أطوار الدراسات العربية في إيطاليا

أطوار الدراسات العربية في إيطاليا

لم‭ ‬تتطور‭ ‬الدراسات‭ ‬العربية‭ ‬في‭ ‬إيطاليا‭ ‬في‭ ‬العصر‭ ‬الحديث‭ ‬بمعزل‭ ‬عن‭ ‬مشاغل‭ ‬الكنيسة،‭ ‬ما‭ ‬جعلها‭ ‬مصبوغة‭ ‬منذ‭ ‬مستهل‭ ‬انطلاقتها‭ ‬بخيارات‭ ‬دينية،‭ ‬أبقت‭ ‬تعليم‭ ‬اللغة‭ ‬العربية‭ ‬وتعلّمها،‭ ‬إلى‭ ‬تاريخ‭ ‬قريب،‭ ‬حكرا‭ ‬على‭ ‬رجال‭ ‬الدين‭ ‬وطلاب‭ ‬اللاهوت‭ ‬الكاثوليك‭. ‬لكن‭ ‬في‭ ‬خضم‭ ‬ذلك‭ ‬المسار‭ ‬لاحت‭ ‬بوادر‭ ‬انعتاق‭ ‬من‭ ‬الاحتكار‭ ‬الكنسي،‭ ‬الذي‭ ‬طالما‭ ‬تحكم‭ ‬بهذا‭ ‬المبحث،‭ ‬ليشهد‭ ‬المجال‭ ‬تطورات‭ ‬حثيثة‭ ‬في‭ ‬الأوساط‭ ‬غير‭ ‬الدينية،‭ ‬لاسيما‭ ‬منذ‭ ‬توحيد‭ ‬إيطاليا‭ ‬وإشراف‭ ‬الدولة‭ ‬على‭ ‬قسط‭ ‬وافر‭ ‬من‭ ‬المؤسسات‭ ‬التعليمية‭. ‬وبشكل‭ ‬عام‭ ‬توزّع‭ ‬المستشرقون‭ ‬والمستعربون‭ ‬الإيطاليون‭ ‬عبر‭ ‬تاريخهم‭ ‬ضمن‭ ‬ثلاثة‭ ‬أصناف‭: ‬صنف‭ ‬في‭ ‬خدمة‭ ‬الكنيسة،‭ ‬وصنف‭ ‬انشغل‭ ‬بخدمة‭ ‬الأغراض‭ ‬الاستعمارية،‭ ‬وصنف‭ ‬انساق‭ ‬مع‭ ‬تلبية‭ ‬احتياجات‭ ‬الدولة،‭ ‬مع‭ ‬تداخل‭ ‬في‭ ‬بعض‭ ‬الأحيان‭ ‬في‭ ‬الأدوار‭ ‬بين‭ ‬هذه‭ ‬الأصناف‭.‬

فبتتبع‭ ‬مسار‭ ‬الاهتمام‭ ‬بلغة‭ ‬الضاد‭ ‬وبالدراسات‭ ‬العربية‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬البلد،‭ ‬يمكن‭ ‬العودة‭ ‬بالانشغال‭ ‬إلى‭ ‬البابا‭ ‬كليمنت‭ ‬الخامس‭ (‬1264-1314م‭)‬،‭ ‬الذي‭ ‬حثّ‭ ‬في‭ ‬إحدى‭ ‬عظاته‭ ‬في‭ ‬فيينا،‭ ‬سنة‭ ‬1311،‭ ‬على‭ ‬ضرورة‭ ‬إيلاء‭ ‬تدريس‭ ‬العربية‭ ‬والعبرية‭ ‬والكلدانية‭ ‬والسريانية‭ ‬عناية‭ ‬في‭ ‬مختلف‭ ‬العواصم‭ ‬الأوربية،‭ ‬بغرض‭ ‬أداء‭ ‬العمل‭ ‬التبشيري‭ ‬على‭ ‬أحسن‭ ‬وجه‭. ‬وتُعدّ‭ ‬تلك‭ ‬الدعوة‭ -‬وبقطع‭ ‬النظر‭ ‬عن‭ ‬مغزاها‭- ‬عاملا‭ ‬مهمّا‭ ‬في‭ ‬لفت‭ ‬الانتباه‭ ‬إلى‭ ‬العربية‭ ‬والحث‭ ‬على‭ ‬الإلمام‭ ‬بها‭.‬

حواضر‭ ‬تدريس‭ ‬العربية

ضمن‭ ‬هذا‭ ‬السياق،‭ ‬يمكن‭ ‬الحديث‭ ‬عن‭ ‬حواضر‭ ‬رئيسية‭ ‬أربع‭ ‬في‭ ‬إيطاليا‭ ‬شهدت‭ ‬مبكرا‭ ‬تدريس‭ ‬اللغة‭ ‬العربية،‭ ‬حتى‭ ‬غدت‭ ‬مراكز‭ ‬تاريخية‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬المجال‭. ‬تُعتبر‭ ‬روما‭ ‬الأعرق‭ ‬في‭ ‬المجال‭ ‬بين‭ ‬سائر‭ ‬المدن‭ ‬الإيطالية‭ ‬وذلك‭ ‬منذ‭ ‬العام‭ ‬1575م،‭ ‬حيث‭ ‬لم‭ ‬يدخر‭ ‬البابا‭ ‬سيكتوس‭ ‬الرابع‭ (‬1414-1484‭) ‬جهدا‭ ‬في‭ ‬تكليف‭ ‬مكتبة‭ ‬الفاتيكان‭ ‬بمهام‭ ‬تدريس‭ ‬العربية‭ ‬وتهيئة‭ ‬الإطار‭ ‬اللازم‭ ‬لذلك،‭ ‬وإن‭ ‬جاء‭ ‬تدريس‭ ‬العبرية‭ ‬أسبق‭ ‬بما‭ ‬يعود‭ ‬إلى‭ ‬العام‭ ‬1482‭. ‬ما‭ ‬جعل‭ ‬روما،‭ ‬بين‭ ‬مطلع‭ ‬القرن‭ ‬السادس‭ ‬عشر‭ ‬وموفى‭ ‬القرن‭ ‬السابع‭ ‬عشر،‭ ‬تحوز‭ ‬الصدارة‭ ‬بين‭ ‬حواضر‭ ‬أوربا‭ ‬في‭ ‬الدراسات‭ ‬الشرقية‭ ‬وفي‭ ‬تعليم‭ ‬اللغات،‭ ‬الذي‭ ‬شمل‭ ‬الأرمينية‭ ‬والقبطية،‭ ‬فضلا‭ ‬عن‭ ‬اللغات‭ ‬السامية‭ ‬الرئيسية‭. ‬لكن‭ ‬مع‭ ‬توحيد‭ ‬إيطاليا،‭ ‬خلال‭ ‬العام‭ ‬1861م،‭ ‬بدأ‭ ‬تراخي‭ ‬الطوق‭ ‬الذي‭ ‬ضربته‭ ‬كنيسة‭ ‬روما‭ ‬على‭ ‬تعليم‭ ‬اللغات‭ ‬الشرقية‭ ‬عامة،‭ ‬ومنها‭ ‬العربية،‭ ‬وذلك‭ ‬لفائدة‭ ‬خيارات‭ ‬ذات‭ ‬طابع‭ ‬لائكي‭. ‬وتدعّم‭ ‬ذلك‭ ‬منذ‭ ‬تولي‭ ‬المستعرب‭ ‬ميكيلي‭ ‬أمّاري‭ ‬صاحب‭ ‬مؤلف‭ ‬اتاريخ‭ ‬مسلمي‭ ‬صقليةب‭ (‬1854-1872‭) ‬مقاليد‭ ‬وزارة‭ ‬التعليم‭ ‬في‭ ‬حكومة‭ ‬فارينا‭ (‬1862-1864‭)‬،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬انعكست‭ ‬آثاره‭ ‬على‭ ‬كلية‭ ‬الآداب‭ ‬والفلسفة‭ ‬حينها،‭ ‬بخروج‭ ‬جامعة‭ ‬روما‭ ‬من‭ ‬الهيمنة‭ ‬البابوية‭ ‬واتخاذها‭ ‬طابعا‭ ‬علمانيا‭ ‬1871-1875،‭ ‬حيث‭ ‬تولى‭ ‬لويجي‭ ‬فنشنسي‭ ‬تدريس‭ ‬العبرية،‭ ‬وباولو‭ ‬سكاباتيشي‭ ‬السريانية،‭ ‬وجوهانس‭ ‬بولينغ‭ ‬العربية‭.‬

