الروائي التونسي محمود المسعدي.. الكتابة بلا ضفاف
يعد الكاتب محمود المسعدي، مع الشاعر أبي القاسم الشابي، من أوسع الأدباء التونسيين شهرة وأكثرهم حضورًا في ذاكرة الثقافة العربية الحديثة. فإذا كان الشابي قد أسهم في تطوير الخطاب الشعري العربي الحديث بانفتاحه على ذرى استعارية بكر، فإن المسعدي قد أسهم، من جانبه، في تطوير الخطاب السردي العربي باستشرافه آفاقا سردية جديدة. كلاهما ظل على صلة وثيقة بالتراث يستلهمه ويحاوره. فالشابي، وإن خرج على سلطة الأنموذج الذي أثّل في الشعر العربي تقاليد في الكتابة استحكمت صورها في العقول والأذهان، فإنه بقي محتكمًا، كما يقول، إلى الروح العربية، يسألها ويستفتيها، والمسعدي وإن استلهم أسئلة الرواية الغربية فإنه بقي منشدًا إلى التراث يمتح منه طرائقه في السرد وأساليبه في تصريف الكلام.
الواقع أن تجربة المسعدي التي ستكون محور ورقتنا لم تحظ، عربيًا، بالعناية التي تستحق، ربما بسبب غموضها والتباس أسئلتها واستدعائها لقضايا فكرية يندّ عنها طب الأدب عامة وطبع السرد على وجه الخصوص. فإذا كان الشابي قد شغل النقاد العرب فأداروا على قصائده الكثير من دراساتهم وبحوثهم فإن أدب المسعدي ظل، في الأغلب الأعمّ، مجهولاً لم ينعطف على دراسته إلا عدد قليل من النقاد والباحثين. والحال أن المسعدي قد ترك عددًا مهما من الأعمال باللغتين العربية والفرنسية جمعها د.محمود طرشونة تنتمي إلى أجناس أدبية شتى مثل المسرح والرواية والدراسة الأدبية. من أهمها مسرحية االسدب التي صدرت سنة 1955 ورواية احدث أبو هريرة قال..ب التي صدرت سنة 1973 ومجموعة امولد النسيانب التي صدرت سنة 1974.
الحياة بين الضفاف
ولد محمود المسعدي في الثامن والعشرين من شهر يناير سنة 1911 في مدينة ساحلية تقع في الشمال التونسي تسمى اتازركةب. دخل في حداثته الكتّاب وحفظ على يد مؤدب القرية، نصيبا من القرآن الكريم. انتقل إلى تونس العاصمة ولم يزل يافعا والتحق بالمدرسة الصادقية الابتدائية ثم بالمعهدين الصادقي وكارنو، حيث تحصل على شهادة البكالوريا التي مكنته من الانخراط سنة 1933 في جامعة السوربون الفرنسية.
في باريس تمكن من الاطلاع على الآداب الغربية عامة والأدب الفرنسي على وجه الخصوص كما تمكن من الاطلاع على الفلسفة الوجودية التي كان لها في ذلك الوقت حضور وحظوة.
تحصل سنة 1936 على الإجازة في الآداب التي مكنته من التدريس في المعاهد الثانوية التونسية.
ترأس تحرير مجلة االمباحثب التي جعلها منبرًا للأدباء التونسيين الجدد ونشر فيها أعماله منجمة. انتخب سنة 1948 أمينًا عامًا مساعدًا للاتحاد العام التونسي للشغل.
نـــــفي إلى الـجـنوب التونــــــسي بعد اغتـــــيال المناضل النــقابي فرحات حشاد. وأسهم، بعد إطلاق سراحه، في المفاوضات مع فرنسا.
تقلـــب، بعد الاستقلال في عدة مناصب سياسية لعل أهمها منصبا وزير التعليم ووزير الثقافة.
الأدب مأساة أو لا يكون
عمل المسعدي في كثير من مقالاته على إبراز الفوارق القائمة بين الفيلسوف والأديب. وكأنه يستدرك بذلك على النقاد الذين يرون أدبه بالخطاب الفلسفي أشبه. فالأديب، في نظره، هو الذي ايثير فيك التفكير، ويحرك من سواكن نفسك، ويلقي في خلدك المشكلات والقضايا، ويكون ذلك منه بالإيحاء الشعري والتعريج الخاطف.. فالفوارق لا تكمن في طبيعة الأسئلة التي يثيرانها بقدر ما تكمن في طرق التعبير عن تلك الأسئلة.. الأدب أوسع من الفلسفة مجالاً وأبعد أفقًا، فهو لا يخاطب ملكة التفكير فحسب وإنما يخاطب أيضًا ملكات فينا ألطف مثل ملكة الخيال.. فالأدب هو جماع الإنسان بفكره وعقله وعاطفته وإحساسه وخيالهب.
