حلم المشروع القومي للترجمة
يذكر قراء مجلة العربي، خصوصا الذين يتابعون مقالاتي، أنني نشرت مقالا بعنوان «نحو مشروع قومي للترجمة». وكان ذلك في عدد شهر يناير سنة 2000. ولم يكن القراء يعرفون أنني كنت أضع في هذا المقال استراتيجية معرفية لتأسيس مشروع قومي للترجمة، ولم أكن أعرف في ذلك الوقت كيف يمكن أن أقوم بالتنفيذ العملي للمشروع، ولكن من حسن الطالع أنني أصبحت أمينا عاما للمجلس الأعلى للثقافة في مصر، وبعد أن فرغت من تأسيس القواعد الأساسية للعمل الثقافي للمجلس، جعلت للمشروع القومي للترجمة مكانا بينها، وهكذا أصبح المشروع واحدا من المشروعات الأساسية للمجلس الأعلى للثقافة الذي يتبع وزارة الثقافة المصرية.
وقد اقتنع فاروق حسني وزير الثقافة في مصر - آنذاك - بهذا المشروع بعد أن عرضته عليه، على نحو نقل إليه حماستي التي صارت حماسته. وبالفعل قمت بالخطوات التنفيذية للمشروع، وصدر الكتاب الأول له سنة 1995 تحت عنوان االمشروع القومي للترجمةب التابع للمجلس الأعلى للثقافة المصري، وقت أن كنت أمينا له في الفترة ما بين 24 يناير سنة 1993 إلى مارس سنة 2007. وكان عنوان الكتاب االلغة العلياب تأليف الناقد الفرنسي الشهير جون كوين وترجمة الدكتور أحمد درويش. وكانت كتب المشروع القومي للترجمة تصدر في البداية بتمويل من صندوق التنمية الثقافية الذي حالت بيروقراطية المشرف عليه دون الاستمرار في التعاون معه بعد صدور كتابين أو ثلاثة، فعدنا إلى مصادر التمويل العادية للوزارة، ومضينا في طريقنا، وتعددت إصداراتنا، فوجدنا الدعم والتشجيع المادي والمعنوي من كبار المثقفين، وأذكر بكل إعزاز أن الأستاذ محمد حسنين هيكل تبرع لنا بمبلغ خمسة وعشرين ألف جنيه مصري، كان لها وقع مؤثر في نفسي والفريق الذي استعنت به للعمل معي، وكان على رأسه الأستاذ لمعي المطيعي والدكتورة فاطمة موسى، رحمهما الله رحمة واسعة.
وأذكر أنني قمت بتكليف زميلي المرحوم الدكتور إبراهيم الدسوقي شتا بترجمة كتاب االمثنويب للشاعر الفارسي العظيم جلال الدين الرومي، واتفقنا على أن تكون المكافأة الإجمالية لترجمة مجلدات الكتاب المترجمة ستين ألف جنيه مصري، وبالفعل انتهى الأستاذ القدير من الترجمة وتسلم مكافأته بعد صدمة العاملين في الشئون المالية التابعة للوزارة. فقد كانت هذه هي المرة الأولى في الحكومة المصرية التي يتقاضى فيها مترجم مثل هذا المبلغ في تاريخ الترجمة. ومن الطرائف أن سعر الترجمة الذي كان مقررا في هيئة الكتاب المصرية في ذلك الوقت هو ستة مليمات على الكلمة (والقرش عشرة مليمات) فظللت أبحث عن ذريعة إلى أن وجدت مبررا يتيح لي أن أرفع سعر الكلمة إلى خمسة وعشرين قرشا يمكن أن ترتفع أو تنقص حسب موضوع الكتاب المترجم وقيمته، فلم يكن من المعقول أن يستوي مترجم رواية لأجاثا كريستي ومترجم كتاب عن الجينوم مثلا، ولم يكن من المعقول في الوقت نفسه أن تكون مكافأة المترجم عن لغة نادرة مثل مكافأة المترجم عن لغة شائعة. والحق أن المشروع القومي للترجمة قد أفلح في إنصاف المترجم واحترام حقوقه، بما أجبر دور النشر المصرية الخاصة على رفع مكافأة المترجمين، وأضفنا إلى ذلك احترام حقوق النشر الخاصة بدور النشر الأجنبية.
