الهوية الثقافية... عودة أم مسار؟

الهوية الثقافية... عودة أم مسار؟

تخيم‭ ‬على‭ ‬الوضع‭ ‬الراهن‭ ‬المخاوف‭ ‬والشكوك‭ ‬إزاء‭ ‬تهديد‭ ‬شبكات‭ ‬العولمة‭ ‬المتعدية‭ ‬للأقطار،‭ ‬وسياسة‭ ‬العولمة‭ ‬وما‭ ‬ترتب‭ ‬عليها‭ ‬من‭ ‬تهديد‭ ‬للأمن‭ ‬القومي‭ ‬والخضوع‭ ‬إلى‭ ‬الرقابة‭ ‬الدولية‭. ‬كما‭ ‬أفضى‭ ‬ذيوع‭ ‬وسائل‭ ‬الاتصال‭ ‬الرقمية‭ ‬إلى‭ ‬تهميش‭ ‬الثقافات‭ ‬المحلية،‭ ‬مما‭ ‬استثار‭ ‬النعرة‭ ‬القومية‭ ‬المتشددة،‭ ‬وزاد‭ ‬من‭ ‬تمسك‭ ‬القوميين‭ ‬بمزاعم‭ ‬الهوية‭ ‬المتأصلة‭. ‬ففي‭ ‬محاولة‭ ‬الهروب‭ ‬من‭ ‬القهر‭ ‬الأوربي‭ ‬أفضت‭ ‬بعض‭ ‬التوجهات‭ ‬القومية‭ ‬والنزعة‭ ‬الماضوية‭ ‬التي‭ ‬تشكل‭ ‬الخطاب‭ ‬المناهض‭ ‬للمركزية‭ ‬الغربية‭ ‬‭- ‬أفضت‭ ‬إلى‭ ‬الارتداد‭ ‬لماض‭ ‬سحيق‭ ‬ترتب‭ ‬عليه‭ ‬تشييد‭ ‬كولونيالية‭ ‬محلية‭ ‬تتخفى‭ ‬وراء‭ ‬المزاعم‭ ‬‮«‬الروحانية‮»‬‭ ‬لتغدو‭ ‬‮«‬الطهارة‭ ‬المحلية‮»‬‭ ‬ذريعة‭ ‬لإحياء‭ ‬الخطاب‭ ‬الأصولي‭.‬

أثارت‭ ‬تلك‭ ‬التوجهات‭ ‬المتشددة‭ ‬عدة‭ ‬تساؤلات‭ ‬حول‭ ‬كيفية‭ ‬الموازنة‭ ‬بين‭ ‬مسئولياتنا‭ ‬إزاء‭ ‬إنعاش‭ ‬الهوية‭ ‬الثقافية‭ ‬دون‭ ‬الانقطاع‭ ‬عن‭ ‬العالم،‭ ‬وكيفية‭  ‬الابتعاد‭ ‬عن‭ ‬الحنين‭ ‬الرومانسي،‭ ‬الذي‭ ‬يتغاضى‭ ‬عما‭ ‬عانته‭ ‬المجتمعات‭ ‬كافة‭ ‬من‭ ‬مشكلات‭ ‬القهر‭ ‬قبل‭ ‬مجيء‭ ‬الاستعمار‭ ‬الغربي،‭ ‬ذلك‭ ‬لتمكين‭ ‬الثقافة‭ ‬القومية‭ ‬من‭ ‬مواجهة‭ ‬العولمة‭.‬

الفرضيات‭ ‬المطروحة‭  ‬لتعريف‭ ‬الهوية‭ ‬الثقافية

الهدف‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬الورقة‭ ‬هو‭ ‬إثارة‭ ‬التساؤلات‭ ‬حول‭ ‬طبيعة‭ ‬الهوية‭ ‬الثقافية‭ ‬ذ‭ ‬خاصة‭ ‬ونحن‭ ‬في‭ ‬أزمنة‭ ‬التحول‭ ‬ذ‭ ‬فهل‭ ‬لتأكيد‭ ‬الهوية‭ ‬الثقافية‭ ‬وتمثيلها‭ ‬على‭ ‬الساحة‭ ‬العالمية،‭ ‬علينا‭ ‬بالعودة‭ ‬للماضي‭ ‬لبعث‭ ‬الجذور،‭ ‬وأي‭ ‬ماض‭ ‬نعود‭ ‬إليه،‭ ‬وهل‭ ‬هناك‭ ‬قراءة‭ ‬واحدة‭ ‬ثابتة‭ ‬للماضي؟‭ ‬الاحتمال‭ ‬الآخر‭ ‬يطرح‭ ‬قراءة‭ ‬الماضي‭ ‬من‭ ‬منظور‭ ‬الحاضر،‭ ‬أي‭ ‬حضرنة‭ ‬الماضي‭ ‬بمراجعته‭ ‬لتعرية‭ ‬التناقضات‭ ‬الكامنة‭ ‬به،‭ ‬وفي‭ ‬طبقات‭ ‬المعرفة‭ ‬التي‭ ‬تشكلت‭ ‬بموجبها‭ ‬الهوية‭ ‬بتفاعلها‭ ‬وفقا‭ ‬للمسار‭ ‬التاريخي‭ ‬الذي‭ ‬عايشته‭.‬

