الـمُحال إلى التقاعد

الـمُحال إلى التقاعد

انتهى‭ ‬محمد‭ ‬من‭ ‬صلاة‭ ‬العشاء‭ ‬وظل‭ ‬جالسا‭ ‬على‭ ‬السجادة‭ ‬المصنوعة‭ ‬من‭ ‬الألياف‭ ‬الصناعية‭ ‬وساقاه‭ ‬مثنيتان‭ ‬إلى‭ ‬الخلف‭. ‬وضع‭ ‬أمامه‭ ‬على‭ ‬الحائط‭ ‬ساعة‭ ‬من‭ ‬البلاستيك‭ ‬مصنوعة‭ ‬في‭ ‬الصين‭. ‬لا‭ ‬ينظر‭ ‬إلى‭ ‬العقارب‭ ‬وإنما‭ ‬إلى‭ ‬الصورة‭ ‬التي‭ ‬يحيطها‭ ‬الإطار‭: ‬رجال‭ ‬يرتدون‭ ‬الأبيض‭ ‬يدورون‭ ‬حول‭ ‬الكعبة‭. ‬يتذكر‭ ‬حجته‭. ‬أحنى‭ ‬الرأس‭ ‬لكي‭ ‬يجيب‭ ‬على‭ ‬النداء‭. ‬بدا‭ ‬عليه‭ ‬كأنه‭ ‬سمع‭ ‬صوتا،‭ ‬شيئا‭ ‬من‭ ‬همهمة‭ ‬تفر‭ ‬من‭ ‬صدع‭ ‬في‭ ‬الحائط،‭ ‬صدع‭ ‬لم‭ ‬تسده‭ ‬ورقة‭ ‬ملونة‭ ‬ترجع‭ ‬إلى‭ ‬سنوات‭ ‬الستينيات‭.‬

غمغم‭ ‬فقط‭ ‬ببعض‭ ‬السور‭ ‬القرآنية‭ ‬القصيرة،‭ ‬ثم‭ ‬شعر‭ ‬بأن‭ ‬شيئا‭ ‬ما‭ ‬يحتجزه‭. ‬يمنعه‭ ‬من‭ ‬النهوض‭. ‬الحائط‭ ‬يكلمه‭. ‬رأسه‭ ‬ينحني‭ ‬ثانية‭ ‬إلى‭ ‬الأمام،‭ ‬ونفس‭ ‬الصوت‭ ‬يتجه‭ ‬إليه‭ ‬متحدثا‭ ‬بدارجته‭. ‬فتح‭ ‬المصحف،‭ ‬وتظاهر‭ ‬بأنه‭ ‬يغوص‭ ‬فيه‭. ‬يحب‭ ‬صحبة‭ ‬هذا‭ ‬الكتاب‭ ‬المقدس‭ ‬حتى‭ ‬وإن‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬يعرف‭ ‬القراءة‭. ‬يحب‭ ‬فن‭ ‬خطه،‭ ‬تجليده‭ ‬المصقول‭ ‬بالجلد‭ ‬الأخضر‭ ‬وأهمية‭ ‬وجوده‭.‬

على‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬الحائط‭ ‬ثابت،‭ ‬فإنه‭ ‬كان‭ ‬يشعر‭ ‬بكونه‭ ‬يقترب‭ ‬منه‭ ‬أو‭ ‬أنه‭ ‬يتقدم‭ ‬إليه‭. ‬كان‭ ‬يشعر‭ ‬بكونه‭ ‬سجين‭ ‬هذه‭ ‬الغرفة‭ ‬الصغيرة‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬يدخلها‭ ‬الأبناء‭. ‬اعتقد‭ ‬أن‭ ‬الصوت‭ ‬يكلمه‭ ‬عن‭ ‬تقاعده‭. ‬تلك‭ ‬الكلمة‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬يريد‭ ‬أبدا‭ ‬سماعها‭. ‬هذا‭ ‬التاريخ‭ ‬المقدر‭ ‬الذي‭ ‬يريد‭ ‬أن‭ ‬يؤجله‭ ‬إلى‭ ‬وقت‭ ‬آخر،‭ ‬إلى‭ ‬أقصى‭ ‬حد‭ ‬ممكن‭. ‬لا‭ ‬شيء‭ ‬له‭ ‬صلة‭ ‬بالحج‭. ‬دوما‭ ‬كان‭ ‬يخشى‭ ‬هذا‭ ‬اليوم،‭ ‬هذه‭ ‬اللحظة‭. ‬التوقف‭ ‬عن‭ ‬العمل،‭ ‬تغيير‭ ‬العادات،‭ ‬عدم‭ ‬الاستيقاظ‭ ‬في‭ ‬الخامسة‭ ‬صباحا،‭ ‬التكيف‭ ‬مع‭ ‬حياة‭ ‬جديدة،‭ ‬تعلم‭ ‬عدم‭ ‬السأم‭ ‬برقة،‭ ‬التعود‭ ‬على‭ ‬عدم‭ ‬فعل‭ ‬أي‭ ‬شيء‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬السقوط‭ ‬في‭ ‬الحزن،‭ ‬بيد‭ ‬أن‭ ‬السوداوية‭ ‬كانت‭ ‬حاضرة‭ ‬هنا،‭ ‬لأنه‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يفر‭ ‬من‭ ‬التقاعد‭ ‬أو‭ ‬الإحالة‭ ‬إلى‭ ‬التقاعد‭ ‬كما‭ ‬يسميه‭. ‬ذكرى‭ ‬إبراهيم،‭ ‬الذي‭ ‬توفي‭ ‬بعد‭ ‬خمسة‭ ‬أشهر‭ ‬من‭ ‬تقاعده،‭ ‬تثير‭ ‬رعبه‭. ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬مريضا،‭ ‬ولكن‭ ‬الإحالة‭ ‬إلى‭ ‬التقاعد‭ ‬قتلته‭.‬

ومع‭ ‬ذلك،‭ ‬في‭ ‬المصنع،‭ ‬كان‭ ‬رفاقه‭ ‬الفرنسيون‭ ‬يبتهجون‭ ‬من‭ ‬بلوغهم‭ ‬هذا‭ ‬اليوم‭ ‬لأنهم‭ ‬سينتفعون‭ ‬من‭ ‬وقت‭ ‬فراغهم،‭ ‬رحلات،‭ ‬العمل‭ ‬في‭ ‬المنزل،‭ ‬البستنة،‭ ‬القراءة‭ ‬وحتى‭ ‬العمل‭ ‬لحسابهم‭ ‬الخاص‭. ‬هو،‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬يعرف‭ ‬شيئا‭ ‬سوى‭ ‬تحمل‭ ‬الزمن‭: ‬الزمن‭ ‬عدوه،‭ ‬العدو‭ ‬الذي‭ ‬سيضعه‭ ‬للمرة‭ ‬الأولى‭ ‬عاريا‭ ‬أمام‭ ‬نفسه‭ ‬وأمام‭ ‬ذويه‭. ‬بالنسبة‭ ‬إليه،‭ ‬الزمن‭ ‬طويل‭ ‬للغاية‭. ‬الزمن‭ ‬سيحطمه‭ ‬رويدا‭ ‬رويدا‭ ‬ثم‭ ‬سينهي‭ ‬وجوده‭ ‬كما‭ ‬فعل‭ ‬مع‭ ‬صديقه‭ ‬إبراهيم‭. ‬لا‭ ‬يعرف‭ ‬أن‭ ‬يقوم‭ ‬بأي‭ ‬عمل‭ ‬منزلي‭ ‬ولا‭ ‬البستنة،‭ ‬فقط‭ ‬الرحلة،‭ ‬الشيء‭ ‬الوحيد‭ ‬الذي‭ ‬قام‭ ‬به‭ ‬طيلة‭ ‬حياته‭ ‬غير‭ ‬الحج،‭ ‬أن‭ ‬يذهب‭ ‬إلى‭ ‬قريته‭ ‬في‭ ‬الجنوب‭ ‬المغربي‭ ‬انطلاقا‭ ‬من‭ ‬فرنسا‭. ‬يعرف‭ ‬هذه‭ ‬الطريق‭ ‬عن‭ ‬ظهر‭ ‬قلب،‭ ‬كما‭ ‬يقول،‭ ‬يشق‭ ‬2600‭ ‬كم‭ ‬في‭ ‬أقل‭ ‬من‭ ‬ثمان‭ ‬وأربعين‭ ‬ساعة‭. ‬يلتهم‭ ‬الزمن‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يتجاوز‭ ‬السرعة‭. ‬

