الروائي التونسي محمود المسعدي.. الكتابة بلا ضفاف

الروائي التونسي محمود المسعدي.. الكتابة بلا ضفاف

يعد‭ ‬الكاتب‭ ‬محمود‭ ‬المسعدي،‭ ‬مع‭ ‬الشاعر‭ ‬أبي‭ ‬القاسم‭ ‬الشابي،‭ ‬من‭ ‬أوسع‭ ‬الأدباء‭ ‬التونسيين‭ ‬شهرة‭ ‬وأكثرهم‭ ‬حضورًا‭ ‬في‭ ‬ذاكرة‭ ‬الثقافة‭ ‬العربية‭ ‬الحديثة‭. ‬فإذا‭ ‬كان‭ ‬الشابي‭ ‬قد‭ ‬أسهم‭ ‬في‭ ‬تطوير‭ ‬الخطاب‭ ‬الشعري‭ ‬العربي‭ ‬الحديث‭ ‬بانفتاحه‭ ‬على‭ ‬ذرى‭ ‬استعارية‭ ‬بكر،‭ ‬فإن‭ ‬المسعدي‭ ‬قد‭ ‬أسهم،‭ ‬من‭ ‬جانبه،‭ ‬في‭ ‬تطوير‭ ‬الخطاب‭ ‬السردي‭ ‬العربي‭ ‬باستشرافه‭ ‬آفاقا‭ ‬سردية‭ ‬جديدة‭. ‬كلاهما‭ ‬ظل‭ ‬على‭ ‬صلة‭ ‬وثيقة‭ ‬بالتراث‭ ‬يستلهمه‭ ‬ويحاوره‭. ‬فالشابي،‭ ‬وإن‭ ‬خرج‭ ‬على‭ ‬سلطة‭ ‬الأنموذج‭ ‬الذي‭ ‬أثّل‭ ‬في‭ ‬الشعر‭ ‬العربي‭ ‬تقاليد‭ ‬في‭ ‬الكتابة‭ ‬استحكمت‭ ‬صورها‭ ‬في‭ ‬العقول‭ ‬والأذهان،‭ ‬فإنه‭ ‬بقي‭ ‬محتكمًا،‭ ‬كما‭ ‬يقول،‭ ‬إلى‭ ‬الروح‭ ‬العربية،‭ ‬يسألها‭ ‬ويستفتيها،‭ ‬والمسعدي‭ ‬وإن‭ ‬استلهم‭ ‬أسئلة‭ ‬الرواية‭ ‬الغربية‭ ‬فإنه‭ ‬بقي‭ ‬منشدًا‭ ‬إلى‭ ‬التراث‭ ‬يمتح‭ ‬منه‭ ‬طرائقه‭ ‬في‭ ‬السرد‭ ‬وأساليبه‭ ‬في‭ ‬تصريف‭ ‬الكلام‭.‬

الواقع‭ ‬أن‭ ‬تجربة‭ ‬المسعدي‭ ‬التي‭ ‬ستكون‭ ‬محور‭ ‬ورقتنا‭ ‬لم‭ ‬تحظ،‭ ‬عربيًا،‭ ‬بالعناية‭ ‬التي‭ ‬تستحق،‭ ‬ربما‭ ‬بسبب‭ ‬غموضها‭ ‬والتباس‭ ‬أسئلتها‭ ‬واستدعائها‭ ‬لقضايا‭ ‬فكرية‭ ‬يندّ‭ ‬عنها‭ ‬طب‭ ‬الأدب‭ ‬عامة‭ ‬وطبع‭ ‬السرد‭ ‬على‭ ‬وجه‭ ‬الخصوص‭. ‬فإذا‭ ‬كان‭ ‬الشابي‭ ‬قد‭ ‬شغل‭ ‬النقاد‭ ‬العرب‭ ‬فأداروا‭ ‬على‭ ‬قصائده‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬دراساتهم‭ ‬وبحوثهم‭ ‬فإن‭ ‬أدب‭ ‬المسعدي‭ ‬ظل،‭ ‬في‭ ‬الأغلب‭ ‬الأعمّ،‭ ‬مجهولاً‭ ‬لم‭ ‬ينعطف‭ ‬على‭ ‬دراسته‭ ‬إلا‭ ‬عدد‭ ‬قليل‭ ‬من‭ ‬النقاد‭ ‬والباحثين‭. ‬والحال‭ ‬أن‭ ‬المسعدي‭ ‬قد‭ ‬ترك‭ ‬عددًا‭ ‬مهما‭ ‬من‭ ‬الأعمال‭ ‬باللغتين‭ ‬العربية‭ ‬والفرنسية‭ ‬جمعها‭ ‬د‭.‬محمود‭ ‬طرشونة‭ ‬تنتمي‭ ‬إلى‭ ‬أجناس‭ ‬أدبية‭ ‬شتى‭ ‬مثل‭ ‬المسرح‭ ‬والرواية‭ ‬والدراسة‭ ‬الأدبية‭. ‬من‭ ‬أهمها‭ ‬مسرحية‭ ‬االسدب‭ ‬التي‭ ‬صدرت‭ ‬سنة‭ ‬1955‭ ‬ورواية‭ ‬احدث‭ ‬أبو‭ ‬هريرة‭ ‬قال‭..‬ب‭ ‬التي‭ ‬صدرت‭ ‬سنة‭ ‬1973‭ ‬ومجموعة‭ ‬امولد‭ ‬النسيانب‭ ‬التي‭ ‬صدرت‭ ‬سنة‭ ‬1974‭.‬

الحياة‭ ‬بين‭ ‬الضفاف

ولد‭ ‬محمود‭ ‬المسعدي‭ ‬في‭ ‬الثامن‭ ‬والعشرين‭ ‬من‭ ‬شهر‭ ‬يناير‭ ‬سنة‭ ‬1911‭ ‬في‭ ‬مدينة‭ ‬ساحلية‭ ‬تقع‭ ‬في‭ ‬الشمال‭ ‬التونسي‭ ‬تسمى‭ ‬اتازركةب‭. ‬دخل‭ ‬في‭ ‬حداثته‭ ‬الكتّاب‭ ‬وحفظ‭ ‬على‭ ‬يد‭ ‬مؤدب‭ ‬القرية،‭ ‬نصيبا‭ ‬من‭ ‬القرآن‭ ‬الكريم‭. ‬انتقل‭ ‬إلى‭ ‬تونس‭ ‬العاصمة‭ ‬ولم‭ ‬يزل‭ ‬يافعا‭ ‬والتحق‭ ‬بالمدرسة‭ ‬الصادقية‭ ‬الابتدائية‭ ‬ثم‭ ‬بالمعهدين‭ ‬الصادقي‭ ‬وكارنو،‭ ‬حيث‭ ‬تحصل‭ ‬على‭ ‬شهادة‭ ‬البكالوريا‭ ‬التي‭ ‬مكنته‭ ‬من‭ ‬الانخراط‭ ‬سنة‭ ‬1933‭ ‬في‭ ‬جامعة‭ ‬السوربون‭ ‬الفرنسية‭.‬

في‭ ‬باريس‭ ‬تمكن‭ ‬من‭ ‬الاطلاع‭ ‬على‭ ‬الآداب‭ ‬الغربية‭ ‬عامة‭ ‬والأدب‭ ‬الفرنسي‭ ‬على‭ ‬وجه‭ ‬الخصوص‭ ‬كما‭ ‬تمكن‭ ‬من‭ ‬الاطلاع‭ ‬على‭ ‬الفلسفة‭ ‬الوجودية‭ ‬التي‭ ‬كان‭ ‬لها‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬الوقت‭ ‬حضور‭ ‬وحظوة‭.‬

تحصل‭ ‬سنة‭ ‬1936‭ ‬على‭ ‬الإجازة‭ ‬في‭ ‬الآداب‭ ‬التي‭ ‬مكنته‭ ‬من‭ ‬التدريس‭ ‬في‭ ‬المعاهد‭ ‬الثانوية‭ ‬التونسية‭.‬

ترأس‭ ‬تحرير‭ ‬مجلة‭ ‬االمباحثب‭ ‬التي‭ ‬جعلها‭ ‬منبرًا‭ ‬للأدباء‭ ‬التونسيين‭ ‬الجدد‭ ‬ونشر‭ ‬فيها‭ ‬أعماله‭ ‬منجمة‭. ‬انتخب‭ ‬سنة‭ ‬1948‭ ‬أمينًا‭ ‬عامًا‭ ‬مساعدًا‭ ‬للاتحاد‭ ‬العام‭ ‬التونسي‭ ‬للشغل‭.‬

نـــــفي‭ ‬إلى‭ ‬الـجـنوب‭ ‬التونــــــسي‭ ‬بعد‭ ‬اغتـــــيال‭ ‬المناضل‭ ‬النــقابي‭ ‬فرحات‭ ‬حشاد‭. ‬وأسهم،‭ ‬بعد‭ ‬إطلاق‭ ‬سراحه،‭ ‬في‭ ‬المفاوضات‭ ‬مع‭ ‬فرنسا‭.‬

تقلـــب،‭ ‬بعد‭ ‬الاستقلال‭ ‬في‭ ‬عدة‭ ‬مناصب‭ ‬سياسية‭ ‬لعل‭ ‬أهمها‭ ‬منصبا‭ ‬وزير‭ ‬التعليم‭ ‬ووزير‭ ‬الثقافة‭.‬

الأدب‭ ‬مأساة‭ ‬أو‭ ‬لا‭ ‬يكون

عمل‭ ‬المسعدي‭ ‬في‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬مقالاته‭ ‬على‭ ‬إبراز‭ ‬الفوارق‭ ‬القائمة‭ ‬بين‭ ‬الفيلسوف‭ ‬والأديب‭. ‬وكأنه‭ ‬يستدرك‭ ‬بذلك‭ ‬على‭ ‬النقاد‭ ‬الذين‭ ‬يرون‭ ‬أدبه‭ ‬بالخطاب‭ ‬الفلسفي‭ ‬أشبه‭. ‬فالأديب،‭ ‬في‭ ‬نظره،‭ ‬هو‭ ‬الذي‭ ‬ايثير‭ ‬فيك‭ ‬التفكير،‭ ‬ويحرك‭ ‬من‭ ‬سواكن‭ ‬نفسك،‭ ‬ويلقي‭ ‬في‭ ‬خلدك‭ ‬المشكلات‭ ‬والقضايا،‭ ‬ويكون‭ ‬ذلك‭ ‬منه‭ ‬بالإيحاء‭ ‬الشعري‭ ‬والتعريج‭ ‬الخاطف‭.. ‬فالفوارق‭ ‬لا‭ ‬تكمن‭ ‬في‭ ‬طبيعة‭ ‬الأسئلة‭ ‬التي‭ ‬يثيرانها‭ ‬بقدر‭ ‬ما‭ ‬تكمن‭ ‬في‭ ‬طرق‭ ‬التعبير‭ ‬عن‭ ‬تلك‭ ‬الأسئلة‭.. ‬الأدب‭ ‬أوسع‭ ‬من‭ ‬الفلسفة‭ ‬مجالاً‭ ‬وأبعد‭ ‬أفقًا،‭ ‬فهو‭ ‬لا‭ ‬يخاطب‭ ‬ملكة‭ ‬التفكير‭ ‬فحسب‭ ‬وإنما‭ ‬يخاطب‭ ‬أيضًا‭ ‬ملكات‭ ‬فينا‭ ‬ألطف‭ ‬مثل‭ ‬ملكة‭ ‬الخيال‭.. ‬فالأدب‭ ‬هو‭ ‬جماع‭ ‬الإنسان‭ ‬بفكره‭ ‬وعقله‭ ‬وعاطفته‭ ‬وإحساسه‭ ‬وخيالهب‭.‬

