ثورة عصر.. د. سليمان إبراهيم العسكري

ثورة عصر.. د. سليمان إبراهيم العسكري
        

          مضت علينا عقود من الزمن وصف فيها المحللون شباب الأمة العربية بكل ما في قاموس اللامسئولية من مفردات، بل وجعلوه مسئولاً عما في جسد الحاضر من علل، ومتهمًا بما في وجه المستقبل من فشل. ثم جاءت أيام الشباب المصري التي بدأت نهار 25 يناير من هذا العام لتدحض كل ما التصق بالجيل العربي الجديد، فلم تكن تلك الأيام مجرد تغيير للسلطة الحاكمة في مصر، كما لم تعد ثورة لهؤلاء الشباب وحسب، بل أصبحت - في قراءتها الشاملة - ثورة عصر، علينا جميعًا أن نتمعن فيها ونتأمل فلسفتها وأدواتها وتأثيراتها على العالم.

  • تحولت أدوات ثورة العصر في يد الشباب إلى سلاح فعال وأصبح هؤلاء المسالمون مذيعين ومراسلين ومصورين
  • عرفت السلطات الحاكمة أنها لن تستطيع مجاراة الشباب في ميدانهم الذي خبروه سنين، فقامت بإغلاق الميدان بأكمله!
  • ما قام به جيل الشباب، جعل من جدية ما يتم تداوله على صفحات «فيس بوك» أمرًا بالغ الخطورة والجدة بدأ في الفضاء الافتراضي ثم نزل ليؤثر في الواقع، ويحرك الأجيال جميعها خلفهم.
  • من الممكن أن نؤسس لوجهة نظر جديدة، تسبح في فضاء عصري، تتميز بما دعت إليه ثورة الشباب السلمية، من قيم التغيير.

          في فبراير 2004 انطلقت خدمة على الشبكة العنكبوتية عرفت باسم خدمة الشبكة الاجتماعية، أو ما عرف لدى 600 مليون مشترك بها حسب إحصاء يناير الماضي بأنها «فيس بوك». كانت الخدمة مقصورة على طلبة جامعة هارفارد التي أسسها حفنة منهم، هم مارك زوكربرج، وإدواردو سافيرن، وداستن موشكوفيتز، وكريس هيوز، من أجل تبادل الأخبار وتكوين المجموعات ذات الاهتمام المشترك، ورغم أن الخدمة لاتزال مجانية، إلا أنها بعد تحولها لشركة عالمية وبفضل القبول المليوني عليها أصبحت تدر أرباحًا خيالية على مؤسسيها، بدأت باثنين وخمسين مليون دولار أمريكي في العام 2006، بينما قدرت في نهاية العام الماضي 2010 بأكثر من ملياري دولار أمريكي.

          جيل «فيس بوك» كان إشارة إلى هؤلاء الشباب اللاهين الذين أغرقوا أنفسهم في بحر الإنترنت وبقوا به باحثين عن أصداف لا يجدونها في واقعهم. لكن الثورة الشبابية في مصر، التي قام بها هذا الجيل، جعلت من جدية ما يتم تداوله على صفحات تلك الخدمة أمرا بالغ الخطورة والجدة، وهو أمر بدأ في الفضاء الافتراضي بهؤلاء الشباب، لكنه نزل ليؤثر في الواقع، ويحرك الأجيال جميعها خلفهم.

حرب الإنترنت

          في سبيل استخدام أسلوب الحرب المضادة، لم تنشئ السلطات المصرية صفحات لأفكارها على «فيس بوك»، كان أوان ذلك قد فات، لذلك، وفي محاولة يائسة للسيطرة على الموقف بعد أن انتبهوا لخطورة هذا التواصل الاجتماعي الفوري والجارف، الذي لا تقتله المسافات ولا تهدمه الأزمنة، بادرت تلك السلطات - كما حدث لاحقًا في كل من إيران وليبيا -بقطع خدمة الإنترنت اعتقادا منها بأنها كسبت الحرب في السماء. ثم قامت بقطع خدمة الهواتف النقالة. كان أسلوب القطع والمنع والحظر هو ما عرفته السلطات طيلة حياتها المهنية، وقد عرفت السلطات الحاكمة أنها  لن تستطيع مجاراة الشباب ومنازلتهم في ميدانهم الذي خبروه سنين، فقامت بإغلاق الميدان بأكمله!