حذَتْ‭ ‬نابولي‭ ‬حذو‭ ‬مدينة‭ ‬روما،‭ ‬فكان‭ ‬تشييد‭ ‬االمعهد‭ ‬الجامعي‭ ‬الشرقيب،‭ ‬المعروف‭ ‬بـاالأورِيِنتاليب‭ ‬والتابع‭ ‬حينها‭ ‬إلى‭ ‬أخوية‭ ‬معهد‭ ‬عائلة‭ ‬يسوع‭ ‬المسيح‭ ‬المقدسة،‭ ‬والذي‭ ‬يعزى‭ ‬الفضل‭ ‬في‭ ‬تأسيسه‭ ‬إلى‭ ‬المبشر‭ ‬ماتيو‭ ‬ريبا‭. ‬فقد‭ ‬حاز‭ ‬المعهد‭ ‬اعتراف‭ ‬البابا‭ ‬كليمنت‭ ‬الثاني‭ ‬عشر‭ ‬في‭ ‬السابع‭ ‬من‭ ‬أبريل‭ ‬1732م‭ ‬ويُرجَّح‭ ‬أن‭ ‬تدريس‭ ‬العربية‭ ‬قد‭ ‬انطلق‭ ‬في‭ ‬السنة‭ ‬نفسها،‭ ‬حيث‭ ‬لم‭ ‬تمض‭ ‬سوى‭ ‬بضع‭ ‬سنوات‭ ‬حتى‭ ‬بات‭ ‬محجّا‭ ‬للدارسين‭ ‬والطلاب‭ ‬من‭ ‬مختلف‭ ‬الأصقاع‭. ‬ففي‭ ‬سنة‭ ‬1747‭ ‬التحق‭ ‬بالمعهد‭ ‬فتية‭ ‬وفدوا‭ ‬من‭ ‬الدولة‭ ‬العثمانية،‭ ‬من‭ ‬ألبانيا‭ ‬والبوسنة‭ ‬واليونان‭ ‬ولبنان‭ ‬ومصر،‭ ‬بغرض‭ ‬تكوينهم‭ ‬وسيامتهم‭ ‬كهنة‭ ‬للتبشير‭ ‬بالكاثوليكية‭ ‬في‭ ‬بلدان‭ ‬المأتى‭. ‬وبعد‭ ‬توحيد‭ ‬إيطاليا‭ ‬بات‭ ‬المعهد‭ ‬يضم‭ ‬قسمين‭: ‬قسم‭ ‬قديم‭ ‬للتبشير‭ ‬وآخر‭ ‬مستحدث‭ ‬خُصّص‭ ‬للشبان‭ ‬الوافدين‭ ‬من‭ ‬خارج‭ ‬المؤسسات‭ ‬الدينية‭ ‬اهتم‭ ‬باللغات‭ ‬الشرقية‭.‬

في‭ ‬حين‭ ‬انطلق‭ ‬تدريس‭ ‬العربية‭ ‬في‭ ‬مدينة‭ ‬باليرمو‭ ‬مع‭ ‬إنشاء‭ ‬كرسي‭ ‬اللغة‭ ‬العربية‭ ‬في‭ ‬أكاديمية‭ ‬الدراسات‭ ‬سنة‭ ‬1785،‭ ‬ومن‭ ‬الطريف‭ ‬اقتران‭ ‬تلك‭ ‬البداية‭ ‬بفضيحة‭ ‬أكاديمية،‭ ‬حيث‭ ‬تولى‭ ‬أستاذ‭ ‬مزور‭ ‬مهام‭ ‬التدريس،‭ ‬غدت‭ ‬ذكراه‭ ‬مدعاة‭ ‬للتندر‭ ‬في‭ ‬الأوساط‭ ‬العلمية‭. ‬حيث‭ ‬ادعى‭ ‬زورا‭ ‬الراهب‭ ‬جوسيبي‭ ‬فيلا،‭ ‬الذي‭ ‬يعرف‭ ‬مفردات‭ ‬متناثرة‭ ‬من‭ ‬العربية‭ ‬بجانب‭ ‬لغته‭ ‬الأم‭ ‬المالطية،‭ ‬أنه‭ ‬يحذق‭ ‬العربية‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬انتحل‭ ‬صفة‭ ‬المؤلِّف‭ ‬لعمل‭ ‬تاريخي،‭ ‬بما‭ ‬خوّل‭ ‬له‭ ‬اعتلاء‭ ‬كرسي‭ ‬العربية‭ ‬حديث‭ ‬التأسيس،‭ ‬فطفق‭ ‬يدرّس‭ ‬المالطية‭ ‬المطعَّمة‭ ‬بمفردات‭ ‬عربية،‭ ‬معتمدا‭ ‬الأبجدية‭ ‬العربية،‭ ‬على‭ ‬أنها‭ ‬الفصحى‭. ‬حادثة‭ ‬االخدعة‭ ‬السراسينيةب،‭ ‬كما‭ ‬باتت‭ ‬تعرف،‭ ‬تحولت‭ ‬في‭ ‬فترات‭ ‬لاحقة‭ ‬إلى‭ ‬موضوع‭ ‬طريف‭ ‬وساخر،‭ ‬مع‭ ‬بعض‭ ‬الشعراء‭ ‬والكتاب‭ ‬الإيطاليين،‭ ‬كجوفاني‭ ‬ميلي‭ ‬وليوناردو‭ ‬شاشا‭ ‬وأندريا‭ ‬كاميلاري‭.‬