وقتما‭ ‬كان‭ ‬شابا،‭ ‬تعلم‭ ‬كيف‭ ‬يقتل‭ ‬الوقت‭: ‬يحرث‭ ‬الأرض‭ ‬ببطء‭ ‬كبير‭. ‬حينما‭ ‬يذهب‭ ‬إلى‭ ‬المسجد،‭ ‬يصلي‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬مرة‭ ‬الصلاة‭ ‬نفسها‭. ‬

ولكن‭ ‬في‭ ‬5‭ ‬سبتمبر‭ ‬1966‭ ‬سلمه‭ ‬المقدم‭ ‬جواز‭ ‬سفره‭ ‬وطلب‭ ‬منه‭ ‬أن‭ ‬يستعد‭ ‬للرحلة‭ ‬الكبيرة،‭ ‬ولم‭ ‬يتملك‭ ‬نفسه‭ ‬من‭ ‬الفرحة‭ ‬لما‭ ‬عرض‭ ‬على‭ ‬زوجته‭ ‬هذه‭ ‬الوثيقة‭ ‬الثمينة‭: ‬ابها،‭ ‬سأجعلك‭ ‬ملكة‭ ‬وابننا‭ ‬أميرا‭!‬ب‭. ‬

رحل‭ ‬رفقة‭ ‬مجموعة‭ ‬من‭ ‬عشرين‭ ‬رجلا‭. ‬استقل‭ ‬الباص،‭ ‬ثم‭ ‬باخرة‭ ‬فقطارا‭. ‬مضى‭ ‬الوقت‭ ‬سريعا‭ ‬للغاية‭ ‬إلى‭ ‬حد‭ ‬أنه‭ ‬لم‭ ‬يفكر‭ ‬فيه‭ ‬أبدا‭. ‬أصبح‭ ‬خفيفا،‭ ‬رشيقا‭ ‬وغير‭ ‬مبال‭ ‬بالزمن‭ ‬حتى‭ ‬وإن‭ ‬شيئا‭ ‬طفيفا‭ ‬من‭ ‬الخوف‭ ‬من‭ ‬المجهول‭ ‬تبدى‭ ‬في‭ ‬الأفق‭. ‬احتفظ‭ ‬منذ‭ ‬قدومه‭ ‬إلى‭ ‬فرنسا‭ ‬بصور‭ ‬لم‭ ‬تزل‭ ‬حية‭ ‬حتى‭ ‬اليوم،‭ ‬سماء‭ ‬مكفهرة،‭ ‬رائحة‭ ‬غريبة‭ ‬من‭ ‬الغبار‭ ‬والعطور‭ ‬السيئة،‭ ‬جدران‭ ‬رمادية‭ ‬ونوعا‭ ‬ما‭ ‬سوداء،‭ ‬وجوه‭ ‬حازمة،‭ ‬ناس‭ ‬يمشون‭ ‬بسرعة‭ ‬ولا‭ ‬يقولون‭ ‬شيئا‭.‬

الآن،‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬ينهض،‭ ‬يسد‭ ‬هذا‭ ‬الصدع‭ ‬في‭ ‬الحائط،‭ ‬يوقف‭ ‬هذه‭ ‬الساعة‭ ‬التي‭ ‬جُنَّتْ،‭ ‬يطوي‭ ‬سجادته‭ ‬ويخبر‭ ‬زوجه‭ ‬بأن‭ ‬غدا‭ ‬أول‭ ‬يوم‭ ‬من‭ ‬أيام‭ ‬تقاعده‭. ‬نظر‭ ‬إلى‭ ‬وثائقه،‭ ‬بلغ‭ ‬السن‭ ‬اللازمة‭. ‬يتذكر‭ ‬للحظة‭ ‬أنه‭ ‬أضاف‭ ‬عامين‭ ‬إلى‭ ‬سنه‭ ‬لكي‭ ‬يستطيع‭ ‬الهجرة‭. ‬التفاوض‭ ‬مع‭ ‬المؤسسة‭ - ‬كسب‭ ‬عامين‭ ‬آخرين‭ ‬من‭ ‬العمل‭ ‬في‭ ‬المصنع‭ - ‬هذا‭ ‬صعب،‭ ‬فأوراقه‭ ‬حاليا‭ ‬يستحيل‭ ‬تزييفها،‭ ‬حتى‭ ‬أنه‭ ‬يخشى‭ ‬من‭ ‬الملاحقة‭ ‬لكذبه‭. ‬يعدل‭ ‬عن‭ ‬هذا‭ ‬المشروع‭ ‬الأخرق‭. ‬لا‭ ‬كلمة‭ ‬لزوجته‭ ‬ولا‭ ‬أبنائه‭ ‬الخمسة‭.‬

