تجربة الغزو في الأدب الكويتي

تجربة الغزو في الأدب الكويتي

بالرغم من مرور 23 عامًا على الاحتلال والغزو الغاشم للكويت من قبل نظام صدام حسين، حاكم العراق السابق، وما تسببت فيه هذه التجربة الأليمة من آثار على العلاقات العربية العربية، من جهة، وعلى المواطن الكويتي من جهة أخرى، فإن الملاحظ حين نتأمل مشهد الأدب الكويتي المعاصر، خلو الأعمال الأدبية والنصوص الشعرية وربما حتى المسرحية من تناول هذه التجربة أدبيًا إلا ما ندر، وأغلب النادر هذا لا يمكن أن ندخله في بيت الأدب.

وباستثناء‭ ‬تجربة‭ ‬الكاتب‭ ‬الكويتي‭ ‬الرائد‭ ‬إسماعيل‭ ‬فهد‭ ‬إسماعيل‭ ‬في‭ ‬توثيق‭ ‬تجربة‭ ‬الغزو‭ ‬أدبيًا‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬سباعيته‭ ‬الروائية‭ ‬الملحمية‭ ‬الشهيرة‭ ‬اإحداثيات‭ ‬زمن‭ ‬العزلةب،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬عاد‭ ‬إليه‭ ‬أيضا‭ ‬في‭ ‬جزء‭ ‬من‭ ‬روايته‭ ‬الأخيرة‭ ‬االعنقاء‭ ‬والخل‭ ‬الوفيب،‭ ‬فإن‭ ‬أحدًا‭ ‬لم‭ ‬يقم‭ ‬بتناول‭ ‬تجربة‭ ‬الغزو‭ ‬كتجربة‭ ‬إنسانية‭ ‬بالغة‭ ‬الأثر‭ ‬على‭ ‬الإنسان‭ ‬الكويتي‭ ‬الذي‭ ‬صمد‭ ‬وعاش‭ ‬داخل‭ ‬الكويت‭ ‬خلال‭ ‬تلك‭ ‬الفترة،‭ ‬وما‭ ‬عاناه‭ ‬من‭ ‬مخاوف،‭ ‬وهواجس،‭ ‬وآلام،‭ ‬وما‭ ‬شهده‭ ‬من‭ ‬وقائع‭ ‬وأحداث‭ ‬ربما‭ ‬من‭ ‬الصعب‭ ‬أن‭ ‬تنمحي‭ ‬من‭ ‬ذاكرته‭ ‬من‭ ‬هول‭ ‬بعضها‭ ‬ولغرابة‭ ‬غيرها‭. ‬خصوصا‭ ‬أن‭ ‬تلك‭ ‬الفترة‭ ‬شهدت‭ ‬بالفعل‭ ‬تجارب‭ ‬خصبة‭ ‬وكبيرة‭ ‬لم‭ ‬تتمكن‭ ‬الحركة‭ ‬الادبية،‭ ‬سردا‭ ‬وشعرا،‭ ‬بل‭ ‬وحتى‭ ‬المقالة‭ ‬الأدبية،‭ ‬من‭ ‬الاستفادة‭ ‬منها‭ ‬وإنتاج‭ ‬ادب‭ ‬مقاومة‭ ‬حقيقي‭ ‬يليق‭ ‬بمستوى‭ ‬المحنة‭ ‬والكارثة‭ ‬الوطنية‭.‬

إن‭ ‬اي‭ ‬تجربة‭ ‬من‭ ‬تجارب‭ ‬الشعوب‭ ‬أيًا‭ ‬كانت‭ ‬مرارتها،‭ ‬تصبح‭ ‬جزءا‭ ‬من‭ ‬ذاكرة‭ ‬الأمة،‭ ‬ولا‭ ‬بد‭ ‬ان‭ ‬تخضع‭ ‬مثل‭ ‬غيرها‭ ‬من‭ ‬الفترات‭ ‬التاريخية‭ ‬للفحص‭ ‬والتحليل،‭ ‬واستخلاص‭ ‬الدروس‭ ‬والعبر‭ ‬المستفادة‭ ‬منها،‭ ‬وأن‭ ‬تصبح‭ ‬جزءا‭ ‬من‭ ‬تاريخ‭ ‬الشعب‭ ‬الذي‭ ‬عاشها‭ ‬وكابدها‭.. ‬لأن‭ ‬صناعة‭ ‬المستقبل‭ ‬تعتمد‭ ‬في‭ ‬جانب‭ ‬كبير‭ ‬منها‭ ‬على‭ ‬استيعاب‭ ‬دروس‭ ‬الماضي،‭ ‬وتجاوز‭ ‬الأخطاء‭ ‬والسلبيات‭ ‬والعثرات‭. ‬

ويعرف‭ ‬أهل‭ ‬الكويت‭ ‬جميعا،‭ ‬أنه‭ ‬بالرغم‭ ‬من‭ ‬صعوبة‭ ‬تلك‭ ‬المحنة‭ ‬على‭ ‬نفس‭ ‬كل‭ ‬كويتي،‭ ‬وما‭ ‬خلفته‭ ‬من‭ ‬رواسب‭ ‬الحزن‭ ‬والغضب‭ ‬والأسى،‭ ‬أنها‭ ‬حملت‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬نفسه‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬الذكريات‭ ‬الإيجابية،‭ ‬حيث‭ ‬تخلص‭ ‬الشعب‭ ‬الكويتي‭ ‬على‭ ‬مدى‭ ‬أيام‭ ‬الغزو‭ ‬وحتى‭ ‬تحقق‭ ‬التحرير،‭ ‬من‭ ‬النعرات‭ ‬الطائفية‭ ‬والقبلية،‭ ‬وضرب‭ ‬مثلا‭ ‬رائعا‭ ‬في‭ ‬التضامن‭ ‬والتوحد‭ ‬حول‭ ‬الوطن‭ ‬بلا‭ ‬أي‭ ‬حسابات‭ ‬أخرى‭ ‬من‭ ‬اي‭ ‬نوع‭. ‬وقد‭ ‬ضرب‭ ‬الشعب‭ ‬الكويتي‭ ‬مثلا‭ ‬في‭ ‬التعاون‭ ‬غير‭ ‬المسبوق‭ ‬بين‭ ‬مختلف‭ ‬طوائف‭ ‬وطبقات‭ ‬المجتمع‭ ‬الكويتي‭ ‬كالتعاون‭ ‬الذي‭ ‬حدث‭ ‬في‭ ‬احتضان‭ ‬أسر‭ ‬لأفراد‭ ‬اسر‭ ‬أخرى،‭ ‬إضافة‭ ‬إلى‭ ‬حالات‭ ‬الزواج‭ ‬التي‭ ‬تمت‭ ‬بين‭ ‬أسر‭ ‬مختلفة‭ ‬في‭ ‬الأعراق‭ ‬والمذاهب‭ ‬والأنساب‭.‬