والحق أنني لاأزال أؤمن بأن ازدهار حركة الترجمة علامة أساسية من علامات مجتمع المعرفة وحيويته. ولذلك يقاس تقدم الأمم وتخلفها بالمنحنى الصاعد أو الهابط لعمليات الترجمة وفاعلية مؤسساتها وأجهزتها. ولقد تخلفنا - نحن العرب - كثيرا في هذا المجال، وكانت النتيجة عدم اللحاق بقاطرة التقدم الإنساني التي خلفتنا وراءها ومضت في طريقها الصاعد الذي وصل إلى آفاق غير مسبوقة. ولا أدل على ذلك من أن نصيب كل مليون مواطن عربي، من الكتب المترجمة يصل إلى كتاب واحد تقريبا، بينما يصل إلى مائتين وخمسين كتابا لكل مليون مواطن في إسبانيا. ولا أريد أن أمضي في ذكر إحصاءات سلبية، معروفة، عن واقع الترجمة في عالمنا العربي الذي لايزال شحيحا في كل ما يتعلق بشئون الثقافة ومجالاتها، وعلى رأسها أنشطة الترجمة، ذلك على الرغم من الثروات الهائلة لبعض أقطار هذا العالم، وعلى الرغم من أن المادة السابعة من المعاهدة الثقافية التي وقعتها الدول العربية سنة 1945 تنص على: اتنشيط الجهود التي تبذل لترجمة عيون الكتب الأجنبية القديمة والحديثة، وتنظيم تلك الجهودب، وهي المادة التي سرعان ما تحولت إلى حبر على ورق.
جهود سابقة مبتورة
ووعيا بهذا الوضع المختل، وتحديا له في الوقت نفسه، انبثق المشروع القومي للترجمة منذ قرابة عشرين عاما، وذلك ليضيف إلى المشروعات القائمة قوة دفع حيوية، ويمضي بالجهود السابقة المبتورة إلى ما يمكن أن يكون بداية جذرية لنهضة عفية، تبدأ من الترجمة، وتجاوزها إلى المجالات المرتبطة بها، والمترتبة عليها، مدركين أننا نعيش في العالم الثالث الذي لا يمكن تحقيق أي حلم من أحلام التقدم فيه إلا بدعم كامل من مشروع شامل للترجمة في كل مجال من مجالات الحياة التي نسعى إلى تغييرها وتطويرها. وكان علينا أن نبدأ من حيث انتهت المشروعات السابقة، ولكن بما يتدارك السلبيات، ويتطور بالإيجابيات، وابتدئ ذلك بوضع خطة شاملة للعمل، أسهمت فيها اللجان المختصة في المجلس الأعلى للثقافة، ونشرنا هذه الخطة في كتاب، طبعته الهيئة المصرية العامة، بإشراف المرحوم لمعي المطيعي، وعمل الخبراء على تنقيح الخطة وتطويرها بما جعل منها استراتيجية عمل متكاملة، تتجسد بها الرؤية الشاملة للمشروع وتحقق أهدافه، وذلك من خلال الالتزام بعدد من القواعد الأساسية، التي حرصنا على الالتزام بها وعدم البعد عنها. وتتمثل هذه القواعد في ما يلي:
أولا: المرونة في التخطيط والتنفيذ، وذلك بما لا يغلق أفق الحركة، ويفتح الباب للإضافة المستمرة التي تستوعب الجديد الذي يضيف إلى المخطط الأصلي، ويواكب المتغيرات المعرفية المتدافعة في عوالم التقدم. لقد وضعنا خطة أولوية، تحتوي على آلاف العناوين في فروع المعرفة المتعددة، ولكننا لم نجعل من القوائم التي وضعتها لجان الخبراء قوائم ثابتة جامدة لا تقبل الإضافة، وإنما قوائم مرنة، تقبل كل جديد تفرضه متغيرات العلم الذي تتراكم إنجازاته بلا توقف، أو كل حديث تفرضه تحولات الأوضاع الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية في العالم كله.
ترجمة عن لغة الأصل
ثانيا: الترجمة عن لغة الأصل مباشرة، وعدم الاعتماد على اللغات الوسيطة، تحريا للدقة، وتأكيدا للأمانة، وحرصا على تمثيل روح الأصل وعلاقاته الدلالية. لقد عشنا طويلا أسرى الترجمة عن اللغة الوسيطة، سواء في العلوم الإنسانية أو الإبداعات العالمية لدول مثل الصين واليابان، ولغات في أهمية الإيطالية والإسبانية واليونانية وغيرها من لغات أوربا وآسيا التي شجعنا على الترجمة عنها، وتشجيع المترجمين على الإقبال عليها، فصدرت ترجمة الإلياذة اليونانية عن الأصل اليوناني القديم مباشرة، فضلا عن عشرات الأعمال عن الإسبانية والفارسية والتركية والألمانية على سبيل المثال. وهو أمر أكد أهمية الترجمة عن اللغة الأم وفوائد هذه الترجمة التي تجمع إلى جانب الدقة وروح الأصل ظلال المعاني ودلالاتها المصاحبة، سواء بإيحاء الصوت أو تداعيات المجاز.
ثالثا: الخروج من هيمنة اللغة الواحدة، أو الاقتصار على اللغات الأوربية المعروفة التي كان لابد من الإضافة إليها، وعدم الاقتصار عليها، تأكيدا لمبدأ التنوع الثقافي الخلاّق الذي تتبناه منظمة اليونسكو، وإعمالا لمبدأ عبور الانقسام الذي أصبح شعارا للأمم المتحدة، وعنوان كتاب من أهم كتبها بعد كارثة أحداث سبتمبر سنة 2001. وأعتقد أن من أهم إنجازات المشروع القومي للترجمة أنه ترجم إلى اللغة العربية عن لغات آسيوية وإفريقية للمرة الأولى في تاريخ حركة الترجمة العربية. ولاأزال أذكر سعادتي والفريق الذي عمل معي بكل مرة ننجح فيها في إصدار ترجمة جديدة عن لغة تنطق باللغة العربية للمرة الأولى. ولكن هل نجحنا في سد ثغرات الترجمة عن لغة وسيطة؟ لا أظن فاتساع وتزايد أهمية لغات العالم المتجددة، والتي أخذت تسهم في المعرفة الإنسانية أكثر من أن يستوعبها مشروع قومي واحد من جانب، فضلا عن أن عددا قليلا من اللغات يتراتب على درج القمة من حيث الهيمنة الثقافية التي هي الوجه الآخر للهيمنة السياسية والاقتصادية والعلمية والثقافية على السواء.
رابعا: تأكيد وحدة الثقافة الإنسانية وتنوع فروعها ومجالاتها البينية، وذلك بما يشمل الفنون والآداب والعلوم الطبيعية، جنبا إلى جنب العلوم الإنسانية والاجتماعية. لقد كنا على وعي دائم بأن الثقافة كالمعرفة الإنسانية والعلمية هي وحدة يثريها التنوع، ولا تنفصل فيها العلوم الإنسانية عن العلوم الطبيعية التي ليست منقطعة الصلة عن الإبداع على نحو ما نتخيل عادة. ولذلك شهد المشروع ترجمة كتب عن االجينومب على سبيل المثال، وذلك بجهد خلاق قام به المرحوم الدكتور أحمد مستجير مع أقرانه من الذين أثروا اللغة العربية بإنجازاتهم في ترجمة العلوم المعاصرة، وذلك جنبا إلى جنب مشروعات معرفية استثنائية مثل اجامعة لكل المعارفب التي ترجمناها بالاشتراك مع المركز الثقافي الفرنسي. وكان من الطبيعي أن تجاور كتب العلوم الاجتماعية الإبداعات العالمية.
خامسا: تمثيل التلازم العضوي بين وجهي الأصالة والمعاصرة في الثقافة الإنسانية، وذلك بترجمة الأصول المعرفية التي لا غنى عنها لتأسيس أي نهضة، في موازاة ترجمة المعارف الإنسانية التي تضعنا في قلب حركة العصر، ولكن دون أن تتنكر لميراث الإنسانية العظيم.
سادسا: توسيع هوامش الحرية الفكرية بترجمة التيارات والاتجاهات التي قد نختلف معها، ونمنع عنها قراءنا بغير حق، خصوصا أن من حق القارئ العربي أن يعرف كل الاتجاهات التي يموج بها العالم، سواء وافق أو لم يوافق عليها، خصوصا التيارات والاتجاهات التي تزداد حضورا، والتي أصبحت من سمات العصر ولوازمه، شئنا ذلك أو أبينا.
سابعا: تأكيد الصفة القومية للمشروع بتوسيع دوائر المشاركة للمترجمين المتحمسين على امتداد الأقطار العربية، وتجسيدا لمعنى أساسي من معاني وحدة الثقافة العربية. والحق أن هذا الأمر حقق لنا توازنا بين لغات العالم المترجم عنها، فالمغرب العربي ينقل أغلب مترجميه عن الفرنسية والمجموعة الفرانكفونية، بينما يكمل مترجمو المشرق التوازن بترجمة اللغات الأنجلوفونية وغيرها من المجموعات اللغوية التي تضم اللغات الشرقية الآسيوية.