أما‭ ‬وظيفة‭ ‬الأدب‭ ‬فهي،‭ ‬في‭ ‬نظر‭ ‬المسعدي،‭ ‬تتمثل‭ ‬في‭ ‬المقام‭ ‬الأول،‭ ‬في‭ ‬تصوير‭ ‬امأساة‭ ‬الإنسانب،‭ ‬وهو‭ ‬يتردد‭ ‬بين‭ ‬السماء‭ ‬والأرض،‭ ‬بين‭ ‬الخير‭ ‬والشر،‭ ‬بين‭ ‬الألوهية‭ ‬والحيوانية‭.. ‬الأدب‭ ‬الإنساني‭ ‬كله،‭ ‬قديمه‭ ‬وحديثه،‭ ‬منظومه‭ ‬ومنثوره،‭ ‬قد‭ ‬دار‭ ‬حول‭ ‬هذه‭ ‬المأساة‭ ‬يصفها‭ ‬ويصور‭ ‬فصولها‭. ‬اعلى‭ ‬هذا‭ ‬النمط‭ ‬فهمت‭ ‬الأدب‭ ‬جميع‭ ‬الأمم‭ ‬التي‭ ‬خلّد‭ ‬التاريخ‭ ‬آدابها‭ ‬من‭ ‬الهند‭ ‬إلى‭ ‬اليونان‭ ‬ومن‭ ‬العرب‭ ‬إلى‭ ‬الإفرنج‭.. ‬وعلى‭ ‬هذا‭ ‬النمط‭ ‬فهمه‭ ‬أدباؤنا‭ ‬الكبار‭.. ‬وقديمًا‭ ‬كان‭ ‬ابن‭ ‬المقفع‭ ‬الذي‭ ‬ترجم‭ ‬اكليلة‭ ‬ودمنةب‭ ‬بما‭ ‬فيه‭ ‬من‭ ‬روعة‭ ‬المأساة‭ ‬الإنسانية‭ ‬وما‭ ‬يملأ‭ ‬جوانبه‭ ‬من‭ ‬صرخات‭ ‬الحيرة‭ ‬البشرية‭.. ‬وكان‭ ‬فيهم‭ ‬أبو‭ ‬نواس‭ ‬الذي‭ ‬قضى‭ ‬حياته‭ ‬يتوقع‭ ‬الموت‭ ‬منشدًا‭ ‬في‭ ‬شعره‭ ‬أنشودة‭ ‬الإنسان‭ ‬تلعب‭ ‬به‭ ‬الأقدار،‭ ‬وكان‭ ‬فيهم‭ ‬أبوالعتاهية‭ ‬وموته‭ ‬والجاحظ‭ ‬وفكره‭ ‬والمتنبي‭ ‬وقوته‭ ‬والغزالي‭ ‬وآلام‭ ‬معرفته‭ ‬والمعرّي‭ ‬وعواصفه‭ ‬الهول‭. ‬وجميعهم‭ ‬فياض‭ ‬بإدخال‭ ‬معاني‭ ‬الإنسانية‭ ‬في‭ ‬رواية‭ ‬الوجود‭ ‬ولغزه‭..‬ب‭ ‬إن‭ ‬كل‭ ‬النماذج‭ ‬العليا‭ ‬للأدب،‭ ‬في‭ ‬الغرب‭ ‬والشرق،‭ ‬تؤكد‭ ‬اأن‭ ‬الأدب‭ ‬قراراته‭ ‬نفس‭ ‬الإنسان‭ ‬ومجهره‭ ‬قلب‭ ‬الإنسان‭ ‬وباطنه‭ ‬ولفظه‭ ‬ومعناه‭ ‬وصورته‭ ‬وروحه‭ ‬كلها‭ ‬معقودة‭ ‬بأعمال‭ ‬روح‭ ‬الإنسانب‭.‬

هذا‭ ‬الفهم‭ ‬للأدب‭ ‬تجلّى‭ ‬على‭ ‬نحو‭ ‬واضح‭ ‬في‭ ‬رواية‭ ‬احدّث‭ ‬أبو‭ ‬هريرة‭ ‬قال‭..‬ب‭ ‬التي‭ ‬سنخصها‭ ‬بهذه‭ ‬القراءة‭ ‬محاولين‭ ‬تسليط‭ ‬الضوء‭ ‬على‭ ‬جوانبها‭ ‬الدلالية‭ ‬والفنية‭ ‬مستأنسين‭ ‬بـ‭ ‬اخواطرب‭ ‬المسعدي‭ ‬النقدية‭.‬

حدّث‭ ‬أبوهريرة‭ ‬قال‭ ‬ومحنة‭ ‬الوجود

يعدّ‭ ‬كتاب‭ ‬احدّث‭ ‬أبو‭ ‬هريرة‭ ‬قال‭..‬ب‭ ‬من‭ ‬أهم‭ ‬أعمال‭ ‬محمود‭ ‬المسعدي‭ ‬وأولاها‭ ‬بالتدبر‭ ‬والنظر‭ ‬والتحليل‭. ‬فهو‭ ‬عمل‭ ‬لافت،‭ ‬مفاجئ،‭ ‬من‭ ‬العسير‭ ‬إدراجه‭ ‬ضمن‭ ‬جنس‭ ‬أدبي‭ ‬معيّن،‭ ‬استرفد‭ ‬الرواية‭ ‬والقصة‭ ‬والخبر‭ ‬والشعر،‭ ‬واستلهم‭ ‬أساليبها‭ ‬وطرائق‭ ‬أدائها‭ ‬غير‭ ‬عابئ‭ ‬بالحدود‭ ‬الأجناسية‭ ‬التي‭ ‬تفصل‭ ‬بينها‭. ‬فهو‭ ‬ضرب‭ ‬من‭ ‬الكتابة‭ ‬االحرةب‭ ‬التي‭ ‬لم‭ ‬تعقد‭ ‬ميثاقا‭ ‬مسبقا‭ ‬مع‭ ‬القارئ‭ ‬أو‭ ‬تخضع‭ ‬لأفق‭ ‬انتظار‭ ‬مخصوص‭.‬

نشر‭ ‬المسعدي‭ ‬هذا‭ ‬العمل‭ ‬منجّما‭ ‬في‭ ‬بعض‭ ‬المجلات‭ ‬التونسية‭ ‬خلال‭ ‬النصف‭ ‬الأول‭ ‬من‭ ‬القرن‭ ‬العشرين،‭ ‬ثم‭ ‬أعاد‭ ‬ترتيب‭ ‬أحداثه‭ ‬وكتابة‭ ‬بعض‭ ‬فصوله‭ ‬ونشره‭ ‬كاملا‭ ‬عام‭ ‬1973‭.‬

لعلّ‭ ‬أول‭ ‬ما‭ ‬يشد‭ ‬انتباه‭ ‬القارئ‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬العمل‭ ‬لغته‭. ‬هذه‭ ‬اللغة‭ ‬ليست‭ ‬مجرد‭ ‬زجاج‭ ‬شفاف‭ ‬ننظر‭ ‬من‭ ‬خلاله‭ ‬إلى‭ ‬المضمون‭ ‬وإنما‭ ‬هي‭ ‬لغة‭ ‬تشدنا‭ ‬إليها‭ ‬بوصفها‭ ‬صورا‭ ‬ورموزا‭ ‬وإيقاعات‭. ‬لغة‭ ‬تخبر‭ ‬عن‭ ‬نفسها‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬تخبر‭ ‬عن‭ ‬العالم،‭ ‬وتحيل‭ ‬على‭ ‬ذاتها‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬تحيل‭ ‬فيه‭ ‬على‭ ‬الواقع‭.‬

