات