المَرْسَمُ الـحُر.. وطن التشكيل في الكويت

المَرْسَمُ الـحُر..  وطن التشكيل في الكويت

تتداعى الصور الذهنية في المخيِّلة قبل الولوج إلى مبنى المرسم الحر، فيستعيد العارف بإنجازات أعضاء المرسم علامات مضيئة في سماء التشكيل في الرسم أو النحت، وحينما تقترب أكثر نحو الباب الخشبي القديم للمرسم، تستجمع ما تسعفك ذاكرتك من استرجاعه من الإرث الضخم المرصَّع ببعض الإنجازات التشكيلية التي حققتها شخصيات رائدة في هذا المجال، حفرت لأسمائها مسارات تنير الدروب للآخرين في خريطة جدران المبنى، وعقب تجاوز بوابة ضيقة تؤدي إلى ممر طوله لا يتجاوز ثلاثة أمتار بسقف منخفض يستقر على جذع الشجر، تلفت انتباهك مراسم الفنانين التي احتضنت أعمالهم التي أبهرت المتلقي وشكَّلت علامة فارقة في تاريخ التشكيل المحلي.

 

ليست الجدران وحدها التي تحمل منجزات الفنانين، فقائمة منجزات هذا الصرح التشكيلي الذي أخلص له فنانوه ومنحوه جل وقتهم وبذلوا الجهد رغم صعوبة الإمكانات خلال حقبة الستينيات من القرن الفائت، رصَّعوا سماء الفن التشكيلي الكويتي بإنجازات تخطت سقف هذا المبنى وعانقت فضاء التشكيل العربي.
شكَّل إنشاء المرسم الحر في العام 1960 نقطة تحول في المشهد التشكيلي الكويتي، ولاسيما بعد اهتمام إدارة المعارف بالفن إيمانًا منها بأهمية دور الفنون في تطور المجتمع وارتقائه، وتم تجهيز المبنى بمسبك لإنجاز أعمال الفنانين، وكذلك ورش عمل أخرى يستطيع الفنانون من خلالها ممارسة عملهم بكل سهولة ويسر.
وبهذه الخطوة المتسقة مع نهضة مؤسسات الدولة الحديثة، بدأت مرحلة جديدة من مسيرة الفنون البصرية في الكويت، إذ جاء هذا الاحتضان وهذه الرعاية داعمين أساسيين في تأسيس نواة حقيقة تحتضن المواهب الفنية الواعدة بحثًا عن إيجاد حراك تشكيلي محلي تمتزج أطيافه بخبرات عربية وعالمية، تحقيقًا لأهداف منوعة منها المحافظة على الجمال والتراث الإنساني.

منارة تشكيلية
عقب تأسيس هذه المنارة التشكيلية، منحت الدولة مجموعة الفنانين نظام التفرُّغ الفني لتقديم أعمالهم وإثراء المشهد المحلي بفعاليات تشكيلية ترتقي بذائقة الجمهور، وجاء هذا الدعم والرعاية على فترات متباعدة، وقد كان أول الحاصلين على التفرُّغ الفني الفنان عيسى صقر، وتلاه كل من الفنانين خليفة القطان وسامي محمد وخزعل عوض القفاص وجاسم بوحمد وعبدالله القصار ومحمود الرضوان ومساعد فهد وصبيحة بشارة وسعاد العيسى وغيرهم، وقد اشترطت وزارة التربية والتعليم التي كانت تشرف إداريًا على المرسم الحر بعض المعايير لمنح ميزة التفرُّغ الفني، ومن يستوفِ هذه المقاييس يحصل على راتب شهري ومرسم خاص يمارس فيه إبداعه.

الأكثر قيمة
يقع مبنى المرسم الحر في أكثر الأمكنة الجغرافية قيمة في الكويت حيث شارع الخليج العربي، ومقابل مدخل سوق شرق، ويتكون من دور واحد وله ثلاث بوابات، وتتوزع الحجرات على محيط البيت وتفتح معظم النوافذ إلى الداخل حيث حوش البيت، ويعد البيت نموذجًا محتفظًا بملامح العمارة الكويتية المكرسة لتعايش أكثر من جيل تحت سقف أو ما يسمى بـ «بيت الحمولة». تعود ملكية البيت التي تبلغ مساحته 1937 مترًا مربعًا إلى عائلة الغانم، إذ كان بيتًا خاصًا لهذه العائلة منذ العام  1919 إلى العام 1951، ثم أجريت توسعة من ناحية الجنوب الشرقي، وعقب ظهور الشكل العمراني المتطور وانتقال أهل الكويت إلى المناطق السكنية الحديثة، قامت الدولة بتثمين البيت وضمه إلى مرافق دائرة المعارف، ولاحقًا انتقل المرسم الحر في العام 1972 من رعاية وزارة التربية إلى وزارة الإعلام، التي حرصت على دعم مسيرته من خلال تنظيم معارض خارجية للفنانين في الدول العربية والأجنبية للتعريف بالتشكيلي الكويتي، وعقب 22عاما انضم المرسم الحر إلى مرافق المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب.