فرضية‭ ‬الأصول‭ ‬الجذرية‭ ‬والعودة‭ ‬إليها

والهوية‭ ‬المتأصلة‭ ‬التي‭ ‬يتمسك‭ ‬بها‭ ‬القوميون‭ ‬والمتشددون‭ ‬تعد‭ ‬الآن‭ ‬جزءا‭ ‬من‭ ‬االسرديات‭ ‬الكبرىب‭ ‬التي‭ ‬اتفق‭ ‬المفكرون‭ ‬منذ‭ ‬الثمانينيات‭ ‬من‭ ‬القرن‭ ‬الماضي‭ ‬على‭ ‬نقضها،‭ ‬سواء‭ ‬كانوا‭ ‬من‭ ‬منظري‭ ‬ما‭ ‬بعد‭ ‬الحداثة‭ ‬في‭ ‬عالم‭ ‬الشمال‭ ‬أو‭ ‬ما‭ ‬بعد‭ ‬الكولونيالية‭ ‬في‭ ‬عالم‭ ‬الجنوب،‭ ‬لتيقنهم‭ ‬بأن‭ ‬سلبيات‭ ‬الفكر‭ ‬الأحادي‭ ‬الكامن‭ ‬وراء‭ ‬تلك‭ ‬االسردياتب‭. ‬فقد‭ ‬انشغل‭ ‬القوميون‭ ‬والمتشددون‭ ‬بكيفية‭ ‬إدماج‭ ‬الكل‭ ‬في‭ ‬واحد،‭ ‬متجاهلين‭ ‬التنوع‭ ‬الثقافي،‭ ‬ومتأففين‭ ‬من‭ ‬الثقافة‭ ‬الشعبية،‭ ‬ومتغافلين‭ ‬عن‭ ‬استحالة‭ ‬اكتمال‭ ‬الذات‭ ‬خارج‭ ‬إطار‭ ‬علاقتها‭ ‬بالآخر‭ ‬الكامن‭ ‬بها‭. ‬فالتحرر‭ ‬من‭ ‬الهيمنة‭ ‬الغربية‭ ‬لا‭ ‬يتحقق‭ ‬بفرض‭ ‬الهيمنة‭ ‬على‭ ‬الثقافة‭ ‬المحلية،‭ ‬فالحرية‭ ‬كما‭ ‬يذهب‭ ‬Etienne Balibar‭ ‬هي‭ ‬االحق‭ ‬في‭ ‬مساواة‭ ‬الاختلافب،‭ ‬وليس‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬تحييد‭ ‬للاختلاف‭ ‬أو‭ ‬تعميمه‭ ‬في‭ ‬المطلق،‭ ‬بل‭ ‬تحقيق‭ ‬للمساواة‭ ‬بوصفها‭ ‬التكامل‭ ‬والتبادل‭ ‬بين‭ ‬الخصوصيات‭. ‬فلا‭ ‬تعد‭ ‬المساواة‭ ‬والحقوق‭ ‬مسلمات‭ ‬جاهزة‭ ‬الصنع،‭ ‬بل‭ ‬توجد‭ ‬بممارسة‭ ‬حرية‭ ‬التعبير‭ ‬والاعتراف‭ ‬بحق‭ ‬الاختلاف‭. ‬يتطلب‭ ‬ذلك‭ ‬القدرة‭ ‬على‭ ‬تفهم‭ ‬رؤى‭ ‬الغير‭ ‬والتفاعل‭ ‬معها‭. ‬

يهدف‭ ‬الاعتراف‭ ‬بالاختلاف‭ ‬إلى‭ ‬إيجاد‭ ‬نقطة‭ ‬التقاء‭ ‬جديدة،‭ ‬وهذا‭ ‬بدوره‭ ‬يتطلب‭ ‬إنماء‭ ‬سردية‭ ‬مؤسسة،‭ ‬تتبنى‭ ‬الثقافة‭ ‬المحلية‭ ‬في‭ ‬تنوعها‭ ‬وأوجه‭ ‬تباينها،‭ ‬ففي‭ ‬ذلك‭ ‬ما‭ ‬يثريها‭ ‬على‭ ‬الساحة‭ ‬العالمية‭. ‬وسوف‭ ‬تغدو‭ ‬تلك‭ ‬السردية‭ ‬مغايرة‭ ‬للسرديات‭ ‬الكبرى‭ ‬التي‭ ‬أفرزتها‭ ‬الأنظمة‭ ‬الشمولية‭ ‬والأصولية‭ ‬وما‭ ‬كان‭ ‬لها‭ ‬من‭ ‬عواقب،‭ ‬لكون‭ ‬الأخيرة‭ ‬أحادية‭ ‬الهدف‭. ‬أما‭ ‬السردية‭ ‬التي‭ ‬تتبنى‭ ‬احتواء‭ ‬التنوع‭ ‬في‭ ‬الهوية‭ ‬الثقافية‭ ‬فتعد‭ ‬من‭ ‬السرديات‭ ‬اللازمة‭ ‬لتبني‭ ‬المشاريع‭ ‬الهادفة،‭ ‬ووضع‭ ‬الأسس‭ ‬التي‭ ‬تمنح‭ ‬المرجعية‭ ‬التاريخية‭ ‬لتوطين‭ ‬الأفراد‭ ‬وتوظيفهم‭ ‬في‭ ‬مشاريع‭ ‬هادفة‭. ‬ويتناقض‭ ‬هذا‭ ‬التوجه‭ ‬مع‭ ‬المفهوم‭ ‬القومي‭ ‬المنغلق‭  ‬الذي‭ ‬أدى‭ ‬تشدده‭ ‬إلى‭ ‬تنميط‭ ‬الهوية‭ ‬بالتركيز‭ ‬على‭ ‬إحدى‭ ‬العلامات‭ ‬الثقافية‭ ‬دون‭ ‬غيرها،‭ ‬متجاهلا‭ ‬كيفية‭ ‬تشكل‭ ‬الهوية‭ ‬الثقافية‭ ‬عبر‭ ‬تشابك‭ ‬وتداخل‭ ‬المسارات‭ ‬الثقافية‭ ‬عبر‭ ‬الأزمنة‭ ‬التاريخية‭ ‬المتعددة‭. ‬

