الثورات والأفق الديمقراطي العربي

الثورات والأفق الديمقراطي العربي

برهنت‭ ‬جميع‭ ‬التجارب‭ ‬الديمقراطية‭ ‬الحديثة‭ ‬بوضوح‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬مفهوم‭ ‬الديمقراطية‭ ‬مرتبط‭ ‬وثيق‭ ‬الارتباط‭ ‬بثلاثة‭ ‬مفاهيم‭ ‬أساسية‭: ‬الحرية،‭ ‬المواطنة،‭ ‬الدولة‭ ‬المدنية‭. ‬و‭ ‬أثبت‭ ‬كذلك‭ ‬أنه‭ ‬كلما‭ ‬غاب‭ ‬ركن‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬الأركان‭ ‬الثلاثة‭ ‬انهار‭ ‬البناء‭ ‬الديمقراطي،‭ ‬فلا‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬نتصور‭ ‬إمكان‭ ‬تأسيس‭ ‬تجربة‭ ‬ديمقراطية‭ ‬حقيقية‭ ‬تقودها‭ ‬دولة‭ ‬دينية،‭ ‬أو‭ ‬حتى‭ ‬متأدينة،‭ ‬أو‭ ‬في‭ ‬دولة‭ ‬يحكمها‭ ‬العسكر،‭ ‬يستطيع‭ ‬أي‭ ‬جيش‭ ‬وطني‭ ‬أن‭ ‬ينقذ‭ ‬في‭ ‬حالات‭ ‬معينة‭ ‬تجربة‭ ‬ديمقراطية‭ ‬من‭ ‬السقوط،‭ ‬ولكنه‭ ‬غير‭ ‬قادر‭ ‬على‭ ‬بنائها‭.‬

أود‭ ‬الإلماع‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الصدد‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬مفهوم‭ ‬الديمقراطية،‭ ‬والمفاهيم‭ ‬الثلاثة‭ ‬التي‭ ‬مثلت‭ ‬التربة‭ ‬الخصبة‭ ‬كي‭ ‬ينمو‭ ‬ويينع‭ ‬هي‭ ‬من‭ ‬ثمرات‭ ‬عصر‭ ‬الحداثة‭ ‬الذي‭ ‬أطل‭ ‬من‭ ‬عباءة‭ ‬عصر‭ ‬الأنوار‭ ‬منذ‭ ‬القرن‭ ‬السابع‭ ‬عشر‭.‬

إن‭ ‬التاريخ‭ ‬للديمقراطية‭ ‬يقيم‭ ‬الدليل‭ ‬على‭ ‬مرورها‭ ‬بمراحل‭ ‬متعددة،‭ ‬وبتجارب‭ ‬متنوعة،‭ ‬ولم‭ ‬تترسخ‭ ‬إلا‭ ‬نتيجة‭ ‬صراع‭ ‬فكري‭ ‬سياسي‭ ‬مرير،‭ ‬ينبئ‭ ‬في‭ ‬الآن‭ ‬ذاته‭ ‬بأن‭ ‬الدعامة‭ ‬الصلبة‭ ‬لكل‭ ‬التجارب‭ ‬تمثلت‭ ‬بالأمس‭ ‬واليوم‭ ‬في‭ ‬المثلث‭ ‬المفهومي‭ ‬المذكور‭.‬