وفي‭ ‬مرحلة‭ ‬متأخرة‭ ‬انضمت‭ ‬البندقية‭ ‬إلى‭ ‬صف‭ ‬تلك‭ ‬المدن‭ ‬الرائدة،‭ ‬تحت‭ ‬حافز‭ ‬الرحلة‭ ‬والتجارة،‭ ‬وبرغم‭ ‬الموقع‭ ‬المتقدم‭ ‬الذي‭ ‬حازته‭ ‬المدينة‭ ‬في‭ ‬علاقتها‭ ‬بالشرق،‭ ‬فقد‭ ‬تأخرت‭ ‬نسبيا‭ ‬في‭ ‬تشييد‭ ‬معلم‭ ‬علمي‭ ‬يتكفل‭ ‬بالدراسات‭ ‬العربية،‭ ‬رغم‭ ‬أن‭ ‬الحاجة‭ ‬الماسة‭ ‬إلى‭ ‬ذلك‭ ‬لاحت‭ ‬منذ‭ ‬وقت‭ ‬مبكر،‭ ‬منذ‭ ‬إعداد‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬يعرف‭ ‬بـاالـدراغوماني‭ ‬السبعةب،‭ ‬أي‭ ‬التراجمة‭ ‬السبعة،‭ ‬بغرض‭ ‬تكليفهم‭ ‬بمهام‭ ‬الوساطة‭ ‬مع‭ ‬الدولة‭ ‬العثمانية‭. ‬ولم‭ ‬يتسنّ‭ ‬تدريس‭ ‬اللغة‭ ‬العربية‭ ‬في‭ ‬مؤسسة‭ ‬علمية‭ ‬سوى‭ ‬مع‭ ‬تأسيس‭ ‬المعهد‭ ‬العالي‭ ‬للتجارة‭ ‬سنة‭ ‬1853،‭ ‬الذي‭ ‬اعتنى‭ ‬بالتخصصات‭ ‬الاقتصادية‭ ‬والتجارية،‭ ‬إلى‭ ‬جانب‭ ‬عنايته‭ ‬باللغات‭ ‬الأجنبية‭ ‬بهدف‭ ‬الدفاع‭ ‬عن‭ ‬المصالح‭ ‬الإيطالية‭ ‬في‭ ‬الخارج‭. ‬وبشكل‭ ‬عام‭ ‬انحصر‭ ‬تعلّم‭ ‬العربية‭ ‬حتى‭ ‬القرن‭ ‬التاسع‭ ‬عشر‭ ‬بين‭ ‬أوساط‭ ‬التجار‭ ‬والساسة‭ ‬ممن‭ ‬يترددون‭ ‬على‭ ‬البلاد‭ ‬العربية‭. ‬فكانت‭ ‬معرفة‭ ‬لغرض‭ ‬التواصل،‭ ‬افتقرت‭ ‬إلى‭ ‬الأسس‭ ‬العلمية‭ ‬المتينة،‭ ‬وهكذا‭ ‬نُشرت‭ ‬قواميس‭ ‬في‭ ‬الغرض‭ ‬أحدها‭ ‬لأوغو‭ ‬دي‭ ‬كاستلنوفو‭ ‬ورفائيل‭ ‬دي‭ ‬توتشي‭ ‬سنة‭ ‬1912،‭ ‬بالإضافة‭ ‬إلى‭ ‬طبع‭ ‬مجلدين‭ ‬للنحو‭ ‬العربي‭ ‬في‭ ‬ميلانو‭ ‬سنة‭ ‬1912‭ ‬من‭ ‬إعداد‭ ‬أوجيينو‭ ‬ليفي‭.‬

ولم‭ ‬يشتد‭ ‬عود‭ ‬التصنيف‭ ‬العلمي‭ ‬في‭ ‬مجال‭ ‬الدراسات‭ ‬العربية‭ ‬سوى‭ ‬في‭ ‬مراحل‭ ‬لاحقة،‭ ‬حصل‭ ‬ذلك‭ ‬في‭ ‬مرحلة‭ ‬أولى‭ ‬مع‭ ‬نشر‭ ‬مؤلّف‭ ‬إيطالي‭ ‬للاورا‭ ‬فيشيا‭ ‬فالياري‭ ‬االنحو‭ ‬العربي‭ ‬بين‭ ‬النظرية‭ ‬والتطبيقب‭ ‬سنة‭ ‬1936،‭ ‬الذي‭ ‬بات‭ ‬مرجعا،‭ ‬نهلت‭ ‬منه‭ ‬أجيال‭ ‬عدة‭ ‬ولا‭ ‬يزال‭ ‬حاضرا‭ ‬في‭ ‬التعليم‭ ‬رغم‭ ‬تسرب‭ ‬انتقادات‭ ‬إليه‭ ‬باعتباره‭ ‬يعرض‭ ‬عربية‭ ‬مشوبة‭ ‬بأجواء‭ ‬الإماء‭ ‬والنوق‭. ‬ثم‭ ‬أُتبع‭ ‬بقاموس‭ ‬عربي‭ ‬إيطالي‭ ‬من‭ ‬إعداد‭ ‬ريناتو‭ ‬ترايني‭ ‬نشره‭ ‬معهد‭ ‬الشرق‭ ‬بروما‭ ‬1964-1965،‭ ‬لا‭ ‬يزال‭ ‬يُعدّ‭ ‬الأفضل‭ ‬في‭ ‬الساحة‭ ‬الإيطالية‭. ‬ليلتحق‭ ‬مؤلف‭ ‬إيزابيلا‭ ‬كاميرا‭ ‬دافليتو‭ ‬االأدب‭ ‬العربي‭ ‬المعاصر‭ ‬من‭ ‬النهضة‭ ‬إلى‭ ‬اليومب‭ (‬1988‭) ‬بثلاثية‭ ‬المؤلفات‭ ‬المرجعية‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬غنى‭ ‬للباحث‭ ‬أو‭ ‬الطالب‭ ‬في‭ ‬أقسام‭ ‬الدراسات‭ ‬العربية‭ ‬عنها‭.‬