‭ ‬كما‭ ‬ضرب‭ ‬الرجال‭  ‬والنساء‭ ‬والشباب‭ ‬ممن‭ ‬صمدوا‭ ‬داخل‭ ‬الكويت‭ ‬أمثلة‭ ‬رائعة‭ ‬في‭ ‬البطولة‭ ‬التي‭ ‬استمدوها‭ ‬من‭ ‬الارتقاء‭ ‬بقيم‭ ‬المواطنة‭ ‬ومشاعر‭ ‬الوطنية‭ ‬التي‭ ‬تجسدت‭ ‬في‭ ‬المقاومة‭ ‬والتصدي‭ ‬للعدوان،‭ ‬إما‭ ‬بأعمال‭ ‬المقاومة‭ ‬المسلحة‭ ‬وإما‭ ‬بالعصيان‭ ‬المدني‭.‬

وقد‭ ‬سجل‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬حالات‭ ‬عودة‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬المواطنين‭ ‬والمواطنات‭ ‬الذين‭ ‬كانوا‭ ‬خارج‭ ‬الكويت‭ ‬قبل‭ ‬الاحتلال‭ ‬ثم‭ ‬عادوا‭ ‬تحت‭ ‬الاحتلال‭ ‬ليؤكدوا‭ ‬شجاعة‭ ‬المقاوم‭ ‬وإرادته‭ ‬في‭ ‬الحفاظ‭ ‬على‭ ‬أرضه‭ ‬وحياته‭.‬

الافتداء‭ ‬بالنفس

ودفع‭ ‬عدد‭ ‬كبير‭ ‬من‭ ‬المواطنين‭ ‬الكويتيين‭ ‬أثمانا‭ ‬باهظة،‭ ‬من‭ ‬الأرواح‭ ‬والدماء،‭ ‬في‭ ‬الذود‭ ‬عن‭ ‬أرضهم،‭ ‬واستشهد‭ ‬عدد‭ ‬كبير‭ ‬منهم،‭ ‬كما‭ ‬تعرض‭ ‬عدد‭ ‬آخر‭ ‬للاعتقال‭ ‬والترويع‭ ‬والتعذيب‭ ‬في‭ ‬سجون‭ ‬المحتل‭ ‬الصدامي‭.‬

وقدم‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬الأبناء‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬التضحيات‭ ‬ليفتدوا‭ ‬ويمنعوا‭ ‬الأذى‭ ‬المحدق‭ ‬الذي‭ ‬كاد‭ ‬يتعرض‭ ‬له‭ ‬أي‭ ‬من‭ ‬أبويهم،‭ ‬وهناك‭ ‬مثل‭ ‬بين‭ ‬أمثلة‭ ‬عديدة‭ ‬وكثيرة‭ ‬أخرى‭ ‬يتمثل‭ ‬في‭ ‬تجربة‭ ‬نواف‭ ‬سليمان‭ ‬الفهد‭ ‬الذي‭ ‬ذهب‭ ‬إلى‭ ‬المخفر‭ ‬ليعلن‭ ‬أنه‭ ‬صاحب‭ ‬السيارة‭ ‬وصاحب‭ ‬البيانات‭ ‬والمنشورات‭ ‬التي‭ ‬تم‭ ‬ضبطها‭ ‬في‭ ‬سيارة‭ ‬والدته‭. ‬وقد‭ ‬فدى‭ ‬والدته‭ ‬بحياته‭ ‬فغيبته‭ ‬السجون،‭ ‬وانتهت‭ ‬حياته‭ ‬بالإعدام‭ ‬على‭ ‬يد‭ ‬جنود‭ ‬الاحتلال،‭ ‬وغيره‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬نماذج‭ ‬الفداء‭ ‬الكثيرة‭.‬

وبالرغم‭ ‬مما‭ ‬أثاره‭ ‬هذا‭ ‬الحدث‭ ‬الضخم‭ ‬في‭ ‬نفسية‭ ‬المواطن‭ ‬الكويتي،‭ ‬وما‭ ‬أدى‭ ‬إليه‭ ‬من‭ ‬مشاعر‭ ‬انعدام‭ ‬الثقة‭ ‬في‭ ‬بعض‭ ‬القيم‭ ‬التي‭ ‬عرفتها‭ ‬الكويت‭ ‬ورسختها‭ ‬لسنوات‭ ‬لدى‭ ‬مواطنيها‭ ‬وبينها‭ ‬القيم‭ ‬القومية،‭ ‬فإن‭ ‬استمرار‭ ‬الحياة‭ ‬تحت‭ ‬الاحتلال‭ ‬منح‭ ‬المواطنين،‭ ‬وتضامنهم‭ ‬معا،‭ ‬وإحساسهم‭ ‬بأن‭ ‬مصيرهم‭ ‬معلق‭ ‬ببعضهم‭ ‬البعض‭ ‬جعلهم‭ ‬يتشبثون‭ ‬بالأمل،‭ ‬ويعاضد‭ ‬بعضهم‭ ‬بعضًا،‭ ‬ويستعيدون‭ ‬الثقة‭ ‬بأنفسهم،‭ ‬وبالآخر‭ ‬أيضا،‭ ‬إذ‭ ‬أن‭ ‬عددًا‭ ‬من‭ ‬الجاليات‭ ‬العربية‭ ‬اضطرتهم‭ ‬الظروف‭ ‬للبقاء‭ ‬في‭ ‬الكويت‭ ‬تحت‭ ‬الاحتلال،‭ ‬ومشاركة‭ ‬المواطن‭ ‬الكويتي‭ ‬نفس‭ ‬المشاعر‭ ‬والمخاوف‭ ‬والهواجس‭ ‬والآمال‭.‬

