العولمة بين الهيمنة والانحسار

العولمة بين الهيمنة والانحسار

إن المحاولات النقدية الرامية لاختراق حُجُب عقيدة العولمة التي اعتنقها العالم مدة ثلاثين سنة أو ينيف، تشي بأن العولمة ليست إلا نظرية اقتصادية تجريبية أراد لها دعاتها أن تخرج على الناس في إهاب الحقيقة العلمية التي لا ترقى إليها الشكوك، غير أن التطبيق آل بالنظرية إلى ما يعاكس ذلك, فقد أخذت في الانحسار تدريجيًا منذ أواسط التسعينيات، وما تلاها، بعد بروزٍ باهرٍ قاهر في السبعينيات. وما كان مستقبلًا موعودًا، في نظر السياسيين وأرباب الأعمال ومن دار في فلكهم من الأكاديميين وأصحاب الفكر ممن أعلنوا من فوق منابرهم المهيبة أن الأسواق المعولمة والتجارة الحرة هي مفاتيح القوة وقاطرات التقدم، صار واقعًا وحاضرًا موءودًا منكودًا. 

 

 لقد خرج العولميون على الناس بوصفة برَّاقة تتضمن عناصر شتى يمكن اختزالها في أن الاقتصاد وحده كفيل بتشكيل الواقع الإنساني العالمي وأن الخروج من نير المصالح الوطنية القومية الضيقة ومن إسار القواعد التنظيمية الكابحة هو السبيل الأوحد لتحقيق كل توازن اقتصادي دولي، فتنزاح بذلك وللأبد الغُمّة الاقتصادية المتربصة والمتمثلة في دورة الطفرة والأزمة، ومن ثم يصبح في وسع البشرية بكل أطيافها العرقية وثقافاتها القومية أن تنطلق على جناح من المدّ التجاري الذي يدفع بدوره مدًا اقتصاديًا واسع النطاق من النمو يستظل بخيره فقراء العالم دون تفرقة أو تمييز. 
 ولما كان أتباع العولمة قد أوحي إليهم بأن سلطة الدولة القومية إلى زوال واضمحلال فقد دأبوا على القول بأن اعتناق العولمة هو سبيل استئصال كل أمراض القومية الشوفينية، وكل آفات الشعوبية العنصرية، وكل أدواء العنف السياسي. أما آلية تنفيذ البرنامج العولمي فهي مسئولية الشركات عابرة الوطنية التي ستتكفل بالأخذ بيد الأسواق إلى ساحة الحضارة والثقافة بعد إنجاز مهمة الإجهاز على التحيزات السياسية المحلية. وبين أسباب تراجع العولمة أنها ترتكز على الفرضية القائلة بأن السوق هي القوة الوحيدة المتحكمة في الأداء الاقتصادي وأن البشر لا يملكون أي خيارات في تشكيل السوق لأن السوق تصحح مسارها بذاتها وهي الفكرة الخيالية التي لا تجد لها من تاريخ الاقتصاد سندًا ولا من واقع حياة وتجربة الناس محلًا. ولذلك يرى كبار الاقتصاديين الدوليين أن التجارة الحرة المقترنة بحرية حركة رأس المال غالبًا ما تؤول إلى تهييج روح العداء والتناحر وإثارة شبح الحرب والاقتتال.
 ثمة حاجة حضارية إلى تنظيم المجتمع ليدور باستمرار حول ارتباط الأنا بالآخر، والفرد بالجماعة والشعوب بالشعوب، ولكن العولمة فشلت فشلًا مروعًا في رأب الصدع الاقتصادي بين الأمم، إذ يشكك رجال الاقتصاد في مدى قدرة الأسواق المفتوحة على خلق النمو، مبرهنين على صحة تشككهم بما شهده العالم في حقبة العولمة من نموٍ هائل في التجارة ونموٍ متواضع في الثروة. كما يتساءل هؤلاء عن مقياس الناتج المحلي الإجمالي، ويرون أن قياس النجاح على أساسه هو قياس مضلل، إذ ثبت أن نمو الناتج الإجمالي للفرد في الديمقراطيات الغربية وأمريكا الجنوبية وإفريقيا إبان العقود الثلاثة التي استغرقتها العولمة أقل من نصف نظيره في ربع القرن السابق على العولمة. ويرى بعض الاقتصاديين أن نمو التجارة الحرة غير المكبوحة ليس بالضرورة ارتقاءً رأسماليًا لقمم الاستثمار الهيكلي، ولذرى القيمة الاقتصادية والمجتمعية، ولكنه يتحول في كثير من الأحيان إلى سقوط في هاوية من نزعة الإفراط الاستهلاكي الذي لابد وأن يأتي على حس المواطنة والتكافل الاجتماعي. ويعتقد ثلة من رجال الاقتصاد أن تراجع دور الدولة القومية أوقع البعض في وهم استحالة التراجع عن العولمة. 
 