كما‭ ‬العادة،‭ ‬استيقظ‭ ‬مبكرا،‭ ‬ارتدى‭ ‬ملابس‭ ‬العمل‭ ‬الزرقاء،‭ ‬أخذ‭ ‬قصعته‭ ‬وغادر‭ ‬المنزل،‭ ‬قائلا‭ ‬اإلى‭ ‬المساءب‭. ‬كانت‭ ‬السابعة‭ ‬صباحا،‭ ‬استقل‭ ‬القطار،‭ ‬تعرف‭ ‬إلى‭ ‬الوجوه‭ ‬المألوفة،‭ ‬تبادل‭ ‬بعض‭ ‬الابتسامات‭ ‬ثم‭ ‬هبط‭ ‬في‭ ‬محطته‭. ‬عند‭ ‬مدخل‭ ‬المصنع،‭ ‬اقترب‭ ‬المندوب‭ ‬النقابي‭ ‬منه‭ ‬وقال‭ ‬له‭ ‬إنه‭ ‬من‭ ‬اللازم‭ ‬أن‭ ‬يتقاعد‭ ‬وينتفع‭ ‬بوقته‭ ‬كله‭. ‬ابتسم‭ ‬محمد‭ ‬وأجابه‭ ‬بأنه‭ ‬قدم‭ ‬للاستفسار‭ ‬عن‭ ‬بعض‭ ‬الأسئلة‭ ‬الروتينية‭ ‬وأنه‭ ‬سعيد‭ ‬للجلوس‭ ‬مع‭ ‬أبنائه‭ ‬الذين‭ ‬لم‭ ‬يرهم‭ ‬يكبرون‭. ‬توقف‭ ‬أمام‭ ‬الباب‭ ‬الكبير،‭ ‬أفسح‭ ‬المجال‭ ‬لمرور‭ ‬الآخرين‭ ‬ثم‭ ‬قام‭ ‬بنصف‭ ‬دورة‭. ‬كان‭ ‬حزينا،‭ ‬حزينا‭ ‬للغاية‭ ‬إلى‭ ‬حد‭ ‬أن‭ ‬ذاكرته‭ ‬تجمدت‭ ‬عند‭ ‬يوم‭ ‬قدومه‭ ‬إلى‭ ‬فرنسا‭. ‬