وهنا‭ ‬يمكن‭ ‬للأدب،‭ ‬بكل‭ ‬فنونه،‭ ‬أن‭  ‬يغوص‭ ‬في‭ ‬أعماق‭ ‬النفس‭ ‬البشرية‭ ‬المقهورة،‭ ‬وأن‭ ‬يسلط‭ ‬الضوء‭ ‬على‭ ‬المشاعر‭ ‬العميقة‭ ‬للمواطن‭ ‬الكويتي‭ ‬الذي‭ ‬خاض‭ ‬هذه‭ ‬التجربة،‭ ‬في‭ ‬حال‭ ‬من‭ ‬عدم‭ ‬الأمان‭ ‬والإحساس‭ ‬بضبابية‭ ‬المستقبل،‭ ‬وعلى‭ ‬تفاصيل‭ ‬الحياة‭ ‬اليومية‭ ‬للمواطن‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬الفترة‭. ‬

فبالرغم‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬شيء،‭ ‬عاش‭ ‬المواطنون‭ ‬الكويتيون‭ ‬تلك‭ ‬الفترة،‭ ‬وهم‭ ‬يحاولون‭ ‬التشبث‭ ‬بوجودهم‭ ‬وتدبير‭ ‬أمر‭ ‬معيشتهم،‭ ‬وقد‭ ‬تخلوا‭ ‬عن‭ ‬الرفاهية‭ ‬التي‭ ‬كانوا‭ ‬قد‭ ‬اعتادوا‭ ‬عليها،‭ ‬خصوصا‭ ‬أن‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬يمتلكون‭ ‬كان‭ ‬قابلا‭ ‬للسلب‭ ‬والنهب‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬جنود‭ ‬الاحتلال،‭ ‬من‭ ‬ممتلكاتهم‭ ‬في‭ ‬البيوت،‭ ‬فضلا‭ ‬عن‭ ‬النقص‭ ‬الحاد‭ ‬والسريع‭ ‬للمواد‭ ‬الغذائية‭ ‬والوقود،‭ ‬وموت‭ ‬الأشجار‭ ‬والمساحات‭ ‬الخضراء‭ ‬نتيجة‭ ‬عدم‭ ‬رعايتها‭.‬

إضافة‭ ‬إلى‭ ‬مأساة‭ ‬الأسرى‭ ‬الذين‭ ‬لم‭ ‬يعودوا‭ ‬إلى‭ ‬بلادهم‭ ‬حتى‭ ‬اليوم،‭ ‬ولا‭ ‬تزال‭ ‬الزوجات‭ ‬والبنات‭ ‬والأبناء‭ ‬وبعد‭ ‬مرور‭ ‬اكثر‭ ‬من‭ ‬عشرين‭ ‬عاما‭ ‬يعيشون‭ ‬على‭ ‬أمل‭ ‬الوهم‭ ‬بعودتهم،‭ ‬أو‭ ‬حتى‭ ‬معرفة‭ ‬مصيرهم‭ ‬وإعادة‭ ‬رفاتهم‭ ‬إن‭ ‬كانوا‭ ‬قد‭ ‬ماتوا‭.‬

وفي‭ ‬مواجهة‭ ‬تربص‭ ‬جنود‭ ‬الاحتلال‭ ‬بالرجال‭ ‬والشباب‭ ‬والفتيات،‭ ‬واعتقال‭ ‬عدد‭ ‬كبير‭ ‬منهم‭ ‬في‭ ‬إطار‭ ‬محاولة‭ ‬النظام‭ ‬الصدامي‭ ‬وأد‭ ‬المقاومة‭ ‬الشعبية،‭ ‬لعبت‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬السيدات‭ ‬الكويتيات‭ ‬أدوارا‭ ‬مؤثرة‭ ‬في‭ ‬تدبر‭ ‬الخروج‭ ‬إلى‭ ‬الأسوق‭ ‬لشراء‭ ‬وتوفير‭ ‬مستلزمات‭ ‬الطعام،‭ ‬وبعضهن‭ ‬كن‭ ‬يفضلن‭ ‬القيام‭ ‬بتلك‭ ‬المهمة‭ ‬مشيا‭ ‬على‭ ‬الأقدام‭ ‬تلافيا‭ ‬للمواجهات‭ ‬مع‭ ‬جنود‭ ‬الاحتلال‭.‬

‭ ‬هذا‭ ‬بالإضافة‭ ‬لأدوار‭ ‬أخرى‭ ‬كثيرة‭ ‬لعبتها‭ ‬السيدات‭ ‬الكويتيات‭ ‬اللائي‭ ‬ارتأين‭ ‬أن‭ ‬وجودهن‭ ‬في‭ ‬الكويت‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬الفترة‭ ‬يحتم‭ ‬عليهن‭ ‬لعب‭ ‬دور‭ ‬وطني‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬تحرير‭ ‬الكويت،‭ ‬ومن‭ ‬أجل‭ ‬إثبات‭ ‬قدرة‭ ‬الشعب‭ ‬الكويتي‭ ‬على‭ ‬مقاومة‭ ‬المحتل‭. ‬سواء‭ ‬من‭ ‬الفتيات‭ ‬اللائي‭ ‬واجهن‭ ‬بطش‭ ‬المحتل‭ ‬بإباء،‭ ‬وتعرضن‭ ‬للاعتقال‭ ‬والسجن‭ ‬والتعذيب،‭ ‬إضافة‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬تعرضت‭ ‬إليه‭ ‬بعضهن‭ ‬من‭ ‬قتل‭ ‬أو‭ ‬اغتصاب‭.‬