دورات تدريبية
أشاع أقدم كيان تشكيلي في الكويت الإنتاج الفكري بطرق حديثة، مؤسسًا لحركة إبداعية ارتبط اسمها بالتطور والنمو، ناحتًا علامة فارقة في تاريخ التشكيل الخليجي والعربي، إذ احتضن المرسم الحر الموهوبين من الشباب، موفرا لهم المناخ المناسب لتقديم الإنتاج الفني ومكرسًا مفهومًا جديدًا للتعاطي مع الفنون، ويسعى بذلك إلى توثيق الروابط الفنية والصلات على مستوى الأفراد والهيئات الثقافية العربية والأجنبية، وكذلك عمد إلى تشجيع الفنانين على إقامة المعارض في مختلف القطاعات الفنية بعد صقل مواهبهم عبر دورات تدريبية تساهم في تثقيف المنتسبين إليها وتنويع مصادر المعرفة لديهم عبر دروس نظرية وتطبيقية تركز على طرق تنفيذ العمل الفني بمختلف أشكاله.

البداية
انبثقت فكرة إنشاء هذا الصرح من خلال اقتراح تقدم به الأستاذ حامد حميدة مفتش التربية الفنية آنذاك، آملا تخصيص مكان يمارس فيه الطلاب هواياتهم الفنية كالرسم والتصوير والنحت والخزف، وحينما سمع عبدالعزيز حسين – أحد رواد التنوير في الكويت - بهذه الفكرة لم يتردد في تبنيها ودعمها، مخصصا مدرسة قتيبة الابتدائية للبنين في منطقة المرقاب، وكانت تضم صالة كبيرة وبعض الحجرات الصغيرة، وعقب احتضان المرسم الحر مجموعة من الفنانين، بدأ يتسع إشعاعه ويحظى بمكانة مرموقة لدى محبي الفنون البصرية، ومع مرور الوقت أصبح وجهة لكل الهواة، ولاسيما أن البعض – آنذاك - لم يكن قادرًا على توفير الخامات اللازمة لممارسة هوايته.

طرق مبتكرة
يورد التشكيلي سامي محمد جانبًا من ذكرياته بشأن هذا الصرح التشكيلي، معتبرًا أن المرسم الحر شاهد على ريادة الكويت في مجال التشكيل خليجيًا، موضحًا أن هذا المكان يحمل في أروقته تفاصيل مهمة حدثت له برفقة ثلة من أعضاء جيل الرواد أو مؤسسي المرسم الحر الذي شهد تطورًا طيبًا للكويت في مجال التشكيل، كما يستدعي ذكريات جميلة عن مسبك البرونز في المرسم وطرق تنفيذ الأفكار، ولاسيما أن صَهر البرونز يحتاج إلى ابتكار أشكال جديدة ربما لا يستوعبها المكان، فيضطر الفنان المبدع إلى البحث عن طرق مبتكرة لا تكون مأمونة العواقب في معظم الأحيان، بينما يجزم بأن النتيجة حتما سترضي طموح الفنان، لأنه على أقل تقدير ترجم إحساسه ومشاعره بطريقة مرضية.

أطياف التشكيل
في لقاء مع الأمين العام المساعد لشئون الفنون والمسرح محمد العسعوسي، أكد ضرورة استمرار أنشطة المرسم الحر الذي يساهم في تطور الحركة التشكيلية محليًا، مشيدًا بتنظيم المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب فعاليات منوعة ترتقي بالعمل الفني وترفد الساحة المحلية بأطياف من التشكيل، ولاسيما أن فناني المرسم الحر يمثلون أجيالًا فنية متباينة وينخرطون في أعمال كثيرة كالرسم والخزف والنحت والحفر، معتبرًا أن هذه المؤسسة الفنية تحمل في طياتها ذاكرة الفن البصرية والتاريخية.
وبالنسبة إلى عمليات الترميم التي نفذها المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب في مبنى المرسم الحر،  يقول العسعوسي: «شهد المبنى توسعة وترميمات متفرقة على مدار مشواره، ولاسيما أن الإنشاء مضى عليه زهاء مائة عام، وهذه التدخلات ضرورية لإجراء تحسينات على الهيكل العام للمبنى لمواءمة الشكل الجديد لمتطلبات العصر الراهن دعما لمسيرة هذا الكيان الفني الذي يعد علامة بارزة في المشهد التشكيلي، وجرت مراعاة الحفاظ على القيمة التاريخية لهذا الشكل العمراني، لذلك حرص المجلس الوطني على تطابق إعادة التعمير مع طبيعة المكان».