إن‭ ‬مفهوم‭ ‬الديمقراطية،‭ ‬والمفاهيم‭ ‬الحاضنة‭ ‬لها‭ ‬هي‭ ‬دخيلة‭ ‬على‭ ‬الفكر‭ ‬السياسي‭ ‬العربي‭ ‬الإسلامي،‭ ‬لكننا‭ ‬لا‭ ‬ننكر‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الصدد‭ ‬جهود‭ ‬رادة‭ ‬الفكر‭ ‬الإصلاحي‭ ‬منذ‭ ‬القرن‭ ‬التاسع‭ ‬عشر،‭ ‬فقد‭ ‬حاولوا‭ ‬نشر‭ ‬بعض‭ ‬المفاهيم‭ ‬الحديثة،‭ ‬أو‭ ‬القريبة‭ ‬منها‭ ‬فربطوا‭ ‬الحرية‭ ‬بحب‭ ‬الوطن،‭ ‬وربطوا‭ ‬بين‭ ‬الحكم‭ ‬الاستبدادي‭ ‬وخراب‭ ‬العمران‭ ‬مستنجدين‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬بابن‭ ‬خلدون‭ ‬في‭ ‬فصله‭ ‬الشهير‭ ‬في‭ ‬المقدمة‭ ‬االظلم‭ ‬مؤذن‭ ‬بخراب‭ ‬العمرانب،‭ ‬وتبنت‭ ‬نخبة‭ ‬من‭ ‬المثقفين‭ ‬مفاهيم‭ ‬الثورة‭ ‬الفرنسية،‭ ‬ولكن‭ ‬كل‭ ‬هذه‭ ‬الومضات‭ ‬بقيت‭ ‬محدودة‭ ‬التأثير،‭ ‬ولم‭ ‬تتجاوز‭ ‬بعض‭ ‬النصوص‭ ‬التي‭ ‬صدرت‭ ‬هنا‭ ‬أو‭ ‬هناك‭.‬

مع‭ ‬بداية‭ ‬النضال‭ ‬ضد‭ ‬المحتل‭ ‬الأجنبي‭ ‬انصهر‭ ‬مفهوم‭ ‬الحرية‭ ‬في‭ ‬مفهوم‭ ‬التحرر‭ ‬في‭ ‬تاريخ‭ ‬حركات‭ ‬التحرر‭ ‬الوطني،‭ ‬وأمل‭ ‬المواطن‭ ‬العربي‭ ‬أنه‭ ‬سيحتفل‭ ‬بعرس‭ ‬الحرية‭ ‬في‭ ‬ظلال‭ ‬الدولة‭ ‬الوطنية‭ ‬المستقلة،‭ ‬ولكن‭ ‬سرعان‭ ‬ما‭ ‬خاب‭ ‬الظن،‭ ‬إذ‭ ‬تحولت‭ ‬إلى‭ ‬دولة‭ ‬قامعة‭ ‬يجلس‭ ‬في‭ ‬قمتها‭ ‬العسكر،‭ ‬أو‭ ‬زبانية‭ ‬نظام‭ ‬الحزب‭ ‬الواحد‭ ‬الشمولي،‭ ‬ورزح‭ ‬المواطن‭ ‬العربي‭ ‬في‭ ‬بعض‭ ‬الحالات‭ ‬تحت‭ ‬نير‭ ‬المحنتين‭!‬

استمرت‭ ‬مرحلة‭ ‬الاستبدادية‭ ‬العربية‭ ‬نصف‭ ‬قرن‭ ‬عنوانها‭ ‬البارز‭ ‬كبت‭ ‬الحريات،‭ ‬وقمع‭ ‬أي‭ ‬معارضة‭ ‬مهما‭ ‬كان‭ ‬لونها،‭ ‬ولم‭ ‬يقف‭ ‬الأمر‭ ‬عند‭ ‬الاستبداد‭ ‬السياسي،‭ ‬بل‭ ‬تولدت‭ ‬عنه‭ ‬في‭ ‬العقدين‭ ‬الأخيرين‭ ‬ظاهرتان‭ ‬جديدتان‭: ‬ظاهرة‭ ‬تفشي‭ ‬الفساد‭ ‬في‭ ‬القمة،‭ ‬واعتبار‭ ‬الوطن‭ ‬ابستانا‭ ‬لقريشب،‭ ‬وظاهرة‭ ‬التوريث،‭ ‬فليس‭ ‬من‭ ‬الصدفة‭ ‬إذن‭ ‬أن‭ ‬تنتشر‭ ‬الشرارة‭ ‬في‭ ‬الأقطار‭ ‬التي‭ ‬تفشت‭ ‬فيها‭ ‬الظاهرتان‭: ‬تونس،‭ ‬مصر،‭ ‬ليبيا،‭ ‬اليمن،‭ ‬سورية،‭ ‬وليس‭ ‬من‭ ‬الصدفة‭ ‬كذلك‭ ‬أن‭ ‬يتضمن‭ ‬شعار‭ ‬الثورة‭ ‬في‭ ‬تونس‭ ‬ثلاث‭ ‬كلمات‭ ‬االحرية‭ - ‬الكرامة‭ - ‬التشغيلب،‭ ‬فكلمة‭ ‬الكرامة‭ ‬جاءت‭ ‬تعبيرا‭ ‬عن‭ ‬الحقد‭ ‬الدفين‭ ‬ضد‭ ‬ظاهرتي‭ ‬الفساد،‭ ‬والتوريث،‭ ‬إنني‭ ‬أميل‭ ‬إلى‭ ‬الاعتقاد‭ ‬بأن‭ ‬الفساد،‭ ‬وبخاصة‭ ‬مخططات‭ ‬التوريث‭ ‬هما‭ ‬القشة‭ ‬التي‭ ‬قصمت‭ ‬ظهر‭ ‬البعير‭.‬

