«فِتنَة المكان» في قِصَّة محمد خضير
مع أن القاص محمد خضير ينتمي إلى جيل الستينيات في القصة العراقية فإنه، بخلاف غير قاص من جيله، ذهبت بداياته مع الاتجاه الواقعي، وإن كان، كما أكد غير مرة، قد زاد في مساحة «واقعيته»، ما يجعله يشعر «بشعور من يرحل عن مركز دائرته ليكتشف أبعادها الواسعة»، كما جاء في حديث أخير معه، متحولاً، وبرؤية افتراضية، نحو النهوض من الواقع الشيئي، أو العيني.
هذه المقالة محاولة لاستخلاص افتنة المكانب في قصة هذا القاص الذي يعدّ الأبرز في جيله، وهو الذي يؤكد أن قصصه اتُحاكي عالمًا افتراضيًا معقولًا على مساحة من الواقع العبثي غير المعقولب.
-1-
يفتح محمد خضير آفاقه المعرفية وأدواته السردية لتوثيق المكان، فيصف ملاحمه العامة، كاشفًا عن الجانب الرؤيوي فيه، فللمكان أهميته الخاصة عنده، وهو ينبثق من الرؤية البصرية/الحسية على مستوى التصوير التشكيلي/الرؤيوي الذهني، (كما يقول في كتابه االسرد والكتابب الصادر عام 2010). ومحمد خضير، بطبيعة بناء نصّه القصصي، صانع حكايات وراوٍ لأخرى، ومتشبث بالوجوه والأمكنة والأشياء, وقصصه تعبير عن رحلة عميقة في المكان، والمكان هنا بوصفه لوحة تشكيلية، وفكرة تنطلق من أعماق الذات، لتؤسس وجودها لدى القارئ بوصفها رؤية, وهو ما يتحقق من خلال الوصف والسرد.
لو تقصينا قصص مجموعته الأولى (المملكة السوداء) التي كتبت قصصها بين عامي 1966 ذ 1971 لوجدناها تؤسس وجودها على ما هو مكاني، وتتخلق على ما يسميه الكاتب بـ االاغتراب السرديب، كما في عدد من قصصها مثل: االمملكة السوداء، حكاية الموقد، القطارات الليلية، التابوتب، إذ يعمل السرد فيها على تسليط الضوء على زوايا خاصة من الأمكنة يبدو وكأنَّ القاص مفتون بها، مستسلم لمزاياها وقدراتها لكشف الآفاق الاجتماعية المؤثثة بمشاهدة وصفية مفعمة بالحيوية، وفيها تنافذ صوري خاص نحو الحياة الحالمة التي يؤسسها الكاتب من خلال رؤية خفية، مضمرة في جسد السرد الذي يغترب عن الجوانب المباشرة ليحيل القارئ إلى المجسات البعيدة .
يحفل التركيز على المكان بالوصف، كعنصر مهم في البحث عن التفاصيل الصغيرة، والأشياء المتناهية الصغر، وأحيانا يدفع في كتابه االسرد والكتابب هذا الاهتمام إلى الاسترجاع الصوري، كما فعل في قصته االقطارات الليليةب من مجموعته الأولى االمملكة السوداءب حيث يميل إلى ترتيب الحكي والتشكيل والتأويل، حينما ينتقل من العناصر الوصفية من السطح الساكن للصورة السينمائية من أجل تشكيل رؤية محفزة للتوليف الصوري.
يشبِّه في قصة االمئذنةب عتمة السرداب بقعر الإبريق، ثم ينساق مبهورًا بوصف جزئيات وتفاصيل المكان، وكأن المكان محفز قوي يمنحه قوة الاندفاع، ووسيلة من وسائل الافتتان بالأشياء، لأنه يتشكل بوصفه بؤرة تتوسع لتشمل الأجواء المحيطة بهِ؛ ويشمل ذلك الروائح والأبخرة، والألوان، والصور، إذ إنه يبدأ هذه القصة بقوله: اكما لو كانت في قعر إبريق، وجدت أن عتمة السرداب قد تخثرت باردة لذيذة حولها، وأن تزيح عنها أبخرة النعاس المعطرة بروائح النعناع والقرنفلات البرية التي تزهر في موج قصيب. وحين تندمج هذه المرأة مع شلة النساء والأطفال وترقب الماء، ينثال الكاتب في وصف نثار ماء النافورة، انثيال ذلك الماء في رذاذ شفيف؛ فيقول: اكانت أقواس المياه الفضية تسقط بقطرات كبيرة ذات ضجيج على صفحة الحوض المستطيلة الخضراء المتحركة، بموجات مختلطة ذات اتساق متداخل، وبذلك كانت تهشم انعكاس الأشجار على سطح الحوضب. ويستمر الكاتب متسائلا حتى يزيل نوازع الملل من القارئ, ثم يعود لوصف النافورات وقمم أقواس الماء. إن هذا المشهد يتشكل لكي يفتح آفاق الحوار بين الشاب والفتاة التي معه والطفل، وتطلع السارد إليهم.