وقد‭ ‬شهدت‭ ‬بيوت‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬العائلات‭ ‬الكويتية‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬الفترة‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬اللقاءات‭ ‬التي‭ ‬جمعت‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬السيدات‭ ‬ممن‭ ‬رغبن‭ ‬في‭ ‬المشاركة‭ ‬في‭ ‬العمل‭ ‬الوطني،‭ ‬سواء‭ ‬ممن‭ ‬تلقين‭ ‬دورات‭ ‬في‭ ‬الإسعافات‭ ‬الأولية،‭ ‬أو‭ ‬ممن‭ ‬ساهمن‭ ‬في‭ ‬طباعة‭ ‬وتصوير‭ ‬البيانات،‭ ‬ثم‭ ‬توزيعها،‭ ‬ضد‭ ‬المحتل‭ ‬ومساعدة‭ ‬المقاومة‭ ‬السرية،‭ ‬أو‭ ‬المساهمة‭ ‬في‭ ‬رعاية‭ ‬المسنين‭ ‬والأطفال‭ ‬الكويتيين‭ ‬في‭ ‬دور‭ ‬اليتامى‭ ‬والمسنين،‭ ‬خصوصا‭ ‬بعد‭ ‬سفر‭ ‬أغلب‭ ‬العمالة‭ ‬الوافدة‭ ‬ممن‭ ‬كانوا‭ ‬يقدمون‭ ‬الخدمات‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬المؤسسات‭.‬

كما‭ ‬كانت‭ ‬عوائل‭ ‬بعض‭ ‬الوافدين‭ ‬تساعد‭ ‬في‭ ‬تنقل‭ ‬الكويتيين‭ ‬من‭ ‬مكان‭ ‬لآخر‭ ‬بسياراتهم‭ ‬وبصحبة‭ ‬أطفالهم‭ ‬بحيث‭ ‬لا‭ ‬يلفتون‭ ‬انتباه‭ ‬جنود‭ ‬الاحتلال‭ ‬الذين‭ ‬كانوا‭ ‬يبحثون‭ ‬عن‭ ‬شباب‭ ‬المقاومة‭ ‬من‭ ‬الكويتيين‭.‬

وفي‭ ‬خضم‭ ‬كل‭ ‬هذه‭ ‬الأجواء‭ ‬الكئيبة‭ ‬والحزينة‭ ‬التي‭ ‬كان‭ ‬فيها‭ ‬أهل‭ ‬الكويت‭ ‬يعانون‭ ‬إما‭ ‬من‭ ‬فقد‭ ‬أخ‭ ‬أو‭ ‬شقيق‭ ‬قد‭ ‬تم‭ ‬اعتقاله،‭ ‬وانقطاع‭ ‬أخباره،‭ ‬وإما‭ ‬من‭ ‬سفر‭ ‬أحد‭ ‬أفراد‭ ‬العائلة‭ ‬ممن‭ ‬كانوا‭ ‬خارج‭ ‬الكويت‭ ‬في‭ ‬وقت‭ ‬الغزو‭ ‬ممن‭ ‬لم‭ ‬يتمكنوا‭ ‬من‭ ‬العودة،‭ ‬أو‭ ‬حتى‭ ‬ممن‭ ‬اتخذوا‭ ‬قرار‭ ‬الخروج‭ ‬من‭ ‬الكويت‭ ‬خوفا‭ ‬على‭ ‬حياتهم‭ ‬وحياة‭ ‬أبنائهم،‭ ‬رغم‭ ‬كل‭ ‬ذلك‭ ‬لم‭ ‬يعدم‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬أهل‭ ‬الكويت‭ ‬ممن‭ ‬عاشوا‭ ‬تحت‭ ‬الاحتلال‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬يبحثوا‭ ‬بين‭ ‬آن‭ ‬وآخر‭ ‬عن‭ ‬الأمل،‭ ‬وأن‭ ‬يقيموا‭ ‬بعض‭ ‬التجمعات‭ ‬للسمر‭ ‬والاحتفال‭ ‬في‭ ‬محاولة‭ ‬للقضاء‭ ‬على‭ ‬مشاعر‭ ‬الخوف‭ ‬التي‭ ‬يشعرون‭ ‬بها،‭ ‬ولكي‭ ‬يتشبثوا‭ ‬بالأمل‭ ‬وبالحياة،‭ ‬رغم‭ ‬صوت‭ ‬التفجيرات،‭ ‬أو‭ ‬حظر‭ ‬التجوال،‭ ‬وغير‭ ‬ذلك‭ ‬من‭ ‬ظروف‭ ‬مقيدة‭ ‬للحركة‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬الفترة‭.‬

الأدب‭ ‬يستنطق‭ ‬التاريخ

وقد‭ ‬كان‭ ‬للأدب،‭ ‬دائما،‭ ‬دور‭ ‬مهم‭ ‬في‭ ‬استنطاق‭ ‬التاريخ‭ ‬وإعادة‭ ‬تسجيل‭ ‬الأحداث‭ ‬التاريخية‭ ‬في‭ ‬حياة‭ ‬الشعوب‭. ‬وربما‭ ‬يقول‭ ‬البعض‭ ‬إن‭ ‬جيلًا‭ ‬جديدًا‭ ‬من‭ ‬الكتاب‭ ‬الكويتيين‭ ‬لم‭ ‬يعاصر‭ ‬أو‭ ‬يشهد‭ ‬التجربة‭ ‬ولم‭ ‬يعايشها،‭ ‬قد‭ ‬يكون‭ ‬من‭ ‬الصعب‭ ‬عليه‭ ‬أن‭ ‬يتناولها‭ ‬أدبيا،‭ ‬خصوصا‭ ‬أن‭ ‬الكاتب‭ ‬الروائي‭ ‬الكويتي‭ ‬إسماعيل‭ ‬فهد‭ ‬إسماعيل،‭ ‬حين‭ ‬كتب‭ ‬سباعيته‭ ‬الروائية،‭ ‬كان‭ ‬واحدا‭ ‬ممن‭ ‬عاشوا‭ ‬تلك‭ ‬التجربة‭ ‬وانخرط‭ ‬في‭ ‬اعمال‭ ‬المقاومة‭ ‬ضد‭ ‬الاحتلال،‭ ‬فقد‭ ‬قدم‭ ‬رصدا‭ ‬للحدث‭ ‬ممزوجا‭ ‬بتجربته‭ ‬الذاتية‭ ‬ومشاهداته‭ ‬شخصيا‭.‬