أما وظيفة الأدب فهي، في نظر المسعدي، تتمثل في المقام الأول، في تصوير امأساة الإنسانب، وهو يتردد بين السماء والأرض، بين الخير والشر، بين الألوهية والحيوانية.. الأدب الإنساني كله، قديمه وحديثه، منظومه ومنثوره، قد دار حول هذه المأساة يصفها ويصور فصولها. اعلى هذا النمط فهمت الأدب جميع الأمم التي خلّد التاريخ آدابها من الهند إلى اليونان ومن العرب إلى الإفرنج.. وعلى هذا النمط فهمه أدباؤنا الكبار.. وقديمًا كان ابن المقفع الذي ترجم اكليلة ودمنةب بما فيه من روعة المأساة الإنسانية وما يملأ جوانبه من صرخات الحيرة البشرية.. وكان فيهم أبو نواس الذي قضى حياته يتوقع الموت منشدًا في شعره أنشودة الإنسان تلعب به الأقدار، وكان فيهم أبوالعتاهية وموته والجاحظ وفكره والمتنبي وقوته والغزالي وآلام معرفته والمعرّي وعواصفه الهول. وجميعهم فياض بإدخال معاني الإنسانية في رواية الوجود ولغزه..ب إن كل النماذج العليا للأدب، في الغرب والشرق، تؤكد اأن الأدب قراراته نفس الإنسان ومجهره قلب الإنسان وباطنه ولفظه ومعناه وصورته وروحه كلها معقودة بأعمال روح الإنسانب.
هذا الفهم للأدب تجلّى على نحو واضح في رواية احدّث أبو هريرة قال..ب التي سنخصها بهذه القراءة محاولين تسليط الضوء على جوانبها الدلالية والفنية مستأنسين بـ اخواطرب المسعدي النقدية.
حدّث أبوهريرة قال ومحنة الوجود
يعدّ كتاب احدّث أبو هريرة قال..ب من أهم أعمال محمود المسعدي وأولاها بالتدبر والنظر والتحليل. فهو عمل لافت، مفاجئ، من العسير إدراجه ضمن جنس أدبي معيّن، استرفد الرواية والقصة والخبر والشعر، واستلهم أساليبها وطرائق أدائها غير عابئ بالحدود الأجناسية التي تفصل بينها. فهو ضرب من الكتابة االحرةب التي لم تعقد ميثاقا مسبقا مع القارئ أو تخضع لأفق انتظار مخصوص.
نشر المسعدي هذا العمل منجّما في بعض المجلات التونسية خلال النصف الأول من القرن العشرين، ثم أعاد ترتيب أحداثه وكتابة بعض فصوله ونشره كاملا عام 1973.
لعلّ أول ما يشد انتباه القارئ في هذا العمل لغته. هذه اللغة ليست مجرد زجاج شفاف ننظر من خلاله إلى المضمون وإنما هي لغة تشدنا إليها بوصفها صورا ورموزا وإيقاعات. لغة تخبر عن نفسها قبل أن تخبر عن العالم، وتحيل على ذاتها قبل أن تحيل فيه على الواقع.