شكوك في منظومة العولمة
ويشكك بعض المنظرين الاقتصاديين في جدارة الوصفة العولمية الثلاثية (تجارة غربية عالمية حرة +استخدام التكنولوجيا الغربيةالذكية+تطبيق نظم الإدارة الغربية) لكونها تتجاهل العمق الثقافي والروحي والتاريخي لشعوب الحضارات الأخرى، وما صعود النزعات الشعبوية والاشتراكية والشيوعية والفاشية والعرقية الحديثة إلا دليل على اشتداد ساعد التناقض مع واقع التجارة الحرة. ومن المخاطر الكارثية التي تمخضت عن العولمة كل ما يتعلق بإنتاج العقاقير الطبية اللازمة لمكافحة أمراض الإيدز والملاريا والسل في العالم النامي وكيفية إبقاء أسعارها عند مستويات مرتفعة طبقًا لاتفاقيات التريبس (الملكية الفكرية) التي تعقدها قسرًا منظمة التجارة الدولية، فضلاً عن تصنيع الزراعة الغربية وأثره في المجتمعات النامية المستضعفة، وأخيرًا التداعيات المدمرة لانفلات الأسواق المالية غير الخاضعة للتنظيم بالنسبة للاقتصادات الأكثر ضعفًا.
 ومن عيوب العولمة عدم الاكتراث بأحوال الناس ونوعية الحياة التي يعيشونها بالفعل، علاوة على تجاهل قياسات الناتج المحلي الإجمالي باعتباره مقياسًا تجريديًا، والإصرار على تبني طرائق لتجميع الإحصاءات الاقتصادية تبدو منقطعة الصلة بالمشكلات التي يتعين على الساسة التصدي لحلها. إن ذلك النهج من التجريد إنما توخى تحجيم الأوضاع الكبرى وتقزيم الأزمات البنيوية الرأسمالية التي تصعب إدارة أمرها، فتارة يتلاعب العولميون بتفاصيل النظم الإدارية، وتارةً يعمدون إلى إعادة صوغ تلك النظم، لكنهم وعلى الدوام مشغولون بإحصاءات التضخم لا بإحصاءات مستويات الفقر، مزهوون بأرقام الصادرات، غاضين الطرف عن مؤشرات التلوث والتشوه البيئي. ومن تداعيات سياسة العولمة حالات الركود المتوالية على مدار حقبة السبعينيات من أزمة للطاقة إلى بطالة في أعقابها، فبوار اقتصادي وديون متراكمة، ومزيد من التضخم والبطالة، وهكذا دواليك.
 ومن ضحايا سياسات العولمة تلك الدول التي تمادت في تجرع وصفة العولمة حتى الثمالة، ومن بينها نيوزيلندا التي كانت ساحة التجارب وحصان طروادة العولمي، وعندما منحها المنتدى الاقتصادي العالمي بدافوس صك الجدارة في مجال التنافسية الدولية كان الفقر يخترق أجواز الفضاء، بالغًا عنان السماء في بلد تغلب عليه الطبقة الوسطى، فيما ارتفعت بشدة أرقام الديون الدولية وتحول 20 في المائة من البالغين النيوزيلنديين في سن العمل إلى تلقي إعانات البطالة، وانخفضت الأجور الحقيقية، وبنهاية القرن العشرين هبطت متوسطات أجور الشباب إلى ما دون النصف. وفي سياق متصل، يرى عدد من الخبراء الاقتصاديين أن الخصخصة هي تبديد لعوائد رأسمال طويل الأجل كان الأولى إبقاءه في حضانة الدولة القومية. إن الشركات العابرة القومية (الدول الافتراضية) هي سلطة لا تتحلى بأي التزام سوى الربح ولا تعتبر مواطني البلدان الفقيرة إلا خدمًا تابعين لها، أما الحضارة فهي السوق التجارية وأما الهدف من الحياة فهو الاستهلاك بلا حدود أو قيود. ولا شك في أن النمو الحقيقي كان ضئيلًا خلال حقبة العولمة رغم ما غرقت فيه الأسواق من أموال طائلة، أهدرتها أساليب الإدارة المغرورة بعيدًا عن أغراض الاستثمار الرأسمالي الحقيقي بكل مخاطره ومزاياه. 