وعلينا‭ ‬الوعي‭ ‬بالفرق‭ ‬البين‭ ‬بين‭ ‬مفاهيم‭ ‬الدولة‭ ‬والجماعات‭ ‬المتشددة‭ ‬المحدود‭ ‬للهوية‭ ‬القومية،‭ ‬والمفهوم‭ ‬الأكثر‭ ‬رحابة‭ ‬في‭ ‬مصطلح‭ ‬االهوية‭ ‬الثقافيةب‭. ‬تسعى‭ ‬الدولة‭ ‬لفرض‭ ‬هوية‭ ‬تتحدد‭ ‬بسياساتها‭ ‬وأنساقها‭ ‬الفكرية‭ ‬الأحادية،‭ ‬متسلحة‭ ‬بمزاعم‭ ‬الوحدة‭ ‬الوطنية،‭ ‬ذلك‭ ‬لطمس‭ ‬الملامح‭ ‬الثقافية‭ ‬الأخرى‭ ‬الكامنة‭ ‬في‭ ‬الهوية‭ ‬والتي‭ ‬لا‭ ‬تخدم‭ ‬مشروعها‭ ‬السياسي‭. ‬وربما‭ ‬قد‭ ‬جاءت‭ ‬هذه‭ ‬السياسة‭ ‬بالفائدة‭ ‬حينما‭ ‬كانت‭ ‬البلدان‭ ‬ترزح‭ ‬تحت‭ ‬وطأة‭ ‬المحتل‭ ‬الأجنبي،‭ ‬ولكنها‭ ‬استغلت‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬حكومات‭ ‬ما‭ ‬بعد‭ ‬الاستقلال‭ ‬لتشديد‭ ‬قبضتها‭ ‬على‭ ‬الشعوب‭. ‬لذا،‭ ‬تختلف‭ ‬دلالة‭ ‬االقوميةب‭ ‬عند‭ ‬استخدام‭ ‬المصطلح‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬الدولة‭ ‬ذات‭ ‬الرؤية‭ ‬الأحادية،‭ ‬عن‭ ‬الدلالة‭ ‬التي‭ ‬تشير‭ ‬إلى‭ ‬ثقافة‭ ‬التنوع‭ ‬في‭ ‬مفهوم‭ ‬االقوميةب‭. ‬

في‭ ‬هذه‭ ‬الحالة‭ ‬ينبغي‭ ‬الفصل‭ ‬بين‭ ‬دور‭ ‬الدولة‭ ‬والجماعات‭ ‬المتشددة‭ ‬المؤسسة‭ ‬على‭ ‬الفكر‭ ‬السلطوي‭ ‬المنغلق،‭ ‬والساعية‭ ‬لحماية‭ ‬الهوية‭ ‬بتنميطها‭ ‬في‭ ‬وجه‭ ‬ثقافي‭ ‬أحادي،‭ ‬وبين‭ ‬طبيعة‭ ‬الثقافة‭ ‬القومية‭ ‬التي‭ ‬تتسم‭ ‬بالتعددية‭ ‬والتنوع‭. ‬ففي‭ ‬تشجيع‭ ‬التنوع‭ ‬ما‭ ‬ينمي‭ ‬القدرة‭ ‬على‭ ‬التواصل‭ ‬بين‭ ‬الجماعات‭ ‬على‭ ‬المستوى‭ ‬القومي،‭ ‬ومن‭ ‬ثم‭ ‬التواصل‭ ‬بين‭ ‬الثقافات‭ ‬الأخرى‭ ‬على‭ ‬المستوى‭ ‬العالمي،‭ ‬ودون‭ ‬اكتساب‭ ‬تلك‭ ‬القدرة‭ ‬على‭ ‬التواصل‭ ‬مع‭ ‬الآخر،‭ ‬يستحيل‭ ‬للثقافة‭ ‬العربية‭ ‬إيجاد‭ ‬موضع‭ ‬للتمثيل‭ ‬في‭ ‬الثقافة‭ ‬العالمية‭.‬

وبناء‭ ‬عليه،‭ ‬حينما‭ ‬تتسم‭ ‬سياسة‭ ‬الدولة‭ ‬بالأحادية‭ ‬تتفق‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الحالة‭ ‬وسياسة‭ ‬الأمركة‭ ‬التي‭ ‬تؤكد‭ ‬على‭ ‬الأنساق‭ ‬الثقافية‭ ‬الأحادية‭ ‬المنمطة،‭ ‬لدعم‭ ‬سياستها‭ ‬الاقتصادية‭ ‬الاستهلاكية‭ ‬الساعية‭ ‬إلى‭ ‬أمركة‭ ‬العالم‭. ‬فقد‭ ‬يكون‭ ‬في‭ ‬تجديد‭ ‬مفهوم‭ ‬الهوية‭ ‬الثقافية‭ ‬دور‭ ‬إيجابي‭ ‬في‭ ‬حماية‭ ‬الخصوصية‭ ‬الثقافية‭ ‬من‭ ‬محاولات‭ ‬اليمين‭ ‬لتفريغها‭ ‬من‭ ‬مضمونها‭ ‬وتفتيتها‭ ‬في‭ ‬شكل‭ ‬مشاريع‭ ‬خاصة‭ ‬تتفق‭ ‬وجماليات‭ ‬السوق‭.‬