إنني‭ ‬حريص‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬المقام‭ ‬على‭ ‬التلميح‭ ‬إلى‭ ‬المسألتين‭ ‬التاليتين‭:‬

أولا‭: ‬إن‭ ‬كل‭ ‬ثورة‭ ‬لها‭ ‬ظروفها‭ ‬السياسية‭ ‬والاجتماعية،‭ ‬ولها‭ ‬منطقها‭ ‬الخاص‭.‬

ثانيا‭: ‬كل‭ ‬تجربة‭ ‬ديمقراطية‭ ‬ستمر‭ ‬بظروفها‭ ‬الخاصة،‭ ‬وسيكون‭ ‬لذلك‭ ‬أثر‭ ‬جلي‭ ‬في‭ ‬مستقبلها،‭ ‬وكي‭ ‬نستطيع‭ ‬التنبؤ‭ ‬بالمستقبل‭ ‬لا‭ ‬بد‭ ‬أن‭ ‬نضع‭ ‬أمام‭ ‬أعيننا‭ ‬القضايا‭ ‬المعقدة‭ ‬التي‭ ‬قذفت‭ ‬بها‭ ‬الثورات‭ ‬إلى‭ ‬السطح،‭ ‬وقد‭ ‬كانت‭ ‬مقموعة‭. ‬هذه‭ ‬القضايا‭ ‬تكاد‭ ‬تكون‭ ‬واحدة‭ ‬في‭ ‬أقطار‭ ‬الثورات‭ ‬العربية،‭ ‬ويمكن‭ ‬أن‭ ‬نلخصها‭ ‬في‭ ‬النقاط‭ ‬التالية‭:‬

‭- ‬انتعاش‭ ‬الروح‭ ‬القبلية‭ ‬والعشائرية‭.‬

‭- ‬إذكاء‭ ‬الروح‭ ‬الطائفية‭ ‬والمذهبية‭ ‬الدينية‭.‬

‭- ‬بروز‭ ‬الحقد‭ ‬الطبقي‭ ‬بإيديولوجية‭ ‬دينية‭.‬

‭- ‬انقسام‭ ‬النخبة‭ ‬السياسية‭ ‬والفكرية‭ ‬إلى‭ ‬تراثيين‭ ‬ماضويين،‭ ‬وحداثيين‭ ‬ديمقراطيين‭.‬

المواطن‭ ‬العربي‭ ‬والدولة

إن‭ ‬مواجهة‭ ‬هذه‭ ‬القضايا‭ ‬الجدية‭ ‬والمعقدة‭ ‬تحتاج‭ ‬إلى‭ ‬دولة‭ ‬مدنية‭ ‬قوية‭ ‬يحترمها‭ ‬المواطن‭ ‬ويهابها،‭ ‬ولكن‭ ‬من‭ ‬المعروف‭ ‬أن‭ ‬سنوات‭ ‬الاستبداد‭ ‬جعلت‭ ‬المواطن‭ ‬العربي‭ ‬يخاف‭ ‬من‭ ‬الدولة،‭ ‬ولا‭ ‬يحترمها،‭ ‬ملاحظا‭ ‬أن‭ ‬الدولة‭ ‬مفهوم‭ ‬هش‭ ‬في‭ ‬الفضاء‭ ‬العربي‭ ‬الإسلامي،‭ ‬فالدور‭ ‬الأساسي‭ ‬يعود‭ ‬اليوم‭ ‬إلى‭ ‬قوى‭ ‬المجتمع‭ ‬المدني‭ ‬لدعم‭ ‬الدولة‭ ‬الديمقراطية،‭ ‬وإعادة‭ ‬الاعتبار‭ ‬إليها،‭ ‬مذكرا‭ ‬هنا‭ ‬بما‭ ‬يلي‭:‬