الدراسات‭ ‬العربية‭ ‬والمستعمر

رافقت‭ ‬العناية‭ ‬باللغة‭ ‬العربية‭ ‬اهتمامات‭ ‬بطباعة‭ ‬المؤلفات‭ ‬المدوّنة‭ ‬بالحرف‭ ‬العربي،‭ ‬وذلك‭ ‬منذ‭ ‬وقت‭ ‬مبكر،‭ ‬فكان‭ ‬طبع‭ ‬أولى‭ ‬نسخ‭ ‬القرآن‭ ‬الكريم‭ ‬في‭ ‬البندقية‭ ‬سنة‭ ‬1537،‭ ‬وإن‭ ‬تم‭ ‬إتلافها‭ ‬بأمر‭ ‬من‭ ‬البابا‭ ‬بولس‭ ‬الثالث‭ (‬1468-1549‭) ‬على‭ ‬ما‭ ‬أورده‭ ‬الباحث‭ ‬أنجيلو‭ ‬ميكيلي‭ ‬بيمونتيزي‭ ‬في‭ ‬مؤلفه‭ ‬االبندقية‭ ‬وانتشار‭ ‬الأبجدية‭ ‬العربية‭ ‬في‭ ‬إيطالياب؛‭ ‬بالإضافة‭ ‬طُبعت‭ ‬نسخة‭ ‬عربية‭ ‬من‭ ‬الأناجيل‭ ‬في‭ ‬المطبعة‭ ‬الفاتيكانية‭ ‬يعود‭ ‬تاريخها‭ ‬إلى‭ ‬العام‭ ‬1590م‭. ‬لتتوالى‭ ‬المطبوعات‭ ‬بنشر‭ ‬أربعة‭ ‬مجلدات‭ ‬من‭ ‬اقاموس‭ ‬المحيطب‭ ‬للفيروز‭ ‬آبادي،‭ ‬وإن‭ ‬سبق‭ ‬ذلك‭ ‬وجود‭ ‬قواميس‭ ‬عربية‭ ‬مخطوطة‭ ‬بخط‭ ‬اليد‭ ‬منذ‭ ‬أواخر‭ ‬القرن‭ ‬الثاني‭ ‬عشر‭ ‬ومطلع‭ ‬القرن‭ ‬الثالث‭ ‬عشر،‭ ‬على‭ ‬غرار‭ ‬القاموس‭ ‬العربي‭ ‬اللاتيني‭ ‬المودع‭ ‬اليوم‭ ‬في‭ ‬مكتبة‭ ‬ريكارديانا‭ ‬في‭ ‬مدينة‭ ‬فلورانسا‭.‬

ولئن‭ ‬كانت‭ ‬الدراسات‭ ‬العربية‭ ‬الوسيطة‭ ‬والحديثة‭ ‬في‭ ‬إيطاليا‭ ‬كنسيّة‭ ‬المنشأ‭ ‬فإن‭ ‬الحاضنة‭ ‬المعاصرة‭ ‬هي‭ ‬استعمارية‭. ‬فقد‭ ‬انضم‭ ‬ثلة‭ ‬من‭ ‬آباء‭ ‬الاستشراق‭ ‬الإيطالي‭ ‬الحديث‭ ‬إلى‭ ‬الجنة‭ ‬المصالح‭ ‬الاستعمارية‭ ‬المكلّفة‭ ‬بالشئون‭ ‬الإسلاميةب‭ - ‬Commissione per lo studio delle questione islamiche dصinteresse coloniale‭ - ‬سنة‭ ‬1914،‭ ‬منهم‭ ‬ليوني‭ ‬غايطاني‭ ‬وكارلو‭ ‬ألفونسو‭ ‬نالينو‭ ‬ودافيد‭ ‬سانتيلانا،‭ ‬وهذا‭ ‬الأخير‭ ‬هو‭ ‬تونسي‭ ‬يهودي‭ ‬الديانة‭ ‬عيِّن‭ ‬سنة‭ ‬1913‭ ‬أستاذا‭ ‬للتشريع‭ ‬الإسلامي‭ ‬في‭ ‬جامعة‭ ‬روما‭. ‬وقد‭ ‬أورد‭ ‬الباحث‭ ‬فلافيو‭ ‬ستريكا‭ ‬في‭ ‬بحث‭ ‬بعنوان‭: ‬اكارلو‭ ‬ألفونسو‭ ‬نالينو‭ ‬ومشروع‭ ‬احتلال‭ ‬ليبياب،‭ ‬في‭ ‬مجلة‭ ‬احولياتب‭ ‬التابعة‭ ‬إلى‭ ‬كلية‭ ‬العلوم‭ ‬السياسية‭ ‬في‭ ‬كالياري‭ ‬سنة‭ ‬1983،‭ ‬أن‭ ‬المستشرق‭ ‬نالينو‭ ‬قد‭ ‬شارك‭ ‬في‭ ‬مجمل‭ ‬الاجتماعات‭ ‬واللجان‭ ‬التي‭ ‬وفرت‭ ‬المشورة‭ ‬للمستعمر‭ ‬بشأن‭ ‬القضايا‭ ‬الإسلامية‭ ‬إبان‭ ‬احتلال‭ ‬ليبيا‭.‬

خلال‭ ‬تلك‭ ‬الحقبة‭ ‬شهد‭ ‬الاهتمام‭ ‬بالعربية‭ ‬تحولا،‭ ‬فقد‭ ‬تزايدت‭ ‬العناية‭ ‬باللهجات‭. ‬حيث‭ ‬نشر‭ ‬ألفريدو‭ ‬ترومبيتي‭ ‬في‭ ‬مدينة‭ ‬بولونيا‭ ‬كتابا‭ ‬عن‭ ‬اللهجة‭ ‬الطرابلسية‭ ‬سنة‭ ‬1912‭. ‬وتقريبا‭ ‬في‭ ‬الفترة‭ ‬نفسها‭ ‬اشتغل‭ ‬كارلو‭ ‬ألفونسو‭ ‬نالينو‭ ‬على‭ ‬الدارجة‭ ‬المصرية‭ (‬1913‭)‬،‭ ‬حيث‭ ‬لا‭ ‬يزال‭ ‬عمله‭ ‬يعدّ‭ ‬من‭ ‬المصادر‭ ‬الأساسية‭ ‬إلى‭ ‬الحاضر،‭ ‬لتغدو‭ ‬اللهجات‭ ‬العربية‭ ‬من‭ ‬بين‭ ‬المحاور‭ ‬التقليدية‭ ‬التي‭ ‬يوليها‭ ‬الباحثون‭ ‬الإيطاليون‭ ‬اهتماما‭. ‬وفي‭ ‬مرحلة‭ ‬لاحقة‭ ‬اهتمت‭ ‬إستر‭ ‬بانيتا‭ ‬بالدارجة‭ ‬والفولكلور‭ ‬في‭ ‬بنغازي‭ (‬1964‭). ‬وتواصل‭ ‬ذلك‭ ‬الشغف‭ ‬إلى‭ ‬تاريخنا‭ ‬الراهن‭ ‬مع‭ ‬أوليفيه‭ ‬دوران‭ ‬الأستاذ‭ ‬بجامعة‭ ‬روما،‭ ‬حيث‭ ‬نشر‭ ‬سنة‭ ‬1993‭ ‬املامح‭ ‬من‭ ‬الدارجة‭ ‬المغربيةب،‭ ‬أتبعه‭ ‬سنة‭ ‬1994‭ ‬بـ‭ ‬امقدمة‭ ‬في‭ ‬اللهجات‭ ‬العربيةب،‭ ‬كما‭ ‬نشر‭ ‬سنة‭ ‬1996‭ ‬عملا‭ ‬عن‭ ‬الدارجة‭ ‬الفلسطينية،‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬غدت‭ ‬دراسة‭ ‬اللهجات‭ -‬Dialettologia‭- ‬مادة‭ ‬مقررة‭ ‬للطلاب‭ ‬تُدرّس‭ ‬بجانب‭ ‬الفصحى‭ ‬في‭ ‬جامعة‭ ‬روما‭.‬