أهمية تاريخية
ويلفت الفنان عبدالعزيز آرتي إلى أهمية دور المرسم الحر ثقافيًا، إذ إنه أصبح مزارًا لرعايا الدول الأجنبية الباحثين عن المعالم التراثية المحتفظة بشكل البناء التقليدي، رغبة في الاطلاع على شكل الحياة قديمًا والتعرف عن قرب على الطرق البدائية في التأقلم مع قسوة الطبيعة، ولاسيما أن ثمة زوارًا قد قرأوا عن تاريخ هذا المبنى وأهميته الفنية.

استمرار الفعاليات
بالنسبة لطموحات الفنانين في المرسم الحر - كما يقول التشكيلي علي نعمان - يأمل أعضاء المرسم في استمرار فعالياته على مدار العام، لتقديم نتاج بصري يرتقي إلى طموحاتهم ويجذب المتلقي من خلال أعمال تتناول موضوعات مهمة وتستند إلى مرجعيات تشكيلية منوعة، تجسد تطور أدوات الفنانين وتفرُّد رؤاهم الخاصة بلغة تشكيلية تخاطب وجدان المتلقي بعيدًا عن التعقيد، مشددًا على أن برنامج موسم المرسم الحر حافل بالأنشطة الفنية الموزعة بين المعارض الجماعية والفردية وكذلك الورش الفنية والدورات التدريبية.
ويركز المرسم الحر على تنظيم فعالياته ضمن إطار محدد، باحثًا عن سمات مشتركة في المعارض التشكيلية ووشائج فنية بين المعروضات، كما يسعى إلى تنظيم دورات متخصصة لتخريج دفعات من الموهوبين المؤهلين في مجال التشكيل (الرسم والنحت والخزف).

شيخ النحَّاتين
احتضن المرسم الحر عدداً كبيراً من الفنانين والهواة، وقد تجاوز عدد الأعضاء في أحد الأعوام المسجلين فيه 120 عضوا، وكان أول الفنانين الحاصلين على التفرُّغ الفني الفنان عيسى صقر، وهو نحات ورسَّام اشتهر بلقب شيخ النحَّاتين من مواليد العام 1940، درس التشكيل في كلية الفنون الجميلة في القاهرة (1962 - 1966)، وانخرط ضمن دورة تدريبية في معهد نيوجيرسي للتدريب على صب الحديد، حصل على جوائز منوعة خلال مشواره الفني في الكويت وخارجها، ترك إرثًا كبيرًا من نتاجه المنوع بين الرسم والنحت والخزف، وتقديرًا لهذا الجهد المميز سميت جائزة القرين للفنون التشكيلية باسمه، توفي في العام 2000 متأثرًا بمرضه في الولايات المتحدة الأمريكية.

ابتكار
أما زميله الفنان خليفة القطان (1934- 2003)، فيعتبر أول فنان كويتي ينظم معرضًا فنيًا شخصيًا في العام 1953، حاصل على شهادة تقنيات في مجال النجارة من معهد ليستر في بريطانيا، وعقب عودته إلى الكويت التحق بمعهد التكنولوجيا، وفي العام 1960 انضم إلى المرسم الحر، ثم حصل على التفرُّغ الفني، ابتكر نظرية الدائرية في الرسم وهي اتجاه تعتمده الدراما الإنسانية أساسًا لها وهو يقوم على الفلسفة. في العام 1967 رشح إلى منصب أول رئيس للجمعية الكويتية للفنون التشكيلية، كما أن له مساهمات مهنية وإدارية أخرى، إذ كان أحد الأعضاء المؤسسين للاتحاد العام للفنانين التشكيليين العرب عام 1972.