1‭ ‬‭-‬‭ ‬المجتمع‭ ‬المدني‭ ‬ليس‭ ‬اموضةب،‭ ‬بل‭ ‬هو‭ ‬ضرورة‭ ‬للوقوف‭ ‬سدا‭ ‬منيعا‭ ‬أمام‭ ‬موجات‭ ‬الردة‭ ‬والرداءة،‭ ‬وللتصدي‭ ‬لكل‭ ‬محاولات‭ ‬احتكار‭ ‬السلطة،‭ ‬والانفراد‭ ‬بصنع‭ ‬القرار‭ ‬في‭ ‬قضايا‭ ‬مصيرية‭ ‬تمس‭ ‬مصلحة‭ ‬الوطن،‭ ‬وشئون‭ ‬المجتمع،‭ ‬فلا‭ ‬بد‭ ‬أن‭ ‬تسعى‭ ‬إذن‭ ‬قوى‭ ‬التحرر‭ ‬والتقدم‭ ‬في‭ ‬جميع‭ ‬المجتمعات،‭ ‬وخصوصا‭ ‬في‭ ‬المجتمعات‭ ‬العربية‭ ‬لدعم‭ ‬قوى‭ ‬المجتمع‭ ‬المدني،‭ ‬وصيانة‭ ‬هذا‭ ‬المفهوم‭ ‬وقيمه‭.‬

2‭ ‬‭-‬‭ ‬المجتمع‭ ‬المدني‭ ‬ليس‭ ‬بالضرورة‭ ‬نقيضا‭ ‬للدولة،‭ ‬أو‭ ‬معاديا‭ ‬لها،‭ ‬ولكن‭ ‬السؤال‭ ‬الذي‭ ‬يطرح‭ ‬نفسه‭ ‬هنا‭ ‬هو‭:‬

ما‭ ‬هي‭ ‬صبغة‭ ‬هذه‭ ‬الدولة؟‭ ‬فإذا‭ ‬كانت‭ ‬دولة‭ ‬ديمقراطية‭ ‬تقوم‭ ‬على‭ ‬مبدأ‭ ‬الشفافية،‭ ‬واحترام‭ ‬القانون،‭ ‬والمؤسسات‭ ‬الدستورية،‭ ‬فإنه‭ ‬يتم‭ ‬التعاون‭ ‬والتكامل‭ ‬بينها‭ ‬وبين‭ ‬قوى‭ ‬المجتمع‭ ‬المدني،‭ ‬أما‭ ‬إذا‭ ‬كانت‭ ‬دولة‭ ‬قامعة،‭ ‬فإن‭ ‬قوى‭ ‬المجتمع‭ ‬المدني‭ ‬تتحول‭ ‬بالضرورة‭ ‬إلى‭ ‬قوى‭ ‬معارضة‭.‬