لكأن اهتمام المسعدي لم يكن منصبا على مقول القول بقدر ما كان منصبا على طريقة القول، على نبرته وجرسه وظلال معانيه. هذه اللغة هي لغة لازمة، إذا أخذنا بتقسيم رولان بارت المعروف، ليس لها من غاية سوى ترك المبادرة للكلمات. فحين يقول محمود المسعدي، على سبيل المثال، متقمصا أحد أبطاله: اأنظر إلى السماء فأراها نورًا والأرض فأراها ماء ونفسي فأراها شعاعا.. النجوم إخوتي وزهر الأرض وسادي والشمس طعامي.. أنا طائر أو صخر أو سحاب في السماء.. لا أرى في أي بلد وقعت وليس من همي، فإذا صاحب الأحلام إذا ذهبت به قتل الدنيا وانقطع إلى الفوق، فليس في الكون غيره وإن هو إلا خيال..ب حين يقول الكاتب هذه الصور والاستعارات فإنه يستدعي الأساليب الصوفية في الكتابة، وبالتحديد يستدعي أسلوب الشذرة الصوفية وما تنطوي عليه من إمكانات استعارية ورمزية كبيرة. وهذا الأسلوب، أسلوب الشذرة، يتجلى بوضوح في شطحات البسطامي ومواقف النفري، حيث ينفتح الشعر على النثر وتتكثف العبارة بحيث تقول المعنى الأكثر في اللفظ الأقل. في كل فصول هذا الكتاب تتلامح رموز الإشارات الإلهية لأبي حيان التوحيدي، وإيقاعات طواسين الحلاج، وصور الإنسان الكامل لعبدالقادر الجيلاني ومعجم الفتوحات المكية.. هذا الأسلوب يجمع بين الوضوح والغموض، التجريد والتجسيد، الروحي والفكري.. حيث تتحول تجربة الكتابة إلى كتابة للتجربة مع كل ما تنطوي عليه تلك الكتابة من مكابدة للحرف يلتاث فلا يستسلم بيسر وانسياب.
مدارج التصوف في الرواية
لقد عدّ المتصوفة حياتهم سفرا، وخلال هذا السفر يرتقون جملة من المدارج والمقامات فينتقلون من حال إلى حال، ومن تجربة إلى أخرى، أما الغاية التي ينتهي إليها هذا السفر فقد اختلف المتصوفة في تحديدها. وقد رأى ابن عربي أنها تختلف باختلاف المسافر وقد جمعها في ثلاثة أصناف كان - على عبارته - قد أثبتها الحق: إما سفر من عنده وإما سفر إليه وإما سفر فيه.. وهذا السفر الأخير، على حد ابن عربي، هو اسفر التيه والحيرةب لأنه ضرب من السفر الذي لا ينتهي إلى غاية معلومة، إنه سفر الدهش كما وصفه سهل بن عبدالله(1). في هذا السياق نفهم إلمام المتصوفة برمزية الطير ينتقل من واد إلى آخر حتى يبلغ الحضرة، ويعد فريد الدين العطار من أبرز الشعراء الذين ألموا بهذا الرمز في كتابة امنطق الطيرب الذي صور، على نحو درامي، رحلة الطيور إلى سيدها.
ومثل الشخصيات أشربت الأحداث، في احدّث أبو هريرة قالب طابعا رمزيا.. لهذا لم يعتن الكاتب كثيرا بنظام تسلسلها ونسق تعاقبها، بل وجدناه يترك بعضها يرتدّ على بعض دون سبب معلوم. ولا نقصد بذلك تداخل الأزمنة في هذا العمل واضطرابها. فذلك التداخل وهذا الاضطراب هما اللذان منحا هذه الرواية بعدها الحداثي.. إضافة إلى عناصر سردية أخرى.. ولكننا نقصد تكرار الأحداث بصيغ مختلفة، وهو الأمر الذي كسر، أحيانا، خط الرواية التصاعدي، من ذلك ارتداد أبي هريرة إلى التجربة الحسية مع ظلمة الهذلية، وقد خلناه قد تجاوز تلك التجربة بعد أن امتلأ بها في البعث الأول، واتجه صوب تجربة أخرى مختلفة.
هذا السفر، مع كل ما تضمنه من مقامات كثيرة، ليس في واقع الأمر، إلا صورة لسفر الإنسان يسعى، عبر التاريخ، إلى تحقيق كيانه ونحت إنسانيته.. فالإنسان، كما ردد المسعدي، لم يبرز إلى الوجود افي حال تكوين نهائي..ب فقد كان، في البدء، امجرد كتلة من طاقات وإمكانات.. ولا يتحقق له كيان فعلي إلا بإخراج تلك الطاقات من حيّز القدرة إلى حيز الفعل..ب والأدب هو تصوير رمزي لهذا السفر الذي لا يقف عند حد معلوم المغامرة الإنسان الوجودية بما هي ظاهرة فردية لمغامرة الإنسان في الكون.. (2)ب.