مشوار ممتد
من أوائل الفنانين الذين نالوا منحة التفرُّغ الفني التشكيلي عبدالله القصار (1941-2003)، وعقب حصوله على التفرُّغ شدّ الرحال إلى القاهرة للدراسة في كلية الفنون الجميلة بالقاهرة وبعد حصوله على الشهادة عاد إلى الكويت ليتم تعيينه أمينًا عامًا للمرسم الحر (1971-1982)، شارك في العديد من المعارض الفنية التي نظمتها الجمعية الكويتية للفنون التشكيلية داخل الكويت وخارجها، كما شارك في معارض الفنانين المتفرغين بالمرسم الحر، وقّع عقد احتكار مع المتعهد الفرنسي هرفي أو درمات في إحدى صالات الفن بفرنسا لمدة سنتين (1973-1975)، وحصل على مجموعة جوائز منها جائزة الرسم الأولى في مرسم الأقصر في جمهورية مصر العربية في العام 1965، وكذلك الجائزة الثانية في إحدى دورات بينالي القاهرة الدولي، كما نال جائزة الدولة التشجيعية. 

تجربة مختلفة
الفنان سامي محمد مولود في منطقة شرق في دولة الكويت في العام 1943، بدأ شغفه بالفن منذ الصغر واتجه إلى ممارسته في البيت والمدرسة، مستخدما صخر البحر والطين، مكتسبا من هذه التجارب العملية طرقًا منوعة في التعامل مع المواد الخام، ومن أبرز الأعمال التي أنجزها بمعية مجموعة من الطلاب عمل فني نحتي جماعي في المدرسة تخليدًا لذكرى العدوان الثلاثي على مصر في العام 1956، وعقب ذلك بخمسة أعوام انخرط ضمن سلسلة دروس تأهيلية في المرسم الحر، ثم حصل على التفرُّغ الفني، التحق بكلية الفنون الجميلة في مصر لدراسة فن النحت وكذلك فن الرسم والوسائط التشكيلية، ولم يشأ الفنان سامي محمد الاكتفاء بما ناله من شهادات علمية وخبرة عملية، مفضلًا دراسته في مدينة برنستون - ولاية نيوجرسي - في الولايات المتحدة الأمريكية، ملتحقًا بمعهد ومحترف جونسون التقنيّ للنحت، شارك في لجان تحكيم متنوّعة محليًا وعربيًا، حققت أعماله انتشارًا كبيرًا، إذ بيعت منحوتة «لحظة خروج» بمبلغ 38 ألف دولار في صالة المزادات العالمية «كريستي» في دبي، وكذلك بيعت له أعمال أخرى منها منحوتة «صبرا وشاتيلا» بمبلغ 65 ألف دولار أمريكي، وفي العام 2010 حاز جائزة الإبداع الفني التي تمنحها مؤسسة الفكر العربي.

تفوق وجوائز
الفنان خزعل عوض القفاص ولد في العام 1944 ومنح التفرغ في المرسم الحر في العام 1963، درس النحت في كلية الفنون الجميلة في القاهرة (1966- 1970)، وحصل على بكالوريوس فنون جميلة من كلية الفنون الجميلة في سان فرانسيسكو بالولايات المتحدة الأمريكية في العام 1977، كما درس في أميركا طرق صب البرونز في معهد جانسون في نيوجرسي في العام 1981. نال جوائز كثيرة منها الشراع الذهبي في المعرض الخامس للفنانين التشكيليين العرب في العام 1977، كما حصل على جوائز أخرى محلية منها الجائزة الأولى في معرض الجمعية الكويتية للفنون التشكيلية في العام 1974، وشارك في معارض منوعة في اليونان وفرنسا وإيطاليا وإسبانيا وبلغاريا ومصر والعراق والمغرب.

حالة متفردة
ومن الفنانات اللائي حصلن على التفرُّغ الفني التشكيلية صبيحة بشارة، وهي تركز في عملها على المرأة, مجسدة حالات إنسانية متنوعة تعانيها من علاقاتها بالآخرين، والمعروف أيضًا أنها حاصلة على البكالوريوس من كلية الفنون الجميلة في العام 1972، ثم درست فن الجرافيك في فرنسا، وعقب ذلك بعام، انضمت إلى المرسم الحر متفرغة للفن، وخاضت في مجالات النحت والتصوير الزيتي والتصوير المائي، وأيضا في الصياغة وتصميم المجوهرات ■

 

صورة أرشيفية للمرسم الحر

 

من أعمال الفنان حسين مسيب الذي انضم إلى شباب المرسم الحر في العام 1961