قال‭ ‬في‭ ‬نفسه‭ ‬في‭ ‬فترة‭ ‬سابقة،‭ ‬إنه‭ ‬سيذهب‭ ‬إلى‭ ‬المغرب‭ ‬لقضاء‭ ‬بعض‭ ‬الأشهر‭ ‬ولن‭ ‬يفعل‭ ‬مثل‭ ‬حسن‭ ‬الذي‭ ‬استفاد‭ ‬من‭ ‬التقاعد‭ ‬لكي‭ ‬يتزوج‭ ‬من‭ ‬امرأة‭ ‬ثانية،‭ ‬بالطبع‭ ‬شابة‭ ‬وجميلة‭ ‬ولم‭ ‬تزر‭ ‬فرنسا‭ ‬أبدا‭. ‬فكرة‭ ‬أن‭ ‬يهجر‭ ‬عائلته‭ ‬وأن‭ ‬يحيا‭ ‬حياته‭ ‬في‭ ‬البلاد‭ ‬مرة‭ ‬أخرى‭ ‬واتته‭ ‬كثيرا،‭ ‬ولكنه‭ ‬طردها‭ ‬بحزم‭ ‬وقد‭ ‬اعتبرها‭ ‬وسوسة‭ ‬شيطان‭. ‬هل‭ ‬سيمضي‭ ‬أيامه‭ ‬في‭ ‬مقهى‭ ‬آرسكي‭ ‬القبائلي‭ - ‬ماذا‭ ‬سيفعل‭ ‬هناك‭- ‬لعب‭ ‬الكارت‭ ‬والدومينو‭ - ‬لا‭ ‬يحب‭ ‬أي‭ ‬لعبة‭. ‬احتساء‭ ‬البيرة‭ - ‬لا‭. ‬متابعة‭ ‬التفاز،‭ ‬متابعة‭ ‬نتائج‭ ‬السباقات،‭ ‬الحلم‭ ‬بهذه‭ ‬الفتيات‭ ‬شبه‭ ‬العاريات‭ ‬التي‭ ‬تزخر‭ ‬بها‭ ‬المسلسلات‭ ‬الأمريكية‭ - ‬هذا‭ ‬لا‭ ‬يثير‭ ‬اهتمامه‭ ‬أبدا‭. ‬وهكذا‭ ‬أنشأ‭ ‬يمشي،‭ ‬يداه‭ ‬مضمومتان‭ ‬في‭ ‬جيبيه‭. ‬يمشي‭ ‬على‭ ‬امتداد‭ ‬الطريق،‭ ‬عيناه‭ ‬تنظران‭ ‬إلى‭ ‬الأسفل‭ ‬كأنه‭ ‬يمارس‭ ‬تمرينا‭ ‬طالبه‭ ‬الطبيب‭ ‬به،‭ ‬يفكر‭ ‬في‭ ‬أبنائه‭ ‬وأصابه‭ ‬الشعور‭ ‬بأنه‭ ‬على‭ ‬وشك‭ ‬أن‭ ‬يفقدهم‭. ‬يشغل‭ ‬الابن‭ ‬الأكبر‭ ‬وظيفة‭ ‬طيبة‭ ‬في‭ ‬متجر‭ ‬كبير،‭ ‬وله‭ ‬زوج‭ ‬إسبانية‭. ‬الصغرى،‭ ‬خرجت‭ ‬عن‭ ‬طوعه‭ ‬وتزوجت‭ ‬من‭ ‬إيطالي‭: ‬لا‭ ‬يراها‭. ‬كان‭ ‬مؤلما‭ ‬عليه‭ ‬أن‭ ‬يرى‭ ‬أن‭ ‬غير‭ ‬مسلم‭ ‬ينضم‭ ‬إلى‭ ‬عائلته‭. ‬اعتبر‭ ‬كأنها‭ ‬ليست‭ ‬ابنته‭. ‬

الثلاثة‭ ‬الآخرون‭ ‬هجروا‭ ‬المدرسة‭ ‬واشتغلوا‭ ‬في‭ ‬الريف‭. ‬أصبح‭ ‬المنزل‭ ‬كبيرا‭ ‬عليه‭ ‬وعلى‭ ‬زوجه‭. ‬تشتت‭ ‬العائلة‭. ‬يحلم‭ ‬بأن‭ ‬يجمع‭ ‬شمل‭ ‬الأسرة‭ ‬ويقيم‭ ‬حفلا‭. ‬ولكن‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬نفسه‭ ‬كان‭ ‬متيقنا‭ ‬بأن‭ ‬أبناءه‭ ‬لا‭ ‬يتنقلون‭ ‬كثيرا‭. ‬ولذا‭ ‬قرر‭ ‬أن‭ ‬يمرض‭ ‬مرضا‭ ‬كبيرا‭. ‬هو‭ ‬ذا‭ ‬الحل‭. ‬سيأتون‭ ‬لكي‭ ‬يقولون‭ ‬له‭ ‬وداعا‭ ‬على‭ ‬فراش‭ ‬المشفى‭. ‬بيد‭ ‬أنه‭ ‬كان‭ ‬متطيرا،‭ ‬لا‭ ‬نلهو‭ ‬مع‭ ‬المرض‭ ‬ولا‭ ‬مع‭ ‬الموت‭ ‬ولا‭ ‬مع‭ ‬إرادة‭ ‬الرب‭. ‬في‭ ‬المساء‭ ‬رتب‭ ‬حقيبته‭ ‬واستقل‭ ‬القطار‭ ‬من‭ ‬محطة‭ ‬أوسترليتز،‭ ‬في‭ ‬اتجاه‭ ‬آلجزيراس‭. ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬متعجلا‭. ‬سيمضي‭ ‬طوال‭ ‬الليل‭ ‬في‭ ‬رسم‭ ‬الخطط‭ ‬حتى‭ ‬يرى‭ ‬أسرته‭ ‬الصغيرة‭ ‬متحدة‭.‬