3‭ ‬‭-‬‭ ‬تقف‭ ‬قوى‭ ‬المجتمع‭ ‬المدني‭ ‬بالمرصاد‭ ‬لكل‭ ‬جماعة‭ ‬تحاول‭ ‬احتكار‭ ‬السلطة‭ ‬العليا‭ ‬باسم‭ ‬حزب‭ ‬سياسي،‭ ‬أو‭ ‬طائفة،‭ ‬أو‭ ‬مذهب،‭ ‬وتتصرف‭ ‬في‭ ‬شئون‭ ‬الدولة،‭ ‬وكأنها‭ ‬بستان‭ ‬خاص،‭ ‬كما‭ ‬هو‭ ‬الحال‭ ‬في‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬المجتمعات‭ ‬النامية،‭ ‬ولذا‭ ‬فإنه‭ ‬من‭ ‬الخطأ‭ ‬عزل‭ ‬المجتمع‭ ‬المدني‭ ‬عن‭ ‬الصراع‭ ‬السياسي‭ ‬الذي‭ ‬يدور‭ ‬في‭ ‬مجتمع‭ ‬ما،‭ ‬فمن‭ ‬أبرز‭ ‬أهدافه‭ ‬النبيلة‭ ‬إلجام‭ ‬السلطة‭ ‬التي‭ ‬تحاول‭ ‬تجاوز‭ ‬الحدود،‭ ‬وتجاهل‭ ‬المصلحة‭ ‬العامة‭ ‬للمجتمع،‭ ‬فهو‭ ‬الذي‭ ‬يعوض‭ ‬صراع‭ ‬أصحاب‭ ‬المصالح،‭ ‬وأجنحة‭ ‬البلاط‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬السلطة‭ ‬وامتيازاتها‭ ‬بالصراع‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬الذود‭ ‬عن‭ ‬الحق،‭ ‬والقانون‭ ‬والمؤسسات‭.‬

4‭ ‬‭-‬‭ ‬تزعم‭ ‬القوى‭ ‬المعادية‭ ‬للمجتمع‭ ‬المدني‭ ‬أن‭ ‬القيادة‭ ‬العليا‭ ‬هي‭ ‬التي‭ ‬تقوم‭ ‬بالإصلاح،‭ ‬ويعنون‭ ‬ضمنيا‭ ‬أنها‭ ‬تقوم‭ ‬مقام‭ ‬المجتمع‭ ‬المدني،‭ ‬ولكن‭ ‬جميع‭ ‬التجارب‭ ‬التاريخية‭ ‬الحديثة‭ ‬قد‭ ‬برهنت‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬مرة‭ ‬أن‭ ‬الإصلاح‭ ‬لا‭ ‬يتم‭ ‬برغبات‭ ‬شخصية،‭ ‬بل‭ ‬لا‭ ‬بد‭ ‬من‭ ‬إشراك‭ ‬المجتمع‭ ‬بكل‭ ‬فئاته‭ ‬في‭ ‬ترشيد‭ ‬مسيرته،‭ ‬وتعزيز‭ ‬خطاه،‭ ‬وهذا‭ ‬يقتضي‭ ‬إزالة‭ ‬جميع‭ ‬العوائق‭ ‬السياسية‭ ‬والقانونية‭ ‬والأمنية‭ ‬التي‭ ‬تمنعه‭ ‬من‭ ‬المشاركة‭ ‬في‭ ‬عملية‭ ‬الإصلاح‭.‬

‭* * *‬

ألمحت‭ ‬قبل‭ ‬قليل‭ ‬إلى‭ ‬القضايا‭ ‬المعقدة‭ ‬التي‭ ‬طرحتها‭ ‬بحدة‭ ‬الثورات‭ ‬العربية،‭ ‬فهل‭ ‬يمكن‭ ‬الصمت‭ ‬هنا‭ ‬عن‭ ‬الظاهرة‭ ‬الأبرز،‭ ‬والأشد‭ ‬تعقيدا،‭ ‬والأكثر‭ ‬خطرا‭ ‬عن‭ ‬مستقبل‭ ‬الديمقراطية‭ ‬في‭ ‬الوطن‭ ‬العربي،‭ ‬وأعني‭ ‬الإسلام‭ ‬السياسي،‭ ‬وقد‭ ‬أوصلته‭ ‬الثورات‭ ‬إلى‭ ‬سدة‭ ‬الحكم‭ ‬عبر‭ ‬صناديق‭ ‬الاقتراع،‭ ‬وفرح‭ ‬المواطن‭ ‬العربي‭ ‬بقبول‭ ‬االحركات‭ ‬الإخوانيةب‭ ‬اللعبة‭ ‬الديمقراطية،‭ ‬وسرّ‭ ‬كذلك‭ ‬بإنصاف‭ ‬جمع‭ ‬كبير‭ ‬من‭ ‬المواطنين‭ ‬لقوا‭ ‬ظلما‭ ‬وعنتا‭ ‬شديدين‭ ‬من‭ ‬الاستبدادية‭ ‬العربية،‭ ‬وأمل‭ ‬أن‭ ‬يكونوا‭ ‬دعامة‭ ‬صلبة‭ ‬من‭ ‬دعائم‭ ‬بناء‭ ‬الديمقراطية‭ ‬بمفهومها‭ ‬الكوني‭ ‬الحداثي،‭ ‬وليس‭ ‬التراثي‭ ‬الماضوي،‭ ‬ولكن‭ ‬سرعان‭ ‬ما‭ ‬بدأت‭ ‬تتلبد‭ ‬سحب‭ ‬داكنة‭ ‬في‭ ‬الأفق‭ ‬الديمقراطي‭ ‬العربي‭ ‬نسفت‭ ‬الآمال،‭ ‬ونشرت‭ ‬روح‭ ‬الريبة‭ ‬والارتياب‭.‬