          الكل بات يعرف الضغوط التي مورست حتى عادت الحياة إلى الهواتف النقالة، ولكن من دون كتابة رسائل نصية، عاشت عليها ثورة العصر. ونجد الرد الفوري والعلمي: ابتكرت شركة جوجل خدمة تسمح بتحويل الرسائل الصوتية عبر الهاتف النقال إلى كتابة نصية، وأن تترجمها، مهما كان مصدرها، لتنشر ضمن خدمة أخرى مماثلة لخدمة «فيس بوك» اسمها تويتر! هذا العصفور الصغير الذي يزقزق بالأخبار المستورة، وكلنا يذكر ما شاع في الصحافة المصرية، نقلا عن القول الشائع بأن «العصفورة» قالت لي، وهو ما يعني كشف الأسرار، وطارت أخبار «تويتر» تنقل ما حدث إلى العالم.

          الفكرة التي بدأ بها موقع تويتر منذ أوائل عام 2006 هو الاعتماد على فكرة التدوين المصغر بإرسال رسائل قصيرة لا تزيد على 140 حرفا تحكي إجابة عن سؤال وحيد: ماذا تفعل الآن؟

          ظهر موقع تويتر  أولاً في نطاق ضيق بمدينة سان فرانسيسكو، ثم أصبح متاحًا للجميع في أكتوبر 2006. يقوم تويتر على فكرة المتابعة، وهي أنك تتابع صديقا على تويتر أو تحب شخصًا مشهورًا، فإنك تجد في صفحته إمكانية متابعة جديد أخباره، وكذلك بالنسبة لك فإنك تجد في صفحتك الخاصة من يتابعك ولا يشترط أن تتابعهم، ومن تتابعهم كذلك لا يشترط أن يتابعوك.

          برغم أن فكرة الموقع في الأساس كانت لتعبر فيها عما تفعله في الوقت الحالي، إلا أنه تم التوسع فيها أكثر من ذلك، فلكل واحدٍ نظرته الخاصة في الاستفادة من الموقع، فالبعض يكتب خاطرةً مرت به أو مقولةً مأثورةً يحبها ليشارك بها أصدقاءه ومتابعيه على تويتر، والبعض مثلاً يلفت إلى خبر رآه على موقعٍ أو مقالةٍ بالإشارة إليها على تويتر.

          وقد يستخدمه النجوم ممن لهم قاعدةٌ عريضةٌ ليتواصلوا مع محبيهم على الموقع ولينشروا أخبارهم بسهولة، وقد كان لثورة شباب مصر في 25 يناير متابعون كثر، حتى أن بعض الصحف البريطانية نقلت عن تويتر تعليقات شباب مصر الحية من ميدان التحرير.

الإعلام الجديد

          ولكي يضغط النظام - الذي يحاول الوقوف في ساحة معركة العصر - على الشباب وتقنياتهم، حاول أن يكمم أفواه الإعلام التلفزيوني بطريقتين، الأولى منع المراسلين الذي يفدون للميدان من أن يتقدموا بأسلحتهم ـ وهي آلات التصوير والميكروفونات لا غير ـ ليعطي لطريقته المثالية في تشكيل الحقائق الوقت والشاشة ليعرض صورًا باتت بائسة لفرط خياليتها وعدم صدقها. بل ومنع بث بعض القنوات التلفزيونية التي تحاول أن تنقل ما يحدث في الميدان.

          لكن ما حدث كان وبالاً على فاعليه. مرة أخرى تتحول أدوات ثورة العصر في يد الشباب إلى سلاح فعال. هم لا يملكون المولوتوف ولا يستعملونه، ولا يمسكون بالأسلحة ولا يريدونها إلا تظاهرة سلمية. لكن هؤلاء المسالمين تحولوا إلى مذيعين ومراسلين ومصورين، وامتلأت شاشات الفضائيات بالصور المنقولة عبر الهواتف الذكية في أيدي الثوار الشباب، وبات الميدان - وكل الميادين - كتيبة متطورة من الإعلاميين تقدم بالصوت والصورة وقائع الأحداث على مدار الساعة.

          الطريف أن القنوات التي لم يشملها الحظر، بدأت هي الأخرى بتقديم شاشاتها -مجانا - للقنوات المحظورة. مرة أخرى تعبر التقنية عن سطوتها، وقدرتها على تجاوز الخطوط العقيمة لمن يظنون أنهم يكممون الإعلام أو يسيطرون عليه. خرج تنين الثوار من القمقم، لكنه لا يركب بساط الريح، ولا يحمل مصباح علاء الدين، لأن لديه ما هو أخطر سحرا وأكثر تأثيرا وأسرع إنباء من الكتب!