كيفية‭ ‬التفاعل‭ ‬مع‭ ‬الآخر

بات‭ ‬هناك‭ ‬قلق‭ ‬عام‭ ‬بين‭ ‬المفكرين‭ ‬العرب‭ ‬من‭ ‬الانخراط‭ ‬الاقتصادي‭ ‬والثقافي‭ ‬في‭ ‬النظام‭ ‬العالمي‭ ‬الجديد،‭ ‬ورغبة‭ ‬عارمة‭ ‬في‭ ‬مقاومته،‭ ‬في‭ ‬حين‭ ‬يظل‭ ‬البحث‭ ‬عن‭ ‬بدائل‭ ‬للعولمة‭ ‬متناقضا‭ ‬في‭ ‬مسعاه،‭ ‬وتظل‭ ‬احتمالات‭ ‬التفاعل‭ ‬مع‭ ‬الآخر‭ ‬متخبطة‭ ‬لتعدد‭ ‬التوجهات‭. ‬فهناك‭ ‬تناقض‭ ‬بين‭ ‬العاملين‭ ‬في‭ ‬الحقل‭ ‬الثقافي‭ ‬المتصلين‭ ‬بالجماعات‭ ‬داخل‭ ‬الوطن،‭ ‬والمثقفين‭ ‬المتصلين‭ ‬بالثقافات‭ ‬العالمية‭ ‬سواء‭ ‬أقاموا‭ ‬في‭ ‬الوطن‭ ‬أو‭ ‬في‭ ‬المنافي،‭ ‬حيث‭ ‬تثير‭ ‬فكرة‭ ‬تلاقح‭ ‬الثقافات‭ ‬المخاوف‭ ‬من‭ ‬طمس‭ ‬الهوية‭ ‬الثقافية‭. ‬وربما‭ ‬إحدى‭ ‬المعالجات‭ ‬لهذه‭ ‬الأزمة‭ ‬هي‭ ‬اعتبار‭ ‬االمنفىب‭ ‬دلالة‭ ‬لا‭ ‬تعني‭ ‬الخروج‭ ‬من‭ ‬الوطن،‭ ‬بل‭ ‬الرغبة‭ ‬في‭ ‬عدم‭ ‬االتوطنب‭ ‬ذ‭ ‬أي‭ ‬الاستكانة‭ - ‬والالتزام‭ ‬بالموقف‭ ‬االبرانيب‭ ‬داخل‭ ‬الوطن‭ ‬أو‭ ‬خارجه‭. ‬من‭ ‬هذا‭ ‬المنطلق،‭ ‬تصير‭ ‬محاولة‭ ‬الحفاظ‭ ‬على‭ ‬الهوية‭ ‬الثقافية‭ ‬بتنوعها‭ ‬محاولة‭ ‬ضدية‭ ‬أو‭ ‬ابرانيةب‭ ‬لمواجهة‭ ‬الإيديولوجية‭ ‬المنغلقة‭ ‬سواء‭ ‬روجتها‭ ‬الدولة‭ ‬أو‭ ‬الجماعات‭ ‬المتشددة‭ ‬بأحاديتها‭ ‬التي‭ ‬أتت‭ ‬بنتائج‭ ‬سلبية‭. ‬أفرز‭ ‬هذا‭ ‬الموقف‭ ‬البراني‭ ‬أعمالا‭ ‬إبداعية‭ ‬طليعية‭ ‬على‭ ‬مدار‭ ‬الأزمنة،‭ ‬عملت‭ ‬على‭ ‬تنشيط‭ ‬الفكر‭ ‬الضدي‭. ‬والبرانية‭ ‬أو‭ ‬الضدية‭ ‬لا‭ ‬تمثلان‭ ‬أهدافا‭ ‬مطلقة‭ ‬بل‭ ‬محاولات‭ ‬لتجديد‭ ‬الفكر،‭ ‬وتحقيق‭ ‬الحداثة‭ ‬في‭ ‬الإبداع‭ ‬والاختراع‭ ‬للمساهمة‭ ‬في‭ ‬إنماء‭ ‬ثقافة‭ ‬عالمية‭ ‬تتساوى‭ ‬فيها‭ ‬فرص‭ ‬التمثيل‭ ‬للقوميات‭ ‬كافة،‭ ‬ومن‭ ‬هنا‭ ‬يمكن‭ ‬إيجاد‭ ‬بدائل‭ ‬للعولمة‭.‬

يغدو‭ ‬العيش‭ ‬في‭ ‬حالة‭ ‬االمنفيب‭ ‬ذ‭ ‬أو‭ ‬العيش‭ ‬في‭ ‬موقع‭ ‬بيني‭ ‬يبتعد‭ ‬عن‭ ‬النعرة‭ ‬الحزبية،‭ ‬أو‭ ‬التكتلات‭ ‬العرقية‭ - ‬سواء‭ ‬كان‭ ‬في‭ ‬الوطن‭ ‬الأم‭ ‬أو‭ ‬خارجه،‭ ‬موقعا‭ ‬للمثقف‭ ‬االثالثيب،‭ ‬أو‭ ‬الهوية‭ ‬االبينيةب‭ ‬أو‭ ‬االمركبةب،‭ ‬وبات‭ ‬موقعا‭ ‬لمساءلة‭ ‬ماهية‭ ‬الوطن‭ ‬والمسكن‭ ‬بوصفهما‭ ‬مسلمات،‭ ‬وهذا‭ ‬الموقع‭ ‬المفترض‭ ‬ليس‭ ‬موضعا‭ ‬للهروب‭ ‬أو‭ ‬الاحتماء‭ ‬بل‭ ‬موقع‭ ‬لنقد‭ ‬المؤسسات‭ ‬الكبرى‭ ‬ذ‭ ‬محلية‭ ‬كانت‭ ‬أو‭ ‬عالمية‭ - ‬المهيمنة‭ ‬على‭ ‬الحياة‭ ‬المعاصرة‭. ‬يفضي‭ ‬ذلك‭ ‬الموقع‭ ‬البيني‭ ‬إلى‭ ‬موقف‭ ‬يتصدى‭ ‬للتكتلات،‭ ‬ليتحالف‭ ‬مع‭ ‬المهمشين‭ ‬لما‭ ‬تنطوي‭ ‬عليه‭ ‬ثقافاتها‭ ‬من‭ ‬إمكانات‭ ‬تهيئ‭ ‬الخيال‭ ‬لتقبل‭ ‬معايير‭ ‬أخلاقية‭ ‬جديدة‭ ‬تمهد‭ ‬للتعايش‭ ‬بين‭ ‬البشر،‭ ‬ففي‭ ‬التفاعل‭ ‬مع‭ ‬إبداع‭ ‬الأقلية‭ ‬المهمشة‭ ‬نقض‭ ‬للثقافة‭ ‬المهيمنة‭ ‬التي‭ ‬تجتاح‭ ‬الساحة‭.‬