تطوّرات‭ ‬في‭ ‬الدراسات‭ ‬العربية

شهدت‭ ‬أواخر‭ ‬الألفية‭ ‬الثانية‭ ‬تحولات‭ ‬معتبرة‭ ‬في‭ ‬الدراسات‭ ‬العربية‭ ‬في‭ ‬إيطاليا،‭ ‬مسّت‭ ‬جوانب‭ ‬الترجمة‭ ‬والآداب‭. ‬إذ‭ ‬حتى‭ ‬منتهى‭ ‬الثمانينيات‭ ‬كانت‭ ‬النصوص‭ ‬الأدبية‭ ‬العربية‭ ‬المترجَمة‭ ‬قليلة‭ ‬العدد‭ ‬ومحصورة‭ ‬التداول‭ ‬بين‭ ‬المختصين،‭ ‬من‭ ‬مستشرقين‭ ‬ومستعربين‭ ‬أساسا،‭ ‬ولكن‭ ‬عقب‭ ‬ذلك‭ ‬التاريخ‭ ‬تحوّل‭ ‬المنقول‭ ‬العربي‭ ‬إلى‭ ‬مقروء‭ ‬مرغوب‭ ‬بين‭ ‬عموم‭ ‬القرّاء‭. ‬وباتت‭ ‬دور‭ ‬النشر‭ ‬تراهن‭ ‬على‭ ‬النص‭ ‬الأدبي‭ ‬العربي‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬تخلت‭ ‬عن‭ ‬الفكرة‭ ‬الرائجة‭ ‬أن‭ ‬الكتاب‭ ‬العربي‭ ‬لا‭ ‬يدرّ‭ ‬ربحا‭ ‬باعتباره‭ ‬مطبوعًا‭ ‬خاسرًا،‭ ‬فقد‭ ‬ساهم‭ ‬الأديب‭ ‬نجيب‭ ‬محفوظ‭ ‬مساهمة‭ ‬فعالة‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬التحوّل‭.‬

إذ‭ ‬تفيد‭ ‬الإحصاءات‭ ‬بأنه‭ ‬منذ‭ ‬مطلع‭ ‬القرن‭ ‬الفائت‭ ‬إلى‭ ‬العام‭ ‬1965‭ ‬أُنجزت‭ ‬في‭ ‬إيطاليا‭ ‬خمس‭ ‬ترجمات‭ ‬يتيمة،‭ ‬حيث‭ ‬ترجم‭ ‬فرانشيسكو‭ ‬غابرييلي‭ ‬اقصاصون‭ ‬من‭ ‬مصرب‭ ‬وكذلك‭ ‬اظلمات‭ ‬وأشعةب‭ ‬لمي‭ ‬زيادة،‭ ‬وترجم‭ ‬أومبارتو‭ ‬ريتزيتانو‭ ‬ازينبب‭ ‬لمحمد‭ ‬حسين‭ ‬هيكل‭ ‬واالأيامب‭ ‬لطه‭ ‬حسين،‭ ‬وترجم‭ ‬أندريا‭ ‬زنزوتّو‭ ‬كتاب‭ ‬اسأهبك‭ ‬غزالةب‭ ‬للكاتب‭ ‬الجزائري‭ ‬مالك‭ ‬حداد‭. ‬ثم‭ ‬بعيد‭ ‬ذلك‭ ‬التاريخ،‭ ‬حاول‭ ‬ريتزيتانو‭ ‬بعث‭ ‬سلسلة‭ ‬قصصية،‭ ‬بالتعاون‭ ‬مع‭ ‬معهد‭ ‬الشرق‭ ‬بروما‭ ‬وجامعة‭ ‬باليرمو،‭ ‬نشرت‭ ‬ثلاث‭ ‬مجموعات‭ ‬سورية‭ ‬وتونسية‭ ‬ومصرية،‭ ‬ثم‭ ‬سرعان‭ ‬ما‭ ‬توقفت،‭ ‬وكأن‭ ‬الوقت‭ ‬لم‭ ‬ينضج‭ ‬بعد‭ ‬للنشر‭ ‬العربي‭. ‬ولكن‭ ‬علاوة‭ ‬على‭ ‬عدم‭ ‬تهيؤ‭ ‬القارئ‭ ‬الإيطالي‭ ‬فقد‭ ‬كان‭ ‬هناك‭ ‬نصيب‭ ‬وافر‭ ‬من‭ ‬تلك‭ ‬الترجمات‭ ‬حرفيا‭ ‬وركيكا‭. ‬غير‭ ‬أنه‭ ‬لاحقا‭ ‬ساهمت‭ ‬العناية‭ ‬الفائقة‭ ‬لشخصيتين‭ ‬إيطاليتين،‭ ‬رعتا‭ ‬نقل‭ ‬مجموعة‭ ‬من‭ ‬النصوص‭ ‬العربية،‭ ‬وهما‭ ‬إيزابيلا‭ ‬كاميرا‭ ‬دافليتو‭ ‬من‭ ‬جامعة‭ ‬روما‭ ‬وفرانشيسكا‭ ‬ماريا‭ ‬كوراو‭ ‬من‭ ‬جامعة‭ ‬نابولي،‭ ‬في‭ ‬التحسين‭ ‬من‭ ‬جودة‭ ‬الترجمة‭ ‬والترويج‭ ‬للأعمال‭ ‬العربية‭ ‬في‭ ‬الأوساط‭ ‬الإيطالية‭.‬