لكننا‭ ‬حين‭ ‬نعود‭ ‬لتاريخ‭ ‬الرواية‭ ‬الغربية‭ ‬والعربية‭ ‬سنجد‭ ‬أن‭ ‬أحداثا‭ ‬تاريخية‭ ‬بعيدة‭ ‬جدا،‭ ‬أعاد‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬الكتاب‭ ‬تناولها،‭ ‬ومنحوا‭ ‬وقائعها‭ ‬الجانب‭ ‬الدرامي‭ ‬اللازم‭ ‬لأي‭ ‬عمل‭ ‬أدبي،‭ ‬فقد‭ ‬كتب‭ ‬نجيب‭ ‬محفوظ،‭ ‬ليس‭ ‬فقط،‭ ‬عن‭ ‬تجربة‭ ‬ثورة‭ ‬1919‭ ‬التي‭ ‬واكبت‭ ‬طفولته‭ ‬أو‭ ‬صدر‭ ‬مراهقته،‭ ‬بل‭ ‬عاد‭ ‬إلى‭ ‬مراحل‭ ‬ناصعة‭ ‬من‭ ‬التاريخ‭ ‬المصري‭ ‬القديم،‭ ‬في‭ ‬العصر‭ ‬الفرعوني،‭ ‬وكتب‭ ‬عنها‭ ‬بشكل‭ ‬فني‭ ‬بالغ‭ ‬الرقي‭. ‬

كما‭ ‬أن‭ ‬ثورتي‭ ‬الجزائر‭ ‬ويوليو‭ ‬في‭ ‬مصر،‭ ‬وحرب‭ ‬أكتوبر،‭ ‬وتجربة‭ ‬النكبة‭ ‬في‭ ‬فلسطين،‭ ‬والحرب‭ ‬الأهلية‭ ‬في‭ ‬لبنان،‭ ‬التي‭ ‬مثلت‭ ‬وحدها‭ ‬تيمة‭ ‬أساسية‭ ‬في‭ ‬أعمال‭ ‬عدد‭ ‬كبير‭ ‬من‭ ‬الكتاب‭ ‬اللبنانيين،‭ ‬وغيرها‭ ‬من‭ ‬الوقائع‭ ‬التاريخية‭ ‬في‭ ‬التاريخ‭ ‬العربي‭ ‬المعاصر‭ ‬قد‭ ‬رصدت‭ ‬وتم‭ ‬تناولها‭ ‬بشكل‭ ‬أدبي‭ ‬في‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬الروايات‭ ‬العربية‭ ‬المعاصرة‭ ‬في‭ ‬مصر‭ ‬ولبنان‭ ‬والعراق‭ ‬وسورية‭ ‬والمغرب‭ ‬والجزائر‭ ‬واليمن‭.‬

وكذلك‭ ‬في‭ ‬الغرب‭ ‬فإن‭ ‬الثورة‭ ‬الفرنسية،‭ ‬مثلا،‭ ‬والتي‭ ‬لم‭ ‬يعاصرها‭ ‬كتاب‭ ‬أوربا‭ ‬ممن‭ ‬عاشوا‭ ‬في‭ ‬القرن‭ ‬التاسع‭ ‬عشر‭ ‬أوالعشرين،‭ ‬كتب‭ ‬عنها‭ ‬الكثير‭ ‬منهم‭ ‬وتناولها‭ ‬في‭ ‬قالب‭ ‬أدبي‭ ‬روائي،‭ ‬فقد‭ ‬كتب‭ ‬عنها‭ ‬مثلًا‭ ‬الروائي‭ ‬البريطاني‭ ‬تشارلز‭ ‬ديكنز‭ ‬رواية‭ ‬اقصة‭ ‬مدينتينب،‭ ‬رغم‭ ‬أنه‭ ‬لم‭ ‬يعايشها،‭ ‬وكذلك‭ ‬كتب‭ ‬الكاتب‭ ‬الفرنسي‭ ‬فيكتور‭ ‬هيجو‭ ‬روايته‭ ‬الشهيرة‭ ‬االبؤساءب‭ ‬وفيها‭ ‬يصف‭ ‬وينتقد‭ ‬الظلم‭ ‬الاجتماعي‭ ‬في‭ ‬فرنسا‭ ‬بين‭ ‬سقوط‭ ‬نابليون‭ ‬في‭ ‬1815‭ ‬والثورة‭ ‬الفاشلة‭ ‬ضد‭ ‬الملك‭ ‬لويس‭ ‬فيليب‭ ‬في‭ ‬1832‭. ‬أو‭ ‬كما‭ ‬فعل‭ ‬أديب‭ ‬روسيا‭ ‬الكبير‭ ‬ليو‭ ‬تولستوي‭ ‬في‭ ‬روايته‭ ‬الشهيرة‭ ‬االحرب‭ ‬والسلامب‭ ‬التي‭ ‬عدت‭ ‬ملحمة‭ ‬كبيرة‭ ‬في‭ ‬تفصيل‭ ‬فكرة‭ ‬الحرب‭ ‬على‭ ‬الفرد،‭ ‬وغيرها‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬الأعمال‭ ‬الأدبية،‭ ‬فالأمثلة‭ ‬حول‭ ‬تناول‭ ‬الأدب‭ ‬للتجارب‭ ‬الاستثنائية‭ ‬في‭ ‬حياة‭ ‬الشعوب‭ ‬اكثر‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬تحصى‭.‬

وكذلك‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬نجد‭ ‬ظلالا‭ ‬عديدة‭ ‬لتجربة‭ ‬الحربين‭ ‬العالميتين‭ ‬الأولى‭ ‬والثانية،‭ ‬في‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬الأعمال‭ ‬الأدبية‭ ‬الغربية‭ ‬المعاصرة‭ ‬التي‭ ‬انتقل‭ ‬الكثير‭ ‬منها‭ ‬إلى‭ ‬شاشات‭ ‬السينما‭ ‬أيضا‭. ‬فتفاصيل‭ ‬الوقائع‭ ‬التاريخية‭ ‬التي‭ ‬ادت‭ ‬إلى‭ ‬الحرب،‭ ‬ومقولات‭ ‬وخطب‭ ‬السياسيين،‭ ‬وتفاصيل‭ ‬المعارك،‭ ‬والكيفية‭ ‬التي‭ ‬أدار‭ ‬بها‭ ‬كل‭ ‬طرف‭ ‬الآلة‭ ‬العسكرية‭ ‬وما‭ ‬تكبده‭ ‬كل‭ ‬طرف‭ ‬من‭ ‬خسائر‭ ‬في‭ ‬الأرواح‭ ‬وما‭ ‬تعرضت‭ ‬له‭ ‬بلاده‭ ‬من‭ ‬تخريب،‭ ‬هي‭ ‬ما‭ ‬وثقته‭ ‬كتب‭ ‬التاريخ،‭ ‬أما‭ ‬تفاصيل‭ ‬الحياة‭ ‬اليومية‭ ‬للمواطنين‭ ‬في‭ ‬ارجاء‭ ‬أوربا،‭ ‬وانعكاس‭ ‬الأحداث‭ ‬التاريخية‭ ‬على‭ ‬واقع‭ ‬حياتهم‭ ‬اليومية‭ ‬فهو‭ ‬ما‭ ‬اهتمت‭ ‬الأعمال‭ ‬الأدبية‭ ‬بإبرازه‭ ‬وتسليط‭ ‬الضوء‭ ‬عليه،‭ ‬وتوضيح‭ ‬كيف‭ ‬استفادت‭ ‬الشعوب‭ ‬الغربية‭ ‬من‭ ‬تلك‭ ‬التجارب‭ ‬الماساوية‭ ‬باستيعاب‭ ‬الدروس‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬بناء‭ ‬مستقبل‭ ‬لا‭ ‬تتكرر‭ ‬فيه‭ ‬تلك‭ ‬المآسي‭ ‬مرة‭ ‬أخرى‭.‬

ولا‭ ‬يتوقف‭ ‬قصور‭ ‬توثيق‭ ‬مرحلة‭ ‬الغزو‭ ‬الغاشم‭ ‬للكويت،‭ ‬في‭ ‬الحقيقة،‭ ‬على‭ ‬الأدب‭ ‬والفنون‭ ‬فقط،‭ ‬بل‭ ‬يمتد‭ ‬للشهادات‭ ‬الحية‭. ‬فهناك‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬المواطنين‭ ‬الكويتيين‭ ‬الذين‭ ‬عاصروا‭ ‬تلك‭ ‬الفترة،‭ ‬وبينهم‭ ‬أكاديميون‭ ‬وكتاب‭ ‬ومثقفون،‭ ‬ولكنهم‭ ‬لم‭ ‬يقدموا‭ ‬شهاداتهم‭ ‬عما‭ ‬عايشوه،‭ ‬أوتفاصيل‭ ‬حياتهم‭ ‬اليومية‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬الفترة‭ ‬رغم‭ ‬أهمية‭ ‬ذلك،‭ ‬ليس‭ ‬فقط‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬التاريخ‭ ‬والتوثيق،‭ ‬ولكن‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬إفادة‭ ‬الأجيال‭ ‬الجديدة،‭ ‬وكذلك‭ ‬الكتاب‭ ‬والروائيين،‭ ‬ممن‭ ‬لم‭ ‬يعيشوا‭ ‬الحدث،‭ ‬والذين‭ ‬قد‭ ‬يهتمون‭ ‬بالكتابة‭ ‬الأدبية‭ ‬عن‭ ‬تلك‭ ‬الفترة‭ ‬ويحتاجون‭ ‬إلى‭ ‬الوثائق‭ ‬والشهادات‭ ‬الحية‭ ‬لدعم‭ ‬تجربتهم‭ ‬الأدبية‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الصدد‭.‬