ومن‭ ‬هذا‭ ‬المنطلق‭ ‬يغدو‭ ‬المبدع‭ ‬أو‭ ‬الممارس‭ ‬في‭ ‬الحقل‭ ‬الثقافي‭ ‬فاعلا‭ ‬باستيعابه‭ ‬التفاعل‭ ‬بين‭ ‬الثقافة‭ ‬المهيمنة‭ ‬المتسلحة‭ ‬بتراث‭ ‬ينحدر‭ ‬من‭ ‬إحدى‭ ‬الحقب‭ ‬الزمنية،‭ ‬والثقافات‭ ‬المهمشة،‭ ‬والتي‭ ‬لا‭ ‬ترتبط‭ ‬بالضرورة‭ ‬بثقافة‭ ‬الأقليات‭ ‬العرقية‭ ‬أو‭ ‬العقائدية،‭ ‬فالمهمش‭ ‬يشير‭ ‬إلى‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬يخرج‭ ‬عن‭ ‬الثقافة‭ ‬المهيمنة‭ ‬سواء‭ ‬انتمى‭ ‬إلى‭ ‬الثقافة‭ ‬الشعبية‭ ‬أو‭ ‬الطليعية،‭ ‬وغالبا‭ ‬ما‭ ‬يصعب‭ ‬تحديد‭ ‬المهمش‭ ‬بنسبه‭ ‬إلى‭ ‬جذور‭ ‬تاريخية‭ ‬محددة،‭ ‬حيث‭ ‬قد‭ ‬تم‭ ‬تشكله‭ ‬بفعل‭ ‬خيال‭ ‬حر‭ ‬تفاعل‭ ‬مع‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬سايره‭ ‬على‭ ‬مدار‭ ‬الأزمنة‭. ‬ولكن‭ ‬العبرة‭ ‬ليست‭ ‬برفض‭ ‬الوطن‭ ‬الجغرافي،‭ ‬أو‭ ‬الأخذ‭ ‬بالتعددية‭ ‬الثقافية‭ ‬المطلقة‭ ‬بل‭ ‬بالسعي‭ ‬لتجديد‭ ‬مفهوم‭ ‬الثقافة‭ ‬القومية‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬يتولد‭ ‬عبر‭ ‬القراءة‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬تكبلها‭ ‬أطر‭ ‬أنساق‭ ‬فكرية‭ ‬أو‭ ‬شكلية‭ ‬متكلسة‭. ‬

تشكلت‭ ‬الهوية‭ ‬االقوميةب‭ ‬على‭ ‬مدار‭ ‬الأزمنة‭ ‬بالتفاعل‭ ‬مع‭ ‬الثقافات‭ ‬الأخرى،‭ ‬وتتوقف‭ ‬استمراريتها‭ ‬على‭ ‬قدرتها‭ ‬على‭ ‬التلاقح‭ ‬مع‭ ‬الآخر،‭ ‬حتى‭ ‬أن‭ ‬البعض‭ ‬يذهب‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬الثقافة‭ ‬بطابعها‭ ‬ملقحة‭ ‬لكونها‭ ‬في‭ ‬موقع‭ ‬إنتاج‭ ‬وإعادة‭ ‬إنتاج‭ ‬دائمة‭. ‬وتظل‭ ‬الثقافة‭ ‬المحلية‭ ‬في‭ ‬تحولاتها‭ ‬موقع‭ ‬مقاومة‭ ‬لطابعها‭ ‬التجريبي‭ ‬فهي‭ ‬لا‭ ‬تبدع‭ ‬سوى‭ ‬بالتفاعل‭ ‬والتجريب‭ ‬المشترك‭ ‬مع‭ ‬غيرها‭ ‬من‭ ‬الثقافات‭. ‬والتجريب‭ ‬ليس‭ ‬مجرد‭ ‬أداة‭ ‬لتأكيد‭ ‬الاختلاف‭ ‬بل‭ ‬رغبة‭ ‬في‭ ‬التنوع‭ ‬لتنشيط‭ ‬الخيال‭ ‬وتحفيز‭ ‬العقل‭.‬

فرضية‭ ‬تشكل‭ ‬الثقافة‭ ‬القومية‭ ‬في‭ ‬مساراتها

وإن‭ ‬كانت‭ ‬الهوية‭ ‬الثقافية‭ ‬تتفاعل‭ ‬وتتجدد‭ ‬في‭ ‬مساراتها،‭ ‬يعني‭ ‬ذلك‭ ‬وجود‭ ‬صدام‭ ‬دائم‭ ‬بين‭ ‬المعتمد‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬المؤسسات‭ ‬المهيمنة‭ ‬وأشكال‭ ‬المقاومة،‭ ‬إبداعية‭ ‬كانت‭ ‬أو‭ ‬نقدية‭. ‬والتعرف‭ ‬على‭ ‬أوجه‭ ‬المقاومة‭ ‬في‭ ‬الثقافة‭ ‬المحلية‭ ‬يذكرنا‭ ‬بوجود‭ ‬تاريخ‭ ‬ممتد‭ ‬من‭ ‬الفنون‭ ‬والآداب‭ ‬للجماعات‭ ‬المهمشة‭ ‬الخارجة‭ ‬عن‭ ‬جماليات‭ ‬المؤسسة‭ ‬الرسمية،‭ ‬والتي‭ ‬تطلعت‭ ‬أيضا‭ ‬إلى‭ ‬تجاوز‭ ‬الأخاديد‭ ‬الفاصلة‭ ‬بين‭ ‬آداب‭ ‬الشعوب‭. ‬وقد‭ ‬اتفق‭ ‬نقاد‭ ‬ما‭ ‬بعد‭ ‬البنيوية‭ - ‬على‭ ‬اختلاف‭ ‬انتماءاتهم‭ - ‬على‭ ‬أن‭ ‬الخيال‭ ‬لم‭ ‬يعد‭ ‬يخص‭ ‬النبوغ‭ ‬الفردي،‭ ‬فهو‭ ‬ليس‭ ‬هروبا‭ ‬من‭ ‬الواقع‭ ‬الآني‭ ‬للتوغل‭ ‬في‭ ‬الجمالي،‭ ‬بل‭ ‬ملكة‭ ‬تفيد‭ ‬البشر‭ ‬في‭ ‬حياتهم‭ ‬اليومية‭. ‬