لكأن‭ ‬اهتمام‭ ‬المسعدي‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬منصبا‭ ‬على‭ ‬مقول‭ ‬القول‭ ‬بقدر‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬منصبا‭ ‬على‭ ‬طريقة‭ ‬القول،‭ ‬على‭ ‬نبرته‭ ‬وجرسه‭ ‬وظلال‭ ‬معانيه‭. ‬هذه‭ ‬اللغة‭ ‬هي‭ ‬لغة‭ ‬لازمة،‭ ‬إذا‭ ‬أخذنا‭ ‬بتقسيم‭ ‬رولان‭ ‬بارت‭ ‬المعروف،‭ ‬ليس‭ ‬لها‭ ‬من‭ ‬غاية‭ ‬سوى‭ ‬ترك‭ ‬المبادرة‭ ‬للكلمات‭. ‬فحين‭ ‬يقول‭ ‬محمود‭ ‬المسعدي،‭ ‬على‭ ‬سبيل‭ ‬المثال،‭ ‬متقمصا‭ ‬أحد‭ ‬أبطاله‭: ‬اأنظر‭ ‬إلى‭ ‬السماء‭ ‬فأراها‭ ‬نورًا‭ ‬والأرض‭ ‬فأراها‭ ‬ماء‭ ‬ونفسي‭ ‬فأراها‭ ‬شعاعا‭.. ‬النجوم‭ ‬إخوتي‭ ‬وزهر‭ ‬الأرض‭ ‬وسادي‭ ‬والشمس‭ ‬طعامي‭.. ‬أنا‭ ‬طائر‭ ‬أو‭ ‬صخر‭ ‬أو‭ ‬سحاب‭ ‬في‭ ‬السماء‭.. ‬لا‭ ‬أرى‭ ‬في‭ ‬أي‭ ‬بلد‭ ‬وقعت‭ ‬وليس‭ ‬من‭ ‬همي،‭ ‬فإذا‭ ‬صاحب‭ ‬الأحلام‭ ‬إذا‭ ‬ذهبت‭ ‬به‭ ‬قتل‭ ‬الدنيا‭ ‬وانقطع‭ ‬إلى‭ ‬الفوق،‭ ‬فليس‭ ‬في‭ ‬الكون‭ ‬غيره‭ ‬وإن‭ ‬هو‭ ‬إلا‭ ‬خيال‭..‬ب‭ ‬حين‭ ‬يقول‭ ‬الكاتب‭ ‬هذه‭ ‬الصور‭ ‬والاستعارات‭ ‬فإنه‭ ‬يستدعي‭ ‬الأساليب‭ ‬الصوفية‭ ‬في‭ ‬الكتابة،‭ ‬وبالتحديد‭ ‬يستدعي‭ ‬أسلوب‭ ‬الشذرة‭ ‬الصوفية‭ ‬وما‭ ‬تنطوي‭ ‬عليه‭ ‬من‭ ‬إمكانات‭ ‬استعارية‭ ‬ورمزية‭ ‬كبيرة‭. ‬وهذا‭ ‬الأسلوب،‭ ‬أسلوب‭ ‬الشذرة،‭ ‬يتجلى‭ ‬بوضوح‭ ‬في‭ ‬شطحات‭ ‬البسطامي‭ ‬ومواقف‭ ‬النفري،‭ ‬حيث‭ ‬ينفتح‭ ‬الشعر‭ ‬على‭ ‬النثر‭ ‬وتتكثف‭ ‬العبارة‭ ‬بحيث‭ ‬تقول‭ ‬المعنى‭ ‬الأكثر‭ ‬في‭ ‬اللفظ‭ ‬الأقل‭. ‬في‭ ‬كل‭ ‬فصول‭ ‬هذا‭ ‬الكتاب‭ ‬تتلامح‭ ‬رموز‭ ‬الإشارات‭ ‬الإلهية‭ ‬لأبي‭ ‬حيان‭ ‬التوحيدي،‭ ‬وإيقاعات‭ ‬طواسين‭ ‬الحلاج،‭ ‬وصور‭ ‬الإنسان‭ ‬الكامل‭ ‬لعبدالقادر‭ ‬الجيلاني‭ ‬ومعجم‭ ‬الفتوحات‭ ‬المكية‭.. ‬هذا‭ ‬الأسلوب‭ ‬يجمع‭ ‬بين‭ ‬الوضوح‭ ‬والغموض،‭ ‬التجريد‭ ‬والتجسيد،‭ ‬الروحي‭ ‬والفكري‭.. ‬حيث‭ ‬تتحول‭ ‬تجربة‭ ‬الكتابة‭ ‬إلى‭ ‬كتابة‭ ‬للتجربة‭ ‬مع‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬تنطوي‭ ‬عليه‭ ‬تلك‭ ‬الكتابة‭ ‬من‭ ‬مكابدة‭ ‬للحرف‭ ‬يلتاث‭ ‬فلا‭ ‬يستسلم‭ ‬بيسر‭ ‬وانسياب‭.‬

مدارج‭ ‬التصوف‭ ‬في‭ ‬الرواية

لقد‭ ‬عدّ‭ ‬المتصوفة‭ ‬حياتهم‭ ‬سفرا،‭ ‬وخلال‭ ‬هذا‭ ‬السفر‭ ‬يرتقون‭ ‬جملة‭ ‬من‭ ‬المدارج‭ ‬والمقامات‭ ‬فينتقلون‭ ‬من‭ ‬حال‭ ‬إلى‭ ‬حال،‭ ‬ومن‭ ‬تجربة‭ ‬إلى‭ ‬أخرى،‭ ‬أما‭ ‬الغاية‭ ‬التي‭ ‬ينتهي‭ ‬إليها‭ ‬هذا‭ ‬السفر‭ ‬فقد‭ ‬اختلف‭ ‬المتصوفة‭ ‬في‭ ‬تحديدها‭. ‬وقد‭ ‬رأى‭ ‬ابن‭ ‬عربي‭ ‬أنها‭ ‬تختلف‭ ‬باختلاف‭ ‬المسافر‭ ‬وقد‭ ‬جمعها‭ ‬في‭ ‬ثلاثة‭ ‬أصناف‭ ‬كان‭ - ‬على‭ ‬عبارته‭ - ‬قد‭ ‬أثبتها‭ ‬الحق‭: ‬إما‭ ‬سفر‭ ‬من‭ ‬عنده‭ ‬وإما‭ ‬سفر‭ ‬إليه‭ ‬وإما‭ ‬سفر‭ ‬فيه‭.. ‬وهذا‭ ‬السفر‭ ‬الأخير،‭ ‬على‭ ‬حد‭ ‬ابن‭ ‬عربي،‭ ‬هو‭ ‬اسفر‭ ‬التيه‭ ‬والحيرةب‭ ‬لأنه‭ ‬ضرب‭ ‬من‭ ‬السفر‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬ينتهي‭ ‬إلى‭ ‬غاية‭ ‬معلومة،‭ ‬إنه‭ ‬سفر‭ ‬الدهش‭ ‬كما‭ ‬وصفه‭ ‬سهل‭ ‬بن‭ ‬عبدالله‭(‬1‭). ‬في‭ ‬هذا‭ ‬السياق‭ ‬نفهم‭ ‬إلمام‭ ‬المتصوفة‭ ‬برمزية‭ ‬الطير‭ ‬ينتقل‭ ‬من‭ ‬واد‭ ‬إلى‭ ‬آخر‭ ‬حتى‭ ‬يبلغ‭ ‬الحضرة،‭ ‬ويعد‭ ‬فريد‭ ‬الدين‭ ‬العطار‭ ‬من‭ ‬أبرز‭ ‬الشعراء‭ ‬الذين‭ ‬ألموا‭ ‬بهذا‭ ‬الرمز‭ ‬في‭ ‬كتابة‭ ‬امنطق‭ ‬الطيرب‭ ‬الذي‭ ‬صور،‭ ‬على‭ ‬نحو‭ ‬درامي،‭ ‬رحلة‭ ‬الطيور‭ ‬إلى‭ ‬سيدها‭.‬