في‭ ‬البلاد،‭ ‬سيبدأ‭ ‬في‭ ‬بناء‭ ‬بيته‭ ‬من‭ ‬جديد‭. ‬كانت‭ ‬الأشغال‭ ‬قد‭ ‬توقفت‭ ‬بسبب‭ ‬الأموال‭ ‬التي‭ ‬تأخرت‭ ‬عن‭ ‬القدوم‭. ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬الحاضر،‭ ‬لحياته‭ ‬وتقاعده‭ ‬معنى‭. ‬يرى‭ ‬إلى‭ ‬البيت‭ ‬الكبير،‭ ‬الجميل،‭ ‬الزاخر‭ ‬بالنور‭ ‬والأبناء‭. ‬رسنه‭ ‬في‭ ‬رأسه،‭ ‬تاركا‭ ‬شيئا‭ ‬من‭ ‬المساحة‭ ‬للحديقة،‭ ‬وأحصى‭ ‬الأشجار‭ ‬التي‭ ‬سيغرسها،‭ ‬واستعرض‭ ‬الورود‭ ‬التي‭ ‬سيطلبها‭ ‬من‭ ‬سوق‭ ‬مراكش،‭ ‬سيكون‭ ‬له‭ ‬مبقلة‭.‬

توقف‭ ‬القطار‭ ‬في‭ ‬الريف‭. ‬تطلع‭ ‬إلى‭ ‬السماء،‭ ‬كان‭ ‬القمر‭ ‬يشع‭ ‬نورا‭ ‬كثيفا‭. ‬ونجوم‭ ‬خيطية‭ ‬تجتاز‭ ‬بياض‭ ‬هذا‭ ‬النور‭ ‬الجلي،‭ ‬بعضها‭ ‬يشبه‭ ‬قطرات‭ ‬مياه‭ ‬أمطار‭ ‬الصيف‭. ‬أنشأ‭ ‬يحمد‭ ‬الرب‭ ‬الذي‭ ‬عاونه‭ ‬على‭ ‬هجران‭ ‬التقاعد‭ ‬ومنحه‭ ‬فكرة‭ ‬جيدة‭ ‬للانشغال‭ ‬بنفسه‭. ‬كان‭ ‬سعيدا،‭ ‬وكطفل‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬صبورا‭. ‬الوقت‭ ‬لا‭ ‬يشغله‭ ‬البتة‭. ‬من‭ ‬اللازم‭ ‬أن‭ ‬يتجه‭ ‬سريعا‭ ‬إلى‭ ‬القرية‭ ‬ومن‭ ‬فوره‭ ‬ينادي‭ ‬المعلم‭ ‬بوعزة‭ ‬لكي‭ ‬يباشر‭ ‬العمل‭ ‬من‭ ‬جديد‭. ‬حينما‭ ‬واصل‭ ‬القطار‭ ‬طريقه،‭ ‬اعترته‭ ‬سعادة‭ ‬كبيرة‭ ‬بحيث‭ ‬تتابعت‭ ‬صور‭ ‬كل‭ ‬الفصول‭ ‬التي‭ ‬رأى‭ ‬نفسه‭ ‬فيها‭ ‬محاطا‭ ‬بذويه‭.‬