وفي‭ ‬زمن‭ ‬العولمة،‭ ‬بات‭ ‬الخيال‭ ‬حقيقة‭ ‬اجتماعية‭ ‬ذات‭ ‬خاصية‭ ‬مزدوجة،‭ ‬فإما‭ ‬تقوم‭ ‬أجهزة‭ ‬التنظيم‭ ‬والتحكم‭ ‬بتسيير‭ ‬خيال‭ ‬المواطنين‭ ‬عبر‭ ‬الأجهزة‭ ‬الإعلامية‭ ‬والرقابة‭ ‬والأسواق،‭ ‬أو‭ ‬قد‭ ‬تعمل‭ ‬آليات‭ ‬التواصل‭ ‬التقنية‭ ‬المتعدية‭ ‬للحدود‭ ‬الجغرافية‭ ‬على‭ ‬تنشيط‭ ‬ملكة‭ ‬المعارضة‭ ‬،‭ ‬لشحن‭ ‬الخيال‭ ‬بتحريره‭ ‬من‭ ‬معوقاته‭. ‬وعليه،‭ ‬يصير‭ ‬الخيال‭ ‬من‭ ‬القوى‭ ‬المحركة‭ ‬في‭ ‬الحياة‭ ‬الاجتماعية،‭ ‬حيث‭ ‬تتولد‭ ‬عنه‭ ‬ممارسات‭ ‬ثقافية‭ ‬إبداعية‭ ‬محدثة‭ - ‬في‭ ‬العلوم‭ ‬الإنسانية‭ ‬أو‭ ‬الطبيعية‭ - ‬تشرك‭ ‬المتلقي‭ ‬في‭ ‬عملية‭ ‬التغيير،‭ ‬وتناهض‭ ‬ما‭ ‬يفرزه‭ ‬الخيال‭ ‬المنظم‭ ‬الموجه‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬المؤسسات‭ ‬المهيمنة،‭ ‬محلية‭ ‬كانت‭ ‬أو‭ ‬تابعة‭ ‬لاقتصاد‭ ‬العولمة‭. ‬

وتحمل‭ ‬الهوية‭ ‬الثقافية‭ ‬في‭ ‬ذاكرتها،‭ ‬في‭ ‬مساراتها‭ ‬عبر‭ ‬الأزمنة،‭ ‬محاولات‭ ‬متواصلة‭ ‬لانتهاك‭ ‬المألوف‭ ‬في‭ ‬اللغة،‭ ‬والفكر،‭ ‬والإبداع‭. ‬فالحداثة‭ ‬لا‭ ‬تجلبها‭ ‬العولمة‭ ‬الاقتصادية،‭ ‬ولا‭ ‬الخطاب‭ ‬القومي‭ ‬أو‭ ‬الأصولي‭ ‬المتشدد،‭ ‬بل‭ ‬تنبع‭ ‬من‭ ‬تراث‭ ‬انتهاك‭ ‬التراث،‭ ‬لتقدم‭ ‬مسارات‭ ‬جديدة‭ ‬للثقافة‭ ‬القومية،‭ ‬تهيئ‭ ‬لها‭ ‬التمثيل‭ ‬على‭ ‬الساحة‭ ‬العالمية،‭ ‬وتنشط‭ ‬بدورها‭ ‬عناصر‭ ‬الانتهاك‭ ‬في‭ ‬الثقافات‭ ‬الأخرى،‭ ‬لتتعاضد‭ ‬ثقافات‭ ‬الأمم‭ ‬في‭ ‬مواجهة‭ ‬التنميط‭ ‬الإيديولوجي‭ ‬للنظام‭ ‬العالمي‭ ‬الأحادي‭ ‬القطبية‭.‬

فالمطلوب‭ ‬ليس‭ ‬محاكاة‭ ‬الثقافة‭ ‬العالمية‭ ‬بل‭ ‬استخلاص‭ ‬معان‭ ‬عالمية‭ ‬من‭ ‬ثقافات‭ ‬متنوعة‭ ‬في‭ ‬العالم‭. ‬بهذا‭ ‬يمكن‭ ‬التصدي‭ ‬إلى‭ ‬هايراركية‭ ‬ثقافية‭ ‬تسعى‭ ‬للتغلغل‭ ‬عبر‭ ‬العولمة‭ ‬الاقتصادية،‭ ‬لتحديد‭ ‬الموضع‭ ‬الثقافي‭ ‬للقوميات‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬وفقا‭ ‬لتراتب‭ ‬يتفق‭ ‬ورؤيتها‭ ‬الاستهلاكية‭. ‬فالتفوق‭ ‬في‭ ‬مجال‭ ‬الإبداع‭ ‬لا‭ ‬يتحقق‭ ‬بمقايضة‭ ‬الخيال‭ ‬بمتعة‭ ‬الاستهلاك،‭ ‬بل‭ ‬في‭ ‬تقديم‭ ‬ما‭ ‬يتميز‭ ‬بالفرادة‭ ‬حتى‭ ‬إن‭ ‬أخفق‭ ‬في‭ ‬الرواج‭. ‬تعد‭ ‬الخصوصية‭ ‬من‭ ‬العوامل‭ ‬الأساسية‭ ‬في‭ ‬المجالات‭ ‬الثقافية‭ ‬والعلمية‭ ‬بعامة،‭ ‬ولكن‭ ‬تفاعلها‭ ‬الدائم‭ ‬مع‭ ‬خصوصيات‭ ‬الثقافات‭ ‬الأخرى‭ - ‬على‭ ‬جميع‭ ‬المستويات‭ -  ‬محلية‭ ‬كانت‭ ‬أو‭ ‬عالمية‭ ‬صار‭ ‬بديهيا‭. ‬