ومثل‭ ‬الشخصيات‭ ‬أشربت‭ ‬الأحداث،‭ ‬في‭ ‬احدّث‭ ‬أبو‭ ‬هريرة‭ ‬قالب‭ ‬طابعا‭ ‬رمزيا‭.. ‬لهذا‭ ‬لم‭ ‬يعتن‭ ‬الكاتب‭ ‬كثيرا‭ ‬بنظام‭ ‬تسلسلها‭ ‬ونسق‭ ‬تعاقبها،‭ ‬بل‭ ‬وجدناه‭ ‬يترك‭ ‬بعضها‭ ‬يرتدّ‭ ‬على‭ ‬بعض‭ ‬دون‭ ‬سبب‭ ‬معلوم‭. ‬ولا‭ ‬نقصد‭ ‬بذلك‭ ‬تداخل‭ ‬الأزمنة‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬العمل‭ ‬واضطرابها‭. ‬فذلك‭ ‬التداخل‭ ‬وهذا‭ ‬الاضطراب‭ ‬هما‭ ‬اللذان‭ ‬منحا‭ ‬هذه‭ ‬الرواية‭ ‬بعدها‭ ‬الحداثي‭.. ‬إضافة‭ ‬إلى‭ ‬عناصر‭ ‬سردية‭ ‬أخرى‭.. ‬ولكننا‭ ‬نقصد‭ ‬تكرار‭ ‬الأحداث‭ ‬بصيغ‭ ‬مختلفة،‭ ‬وهو‭ ‬الأمر‭ ‬الذي‭ ‬كسر،‭ ‬أحيانا،‭ ‬خط‭ ‬الرواية‭ ‬التصاعدي،‭ ‬من‭ ‬ذلك‭ ‬ارتداد‭ ‬أبي‭ ‬هريرة‭ ‬إلى‭ ‬التجربة‭ ‬الحسية‭ ‬مع‭ ‬ظلمة‭ ‬الهذلية،‭ ‬وقد‭ ‬خلناه‭ ‬قد‭ ‬تجاوز‭ ‬تلك‭ ‬التجربة‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬امتلأ‭ ‬بها‭ ‬في‭ ‬البعث‭ ‬الأول،‭ ‬واتجه‭ ‬صوب‭ ‬تجربة‭ ‬أخرى‭ ‬مختلفة‭.‬

هذا‭ ‬السفر،‭ ‬مع‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬تضمنه‭ ‬من‭ ‬مقامات‭ ‬كثيرة،‭ ‬ليس‭ ‬في‭ ‬واقع‭ ‬الأمر،‭ ‬إلا‭ ‬صورة‭ ‬لسفر‭ ‬الإنسان‭ ‬يسعى،‭ ‬عبر‭ ‬التاريخ،‭ ‬إلى‭ ‬تحقيق‭ ‬كيانه‭ ‬ونحت‭ ‬إنسانيته‭.. ‬فالإنسان،‭ ‬كما‭ ‬ردد‭ ‬المسعدي،‭ ‬لم‭ ‬يبرز‭ ‬إلى‭ ‬الوجود‭ ‬افي‭ ‬حال‭ ‬تكوين‭ ‬نهائي‭..‬ب‭ ‬فقد‭ ‬كان،‭ ‬في‭ ‬البدء،‭ ‬امجرد‭ ‬كتلة‭ ‬من‭ ‬طاقات‭ ‬وإمكانات‭.. ‬ولا‭ ‬يتحقق‭ ‬له‭ ‬كيان‭ ‬فعلي‭ ‬إلا‭ ‬بإخراج‭ ‬تلك‭ ‬الطاقات‭ ‬من‭ ‬حيّز‭ ‬القدرة‭ ‬إلى‭ ‬حيز‭ ‬الفعل‭..‬ب‭ ‬والأدب‭ ‬هو‭ ‬تصوير‭ ‬رمزي‭ ‬لهذا‭ ‬السفر‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬يقف‭ ‬عند‭ ‬حد‭ ‬معلوم‭ ‬المغامرة‭ ‬الإنسان‭ ‬الوجودية‭ ‬بما‭ ‬هي‭ ‬ظاهرة‭ ‬فردية‭ ‬لمغامرة‭ ‬الإنسان‭ ‬في‭ ‬الكون‭.. (‬2‭)‬ب‭.‬