يورد‭ ‬المؤلف‭ ‬الصادر‭ ‬عن‭ ‬وزارة‭ ‬الثروة‭ ‬والأنشطة‭ ‬الثقافية‭ ‬االحضور‭ ‬العربي‭ ‬الإسلامي‭ ‬في‭ ‬المطبوعات‭ ‬الإيطاليةب‭ (‬2000‭)‬،‭ ‬أنه‭ ‬لم‭ ‬يُترجَم‭ ‬من‭ ‬المؤلفات‭ ‬العربية‭ ‬بين‭ ‬1900‭ ‬و‭ ‬1988‭ ‬سوى‭ ‬29‭ ‬عملا،‭ ‬وقد‭ ‬حصل‭ ‬التحول‭ ‬الحقيقي‭ ‬بين‭ ‬1989‭ ‬و1999‭ ‬حيث‭ ‬تُرجم‭ ‬112‭ ‬عملا‭ ‬أدبيا،‭ ‬كما‭ ‬ترجم‭ ‬93‭ ‬عملا‭ ‬أدبيا‭ ‬فرنكفونيا‭ ‬خلال‭ ‬الفترة‭ ‬نفسها‭. ‬في‭ ‬حين‭ ‬أن‭ ‬الأعمال‭ ‬المسرحية‭ ‬التي‭ ‬تُرجمت‭ ‬طيلة‭ ‬الفترة‭ ‬الممتدة‭ ‬بين‭ ‬1900‭ ‬و‭ ‬1999‭ ‬بلغت‭ ‬19‭ ‬عملا‭ ‬مسرحيا،‭ ‬وحاز‭ ‬الشعر‭ ‬خلال‭ ‬الفترة‭ ‬نفسها‭ ‬20‭ ‬عملا‭. ‬والواقع‭ ‬أن‭ ‬الجوائز‭ ‬العالمية،‭ ‬نوبل‭ ‬لمحفوظ‭ (‬1988‭)‬،‭ ‬وغنكور‭ ‬لكل‭ ‬من‭ ‬بن‭ ‬جلون‭ (‬1987‭) ‬ومعلوف‭ (‬1993‭)‬،‭ ‬قد‭ ‬ساهمت‭ ‬مساهمة‭ ‬فعالة‭ ‬في‭ ‬إيقاظ‭ ‬الذائقة‭ ‬الإيطالية‭ ‬نحو‭ ‬الأدب‭ ‬العربي،‭ ‬حيث‭ ‬بلغت‭ ‬أعداد‭ ‬النصوص‭ ‬العربية‭ ‬المترجمة‭ ‬إلى‭ ‬الإيطالية‭ ‬حتى‭ ‬موفى‭ ‬السنة‭ ‬المنصرمة‭ ‬324‭ ‬عملا‭. ‬وبشكل‭ ‬أقل‭ ‬ساهمت‭ ‬القلاقل‭ ‬السياسية‭ ‬والحروب‭ ‬والتوترات‭ ‬في‭ ‬إيقاد‭ ‬تلك‭ ‬الجذوة،‭ ‬فعشية‭ ‬اندلاع‭ ‬الثورة‭ ‬الجزائرية‭ ‬تُرجمت‭ ‬ترجمة‭ ‬يتيمة‭ ‬اسأهبك‭ ‬غزالةب‭ ‬لمالك‭ ‬حداد،‭ ‬ثم‭ ‬عقب‭ ‬الثورة‭ ‬خبا‭ ‬ذلك‭ ‬البريق،‭ ‬ليستيقظ‭ ‬الاهتمام‭ ‬ثانية‭ ‬مع‭ ‬فترة‭ ‬النضال‭ ‬الفلسطيني‭ ‬المسلح‭ ‬بترجمة‭ ‬بعض‭ ‬الأعمال‭ ‬مثل‭ ‬ارجال‭ ‬في‭ ‬الشمسب‭ (‬1985‭)‬،‭ ‬وافلسطين‭: ‬ثلاث‭ ‬قصصب‭ (‬1985‭)‬،‭ ‬واعائد‭ ‬إلى‭ ‬حيفاب‭ ‬لغسان‭ ‬كنفاني،‭ ‬واالمتشائلب‭ (‬1990‭) ‬لإميل‭ ‬حبيبي‭. ‬وفي‭ ‬خضم‭ ‬وفرة‭ ‬الترجمة‭ ‬الأدبية‭ ‬مقارنة‭ ‬بغيرها‭ ‬يبقى‭ ‬الأديب‭ ‬المغربي‭ ‬الطاهر‭ ‬بن‭ ‬جلون‭ ‬الممثل‭ ‬الرئيس‭ ‬للأدب‭ ‬العربي‭ ‬في‭ ‬المخيال‭ ‬الإيطالي،‭ ‬فهو‭ ‬الأكثر‭ ‬ترجمة‭ ‬وحضورا‭ ‬في‭ ‬النشر‭ ‬والإعلام‭.‬

ولكن‭ ‬هذا‭ ‬الحضور‭ ‬للنص‭ ‬الأدبي‭ ‬العربي‭ ‬في‭ ‬إيطاليا،‭ ‬رغم‭ ‬تواضعه،‭ ‬بدأ‭ ‬يشهد‭ ‬نوعا‭ ‬من‭ ‬النشاط‭ ‬الحثيث‭ ‬الفردي‭ ‬بعد‭ ‬سبات‭ ‬طويل،‭ ‬بعضه‭ ‬منبعث‭ ‬من‭ ‬إيطاليا،‭ ‬ممثَّلا‭ ‬في‭ ‬الجزائري‭ ‬عمارة‭ ‬لخوص‭ ‬والعراقي‭ ‬يونس‭ ‬توفيق،‭ ‬وغيره‭ ‬وافد‭ ‬من‭ ‬خارج،‭ ‬لعل‭ ‬أبرز‭ ‬وجوهه‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬الحالي‭ ‬علاء‭ ‬الأسواني‭ ‬وإبراهيم‭ ‬نصرالله‭.‬