متغيرات‭ ‬الهوية‭ ‬الثقافية‭ ‬في‭ ‬عالم‭ ‬المعرفة

كان‭ ‬للتقدم‭ ‬التكنولوجي‭ ‬والرقمي‭ ‬دور‭ ‬في‭ ‬تأكيد‭ ‬تشابك‭ ‬الحلقات‭ ‬المعرفية‭ ‬التي‭ ‬تتضمن‭ ‬العلوم‭ ‬الطبيعية‭ ‬والإنسانية،‭ ‬وتلاحم‭ ‬عمليتي‭ ‬الإبداع‭ ‬والاختراع،‭ ‬دون‭ ‬التحدد‭ ‬بثقافات،‭ ‬حيث‭ ‬بعثت‭ ‬لغة‭ ‬الآلة‭ ‬من‭ ‬لغة‭ ‬البشر،‭ ‬ليصبح‭ ‬هذا‭ ‬التلاحم‭ ‬واقعا‭ ‬ماديا‭ ‬لتفاعل‭ ‬البشر‭ ‬والآلة‭ ‬في‭ ‬ممارساتهم‭ ‬اليومية،‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬له‭ ‬أثر‭ ‬على‭ ‬الهوية‭ ‬الثقافية،‭ ‬يستحيل‭ ‬تجاهله‭. ‬وقد‭ ‬أفضت‭ ‬الاستهانة‭ ‬بالطبيعة‭ ‬التفاعلية‭ ‬للـهوية‭ ‬إلى‭ ‬الإخفاق‭ ‬في‭ ‬تفعيل‭ ‬المعرفة‭ ‬في‭ ‬الثقافة‭ ‬العربية‭ ‬لتفكك‭ ‬الحلقات‭ ‬المعرفية،‭ ‬ولانعدام‭ ‬التفاعل‭ ‬بين‭ ‬العلوم‭ ‬الطبيعية‭ ‬والإنسانية،‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬له‭ ‬الأثر‭ ‬في‭ ‬تأخر‭ ‬تمثيل‭ ‬الثقافة‭ ‬العربية‭ ‬على‭ ‬الساحة‭ ‬العالمية‭. ‬

راهنا،‭ ‬ينصبّ‭ ‬الجهد‭ ‬في‭ ‬البلدان‭ ‬العربية‭ ‬لاقتناء‭ ‬المعرفة‭ ‬بمقاربة‭ ‬تبتعد‭ ‬عن‭ ‬العلمية‭ ‬لأسباب‭ ‬سياسية‭ - ‬تربوية،‭ ‬تخضع‭ ‬لرقابة‭ ‬الفكر‭ ‬المتشدد،‭ ‬ما‭ ‬يفضي‭ ‬إلى‭ ‬قصور‭ ‬في‭ ‬التنمية‭ ‬المعلوماتية‭ ‬التي‭ ‬تتأتى‭ ‬بامتزاج‭ ‬المعرفة‭ ‬مع‭ ‬القوى‭ ‬المجتمعية‭. ‬فالعجز‭ ‬المعلوماتي‭ ‬يضعف‭ ‬من‭ ‬قدرة‭ ‬المؤسسات‭ ‬العربية‭ ‬على‭ ‬الحوار،‭ ‬ويغيب‭ ‬الأفراد‭ ‬عن‭ ‬تنوع‭ ‬توجهاتهم،‭ ‬ما‭ ‬يفسد‭ ‬التواصل‭ ‬بينهم‭ ‬وبين‭ ‬المجتمعات‭ ‬الأخرى‭. ‬

هندسة‭ ‬اللغة‭ ‬والمسارات‭ ‬‮«‬الثقافية‮»‬‭ ‬للهوية

وتعد‭ ‬اللغة‭ ‬من‭ ‬أهم‭ ‬معالم‭ ‬الخصوصية‭ ‬الثقافية،‭ ‬فهي‭ ‬وسيط‭ ‬التواصل‭ ‬والاتصال‭ ‬في‭ ‬الوسائط‭ ‬الثقافية‭ ‬والمجالات‭ ‬العلمية‭ ‬كافة‭. ‬ويعني‭ ‬ذلك‭ ‬في‭ ‬ما‭ ‬يعني‭ ‬استحالة‭ ‬إرجاع‭ ‬اللغة‭ ‬إلى‭ ‬أصول‭ ‬جذرية‭ ‬لكونها‭ ‬في‭ ‬حالة‭ ‬تولد‭ ‬ومحو،‭ ‬وفي‭ ‬تولدها‭ ‬تدمج‭ ‬مستخدميها‭ ‬في‭ ‬عالم‭ ‬يتجاوز‭ ‬النطاق‭ ‬المحلي‭. ‬تتفاعل‭ ‬اللغة‭ ‬والمستحدثات‭ ‬الإبداعية‭ ‬في‭ ‬المجالات‭ ‬الثقافية‭ ‬والمخترعات‭ ‬العلمية،‭ ‬فتتغير‭ ‬اللغة‭ ‬المتداولة‭ ‬عبر‭ ‬العصور‭. ‬ولو‭ ‬أننا‭ ‬قاربنا‭ ‬اللغة‭ ‬بوصفها‭ ‬خطابا،‭ ‬فلن‭ ‬تتمثل‭ ‬لنا‭ ‬كمجرد‭ ‬مفردات‭ ‬معجمية‭ ‬أو‭ ‬نسق‭ ‬مغلق‭ ‬بل‭ ‬وسيط‭ ‬تتلقى‭ ‬معانية‭ ‬قراءة‭ ‬عبر‭ ‬علامات‭ ‬عدة‭ ‬قد‭ ‬تكون‭ ‬مرئية‭ ‬أو‭ ‬مكتوبة‭ ‬يتم‭ ‬إنتاج‭ ‬معانيها‭ ‬عبر‭ ‬تداولها‭ ‬بين‭ ‬الأفراد‭.  ‬وهناك‭ ‬مقاربة‭ ‬أخرى‭ ‬للغة‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬علماء‭ ‬الألسنية‭ ‬ومهندسي‭ ‬اللغة‭ ‬مفادها‭ ‬أنها‭ ‬تستند‭ ‬إلى‭ ‬أنساق‭ ‬معرفية‭ ‬تربط‭ ‬لغات‭ ‬العالم،‭  ‬أمدت‭ ‬العلوم‭ ‬الرقمية‭ ‬بالمنهجية‭ ‬التي‭ ‬وضع‭ ‬على‭ ‬أسسها‭ ‬لغة‭ ‬الحاسوب‭ ‬والعالم‭ ‬الافتراضي‭. ‬ومن‭ ‬ثم‭ ‬علينا‭ ‬بالتنبه‭ ‬إلى‭ ‬تحولات‭ ‬الهوية‭ ‬الثقافية‭ ‬في‭ ‬عالم‭ ‬المعرفة‭.‬