علاقات مباشرة مع دور النشر العالمية
ثامنا: تأسيس شبكة قوية من العلاقات مع دور النشر في العالم، تقوم على أساس احترام حقوق الملكية الفكرية والحفاظ عليها، تأكيدا لالتزام مصر بالاتفاقيات الدولية، ودعما لثقة ناشري العالم في توجهاتنا الفكرية والتزاماتنا المالية. وأذكر أننا ترجمنا عددا من الكتب عن اللغة العبرية، عملا بمبدأ ااعرف عدوكب. ولكن توقفنا عن ذلك بعد تعميم اتفاقيات الجات، فلم يكن من المعقول دفع أي مبلغ من أموال دافعي الضرائب المصري لناشر إسرائيلي، خصوصا أن المشروع القومي للترجمة ظل رافضا لأي شكل من أشكال التطبيع الثقافي مع العدو الصهيوني.
تاسعا: توسيع إمكانات التعاون مع الهيئات الأجنبية في مصر. وهو الأمر الذي أدى إلى ظهور ترجمات عديدة بالتعاون مع الأقسام الثقافية التابعة للسفارات الفرنسية والإسبانية واليونانية والإيطالية والألمانية والنرويجية والصينية وغــيرها من سفارات الشرق والغرب.
عاشرا: رفع قيمة المكافأة المالية للمترجمين إلى معدلات غير مسبوقة، وتشجيع المترجمين بإنشاء جوائز للترجمة، مع الاهتمام بتدريب الأجيال الجديدة وتأكيد حضورها الواعد. وقد واكبت القواعد السابقة ثلاثة مبادئ ملازمة:
أولها: الاقتران الواجب بين القيمة المضمونية للكتاب المترجم والجودة المقترنة بالإخراج الفني والتقني. والحق أنه من الأمانة ذكر الدور الذي قام به الفنان منير الشعراني الذي أبدع شعار المشروع وعددا لا بأس به من أغلفته إلى أن استقر المشروع، وفتحنا الباب لغيره من المبدعين كي يسهموا في تصميمات الأغلفة التي تفننوا فيها. وقد أقمنا معرضا لهذه الأغلفة لقي استحسانا كبيرا، لأنه جمع بين تيارات متنوعة وأجيال مختلفة.
وثانيها: التعلم من الأخطاء التي كان لابد أن تقع عبر الممارسة الفعلية، وتصويبها باستمرار، والإفادة من النقد البناء الذي لايزال يدفعنا إلى تصحيح المسار وتعميق التوجهات.
وثالثها: التنسيق مع بقية قطاعات وزارة الثقافة، وعدم تكرار جهودها، خصوصا في القطاعات التي تشاركنا الاهتمام بالترجمة والإنجاز فيها.
الوصول للكتاب الألف
وكانت نتيجة العمل الدءوب، خلال سنوات عشر، إكمال ترجمة الكتاب الألف، وعدم الاكتفاء بذلك، بل مجاوزة الرقم ألف بما يغدو دليلا على نية الاستمرار. وظلت حماستنا متوهجة بالوصول إلى هذا الرقم الذي حققه أول مشروع عربي للترجمة، وذلك للمرة الأولى على امتداد تاريخنا الحديث. وكانت البداية مشروع النهضة الأول الذي انطلق في عصر محمد علي، ونهض به رفاعة الطهطاوي وتلامذته في مدرسة الألسن التي تأسست سنة 1836، وهو المشروع الذي وصل بعدد الكتب المترجمة في العصر كله إلى ما لا يزيد على 191 كتابا. وكانت النهاية قرينة مشروع الألف كتاب الذي اقترن بجيل طه حسين. وهو المشروع الرائع الرائد الذي لم يصل إلى الرقم ستمائة قبل توقفه. أما المشروع القومي للترجمة، فقد أنجز إلى جانب مجاوزة الألف كتاب حقائق وأرقاما، لاأزال أفخر بها.
أولا: وصل عدد اللغات المترجم عنها إلى ثلاثين لغة، منها لغات تمت الترجمة عنها للمرة الأولى، سواء في اللغات الأوربية المهمشة، أو اللغات الإفريقية غير المعروفة، مثل السواحيلية والهوسا والحبشية أو الأمهرية، فضلا عن الهيروغليفية، وذلك جنبا إلى جنب اللغات الآسيوية التي لم يسبق الاهتمام بها في الترجمة إلى العربية، مثل التركية والتركمانية والبشتوية والفارسية والصينية واليابانية والسريانية القديمة.