لماذا‭ ‬بدأ‭ ‬شبح‭ ‬الظلام‭ ‬يلف‭ ‬الأفق‭ ‬الديمقراطي‭ ‬العربي،‭ ‬وبدأت‭ ‬أحلام‭ ‬الأمس‭ ‬القريب‭ ‬تتهاوى‭ ‬اليوم؟‭ ‬

يكمن‭ ‬السبب‭ ‬الرئيسي‭ ‬في‭ ‬تنكر‭ ‬حركات‭ ‬الإسلام‭ ‬السياسي‭ ‬لمفهوم‭ ‬الدولة‭ ‬المدنية،‭ ‬وهي‭ ‬التي‭ ‬تمثل‭ ‬الرمز‭ ‬الأسمى‭ ‬والأسنى‭ ‬لكل‭ ‬تجربة‭ ‬ديمقراطية،‭ ‬بل‭ ‬ذهبت‭ ‬إلى‭ ‬أبعد‭ ‬من‭ ‬ذلك‭ ‬لما‭ ‬شرعت،‭ ‬ولما‭ ‬يمر‭ ‬على‭ ‬تسلمها‭ ‬السلطة‭ ‬سوى‭ ‬بضعة‭ ‬شهور،‭ ‬في‭ ‬بناء‭ ‬قواعد‭ ‬الدولة‭ ‬الدينية‭.‬

ماذا‭ ‬يعني‭ ‬أن‭ ‬تتبنى‭ ‬السلطة‭ ‬العليا‭ ‬في‭ ‬بلد‭ ‬مثل‭ ‬مصر‭ ‬تطبيق‭ ‬الشريعة‭ ‬؟‭ ‬أليس‭ ‬يعني‭ ‬ذلك‭ ‬الزج‭ ‬بالبلاد‭ ‬في‭ ‬أتون‭ ‬الفتنة‭ !‬

قد‭ ‬بدأت‭ ‬فعلا،‭ ‬وأصبحت‭ ‬القوى‭ ‬الموحدة‭ ‬التي‭ ‬أسقطت‭ ‬النظام‭ ‬السابق‭ ‬تتقاتل‭ ‬اليوم‭ ‬في‭ ‬صفين‭ ‬متقابلين،‭ ‬إذ‭ ‬إن‭ ‬الانزلاق‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬ذا‭ ‬طبيعة‭ ‬سياسية،‭ ‬وهو‭ ‬مقبول‭ ‬في‭ ‬مثل‭ ‬هذه‭ ‬الحالات،‭ ‬ولكنه‭ ‬جاء‭ ‬أخطر،‭ ‬ومنذرا‭ ‬بتقسيم‭ ‬المجتمع‭ ‬إلى‭ ‬جبهتين‭ ‬متصارعتين،‭ ‬فهو‭ ‬انزلاق‭ ‬ذو‭ ‬طابع‭ ‬ديني‭ ‬يخفي‭ ‬أهدافا‭ ‬سياسية،‭ ‬ولا‭ ‬علاقة‭ ‬له‭ ‬بثورة‭ ‬الشعب،‭ ‬ولا‭ ‬بالقضايا‭ ‬التي‭ ‬ثار‭ ‬من‭ ‬أجلها‭.‬