التصدي لانحرافات العولمة
ويعد النموذج الروسي برهانًا آخر على توحش وشراسة العولمة، حيث وقع اقتصاد روسيا بعد انهيار الاتحاد السوفييتي الشيوعي في قبضة 36 شركة أو بالأدق في يد 36 فردًا من الرأسماليين الروس بما تضمنه ذلك الانتقال من نظام بالغ المركزية إلى نظام متمركز احتكاري في يد قطاع خاص راح يلغي الحدود الفاصلة بين السوق والفساد مما وصل بالفساد في روسيا إلى حد العنف الإجرامي والجريمة المنظمة. 
 ومن شرور العولمة توليد رغبة لدى البلدان الصناعية تهدف لتمديد آجال سداد ديون الدول الفقيرة، علمًا بأن رقم الديون الحالي يتجاوز مائتي مليار دولار بما يعني بقاء تلك البلدان مشبوحة على خشبة صليب الديون دون مخلص أو مغيث. ومما زاد الطين بلة أن أرباب العولمة راحوا يستبدلون باستيراد البضائع الرخيصة استيراد العمالة الرخيصة للمحافظة على التوازن بين البيع والشراء بحيث يكون في وسعهم التملص من دفع تكاليف العدالة الاجتماعية المتصاعدة في بلدانهم، وتكون وسيلتهم في ذلك إيجاد طبقة عاملة جديدة مهاجرة لا يمكنها ارتقاء السلم الاجتماعي لأنها محرومة من حقوق المواطنة، (يوجد حاليًا أكثر من 120 مليوناً من العمال المهاجرين وعائلاتهم، 20 مليوناً منهم في أوربا وحدها).
 وعلى الرغم مما سبق، يجب التأكيد على قدرة المواطنين في كل مكان من أنحاء الدنيا على أن يصبحوا طرفًا في التعامل مع انحرافات وأمراض العولمة والتصدي لآلياتها وتداعيات سياساتها، مثلما كانت الحال في التعامل مع مرض جنون البقر وأسعار الأدوية المرتفعة وظاهرة الاحتباس الحراري وحالات التلوث البيئي وما سوى ذلك. وبسبب التداعيات الخطيرة لسياسات العولمة تعرضت ركائزها (العولمة) إلى ضربات قاصمة حين عاودت أسوأ أنماط القومية السلبية الظهور على مسرح السياسة مثلما حدث في جمهورية يوغوسلافيا السابقة.

منظومة حضارية جديدة
 شهدت الحقبة الأخيرة من القرن المنصرم تهاوي توقعات العولمة إذ آل هوس الخصخصة في أواخر التسعينيات إلى حال من التقلص والانكماش لدرجة الضآلة وبرزت للوجود مستويات غير مقبولة من البطالة ولاح شبح العنف والإرهاب في كل مكان واستشرى الاستغلال والفساد في منظومة الأعمال علاوة على انخفاض الأجور الحقيقية. وتكفي الإشارة إلى أنه في عام 1995 - وهو العام الذي شهد انتصار وتتويج منظمة التجارة العالمية - كان ثمة 800 مليون فرد من العاطلين عن العمل في العالم. ومنذ عام 1998 بدأت العولمة في التصدع والتداعي (نموذج التمرد الماليزي) وظهر للعيان مدى هشاشة مبدأ الحتمية الاقتصادية العولمية، وحذت الكثير من البلدان حذو ماليزيا (سنغافورة – الهند – الصين – بلدان أمريكا اللاتينية). وفي عام 2001 أخذت الحكومات في بلدان كثيرة تتملص من حبائل العولمة وتركز على سياسات المساواة ومحاربة الفقر والتحفظ إزاء نظريات التجارة العالمية.
 وفي هذا السياق، يجب التأكيد على أن الدول القومية متوسطة الحجم لديها القدرة على صياغة نماذجها الاقتصادية بنفسها في ضوء احتياجاتها الخاصة. إن القومية الإيجابية الآخذة في التبلور في مطلع القرن الحادي والعشرين هي الرد العملي على الغرب صاحب أيديولوجية الحقائق الاقتصادية وحيدة الجانب، وهي السبيل لإعادة التوازن إلى الساحة الدولية براية تحمل بصمة جميع الثقافات الأخرى، تلك الثقافات التي تطرح الآن قضايا وإشكاليات أكثر تعقيدًا بشأن العناصر والمُدخلات التي يمكن أن تشكل قوام مجتمع وليد ومحتوىً إبداعياً لحضارة إنسانية جديدة ■