وتعد‭ ‬اللغة‭ ‬أداة‭ ‬من‭ ‬أدوات‭ ‬الرمز‭ ‬تقيم‭ ‬مستوى‭ ‬جديدا‭ ‬من‭ ‬التواصل‭ ‬بين‭ ‬الإنسان‭ ‬والآلة‭. ‬ووفقا‭ ‬لما‭ ‬جاء‭ ‬في‭ ‬كتابه‭ ‬االعرب‭ ‬في‭ ‬عصر‭ ‬المعلوماتيةب،‭ ‬توصل‭ ‬نبيل‭ ‬علي‭ ‬بالتجربة‭ ‬العلمية‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬اللغة‭ ‬العربية‭ ‬تنتمي‭ ‬إلى‭ ‬الفئات‭ ‬العليا،‭ ‬مما‭ ‬يتيح‭ ‬معالجتها‭ ‬آليا‭ ‬بواسطة‭ ‬الحاسوب‭ ‬بلغة‭ ‬الرياضيات‭ ‬الحديثة،‭ ‬لتأهيلها‭ ‬للعالمية‭. ‬تلك‭ ‬المقاربة‭ ‬قد‭ ‬تجاوزت‭ ‬النظرة‭ ‬الضيـــــقة‭ ‬للمـــــناهج‭ ‬التقليدية‭ ‬للفقـــهاء‭ ‬والنحوييــــن‭ ‬الذين‭ ‬ضاعفوا‭ ‬في‭ ‬تهميش‭ ‬العربــــــية،‭ ‬حيث‭ ‬تحول‭ ‬الخطاب‭ ‬اللغوي‭ ‬الراهن‭ ‬من‭ ‬منظور‭ ‬التخــــــصص‭ ‬الضيق‭ ‬ليغدو‭ ‬نهجا‭ ‬علميا‭ ‬يمكن‭ ‬تطبيقه‭ ‬في‭ ‬الفروع‭ ‬المعرفية‭ ‬كافة‭, ‬ولدينا‭ ‬أمثلة‭ ‬على‭ ‬ذلك‭ ‬في‭ ‬علاقة‭ ‬الخط‭ ‬العربي‭ ‬بالفنون‭ ‬التشكيلية‭ ‬وهندسة‭ ‬المعمار‭.‬

على‭ ‬ضوء‭ ‬ذلك‭ ‬الطرح‭ ‬المؤسس‭ ‬على‭ ‬المتغيرات‭ ‬التاريخية‭ ‬والثقافية‭ ‬نتلمس‭ ‬مدخلا‭ ‬جديدا‭ ‬للمثقف‭ ‬في‭ ‬المجتمعات‭ ‬العربية،‭ ‬بعدما‭ ‬تلاشت‭ ‬الفواصل‭ ‬بين‭ ‬العلوم‭ ‬الإنسانية‭ ‬والطبيعية،‭ ‬بين‭ ‬المعرفة‭ ‬والخيال،‭ ‬بين‭ ‬الشمال‭ ‬والجنوب،‭ ‬مدخلا‭ ‬قد‭ ‬يعمل‭ ‬على‭ ‬رأب‭ ‬الصدع‭ ‬الفكري‭ ‬المتفاقم‭. ‬ربما‭ ‬في‭ ‬تجديد‭ ‬الخطاب‭ ‬اللغوي‭ ‬العربي‭ ‬سوف‭ ‬تتكشف‭ ‬لنا‭ ‬العلاقة‭ ‬المتصلة‭ ‬بين‭ ‬المجازي‭ ‬والحرفي‭ ‬في‭ ‬اللغة،‭ ‬فالمجاز‭ ‬لا‭ ‬يقتصر‭ ‬على‭ ‬لغة‭ ‬الإبداع،‭ ‬ولغة‭ ‬العلوم‭ ‬لا‭ ‬تتسم‭ ‬بالشفافية‭ ‬المطلقة‭ ‬كما‭ ‬كان‭ ‬الزعم‭ ‬فيما‭ ‬مضى،‭ ‬فهناك‭ ‬ترابط‭ ‬في‭ ‬منظومة‭ ‬الثقافة‭ ‬ينبغي‭ ‬الوعي‭ ‬به‭ ‬نتيجة‭ ‬تغيير‭ ‬الخطاب‭ ‬اللغوي‭. ‬يتحقق‭ ‬هذا‭ ‬العمل‭ ‬بالجهد‭ ‬المشترك‭ ‬بين‭ ‬العاملين‭ ‬في‭ ‬مجالات‭ ‬العلوم‭ ‬الإنسانية‭ ‬والطبيعية‭ ‬كافة،‭ ‬وبين‭ ‬الفرد‭ (‬العامل‭ ‬أو‭ ‬الممارس‭ ‬الثقافي‭) ‬والجماعة،‭ ‬وهو‭ ‬التحول‭ ‬من‭ ‬التنظير‭ ‬المجرد‭ ‬إلى‭ ‬استخلاص‭ ‬النظرية‭ ‬عبر‭ ‬الممارسة،‭ ‬وفي‭ ‬هذا‭ ‬العمل‭ ‬تفعيل‭ ‬للقدرات،‭ ‬فالتنقل‭ ‬بين‭ ‬المعرفة‭ ‬والإبداع،‭ ‬والتنظير‭ ‬والممارسة‭ ‬قد‭ ‬يتيح‭ ‬آفاقا‭ ‬جديدة‭ ‬لممارسة‭ ‬الحرية‭ ‬والخروج‭ ‬من‭ ‬الجمود‭ ‬الفكري،‭ ‬تفتح‭ ‬مسارات‭ ‬نحو‭ ‬التمثيل‭ ‬العالمي‭ ‬للفكر‭ ‬والإبداع‭ ‬العربي‭ ‬في‭ ‬عالم‭ ‬معولم‭ .