دروس‭ ‬الماضي

إن‭ ‬جانبا‭ ‬كبيرا‭ ‬من‭ ‬أهمية‭ ‬توثيق‭ ‬هذه‭ ‬التجربة‭ ‬أدبيا،‭ ‬لا‭ ‬يعود‭ ‬فقط‭ ‬لدور‭ ‬الأدب‭ ‬في‭ ‬رصد‭ ‬التجارب‭ ‬التاريخية،‭ ‬وضخ‭ ‬الدماء‭ ‬إلى‭ ‬تجارب‭ ‬إنسانية‭ ‬تبدو‭ ‬أنها‭ ‬قد‭ ‬مرت‭ ‬وانتهت،‭ ‬وإعادتها‭ ‬للحياة‭ ‬مرة‭ ‬أخرى،‭ ‬وإضاءة‭ ‬المناطق‭ ‬المعتمة‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬الفترات‭ ‬التاريخية،‭ ‬بل‭ ‬تمتد‭ ‬أهمية‭ ‬ذلك‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬الكويت‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬المرحلة‭ ‬الدقيقة‭ ‬التي‭ ‬تعيشها‭ ‬اليوم،‭ ‬وهي‭ ‬تشهد‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬نعرات‭ ‬طائفية‭ ‬غريبة‭ ‬عن‭ ‬تاريخها،‭ ‬تشهد‭ ‬ايضا‭ ‬تراجعا‭ ‬في‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬المجالات‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬سباقة‭ ‬فيها‭ ‬خصوصا‭ ‬قبل‭ ‬الغزو،‭ ‬إذ‭ ‬كانت‭ ‬فى‭ ‬السابق‭ ‬تعد‭ ‬مثالًا‭ ‬في‭ ‬المنطقة‭ ‬في‭ ‬الازدهار‭ ‬الثقافي‭ ‬والفني‭ ‬دفعت‭ ‬بعض‭ ‬الدول‭ ‬المجاورة‭ ‬لدرس‭ ‬تجربة‭ ‬الكويت‭ ‬الثقافية‭ ‬للاستفادة‭ ‬من‭ ‬نجاحاتها‭ ‬وتجنب‭ ‬الإخفاقات،‭ ‬ولاسيما‭ ‬ما‭ ‬اصاب‭ ‬الكويت‭ ‬بعد‭ ‬الغزو؛‭ ‬الذي‭ ‬لانزال‭ ‬نعاني‭ ‬منه‭ ‬حتى‭ ‬اليوم‭ ‬نفسيًا،‭ ‬وانعكاس‭ ‬ذلك‭ ‬على‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬سلوكياتنا‭ ‬الغريبة‭ ‬التي‭ ‬انتشرت‭ ‬كظواهر‭ ‬غريبة‭ ‬على‭ ‬مجتمعنا،‭ ‬بعد‭ ‬الغزو،‭ ‬وخاصة‭ ‬على‭ ‬سلوك‭ ‬الشباب‭. ‬

وهناك‭ ‬في‭ ‬الواقع‭ ‬أسباب‭ ‬عديدة‭ ‬للتدهور‭ ‬الذي‭ ‬نشهده‭ ‬من‭ ‬أهمها‭ ‬تراجع‭ ‬دور‭ ‬المؤسسة‭ ‬التعليمية‭ ‬في‭ ‬الاهتمام‭ ‬بدور‭ ‬الثقافة‭ ‬والأدب‭ ‬والفن‭ ‬ضمن‭ ‬برامجها‭ ‬وانشطتها؛‭ ‬لأهمية‭ ‬تلك‭ ‬البرامج‭ ‬والأنشطة‭ ‬في‭ ‬تفتح‭ ‬ذهنية‭ ‬الدارسين‭ ‬على‭ ‬قضايا‭ ‬الإبداع‭ ‬والتفكير‭ ‬الحر،‭ ‬وباعتبار‭ ‬اهمالها‭ ‬يعني‭ ‬اسقاط‭ ‬اهم‭ ‬اولويات‭ ‬قيام‭ ‬مجتمع‭ ‬متقدم‭ ‬مزدهر‭ ‬على‭ ‬كل‭ ‬الأصعدة‭. ‬

ولكي‭ ‬تستعيد‭ ‬الكويت‭ ‬مكانتها‭ ‬لا‭ ‬بد‭ ‬من‭ ‬مراجعة‭ ‬جميع‭ ‬اسباب‭ ‬هذا‭ ‬التدهور،‭ ‬وبينها‭ ‬أسباب‭ ‬اجتماعية‭ ‬ونفسية،‭ ‬كان‭ ‬لتجربة‭ ‬الغزو‭ ‬جانب‭ ‬كبير‭ ‬فيها،‭ ‬ولهذا‭ ‬ينبغي‭ ‬إعادة‭ ‬تأمل‭ ‬التجربة،‭ ‬والبحث‭ ‬عن‭ ‬التفاصيل‭ ‬التي‭ ‬غابت‭ ‬عن‭ ‬الأعين‭ ‬بسبب‭ ‬محاولة‭ ‬الجميع‭ ‬نسيان‭ ‬التجربة‭.‬

فمنذ‭ ‬الغزو‭ ‬فقد‭ ‬المواطن‭ ‬الكويتي‭ ‬الشعور‭ ‬بالأمان،‭ ‬لكن‭ ‬وفي‭ ‬المقابل،‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬هناك‭ ‬خطة‭ ‬محكمة‭ ‬متفق‭ ‬عليها‭ ‬وطنيا‭ ‬عملت‭ ‬عليها‭ ‬الحكومات‭ ‬المتعاقبة‭ ‬مع‭ ‬مجالس‭ ‬الأمة‭ ‬لإعادة‭ ‬الطمأنينة‭ ‬للمواطن‭ ‬الكويتي‭. ‬فشعر‭ ‬المواطن‭ ‬بهدر‭ ‬المال‭ ‬والمزيد‭ ‬من‭ ‬الإنفاق‭ ‬الريعي‭ ‬والمزيد‭ ‬من‭ ‬الاستهلاك‭ ‬في‭ ‬الحياة‭ ‬اليومية‭. ‬في‭ ‬اعتقاد‭ ‬بأنه‭ ‬في‭ ‬حاجة‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬ينسى‭ ‬التجربة‭ ‬وآلامه‭ ‬الخاصة‭ ‬كتعويض‭ ‬عنها‭! ‬رغم‭ ‬أن‭ ‬التوجه‭ ‬المقصود‭ ‬تمثل‭ ‬في‭ ‬محاولة‭ ‬إقناع‭ ‬المواطن‭ ‬وإشعاره‭ ‬بالاستقرار‭ ‬والأمان‭.‬