الدراسات‭ ‬العربية‭ ‬في‭ ‬الراهن

لا‭ ‬غرو‭ ‬أن‭ ‬مناهج‭ ‬الدراسات‭ ‬العربية‭ ‬في‭ ‬إيطاليا‭ ‬قد‭ ‬خطت‭ ‬خطوات‭ ‬معتبرة‭ ‬من‭ ‬جانب‭ ‬مقاربة‭ ‬الثقافة‭ ‬العربية،‭ ‬ومن‭ ‬جانب‭ ‬الأدوات‭ ‬المتوسَّلة‭ ‬إلى‭ ‬هذا‭ ‬الغرض،‭ ‬لكنها‭ ‬تبقى‭ ‬مشدودة‭ ‬إلى‭ ‬إرث‭ ‬السلف‭ ‬بشكل‭ ‬يتراوح‭ ‬بين‭ ‬القبض‭ ‬والبسط‭. ‬ولا‭ ‬يمكن‭ ‬الحديث‭ ‬عن‭ ‬عبور‭ ‬هذا‭ ‬الفعل‭ ‬من‭ ‬طور‭ ‬إلى‭ ‬طور،‭ ‬فما‭ ‬فتئ‭ ‬التعاطي‭ ‬مع‭ ‬اللغة‭ ‬العربية‭ ‬كلغة‭ ‬عصيّة،‭ ‬ذلك‭ ‬أن‭ ‬كثيرا‭ ‬من‭ ‬الأساتذة‭ ‬الجامعيين‭ ‬يدرسونها‭ ‬ولا‭ ‬يتكلمونها‭ ‬ويسمعونها‭ ‬ولا‭ ‬يفقهونها‭. ‬فيتوسلون‭ ‬تدريس‭ ‬النحو‭ ‬العربي‭ ‬بواسطة‭ ‬الإيطالية،‭ ‬وعلى‭ ‬غرار‭ ‬ذلك‭ ‬فك‭ ‬أسرار‭ ‬اللهجات‭ ‬العامية،‭ ‬وعرض‭ ‬مضامين‭ ‬الأدب‭ ‬العربي،‭ ‬وهو‭ ‬منهج‭ ‬استشراقي‭ ‬غالبا‭ ‬ما‭ ‬ساد‭ ‬في‭ ‬تعليم‭ ‬اللغات‭ ‬المنقرضة‭. ‬ذلك‭ ‬أن‭ ‬منهج‭ ‬تدريس‭ ‬العربية،‭ ‬وكفاءة‭ ‬المدرس‭ ‬في‭ ‬حد‭ ‬ذاتها،‭ ‬وأدوات‭ ‬التدريس،‭ ‬تجعل‭ ‬هذه‭ ‬العوامل‭ ‬متضافرة‭ ‬التعاطي‭ ‬مع‭ ‬العربية‭ ‬إشكاليا،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬ينعكس‭ ‬غالبا‭ ‬على‭ ‬التحصيل‭ ‬المعرفي‭ ‬للدارس‭ ‬بما‭ ‬لا‭ ‬يسمح‭ ‬له‭ ‬بالتعاطي‭ ‬مع‭ ‬اللغة‭ ‬ككائن‭ ‬حي‭.‬

حيث‭ ‬يأتي‭ ‬الطالب‭ ‬الإيطالي‭ ‬الجامعي‭ ‬مدفوعا‭ ‬بحماس‭ ‬فياض‭ ‬لتعلم‭ ‬العربية،‭ ‬لكنه‭ ‬يصطدم‭ ‬بقدامة‭ ‬منهجية‭ ‬في‭ ‬التدريس،‭ ‬تكرر‭ ‬إنتاج‭ ‬المناهج‭ ‬الاستشراقية‭ ‬في‭ ‬التعاطي‭ ‬مع‭ ‬عربية‭ ‬محفوفة‭ ‬بعديد‭ ‬الأحكام‭ ‬المغرضة،‭ ‬أنها‭ ‬أصعب‭ ‬اللغات‭ ‬عالميا،‭ ‬وأنها‭ ‬غير‭ ‬مستعمَلة‭ ‬في‭ ‬البلاد‭ ‬العربية،‭ ‬وأن‭ ‬الأجنبي‭ ‬يذهب‭ ‬إلى‭ ‬تونس‭ ‬بغرض‭ ‬تعلم‭ ‬العربية‭ ‬فيتعلم‭ ‬الفرنسية،‭ ‬وأن‭ ‬اللهجات‭ ‬هي‭ ‬لغات،‭ ‬والترويج‭ ‬لذلك‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬أساتذة‭ ‬جامعيين،‭ ‬لا‭ ‬لشيء‭ ‬إلا‭ ‬لأن‭ ‬إطلالتهم‭ ‬على‭ ‬العربية‭ ‬كانت‭ ‬من‭ ‬باب‭ ‬اللهجة‭ ‬الشامية‭ ‬أو‭ ‬المصرية‭ ‬أو‭ ‬المغاربية،‭ ‬التي‭ ‬بالكاد‭ ‬يفصحون‭ ‬بها‭. ‬الأمر‭ ‬الذي‭ ‬خلق‭ ‬تذبذبا‭ ‬بين‭ ‬تدريس‭ ‬الفصحى‭ ‬أو‭ ‬الدارجة‭ ‬في‭ ‬إيطاليا،‭ ‬ودفع‭ ‬إلى‭ ‬التعويل‭ ‬على‭ ‬تدريس‭ ‬لغة‭ ‬وسطى‭ ‬لا‭ ‬هي‭ ‬بالفصحى‭ ‬ولا‭ ‬هي‭ ‬بالدارجة،‭ ‬ينطبق‭ ‬عليها‭ ‬المقول‭ ‬الإيطالي‭ ‬اليس‭ ‬باللحم‭ ‬ولا‭ ‬بالسمك‭ ‬ولكنه‭ ‬شيء‭ ‬آخرب‭.‬