ثانيا: تأكدت قومية المشروع باشتراك مترجمين من عشرة أقطار عربية، هي: فلسطين، لبنان، سورية، العراق، السعودية، المغرب، الأردن، الإمارات، الجزائر، والكويت.
ثالثا: بلغ عدد المترجمين والمراجعين ما يجاوز الخمسمائة، واشترك أكثر من خمسين فنانا في تصميم الأغلفة، ومنهم شباب أتاح لهم المشروع الظهور الواعد للمرة الأولى.
رابعا: ضم المشروع أكثر من سلسلة، تُعد كل واحدة منها نواة لمكتبة متخصصة في فروع المعرفة المختلفة، وأقطارها القديمة والحديثة.
ولقد كنت أعلم والفريق الذي يعمل معي أن ما أنجزناه - على أهميته - ليس سوى الخطوة الأولى في طريق طويل، فقد كنت أحلم بأن يتحول االمشروع القومي للترجمةب بعد أن أثبت وجوده بألف كتاب إلى مركز قومي للترجمة، وذلك إدراكا بأن المشروعات تنتهي، أما وجود مركز قومي فهو تحويل الجهد إلى عمل مؤسسي، يظل باقيا مستمرا في أداء دوره.
ولم يفتني ما يمكن أن يقوم به المركز من تشجيع المترجمين البارزين، فاقترحت على وزير الثقافة فاروق حسني إنشاء جائزة كبيرة للترجمة باسم جائزة رفاعة الطهطاوي ومقدارها مائة ألف جنيه مصري. وأضف إلى ذلك كله إنشاء إدارات للتصويب اللغوي من ناحية، في موازاة الإعداد الفني بحيث يخرج الكتاب المترجم إلى المطابع جاهزا للطبع. وأضفت إلى ذلك إدارة خاصة لحقوق الملكية والاتصال بدور النشر الأجنبية وإدارة أخرى للتوزيع وتسويق كتب المركز والاشتراك في المعارض المحلية والقومية والعالمية، فضلا عن تأسيس مجلس أمناء لوضع سياسات المركز في عصر العولمة.
وقد كاد إنشاء المركز يتعثر لولا تدخل حرم الرئيس السابق محمد حسني مبارك، التي كانت شديدة الاهتمام بالإنجازات الثقافية، حريصة على تشجيعها، ومن نقصان الأمانة أن أغفل دورها في تذليل العقبات الإدارية. ومن الإنصاف كذلك ذكر جهود الفريق الذي عمل معي، والذي تحمس حماستي إلى أن تحول االمشروع القومي للترجمةب إلى المركز القومي للترجمة، وقد تم ذلك في سنة 2007. وقد اكتملت الصورة التي رسمتها في خيالي بتكليف النحات طارق الكومي بإعداد تمثال لرفاعة الطهطاوي، رائد الترجمة في الثقافة العربية الحديثة. وبدأ االمركز القومي للترجمةب وظللت أرعاه إلى أن أتممت الصورة النهائية للحلم الذي تخيلت عليه المركز، فقد ضممت إليه المبنى الضخم المجاور، وقمت بالاستعانة بالأستاذ الدكتور علي رأفت لوضع التصميم النهائي لصورة المركز كما تخيلتها، أما الأمر الثاني فهو أني قد عقدت العزم على التقاعد بعد أن أنتهي من طباعة الكتاب رقم 2000، وقد فعلت ذلك، فلم أترك المركز إلا بعد توقيع الكتاب رقم 2000 لتكمل الألف الثانية، تاركا لغيري مواصلة الطريـــق، خصوصا بعد أن تحول حلم إنشاء المركز القومي للترجمة إلى حقيقة ملموسة، تتمثل في صرح يفخر به كل عربي.