          لم تعد اللغة التي تعلمها منشئو الأحزاب، ومرددو الأمثولات الأيديولوجية، نافعة أو صالحة للاستعمال في هذا العصر، هذا ما تقوله أبجدية الشباب الجديدة وهي تتحدث عن نفسها في خضم ثورة العصر. ومن يحدد ما سمعناه من هؤلاء الشباب الثائرين منذ يومهم الأول يجد أنه يشبه قنبلة نيوترونية. لقد بدأ بجملة واحدة: الشعب يريد إسقاط النظام. لكن الطلبات بدأت تكبر وتتكاثر وهي بهذا التعاظم تحرك وراءها الجموع الثائرة على أوضاعها. الشباب بعنفوانهم وجرأتهم ورؤيتهم غير المكبلة وأكتافهم غير المثقلة بأي إرث إلا إرادة التغيير كسروا أطواقا أحاطت بالحناجر، ونزعوا كمامات غطت الأفواه وكان مستقبلهم يعني أن الماضي بعقوده البائدة قد انزاح لكي يضع المستقبل أقدامه على بر الحياة الكريمة.

          هذا النسق العلمي لتكتيل الجموع يعني أن ملمحًا آخر من ملامح العصر قد أعرب عن نفسه، إسقاط النظام لا يكون إلا بإقامة نظام بديل، وقد بدأ النظام في أداء التظاهر نفسه، الإصرار على أن يكون سلميا، والاعتماد على النفس الطويل والصبر، الذي قيل إنه سلاح السلطة الحاكمة، والعودة إلى الروح الجامعة، حيث التأكيد على وحدة الوطن والمواطنين.

العالم يراقب باندهاش

          العالم وقنواته الإعلامية المرئية والمسموعة والمدونة والإلكترونية أصبح شاهدا على ما يحدث، وهي شهادات متلاحقة على مدار الساعة، لا تعوزك الأخبار وأنت تتابعها بكل اللغات وعلى مختلف الوسائط. العالم يراقب ولا يصمت. إنه يشاهد ثورة عصر جديد للعالم يبشر بها شباب مصر. في اليوم التالي لتحقيق أول مطالب الملايين برحيل رأس السلطة والنظام تمهيدا لتطهير البلاد، تسجل محطة «سي. إن. إن» ما رأته حدثا غير مسبوق: «لأول مرة في التاريخ نرى شعبا يقوم بثورة ثم ينظف الشوارع بعدها».

          كأن هذا الشباب يريد أن يقول إنه بدأ يحس بأن هذه بلده، وإن إحساسه الصادق يجعله لا يجد غضاضة في تنظيفها. ليس ملمح «التطهير» المادي وحده ما جلب التعليقات على الثورة, فرئيس وزراء بريطانيا، ديفيد كاميرون، يقترح: «يجب أن ندرس الثورة المصرية في المدارس».

          وفي الشمال الأوربي رئيس وزراء النرويج، جينز ستولتنبرج، يعلق: «اليوم كلنا مصريون»، رئيس وزراء إيطاليا، سيلفيو بيرلسكوني، يؤكد: «لا جديد في مصر، فقد صنع المصريون التاريخ كالعادة»، رئيس النمسا، هاينز فيشر، يقول: «شعب مصر أعظم شعوب العالم، ويستحق جائزة نوبل للسلام»، رئيس الولايات المتحدة، باراك أوباما، يوصي: «يجب أن نربي أبناءنا ليصبحوا كشباب مصر.. المصريون ألهمونا وعلمونا أن الفكرة القائلة إن العدالة لا تتم إلا بالعنف هي محض كذب، ففي مصر كانت قوة تغيير أخلاقية غير عنيفة، غير إرهابية، تسعى لتغيير مجرى التاريخ بوسائل سلمية».

          من الممكن - وفقا لردات الفعل التي تتالت ولاتزال - أن نؤسس لوجهة نظر جديدة، تسبح في فضاء عصري، تتميز بما دعت إليه ثورة الشباب السلمية، من قيم التغيير. لقد وقع العالم العربي والأمة الإسلامية أسيرا للإعلام الغربي بعد هجمات 11 سبتمبر، ولكننا الآن أمام ثورة شعب تقف خلفه حضارات عديدة وتراث هائل من الحكمة، تنهض وسط آلات الوحشية المدمرة بأيد عزلاء إلا من أفكار التنوير والحرية والتقدم. هذه هي نقطة التحول في النظر إلى العرب الذين دمغتهم الأفكار النمطية بأنهم دعاة تدمير لا تنوير، وأنهم قوم هدم لا بناء.