‭ ‬بعد‭ ‬خمسة‭ ‬أشهر،‭ ‬كان‭ ‬البيت‭ ‬جاهزا‭. ‬لم‭ ‬يحدث‭ ‬أيا‭ ‬من‭ ‬أبنائه‭ ‬عنه،‭ ‬على‭ ‬سبيل‭ ‬المفاجأة‭. ‬لاقته‭ ‬امرأته،‭ ‬كانت‭ ‬تعرف‭ ‬أن‭ ‬زوجها‭ ‬يسير‭ ‬على‭ ‬الطريق‭ ‬الخاطئة،‭ ‬وأن‭ ‬الأوهام‭ ‬تغذيه‭. ‬منذ‭ ‬فترة‭ ‬طويلة،‭ ‬فهمت‭ ‬أن‭ ‬بناتها‭ ‬وأولادها‭ ‬لم‭ ‬يعودوا‭ ‬ينتمون‭ ‬إليهما،‭ ‬وأن‭ ‬زوبعة‭ ‬فرنسا‭ ‬التهمتهم،‭ ‬وأنهم‭ ‬يحبون‭ ‬حياتهم‭ ‬وأنهم‭ ‬لا‭ ‬يتحسرون‭ ‬ولا‭ ‬يندمون‭ ‬على‭ ‬شيء‭. ‬رأتهم‭ ‬يرحلون‭ ‬وكانت‭ ‬تعرف‭ ‬بأنها‭ ‬لا‭ ‬تمتلك‭ ‬شيئا‭ ‬لردعهم،‭ ‬وإبقائهم‭ ‬قربها‭ ‬وقرب‭ ‬زوجها‭. ‬هو،‭ ‬وقتذاك،‭ ‬يبني‭ ‬أكبر‭ ‬بيت‭ ‬في‭ ‬القرية‭ ‬مثل‭ ‬بيوت‭ ‬الأزمنة‭ ‬الغابرة‭ ‬التي‭ ‬كان‭ ‬يسكنها‭ ‬جميع‭ ‬الأبناء‭. ‬لم‭ ‬تغيره‭ ‬أربعون‭ ‬عاما‭ ‬من‭ ‬الوجود‭ ‬في‭ ‬فرنسا‭. ‬كانت‭ ‬البلاد‭ ‬وتقاليدها‭ ‬تسكنه‭. ‬كان‭ ‬البيت‭ ‬غريبا‭. ‬يشبه‭ ‬شاحنة‭ ‬ملآنة‭ ‬عن‭ ‬آخرها‭. ‬كان‭ ‬كاللطخة‭ ‬في‭ ‬المنظر‭ ‬الطبيعي‭. ‬خطأ،‭ ‬جنون‭. ‬الشرفات‭ ‬ضيقة،‭ ‬النوافذ‭ ‬صغيرة‭ ‬والمدخل‭ ‬كبير‭. ‬حينما‭ ‬انتهى‭ ‬العمل،‭ ‬أحضر‭ ‬قارئي‭ ‬القرآن،‭ ‬ذبح‭ ‬ثورا‭ ‬على‭ ‬عتبته،‭ ‬حرق‭ ‬البخور‭ ‬في‭ ‬الداخل‭ ‬وسكب‭ ‬بعض‭ ‬الحليب‭ ‬في‭ ‬الأركان،‭ ‬كان‭ ‬البيت‭ ‬مباركا‭.‬

بما‭ ‬تبقى‭ ‬من‭ ‬مدخراته،‭ ‬ابتاع‭ ‬الأثاث،‭ ‬وخلال‭ ‬زيارته‭ ‬لمراكش‭ ‬انتهز‭ ‬الفرصة‭ ‬وتلفن‭ ‬إلى‭ ‬كل‭ ‬ابن‭ ‬من‭ ‬أبنائه‭ ‬ودعاه‭ ‬لزيارته،‭ ‬بل‭ ‬وبذل‭ ‬جهدا‭ ‬وتلفن‭ ‬لابنته‭ ‬التي‭ ‬محاها‭ ‬من‭ ‬حياته،‭ ‬تلك‭ ‬التي‭ ‬تزوجت‭ ‬من‭ ‬أوربي‭. ‬كان‭ ‬الجميع‭ ‬على‭ ‬جهاز‭ ‬الرد‭ ‬الآلي،‭ ‬ترك‭ ‬لهم‭ ‬رسالة‭ ‬على‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬أنه‭ ‬كان‭ ‬يرفض‭ ‬عملها‭ ‬وقتما‭ ‬كان‭ ‬في‭ ‬فرنسا‭: ‬االبيت‭ ‬جاهز،‭ ‬إنه‭ ‬كبير،‭ ‬لكل‭ ‬واحد‭ ‬غرفته،‭ ‬تعالوا،‭ ‬أنتظركم‭ ‬للاحتفال‭ ‬معا‭ ‬بالعيد‭ ‬الكبير،‭ ‬ابتعت‭ ‬ستة‭ ‬خرفان،‭ ‬خروف‭ ‬لكل‭ ‬واحد،‭ ‬تعالوا،‭ ‬البيت‭ ‬جميل‭ ‬للغاية،‭ ‬واسع،‭ ‬ملآن‭ ‬بالنور‭ ‬والرائحة‭ ‬الطيبة،‭ ‬ليحرسكم‭ ‬الرب،‭ ‬أنتظركم‭! ‬أخيرا‭ ‬سوف‭ ‬نحيا‭ ‬معا‭ ‬في‭ ‬أحضان‭ ‬العائلة‭ ‬الكبيرة‭!‬ب‭.‬