صدور الكتاب 1600
ولاأزال أذكر المؤتمرات المحلية والقومية والدولية التي أقامها المركز وأهمها المؤتمر الدولي الذي عقدته بمناسبة صدور الكتاب رقم 1600، وبمناسبة المزيد من اللغات الجديدة التي أضفناها إلى ما ترجمنا عنه من لغات مثل الأردية والسريانية والبوسنية والحبشية القديمة والمجرية والقازاقية والتيجرينية والهولندية والتركية والروسية والصينية والكورية واليابانية. وفي هذا الملتقى الأول، تم منح جائزة رفاعة الطهطاوي للمرة الأولى وكانت من نصيب الأستاذ بشير السباعي، وألقى الدكتور روجر آلان كلمة المشاركين عن العالم الغربي، والدكتور عبدالقادر المهيري التونسي عن مترجمي العالم العربي، والدكتورة نادية جمال الدين عن المشاركين المصريين. وصحب ذلك تكريم أصحاب الإنجازات المرموقة في الترجمة، ومنهم الدكتور محمد عناني ودينيس جونسون ديفيز الذي عكف على ترجمة الأدب العربي إلى الإنجليزية خلال نصف قرن، ومعهم الأديب الليبي الكبير خليفة التليسي الذي ترجم عشرات الأعمال، ومنها الأعمال الكاملة للشاعر الإسباني لوركا. وكان موضوع المؤتمر الرئيسي االترجمة والعولمةب، وشملت المواضيع الفرعية موضوعات: الترجمة والهوية الثقافية، والترجمة العلمية، ومشكلات الترجمة الأدبية، والترجمة العربية والأدب العالمي، ومشكلات المصطلح في الترجمة. وكان المؤتمر ناجحا إلى حد بعيد في تحقيق الأهداف المقصودة من ورائه.
وبقدر فخري بإنجازي على أرض الواقع هذا الصرح عظيم القدر الذي بدأ حلما على صفحات هذه المجلة، فإني أسجل بالعرفان والتقدير الإشادة بالعون المعنوي والتشجيع الملموس من المثقفين الذين دفعوني للاستمرار وشجعوني عليه، فضلا عن الفريق الذي عمل معي- منذ بداية المشروع القومي للترجمة - وأعانني على أن نستمر، ونتغلب على الصعاب ونحقق الهدف الذي وضعناه نصب أعيننا. أما تقديري العميق فواجب لمئات المترجمين الذين تحمسوا مثلنا للإنجاز، وعشرات الأقلام التي شجعتنا على الاستمرار. ولا أملك - بعد ذلك كله - سوى تسجيل عرفاني بفضل الوزير فاروق حسني الذي تحمس للمشروع منذ أن كان فكرة، ولم تتوقف حماسته طوال السنوات التي تحول بها المشروع القومي للترجمة إلى مركز قومي.
وفرحتي غامرة بكل الذين نهضوا بعبء تنفيذ المرحلتين الأولى والثانية من المشروع في صبر وإصرار، واصلين الليل بالنهار أحيانا، طوال أعوام عديدة، كي نصل إلى المعدل الذي ألزمنا به أنفسنا، وعرفاني الشخصي للدكتورة شهرت العالم، والأستاذ طلعت الشايب، ونجلاء الكاشف، ورنا أبوالأنوار، وحسن كامل، وحمدي كيرة، رحمه الله، وعادل مشالي وأقرانهم من الشابات والشباب الذين يدين لهم المشروع في مستويات المتابعة والتنفيذ. لقد أسهم عملهم، ولايزال، في اكتمال الخطوة الأولى التي يدفعنا الفرح بإنجازها إلى التطلع لإنجاز ما بعدها من مراحل، إلى أن أصبح المركز القومي للترجمة واقعا ملموسا مؤثرا، مركزا يتولى مهمة التخطيط والتنسيق والتنفيذ، إلى جانب مهمة التدريب والإشعاع والتشجيع، هادفا إلى بناء قاعدة معلومات متكاملة، وتنمية الكوادر اللازمة، وإقامة المؤتمرات والحلقات البحثية، وإصدار الدوريات والدراسات الخاصة بالترجمة، ونشر ما ينتجه من ترجمات، جنبا إلى جنب الارتفاع بمعدلات الترجمة إلى اللغة العربية، والوصول بها إلى ما يليق بتاريخنا، ويدفع بنا صوب المستقبل الذي نستحقه. وفي الوقت نفسه، ينقل صوتنا إلى العالم عن طريق الترجمة من اللغة العربية إلى غيرها من لغات العالم الذي لايزال يتطلع إلى معرفتنا، بعيدا عن الصور المشوهة التي أُلصقت بنا ظلما وعن سوء طوية.. لقد سطع عصر المأمون - الخليفة العباسي - بإنشائه بيت الحكمة للترجمة، وتألق عصر محمد علي بإنشائه مدرسة الألسن التي استهلت النهضة الحديثة، وها هو المركز القومي للترجمة يدفع العاملين به إلى مواصلة الحلم، في ما أرجو وأدعو الله عز وجل .