الذاكرة الإلكترونية

          في الوقت الذي تشكو فيه الذاكرة الإنسانية من أمراضها البشرية، باتت ذاكرة الإنترنت بديلا عصريا واثقا من نفسه وقدراته. في خضم ثورة العصر لشباب مصر بات المخزون على الشبكة العنكبوتية يتحرك بعنفوان شديد. الثورة أخرجت من باطنه حممه اللاهبة. الكل يتناقل الأخبار، والتعليقات. الجميع يعرف عن الأرصدة والفساد. الملايين يتبادلون النكات والقفشات. الآلاف يرسلون الصور والأفلام.

          أصبحت هناك - على الإنترنت - ثورات عصرية موازية. البعض يستعير من شباب مصر أدوات العصر ولغته. البعض يحاول أن يرسخ تقاليد العصر وحركاته. كل ذلك أصبح محفوظا في ذاكرة إلكترونية غير محدودة، جاهزة لكي تظهر وقت الحاجة.  والواقع أن تعبير «العالم أصبح قرية صغيرة» قد أصبح حقيقيا بشكل ملموس منذ دخولنا عصر الوسائط الإلكترونية التي جعلت من الجميع يجلسون على طاولة واحدة. وإذا كنا نتداول المصطلح بشكل مسلم به فقد جعلته ثورة 25 يناير في مصر أمرًا لا جدال فيه، ونموذجا لا تخطئه أقلام المؤرخين والعلماء على حد سواء.

الفرصة الاستثنائية

          في وسط ذلك كله يبدو أن هناك فرصة استثنائية للدخول في عصر العلم. لم يعد التدرج الذي نادى به كثيرون أمرا متقبلا. إن أسلوب الطفرات العلمية المتحققة قد وجد لنفسه أرضية صلبة ودفع بالبشر لاختصار الزمن وحرق المراحل.  لا أجد للخوف من الآلة العلمية مكانا، بعد أن أصبحت ذات مكانة في مجتمع ثورة العصر. علينا أن نعيد تأهيل المجتمع بأسره لكي يجعل من  تلك الأدوات سبيلا لتقدمه وليس وسيلة لإلهائه عن مستقبله ومصيره.

          الفرصة الاستثنائية تجعلنا نساند العصر، ونستند إليه. التعليم الذي فرغه التربويون المحافظون من محتواه لم يعد جديرا بالبقاء. نريد تعليما له مناهج تحترم عقلية شباب يفكر ويحيا ويثور ويعمل في وقت واحد، وعلينا أن نفسح له طريق الإبداع والقيادة..

          لقد قال العصر كلمته، وستبقى للشباب طاقته، ولكن لن تكون هناك ثورة كل يوم تفيد من هذه الطاقات، لذلك علينا أن نأخذ دفة المبادرة، لنمنح هؤلاء الذين حركهم العصر مستقبلا أفضل.

          لم تكن الثورة حركة جياع فقط، أو غضب طوائف، وإنما كانت في الأساس ثورة عصر أراد أن يفرض نفسه، كانت ثورة عصر الرأي، الرأي الذي يمثل الفكر والرؤية الثاقبة، لواقع الحياة، كانت ثورة رأي حفزت الجموع للمطالبة بالمشاركة في رسم إدارة حياتهم، ورسم طريق مستقبلهم، وكما البطن تجوع من نقص الغذاء، هو العقل كذلك يجوع من نقص الحرية، فيعمل على مقاومة الكبت والمنع والمصادرة، فكان صناعه الشباب الذين ملكوا أدواته، فتحقق لهم ما أرادوه، ولذلك حين دعوا لوقفة تحية لشهداء ثورتهم والتأكيد على مطالبهم تجمع لهم أكثر من 3 ملايين في ميدان واحد وملايين أخرى في كل الميادين في مصر وأخواتها. اجتمعوا بسلام، وكذلك انفضوا. وكأن لغة العصر تودع الحرب التي أدمنها دعاة الأنظمة الدائمة الخاملة والغافلة عن قوانين العصر.

 

 

سليمان إبراهيم العسكري