قال‭ ‬لزوجه‭: ‬اتحدثت‭ ‬إلى‭ ‬آلاتهم،‭ ‬أتمنى‭ ‬أن‭ ‬تنقل‭ ‬لهم‭ ‬جيدا‭ ‬رسالتي‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬تغير‭ ‬مضمونها،‭ ‬على‭ ‬الأقل‭ ‬تلح‭ ‬عليهم‭ ‬وتجعلهم‭ ‬يطيعون‭ ‬رغبة‭ ‬والدهم‭!‬ب‭. ‬صباح‭ ‬العيد،‭ ‬طلب‭ ‬ابن‭ ‬أخيه،‭ ‬الراعي‭ ‬الأصم‭ ‬الأبكم،‭ ‬الذهاب‭ ‬إلى‭ ‬مدخل‭ ‬القرية‭ ‬وانتظار‭ ‬قدوم‭ ‬الأبناء‭ ‬ودلهم‭ ‬على‭ ‬الطريق‭. ‬خلال‭ ‬هذا‭ ‬الوقت،‭ ‬جلس‭ ‬في‭ ‬الظل،‭ ‬قرب‭ ‬باب‭ ‬البيت‭ ‬الكبير‭ ‬وانتظر‭. ‬كان‭ ‬يسبح‭ ‬بمسبحته‭ ‬آليًا‭ ‬لمنحه‭ ‬الصبر‭. ‬

لم‭ ‬يأت‭ ‬أحد‭. ‬في‭ ‬المساء،‭ ‬أنشأ‭ ‬الراعي،‭ ‬متأثرا،‭ ‬يبكي‭. ‬كان‭ ‬يريد‭ ‬أن‭ ‬يقول‭ ‬إنه‭ ‬ليس‭ ‬من‭ ‬حقهم‭ ‬التخلي‭ ‬عن‭ ‬والدهم‭ ‬وعلى‭ ‬الأقل‭ ‬عدم‭ ‬الرد‭ ‬على‭ ‬دعوته‭. ‬رأى‭ ‬أن‭ ‬فرنسا‭ ‬غول‭ ‬يلتهم‭ ‬الأطفال‭ ‬وأنه‭ ‬كان‭ ‬محظوظا‭ ‬لأنه‭ ‬لم‭ ‬يغادر‭ ‬البلاد‭ ‬أبدا‭. ‬بالنسبة‭ ‬إلى‭ ‬محمد،‭ ‬لم‭ ‬ييأس‭ ‬من‭ ‬رؤيتهم‭ ‬خلال‭ ‬الليل‭. ‬لم‭ ‬يتحرك‭ ‬من‭ ‬مقعده‭ ‬رغما‭ ‬عن‭ ‬نداءات‭ ‬زوجه‭. ‬كان‭ ‬هناك،‭ ‬ساكنا،‭ ‬ثابتا،‭ ‬أمام‭ ‬البيت‭ ‬الواسع‭ ‬الكبير،‭ ‬وسط‭ ‬المنظر‭ ‬الطبيعي‭ ‬الخالي،‭ ‬الذي‭ ‬اكتسحته‭ ‬ريح‭ ‬ماكرة،‭ ‬محاطة‭ ‬بصمت‭ ‬ثقيل‭ .