فإذا كان عنوان القصة هو االمئذنةب فإن العنوان موضوع القصة لا ينال شيئًا مركزيًا منها، لأن فتنة المكان بتفاصيله والأجواء المحيطة به، وجزيئات الواقع التي تشده إليها تأخذ الجانب الأوفر. وبهذا استطاع الكاتب أن يمنح المشاهد الوصفية مساحة أكبر من غيرها، وهو ما منح قصصه تميزها ودفعها نحو التألق، خصوصًا إذا ما علمنا أن مثل هذا الأسلوب لم يكن مألوفًا في كتابات تلك المرحلة. وقد كان هذا الأسلوب أحد أهم ميزات مجموعته االمملكة السوداءب، ففي قصة االأرجوحةب يشكل الاستهلال مشهدًا وصفيًا باهرًا، يعكس فتنة المكان، وقد حرص القاص على توظيف هذه الفتنة الأخاذة في قصصه لتكون بلغتها المفعمة بالطلاوة الفنية وسيلة لجذب القارئ, متأملاً فيها الحياة الجنوبية ذات النخيل والظلال والأعشاب.. إذ يبدأها بالقول: اعلى جادة السكون المظللة بمراوح السعف كان فتى حليق الرأس يتحرك فوق دراجته الخفيفة، كالنائم، بين جدول واطئ مزبد بخيوط تشبه رغوة الصابون إلى اليسار (...) كان الفتى لا يسمع صوتًا حتى لعجلتي دراجته وهما تدوران على غبار الجادة الناعم، ولكنه يشم روائح أزهار الدفلى والأزهار البرية في المنخفض النباتي أسفل جدار الطين وخلف الجدول المزبدب.
-2-
يقول محمد خضير في مقدمته لقصص افي درجة 45 مئويب، مشيرًا إلى اهتمامه بالوصف، وفتنة المكان: اقد تعجبون كيف أستطيع الإمساك بالأشياء الساخنة في هذه الغرفة. إني أكتب، عادة، بمزاج بارد، والكلمات بين يدي ككرات الثلج، ولكنها بصلابة الحديدب، وهو ما يشير إلى أن الوصف
مازال منطلقًا لقصصه، لأنه يؤثث به عناصر القصة الأخرى، ويقيم كيانها بكلمات أشبه بكرات الثلج، وهي بصلابة الحديد، أي أنها تقف قوية شامخة، مثل جدار لا يتزعزع، لأنها جزء من تصوره وهواجسه، وجزء من نزعة لنهج انتهجه في بناء القصة، وهو أن يكلل قصصه بفيض من الوصف القادر على عرض اندهاشه بالأمكنة، اندهاش الغريب الذي لم ير تلك الأمكنة، ولم يتصور أنها ستكون جزءا من منعرجات حياته من خلال قصصه، فكأن القصة بناء يشبه بناء البيت وتفاصيله الصغيرة؛ لذا تجده يصف امنزل النساءب بقصة تحت هذا العنوان منذ الاستهلال الأول في الجزء العلوي من القصة، إذ إنه جعل هذه القصة على مستويين أعلى وأسفل، يهتم الجزء الأسفل بالجوانب التوثيقية، أو الخاصة بترجمة الشخصية وتفاصيلها، بينما يهتم الجزء الأعلى بالوصف، لذا يبدأها بقوله: اصفوف الآجر المتآكل تنقطع بدعامات النوافذ الكبيرة القريبة من الأرض، وهنا ينتشر الضوء من مخرمات خلف نوافذ الطوابق الأرضية المغلقة ومن نوافذ وشرفات الطوابق العلويةب. بينما يختص الجزء الأسفل بوصف الزمان، وكأنه يعامد المكان على الزمان في حركة وصفية تعلي من شأن المكان وتقلل من شأن الزمان، لأن
الزمان ذ برأيه ذ خاضع لقوة المكان وحضوره الذي لا يلين، ولا يتجزأ، إنه يتحدث على لسان (علي) في الجزء الأسفل وعبر ضمير المتكلم، بينما حفل وصف المكان باستخدام ضمير الغائب، عبر جولة الحضور/الغياب أو الخارج/الداخل، بقوله: اإني ذاهب الآن. تحت غطاء هذا الليل الشامخ، إلى بيت أهملت زيارته طيلة الأسبوعين الماضيين، ولكني غير قادر على تجاهل جدرانه وصمته وساكنيه أكثر من ذلك. أول الليل، ولكن الليل يهرم بسرعة، ويظلم سريعًاب. إنه يحاول الهروب من وصف الزمان إلى وصف المكان، لأن الأخير يرضي نوازعه في تحقيق ميوله إلى التعبير عن افتنة المكانب ومؤثراته الضاغطة عليه نفسيًا وتعبيريًا. فحتى قصته اساعات كالخيولب التي تبدو من عنوانها أنها تتحدث، وتركز وصفها على الزمن والساعات