استخدم‭ ‬أرسطو‭ ‬في‭ ‬كتابه‭ ‬فن‭ ‬الشعر‭ ‬مصطلح‭ ‬الخرافة‭ ‬ليشير‭ ‬إلى‭ ‬بنية‭ ‬المحكي‭ ‬داخل‭ ‬المأساة،‭ ‬مؤكدا‭ ‬أن‭ ‬هذه‭ ‬البنية‭ ‬تمثّل‭ ‬أهم‭ ‬عناصر‭ ‬هذا‭ ‬العمل‭ ‬الدرامي‭ ‬وقسمها‭ ‬إلى‭ ‬بنية‭ ‬بسيطة‭ ‬وأخرى‭ ‬مركبة،‭ ‬وعرّف‭ ‬البسيطة‭ ‬بأنها‭ ‬التي‭ ‬يتغير‭ ‬فيها‭ ‬مصير‭ ‬الأبطال‭ ‬دون‭ ‬تحول‭ ‬أو‭ ‬تعرف،‭ ‬والمركبة‭ ‬بالتي‭ ‬يتوافّر‭ ‬أحد‭ ‬هذين‭ ‬العنصرين‭ ‬أو‭ ‬هما‭ ‬معا‭ ‬فيقف‭ ‬عليهما‭ ‬تغير‭ ‬مصير‭ ‬الأبطال‭. ‬والتحول‭ ‬عند‭ ‬أرسطو‭ ‬انقلاب‭ ‬في‭ ‬مجرى‭ ‬الأحداث‭ ‬يفضي‭ ‬إلى‭ ‬عكس‭ ‬ما‭ ‬يوحي‭ ‬به‭ ‬سياقها‭.. ‬أمّا‭ ‬التعرف‭ ‬فهو‭ ‬معرفة‭ ‬بعد‭ ‬جهل‭ ‬تؤدي‭ ‬إلى‭ ‬حب‭ ‬أو‭ ‬كراهية‭ ‬يجسدهما‭ ‬أبطال‭ ‬المأساة‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬أفعالهم‭ (‬3‭).‬

وإذا‭ ‬تأملنا‭ ‬كتاب‭ ‬احدّث‭ ‬أبوهريرة‭ ‬قال‭..‬ب‭ ‬وجدنا‭ ‬أن‭ ‬بنيته‭ ‬بسيطة‭ ‬وإن‭ ‬بدت‭ ‬لنا،‭ ‬في‭ ‬بعض‭ ‬الأحيان‭ ‬مركبة‭.. ‬لا‭ ‬شك‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬هناك‭ ‬انقلابا‭ ‬قد‭ ‬حدث‭ ‬في‭ ‬مجرى‭ ‬حياة‭ ‬أبي‭ ‬هريرة‭ ‬منذ‭ ‬أن‭ ‬أبصر‭ ‬الفتى‭ ‬والفتاة‭ ‬يرقصان‭ ‬في‭ ‬الصحراء،‭ ‬بحيث‭ ‬عصف‭ ‬ذلك‭ ‬المشهد‭ ‬بطمأنينته‭ ‬وسكينة‭ ‬روحه،‭ ‬لكنّ‭ ‬الكتاب‭ ‬لم‭ ‬يهتم‭ ‬بحياة‭ ‬الرجل‭ ‬قبل‭ ‬بعثه،‭ ‬لم‭ ‬يصوّره‭ ‬وهو‭ ‬مفرغ‭ ‬الكيان،‭ ‬لم‭ ‬يتأن‭ ‬في‭ ‬وصف‭ ‬التغير‭ ‬الذي‭ ‬انتاب‭ ‬حياته،‭ ‬لم‭ ‬يسلط‭ ‬الضوء‭ ‬على‭ ‬أسباب‭ ‬انسلاخه‭ ‬عن‭ ‬سيرته‭ ‬الأولى،‭ ‬بل‭ ‬استهل‭ ‬هذا‭ ‬الكتاب‭ ‬بالبعث‭ (‬وهو‭ ‬الاسم‭ ‬الآخر‭ ‬للانقلاب‭ ‬في‭ ‬مصطلح‭ ‬لأرسطو‭)‬،‭ ‬بإصرار‭ ‬أبي‭ ‬هريرة‭ ‬على‭ ‬خوض‭ ‬المغامرة،‭ ‬مغامرة‭ ‬الوجود،‭ ‬مكتفيا‭ ‬بإشارات‭ ‬سريعة‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬قبل‭ ‬البعث‭. ‬ومن‭ ‬ثم‭ ‬فقد‭ ‬الكتاب‭ ‬جذوة‭ ‬الدراما‭ ‬التي‭ ‬تقوم‭ ‬على‭ ‬الصراع‭ ‬يحتدّ‭ ‬بين‭ ‬الشيء‭ ‬ونقيضه،‭ ‬على‭ ‬التوتر‭ ‬يفتح‭ ‬العمل‭ ‬على‭ ‬أفق‭ ‬لا‭ ‬يحدّ‭ ‬منتهاه‭.‬