استخدم أرسطو في كتابه فن الشعر مصطلح الخرافة ليشير إلى بنية المحكي داخل المأساة، مؤكدا أن هذه البنية تمثّل أهم عناصر هذا العمل الدرامي وقسمها إلى بنية بسيطة وأخرى مركبة، وعرّف البسيطة بأنها التي يتغير فيها مصير الأبطال دون تحول أو تعرف، والمركبة بالتي يتوافّر أحد هذين العنصرين أو هما معا فيقف عليهما تغير مصير الأبطال. والتحول عند أرسطو انقلاب في مجرى الأحداث يفضي إلى عكس ما يوحي به سياقها.. أمّا التعرف فهو معرفة بعد جهل تؤدي إلى حب أو كراهية يجسدهما أبطال المأساة من خلال أفعالهم (3).
وإذا تأملنا كتاب احدّث أبوهريرة قال..ب وجدنا أن بنيته بسيطة وإن بدت لنا، في بعض الأحيان مركبة.. لا شك في أن هناك انقلابا قد حدث في مجرى حياة أبي هريرة منذ أن أبصر الفتى والفتاة يرقصان في الصحراء، بحيث عصف ذلك المشهد بطمأنينته وسكينة روحه، لكنّ الكتاب لم يهتم بحياة الرجل قبل بعثه، لم يصوّره وهو مفرغ الكيان، لم يتأن في وصف التغير الذي انتاب حياته، لم يسلط الضوء على أسباب انسلاخه عن سيرته الأولى، بل استهل هذا الكتاب بالبعث (وهو الاسم الآخر للانقلاب في مصطلح لأرسطو)، بإصرار أبي هريرة على خوض المغامرة، مغامرة الوجود، مكتفيا بإشارات سريعة إلى ما قبل البعث. ومن ثم فقد الكتاب جذوة الدراما التي تقوم على الصراع يحتدّ بين الشيء ونقيضه، على التوتر يفتح العمل على أفق لا يحدّ منتهاه.
استدعاء بنية الخرافة
والواقع أن الرواية قد قامت على قصة إطارية كبرى (خوض أبي هريرة مغامرة الوجود) تنطوي على جملة من القصص الصغرى هي بالأخبار، في صيغتها القديمة، أمسّ رحما (قصة علة أبي هريرة، قصة حبه عند الطواف، قصة موت أخته، قصة لقائه بأبي رغال)، مستعيدة بذلك بنية القصة العربية القديمة.. فهذه القصص الصغرى ينحدر بعضها من بعض في ضرب من التداعي الذي لا يخضع لمنطق مخصوص، بل ربما تمكنا من انتزاع تلك القصص الصغرى من سياقنا وقرأناها بوصفها نصوصا مستقلة بنفسها، غير مفتقرة إلى غيرها من دون أن تفقد - مع ذلك - قوتها وعناصر تماسكها، تماما مثلما هو الشأن بالنسبة إلى قصص ألف ليلة وليلة. هذه المرونة العجيبة في طرائق السرد جعلت هذا الكتاب نصوصا عديدة متضمنة في نص واحد. لكن ذلك لا يعني أن هذه النصوص منفصلة عن القصة الإطارية انفصالا كاملا، إذ إن هناك عددا من الوشائج السردية يشد النصوص الصغرى إلى القصة الأم شد تلاؤم وانسجام.
لاسترفاد المسعدي لطرائق السرد التقليدية غايتان اثنتان تؤولان إلى غاية واحدة, أولاهما: الاستدراك على الرواية العربية كما استتبت مقوماتها في النصف الأول في القرن العشرين. وهي الرواية التي تبنت، في الأغلب الأعم، خصائص الرواية الغربية الفنية والسردية. أما الغاية الثانية فهي اقتراح خطاب روائي بديل يستمد مقوماته من التراث العربي، من غير أن يتنكّر لأسئلة اللحظة الراهنة ورهاناتها الفكرية والأيديولوجية.
كل هذا يؤكد أن هذا العمل ينظر برأسين اثنين: رأس يلتفت إلى الذاكرة الأدبية يستلهم لغتها وصورها وأساليب سردها، ورأس آخر ينظر إلى الحاضر يقتنص مجمل مشاغله وعميق هواجسه.. وفي هذه الحركة المزدوجة تكمن قيمة هذا الكتاب.. بل تكمن قيمة كل الأعمال التي كتبها المسعدي .