كما‭ ‬أن‭ ‬الثقافة‭ ‬في‭ ‬الكويت‭ ‬أصيبت‭ ‬بعد‭ ‬الغزو،‭ ‬مع‭ ‬الأسف،‭ ‬بتراجع‭ ‬واضح‭ ‬تجلى‭ ‬أثره‭ ‬في‭ ‬تراجع‭ ‬الحريات‭ ‬العامة،،‭ ‬وزيادة‭ ‬مشاعر‭ ‬القلق‭ ‬لدى‭ ‬المواطن‭ ‬نتيجة‭ ‬لازدياد‭ ‬نفوذ‭ ‬الأحزاب‭ ‬والتجمعات‭ ‬الدينية‭ ‬التي‭ ‬استغلت‭ ‬نكبة‭ ‬الغزو‭ ‬وأثره‭ ‬في‭ ‬نفوس‭ ‬الناس،‭ ‬لتنشر‭ ‬وتدعو‭ ‬لأفكارها‭ ‬تحت‭ ‬مظلة‭ ‬الحرية‭ ‬التي‭ ‬منحت‭ ‬لها‭ ‬والدعم‭ ‬الذي‭ ‬حصلت‭ ‬عليه‭ ‬من‭ ‬أطراف‭ ‬متنفذة‭ ‬في‭ ‬البلاد،‭ ‬والتي‭ ‬جاءت‭ ‬بعد‭ ‬العودة‭ ‬من‭ ‬شتات‭ ‬الغزو‭. ‬وأيضا‭ ‬اعتقادا‭ ‬بأن‭ ‬المواطن‭ ‬في‭ ‬حاجة‭ ‬إلى‭ ‬جرعات‭ ‬دينية‭ ‬كبيرة‭ ‬لإعادة‭ ‬الطمأنينة‭ ‬للنفوس‭!‬

فأدت‭ ‬هذه‭ ‬النشاطات‭ ‬إلى‭ ‬تراجع‭ ‬الحركة‭ ‬الأدبية‭ ‬والفنية،‭ ‬مما‭ ‬ضيق‭ ‬مساحة‭ ‬حرية‭ ‬الكتابة‭ ‬والنشر‭ ‬والإبداع‭. ‬لهذا‭ ‬كله‭ ‬يجب‭ ‬الآن‭ ‬استعادة‭ ‬تفاصيل‭ ‬تجربة‭ ‬الغزو،‭ ‬إذ‭ ‬أنه‭ ‬بين‭ ‬رماد‭ ‬الآلام‭ ‬ومشاعر‭ ‬الحزن‭ ‬وانعدام‭ ‬الأمل‭ ‬والإحساس‭ ‬بعدم‭ ‬الامان‭ ‬الكامل،‭ ‬توارت‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬ماسات‭ ‬التضحية‭ ‬بالنفس‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬الوطن،‭ ‬والتضامن‭ ‬بين‭ ‬ابناء‭ ‬الوطن‭ ‬جميعا‭ ‬دون‭ ‬تمييز،‭ ‬والاندفاع‭ ‬الغيور‭ ‬في‭ ‬العمل‭ ‬الوطني‭ ‬بحماس‭ ‬وحب،‭ ‬والإحساس‭ ‬الحقيقي‭ ‬بمعنى‭ ‬المواطنة،‭ ‬كقيمة‭ ‬تدفع‭ ‬الفرد‭ ‬للعمل‭ ‬والإنتاج‭ ‬والإنجاز‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬رفعة‭ ‬سمعة‭ ‬بلاده،‭ ‬ولأجل‭ ‬إحساس‭ ‬الفرد‭ ‬نفسه‭ ‬بقيمته‭ ‬في‭ ‬المجتمع،‭ ‬وأنها‭ ‬ليست‭ ‬مجرد‭ ‬علاقة‭ ‬نفعية‭ ‬بين‭ ‬المواطن‭ ‬وما‭ ‬تقدمه‭ ‬له‭ ‬الدولة‭ ‬من‭ ‬هبات‭ ‬وإكراميات‭.‬

فمثل‭ ‬هذه‭ ‬الماسات‭ ‬هي‭ ‬ما‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬تسلط‭ ‬التجارب‭ ‬الأدبية‭ ‬الضوء‭ ‬عليها،‭ ‬وأن‭ ‬تنفض‭ ‬غبار‭ ‬الرماد‭ ‬عنها،‭ ‬وتكشفها‭ ‬للأجيال‭ ‬الجديدة‭ ‬التي‭ ‬تحتاج‭ ‬أن‭ ‬تتعرف‭ ‬على‭ ‬صفحات‭ ‬مضيئة‭ ‬من‭ ‬تاريخ‭ ‬آبائها‭ ‬من‭ ‬أهل‭ ‬الكويت،‭ ‬ممن‭ ‬عاشوا‭ ‬تحت‭ ‬نير‭ ‬الاحتلال‭ ‬ولم‭ ‬يخبُ‭ ‬يقينهم‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬الكويت‭ ‬للكويتيين،‭ ‬إضافة‭ ‬إلى‭ ‬تجارب‭ ‬الكويتيين‭ ‬ممن‭ ‬عملوا‭ ‬خارج‭ ‬الكويت‭ ‬في‭ ‬المؤسسات‭ ‬الدولية‭ ‬المختلفة،‭ ‬وفي‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬دول‭ ‬العالم،‭ ‬لدعم‭ ‬مواطني‭ ‬الداخل‭ ‬والدفاع‭ ‬عن‭ ‬قضية‭ ‬تحرير‭ ‬الكويت‭ ‬ومستقبلها‭.‬

إن‭ ‬تجربة‭ ‬الغزو،‭ ‬مثل‭ ‬جميع‭ ‬تجارب‭ ‬المعاناة‭ ‬الإنسانية‭ ‬التي‭ ‬تتعرض‭ ‬لها‭ ‬الشعوب،‭ ‬ينبغي‭ ‬أن‭ ‬يعاد‭ ‬تأملها،‭ ‬واكتشاف‭ ‬جوانبها‭ ‬المضيئة‭ ‬حتى‭ ‬لو‭ ‬كان‭ ‬ذلك‭ ‬سببا‭ ‬لاستعادة‭ ‬الأهوال‭ ‬والأحزان،‭ ‬فالمستقبل‭ ‬لا‭ ‬يصنع‭ ‬إلا‭ ‬بناء‭ ‬على‭ ‬تأمل‭ ‬دروس‭ ‬الماضي‭ ‬واستيعابها‭ ‬جيدًا،‭ ‬وما‭ ‬أحوجنا‭ ‬اليوم‭ ‬إلى‭ ‬صناعة‭ ‬المستقبل‭ .