استدعاء‭ ‬بنية‭ ‬الخرافة

والواقع‭ ‬أن‭ ‬الرواية‭ ‬قد‭ ‬قامت‭ ‬على‭ ‬قصة‭ ‬إطارية‭ ‬كبرى‭ (‬خوض‭ ‬أبي‭ ‬هريرة‭ ‬مغامرة‭ ‬الوجود‭) ‬تنطوي‭ ‬على‭ ‬جملة‭ ‬من‭ ‬القصص‭ ‬الصغرى‭ ‬هي‭ ‬بالأخبار،‭ ‬في‭ ‬صيغتها‭ ‬القديمة،‭ ‬أمسّ‭ ‬رحما‭ (‬قصة‭ ‬علة‭ ‬أبي‭ ‬هريرة،‭ ‬قصة‭ ‬حبه‭ ‬عند‭ ‬الطواف،‭ ‬قصة‭ ‬موت‭ ‬أخته،‭ ‬قصة‭ ‬لقائه‭ ‬بأبي‭ ‬رغال‭)‬،‭ ‬مستعيدة‭ ‬بذلك‭ ‬بنية‭ ‬القصة‭ ‬العربية‭ ‬القديمة‭.. ‬فهذه‭ ‬القصص‭ ‬الصغرى‭ ‬ينحدر‭ ‬بعضها‭ ‬من‭ ‬بعض‭ ‬في‭ ‬ضرب‭ ‬من‭ ‬التداعي‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬يخضع‭ ‬لمنطق‭ ‬مخصوص،‭ ‬بل‭ ‬ربما‭ ‬تمكنا‭ ‬من‭ ‬انتزاع‭ ‬تلك‭ ‬القصص‭ ‬الصغرى‭ ‬من‭ ‬سياقنا‭ ‬وقرأناها‭ ‬بوصفها‭ ‬نصوصا‭ ‬مستقلة‭ ‬بنفسها،‭ ‬غير‭ ‬مفتقرة‭ ‬إلى‭ ‬غيرها‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬تفقد‭ - ‬مع‭ ‬ذلك‭ - ‬قوتها‭ ‬وعناصر‭ ‬تماسكها،‭ ‬تماما‭ ‬مثلما‭ ‬هو‭ ‬الشأن‭ ‬بالنسبة‭ ‬إلى‭ ‬قصص‭ ‬ألف‭ ‬ليلة‭ ‬وليلة‭. ‬هذه‭ ‬المرونة‭ ‬العجيبة‭ ‬في‭ ‬طرائق‭ ‬السرد‭ ‬جعلت‭ ‬هذا‭ ‬الكتاب‭ ‬نصوصا‭ ‬عديدة‭ ‬متضمنة‭ ‬في‭ ‬نص‭ ‬واحد‭. ‬لكن‭ ‬ذلك‭ ‬لا‭ ‬يعني‭ ‬أن‭ ‬هذه‭ ‬النصوص‭ ‬منفصلة‭ ‬عن‭ ‬القصة‭ ‬الإطارية‭ ‬انفصالا‭ ‬كاملا،‭ ‬إذ‭ ‬إن‭ ‬هناك‭ ‬عددا‭ ‬من‭ ‬الوشائج‭ ‬السردية‭ ‬يشد‭ ‬النصوص‭ ‬الصغرى‭ ‬إلى‭ ‬القصة‭ ‬الأم‭ ‬شد‭ ‬تلاؤم‭ ‬وانسجام‭.‬

لاسترفاد‭ ‬المسعدي‭ ‬لطرائق‭ ‬السرد‭ ‬التقليدية‭ ‬غايتان‭ ‬اثنتان‭ ‬تؤولان‭ ‬إلى‭ ‬غاية‭ ‬واحدة‭, ‬أولاهما‭: ‬الاستدراك‭ ‬على‭ ‬الرواية‭ ‬العربية‭ ‬كما‭ ‬استتبت‭ ‬مقوماتها‭ ‬في‭ ‬النصف‭ ‬الأول‭ ‬في‭ ‬القرن‭ ‬العشرين‭. ‬وهي‭ ‬الرواية‭ ‬التي‭ ‬تبنت،‭ ‬في‭ ‬الأغلب‭ ‬الأعم،‭ ‬خصائص‭ ‬الرواية‭ ‬الغربية‭ ‬الفنية‭ ‬والسردية‭. ‬أما‭ ‬الغاية‭ ‬الثانية‭ ‬فهي‭ ‬اقتراح‭ ‬خطاب‭ ‬روائي‭ ‬بديل‭ ‬يستمد‭ ‬مقوماته‭ ‬من‭ ‬التراث‭ ‬العربي،‭ ‬من‭ ‬غير‭ ‬أن‭ ‬يتنكّر‭ ‬لأسئلة‭ ‬اللحظة‭ ‬الراهنة‭ ‬ورهاناتها‭ ‬الفكرية‭ ‬والأيديولوجية‭.‬

كل‭ ‬هذا‭ ‬يؤكد‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬العمل‭ ‬ينظر‭ ‬برأسين‭ ‬اثنين‭: ‬رأس‭ ‬يلتفت‭ ‬إلى‭ ‬الذاكرة‭ ‬الأدبية‭ ‬يستلهم‭ ‬لغتها‭ ‬وصورها‭ ‬وأساليب‭ ‬سردها،‭ ‬ورأس‭ ‬آخر‭ ‬ينظر‭ ‬إلى‭ ‬الحاضر‭ ‬يقتنص‭ ‬مجمل‭ ‬مشاغله‭ ‬وعميق‭ ‬هواجسه‭.. ‬وفي‭ ‬هذه‭ ‬الحركة‭ ‬المزدوجة‭ ‬تكمن‭ ‬قيمة‭ ‬هذا‭ ‬الكتاب‭.. ‬بل‭ ‬تكمن‭ ‬قيمة‭ ‬كل‭ ‬الأعمال‭ ‬التي‭ ‬كتبها‭ ‬المسعدي‭ .