هل‭ ‬حدث‭ ‬ذلك‭ ‬صدفة‭ ‬؟

أشك‭ ‬كل‭ ‬الشك،‭ ‬إذ‭ ‬إن‭ ‬كثيرا‭ ‬من‭ ‬المؤشرات‭ ‬تبرهن‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬هنالك‭ ‬مخططا‭ ‬قد‭ ‬دبر‭ ‬بليل،‭ ‬وهو‭ ‬نفس‭ ‬الخطر‭ ‬الذي‭ ‬يهدد‭ ‬اليوم‭ ‬كثيرا‭ ‬من‭ ‬الأقطار‭ ‬العربية‭ ‬والإسلامية،‭ ‬مخطط‭ ‬يهدف‭ ‬بالأساس‭ ‬إلى‭ ‬تهميش‭ ‬قوى‭ ‬المجتمع‭ ‬المدني،‭ ‬والإطاحة‭ ‬بالدولة‭ ‬الحديثة،‭ ‬ونقل‭ ‬حيوية‭ ‬الصراع‭ ‬المجتمعي‭ ‬من‭ ‬حلبة‭ ‬الصراع‭ ‬السياسي‭ ‬والفكري‭ ‬إلى‭ ‬ساحة‭ ‬الصراع‭ ‬الديني‭.‬

ما‭ ‬العمل‭ ‬؟

الخطوة‭ ‬الأولى‭ ‬هي‭ ‬أن‭ ‬تتضافر‭ ‬جميع‭ ‬القوى‭ ‬الوطنية‭ ‬على‭ ‬اختلاف‭ ‬رؤاها‭ ‬لمنع‭ ‬الانزلاق‭ ‬في‭ ‬مستنقع‭ ‬الصراع‭ ‬الديني‭ ‬ليبقى‭ ‬الصراع‭ ‬سياسيا‭ ‬فكريا،‭ ‬ورفض‭ ‬كل‭ ‬محاولات‭ ‬الخلط‭ ‬بين‭ ‬السياسي‭ ‬والديني،‭ ‬والتمسك‭ ‬بالشعار‭ ‬الذي‭ ‬أنقذ‭ ‬كثيرا‭ ‬من‭ ‬الشعوب‭ ‬من‭ ‬المجازر‭ ‬والويلات‭: ‬االدين‭ ‬لله‭ ‬والوطن‭ ‬للجميعب‭.‬

‭* * *‬

هنا‭ ‬يطرح‭ ‬نفسه‭ ‬السؤال‭ ‬التالي‭:‬

ما‭ ‬الحل‭ ‬للخروج‭ ‬من‭ ‬المأزق‭ ‬الجديد،‭ ‬وإنقاذ‭ ‬أقطار‭ ‬الثورات‭ ‬العربية‭ ‬من‭ ‬الفوضى‭ ‬والتفكك؟

يكمن‭ ‬الحل‭ ‬أولا‭ ‬وقبل‭ ‬كل‭ ‬شيء‭ ‬في‭ ‬ضرورة‭ ‬التمسك‭ ‬بفصل‭ ‬الدين‭ ‬عن‭ ‬السياسة‭ ‬حتى‭ ‬لا‭ ‬يوظف‭ ‬الدين‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬أهداف‭ ‬سياسية،‭ ‬ولا‭ ‬السياسة‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬أهداف‭ ‬دينية‭.‬

قد‭ ‬يتساءل‭ ‬القارئ‭: ‬كيف‭ ‬ذلك؟

عندما‭ ‬توظف‭ ‬حركة‭ ‬سياسية‭ ‬المساجد‭ ‬والإعلام‭ ‬الديني‭ ‬في‭ ‬حملة‭ ‬انتخابية،‭ ‬فهو‭ ‬توظيف‭ ‬للدين‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬أهداف‭ ‬سياسية،‭ ‬ومن‭ ‬المعروف‭ ‬أن‭ ‬النظم‭ ‬الاستبدادية‭ ‬غارقة‭ ‬للأذقان‭ ‬في‭ ‬توظيف‭ ‬الدين،‭ ‬وقد‭ ‬سخرت‭ ‬رجاله،‭ ‬وبخاصة‭ ‬مؤسسات‭ ‬الإفتاء‭ ‬لتحريم‭ ‬المظاهرات‭ ‬الشعبية‭ ‬ضد‭ ‬السلطة‭.‬