التي هي آلات هذا الزمن، يستهلها بقوله: اقد يحدث هذا اللقاء. أصح ساعتي، وأخرج إلى أرصفة الميناء، ثم أعود آخر الليل إلى الفندق، فأجده نائمًا في فراشي، يدير وجهه للحائط، ويعلق عمامته الحمراء على المشجبب. وتنتهي القصة باهتمام خاص بالمكان، مثلما تتضمن في داخلها مشاهد وصفية خاصة بالأمكنة والأشياء، إذ يقول في نهايتها: اوعلى الأريكة يغفو جالسًا رجل نسي سيجارته بين أصابعه. ويحدث أن أقترب من باب غرفتي، وأفتح الباب فأجده نائمًا في فراشي، مستديرًا للحائط، وقد علق عمامته الحمراء على مشجب الملابسب.. لنلاحظ، هنا، التجانس والوصف بين الاستهلال والخاتمة أو نهاية القصة، فالكاتب، كما يتجلى من نصّه، حريص على أن يجعل المكان متسيدًا المشهد القصصي، وأن يظل حضوره معبرًا عن ضرورة لازمة، وكأنه يشير، من طرف خفي، إلى أن الزمان تابع للمكان، وبالتالي فإن البدايات والنهايات تتعلق بالمكان أكثر من تعلقها بالزمان، لأن المكان ثابت ومؤثر ومبهرج بالألوان والتشكيلات الصورية، بينما يقف الزمان ذ في غالب الأحيان ذ صامتًا ينتظر من المكان ليسبغ عليه من الصور والألوان ما يشيد منه جمالياته.
-3-
في كتابه ابصرياثا، صورة مدينةب الصادر عام 1983 يحاول محمد خضير أن يؤسطر المكان، أي يحيله إلى أسطورة، فيمنحه قوة أخرى تحيله من الانبهار أو فتنة التأمل، إلى غموض الصور، اختلاط الواقع باللاواقع، حيث تشيع الصور الغرائبية، إذ يتحول اسم االبصرةب إلى ابصرياثاب، والتي آثر الإشارة إليها في قصته اداما، دامي، داموب من مجموعته ارؤيا خريفب الصادرة عام 1995 حين قال في مستهلها: العبة الصمت، لعبة الحوار الأخرس، الداما، تعلمت اللعبة في السجن. وأعتقد أن كل بصرياثي من الجنس الأول يتقن هذه اللعبةب.
ويشير مؤرخ البصرة الراحل حامد البازي إلى أن اسم ابصرياثاب هو اسم آرامي للبصرة (جريدة القادسية: 31/7/1988)، في إحالة واضحة إلى الجذور الأولى لهذه المدينة، وكأن الكاتب يحاول أن يمنح المكان صوره القديمة الباهرة التي تمنحه وجودًا غرائبيًا افانتازيًاب، لأن االفانتازياب وسيلة من وسائل الافتتان غير العقلاني بالأشياء. ومن هنا أصبح المكان وسيلة من وسائل ذلك الافتتان، لأنه يرضي طموح الكاتب في التغريب، ولأنه سلطة نافذة يمكن أن يستخدمها ضد المتلقي، وهو في ميدان البحث عن متلقٍ معرفي يمتلك أدواته الثقافية القادرة على الغور إلى أعماق الأشياء، وأعماق الأمكنة المتناثرة حوله، إنه يبدأ موضوعه الأول في كتاب ابصرياثاب وقد جعل عنوانه االمداخل الأربعة لبصرياثاب، بقوله: ايروي الرواة عن المدن القديمة أحداثا وعجائب منطوية، لكني أروي في كتاب االبصرياثاب عما هو معلوم ومدبّر في سطور القدر. ليس كل ما فيها عجيب، لكن الغرابة سلطة كل مواطن فيها، وحق يعلو على أية سلطةب - وهو ما قاده إلى افتراض وجود ايوتوبيات، ويوتوبيات مغايرةب، ولكن حضور المكان يبقى فاعلًا ومؤثرًا فيندمج مع صوت الكاتب وهو يسرد تصوراته عنه عبر ضمير المتكلم بقوله: اإننا أنفسنا في أي مكان في العالم.
إن وعينا بهذه الحقيقة يوهمنا بالرحيل إلى االلامكانب، إلى يوتوبيا الوجود الآخر. لكن احتمال انتهاء هذا الوجود، الموقوت بأجل، يجعلنا لا نطلب إلا وجودًا في مكان واحدب. وهذا يعني استمرار البحث عن المكان وترسيخه بوصفه صورة من صور العلاقة بين الذات والوجود، لأن المكان هو الحاضنة التي تحتوي الأشياء في تحولاتها الواقعية وغير الواقعية، لأن أسطرته لا تعني إلغاء حضوره؛ وإنما تعني تغريبه وخلق مثيرات أكثر جاذبية للقارئ للاحتكاك بهِ .