وهذا‭ ‬المنهج‭ ‬التعليمي‭ ‬العقيم،‭ ‬في‭ ‬بعض‭ ‬جوانبه،‭ ‬عادة‭ ‬ما‭ ‬أورث‭ ‬مساوئ،‭ ‬حيث‭ ‬لا‭ ‬يحصّل‭ ‬الطالب‭ ‬أو‭ ‬الباحث‭ ‬الكفاءة‭ ‬اللغوية‭ ‬اللازمة‭ ‬لولوج‭ ‬المراجع‭ ‬أو‭ ‬المصادر‭ ‬العربية،‭ ‬ما‭ ‬يجعله‭ ‬رهينا‭ ‬للمقول‭ ‬الغربي‭ ‬في‭ ‬الموضوع،‭ ‬أو‭ ‬لبعض‭ ‬الترجمات‭ ‬القليلة‭. ‬فالاصطدام‭ ‬بعدم‭ ‬اتقان‭ ‬اللغة‭ ‬بعد‭ ‬انقضاء‭ ‬السنوات‭ ‬عادة‭ ‬ما‭ ‬يكون‭ ‬محبطا‭ ‬لجموع‭ ‬واسعة‭ ‬اختارت‭ ‬تعلّم‭ ‬هذه‭ ‬اللغة،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬رسّخ‭ ‬لدى‭ ‬كثيرين‭ ‬المقول‭ ‬الإيطالي‭ ‬الشائع‭: ‬ا‭?!‬Ma‭ ‬che‭ ‬parli‭ ‬araboب،‭ ‬اأوَتتكلم‭ ‬عربي؟‭!‬ب،‭ ‬والتي‭ ‬مفادها‭ ‬اأتقول‭ ‬شيئا‭ ‬لا‭ ‬يفقهه‭ ‬الناس‭!‬ب‭ ‬والحال‭ ‬أن‭ ‬مقولة‭ ‬تَمنُّع‭ ‬اللغة‭ ‬العربية‭ ‬عن‭ ‬الإلمام‭ ‬بها‭ ‬شائعة‭ ‬في‭ ‬أوساط‭ ‬المعلمين‭ ‬والمتعلمين‭ ‬على‭ ‬حد‭ ‬سواء،‭ ‬وهي‭ ‬تعود‭ ‬أساسا‭ ‬لمساوئ‭ ‬بيداغوجيا‭ ‬التدريس،‭ ‬التي‭ ‬خلّفها‭ ‬الاستشراق،‭ ‬والتي‭ ‬تتلخّص‭ ‬في‭ ‬أسلوب‭ ‬التعامل‭ ‬مع‭ ‬العربية‭ ‬كلغة‭ ‬ميّتة،‭ ‬حيث‭ ‬يُغرَق‭ ‬الطّالب‭ ‬أو‭ ‬الدارس‭ ‬في‭ ‬فيلولوجيا‭ ‬اللّغة‭ ‬وقواعدها‭ ‬النّحوية،‭ ‬بما‭ ‬يأخذ‭ ‬حيزا‭ ‬واسعا‭ ‬من‭ ‬جهده‭ ‬ووقته،‭ ‬ولا‭ ‬يُقدّم‭ ‬له‭ ‬الجانب‭ ‬الحيّ‭ ‬والعملي‭ ‬منها،‭ ‬حتى‭ ‬ليقضي‭ ‬المرء‭ ‬السنوات‭ ‬الطوال‭ ‬على‭ ‬هذا‭ ‬النسق،‭ ‬ليستفيق‭ ‬لاحقا‭ ‬على‭ ‬أنه‭ ‬غير‭ ‬قادر‭ ‬على‭ ‬إتيان‭ ‬محادثة‭ ‬أو‭ ‬الإلمام‭ ‬بخطاب‭ ‬منطوق‭.‬

انعكس‭ ‬القصور‭ ‬اللغوي‭ ‬على‭ ‬الدرس‭ ‬الأكاديمي‭ ‬أيضا‭ ‬في‭ ‬تعاطيه‭ ‬مع‭ ‬الفكر‭ ‬العربي،‭ ‬والفلسفي‭ ‬منه‭ ‬بالخصوص،‭ ‬فهو‭ ‬متوقف‭ ‬عند‭ ‬فلسفة‭ ‬الفارابي‭ ‬وابن‭ ‬رشد‭ ‬وابن‭ ‬باجة،‭ ‬لا‭ ‬يتعداها،‭ ‬وبالمثل‭ ‬عند‭ ‬الفرق‭ ‬الإسلامية‭ ‬الكلاسيكية‭ ‬لم‭ ‬يتخطها‭ ‬إلى‭ ‬الفكر‭ ‬الديني‭ ‬الحديث‭.‬

من‭ ‬جانب‭ ‬آخر‭ ‬رغم‭ ‬أن‭ ‬إيطاليا‭ ‬من‭ ‬بين‭ ‬البلدان‭ ‬الأوربية‭ ‬الأكثر‭ ‬قربا‭ ‬من‭ ‬البلاد‭ ‬العربية‭ ‬حضاريا‭ ‬وجغرافيا‭ ‬فلا‭ ‬تزال‭ ‬الأبعد‭ ‬ثقافيا،‭ ‬وكما‭ ‬يقول‭ ‬عالم‭ ‬الاجتماع‭ ‬فرانكو‭ ‬كازانو‭ ‬هناك‭ ‬حديث‭ ‬بإطناب‭ ‬عن‭ ‬المتوسط‭ ‬لا‭ ‬ترافقه‭ ‬خيارات‭ ‬ثقافية‭ ‬موازية‭. ‬ربما‭ ‬إحصاءات‭ ‬الترجمة‭ ‬من‭ ‬الجانبين‭ ‬مفزعة،‭ ‬فكلتا‭ ‬اللغتين‭ ‬استجلبت‭ ‬من‭ ‬الآخر‭ ‬ما‭ ‬يزيد‭ ‬بقليل‭ ‬على‭ ‬الثلاثمائة‭ ‬عمل‭ ‬لا‭ ‬غير‭ ‬وهي‭ ‬نسبة‭ ‬ضئيلة‭. ‬وإذا‭ ‬استثنينا‭ ‬النصوص‭ ‬المصرية‭ ‬المترجَمة،‭ ‬والتي‭ ‬تقارب‭ ‬80‭ ‬في‭ ‬المائة‭ ‬من‭ ‬مجموع‭ ‬ما‭ ‬تُرجم،‭ ‬فإن‭ ‬النصوص‭ ‬العربية‭ ‬شبه‭ ‬غائبة،‭ ‬فضلا‭ ‬عن‭ ‬النص‭ ‬الخليجي‭ ‬فهو‭ ‬الأكثر‭ ‬ندرة‭ ‬على‭ ‬الإطلاق‭. ‬ذات‭ ‬مرة‭ ‬قلت‭ ‬للأستاذ‭ ‬الفلسطيني‭ ‬وسيم‭ ‬دهمش‭ ‬المرابط‭ ‬في‭ ‬إيطاليا‭ ‬منذ‭ ‬أربعة‭ ‬عقود‭: ‬كثيرا‭ ‬ما‭ ‬يطرق‭ ‬مسامعنا،‭ ‬أن‭ ‬المثقف‭ ‬العربي‭ ‬في‭ ‬إيطاليا‭ ‬عرضة‭ ‬للموت‭ ‬السريري‭ ‬نظرا‭ ‬لمحدودية‭ ‬الحراك‭ ‬الثقافي‭ ‬بين‭ ‬الضفتين،‭ ‬رغم‭ ‬ذلك‭ ‬يعدّ‭ ‬كلانا‭ ‬إيطاليا‭ ‬دار‭ ‬قرار‭ ‬لا‭ ‬منطقة‭ ‬عبور‭. ‬فرد‭ ‬مبتهجا‭: ‬لكل‭ ‬رسالته‭ ‬ونحن‭ ‬رسالتنا‭ ‬في‭ ‬الحرف‭ ‬العربي‭ ‬الذي‭ ‬نبلّغه‭ ‬للطلاب‭ .