أما‭ ‬توظيف‭ ‬الدين‭ ‬للسياسة‭ ‬فقد‭ ‬برز‭ ‬بوضوح‭ ‬في‭ ‬المجلسين‭ ‬التونسي‭ ‬والمصري‭ ‬بعد‭ ‬فوز‭ ‬الإسلام‭ ‬السياسي‭ ‬بالأغلبية‭ ‬للمطالبة‭ ‬بأن‭ ‬تكون‭ ‬الشريعة‭ ‬مصدرا‭ ‬أساسيا‭ ‬من‭ ‬مصادر‭ ‬التشريع،‭ ‬والأمثلة‭ ‬كثيرة‭ ‬من‭ ‬التوظيف‭ ‬بالمعنيين‭.‬

إن‭ ‬إيماني‭ ‬بضرورة‭ ‬النضال‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬فصل‭ ‬الدين‭ ‬عن‭ ‬السياسة‭ ‬ليس‭ ‬نابعا‭ ‬من‭ ‬موقف‭ ‬نظري‭ ‬بحت،‭ ‬بل‭ ‬من‭ ‬قراءة‭ ‬نقدية‭ ‬للفكر‭ ‬السياسي‭ ‬الإسلامي‭ ‬منذ‭ ‬مؤتمر‭ ‬سقيفة‭ ‬بني‭ ‬ساعدة‭ ‬حتى‭ ‬اليوم،‭ ‬المآسي‭ ‬الدموية‭ ‬التي‭ ‬عاشها‭ ‬المجتمع‭ ‬الإسلامي‭ ‬منذ‭ ‬الانتفاضة‭ ‬ضد‭ ‬الخليفة‭ ‬الراشدي‭ ‬الثالث‭ ‬عثمان‭ ‬بن‭ ‬عفان‭ (‬رضي‭ ‬الله‭ ‬عنه‭)‬،‭ ‬واغتياله،‭ ‬وهو‭ ‬يتلو‭ ‬القرآن‭ ‬إلى‭ ‬أفغانستان،‭ ‬والعراق،‭ ‬والسودان،‭   ‬والجزائر،‭ ‬والصومال،‭ ‬مرورا‭ ‬بموقعة‭ ‬الجمل،‭ ‬وصفين‭ ‬هي‭ ‬في‭ ‬نهاية‭ ‬الأمر‭ ‬نتيجة‭ ‬الصراع‭ ‬أو‭ ‬التحالف‭ ‬بين‭ ‬الدين‭ ‬والسياسة‭ ‬والمال‭.‬

‭* * *‬

لا‭ ‬مناص‭ ‬في‭ ‬نهاية‭ ‬هذا‭ ‬النص‭ ‬من‭ ‬الإشارة‭ ‬السريعة‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬يجري‭ ‬اليوم‭ ‬في‭ ‬أكبر‭ ‬قطر‭ ‬عربي،‭ ‬مصر‭ ‬فعندما‭ ‬يمعن‭ ‬المرء‭ ‬النظر‭ ‬فيه‭ ‬يلمس‭ ‬مخططا‭ ‬غريبا،‭ ‬فلما‭ ‬تصدى‭ ‬المجتمع‭ ‬المدني‭ ‬لمحاولات‭ ‬بناء‭ ‬نظام‭ ‬استبدادي‭ ‬جديد‭ ‬بمقولات‭ ‬إسلامية،‭ ‬وخشي‭ ‬الحكام‭ ‬الجدد‭ ‬أن‭ ‬تزلزل‭ ‬الأرض‭ ‬تحت‭ ‬أقدامهم‭ ‬هرولوا‭ ‬إلى‭ ‬واشنطن‭ ‬للتشاور‭ ‬مع‭ ‬الحليف‭ ‬القديم‭ ‬المتجدد‭.‬

من‭ ‬يدري‭ ‬لعلنا‭ ‬نفاجأ‭ ‬غدا‭ ‬بمخطط‭ ‬إسلامي‭ ‬أمريكي‭ ‬ينظر‭ ‬له‭ ‬بمقولة‭: ‬االديمقراطية‭ ‬المتأسلمةب‭ ‬بمباركة‭ ‬أمريكية؟‭ .