الصورة الروائية للمثقف

الصورة الروائية للمثقف

إن‭ ‬البحث‭ ‬في‭ ‬صورة‭ ‬المثقف‭ ‬في‭ ‬السرد‭ ‬هو‭ ‬موضوع‭ ‬جدير‭ ‬بالاهتمام،‭ ‬وذلك‭ ‬لأن‭ ‬الخطاب‭ ‬السردي‭ ‬إنما‭ ‬يعبر‭ ‬بصورة‭ ‬ما‭ ‬عن‭ ‬تمثلات‭ ‬المثقف‭. ‬وصورة‭ ‬المثقف‭ ‬التي‭ ‬حاول‭ ‬الروائيون‭ ‬الجدد‭ ‬رسمها‭ ‬تعتبر‭ ‬مفهوما‭ ‬مفصليا‭ ‬في‭ ‬الأدبيات‭ ‬التي‭ ‬تحكم‭ ‬بنية‭ ‬وعي‭ ‬الكتاب،‭ ‬وهذا‭ ‬المفهوم‭ ‬لم‭ ‬يتم‭ ‬تداوله‭ ‬كثيرا،‭ ‬خاصة‭ ‬أن‭ ‬الروائي‭ ‬بصفته‭ ‬مثقفًا‭ ‬غالبًا‭ ‬ما‭ ‬يُضمّن‭ ‬عمله‭ ‬ملامح‭ ‬من‭ ‬صورة‭ ‬المثقف‭ ‬وفقا‭ ‬لمنظوره‭ ‬الخاص‭ ‬والتي‭ ‬ربما‭ ‬تتطابق‭ ‬مع‭ ‬حقيقة‭ ‬المثقف‭ ‬في‭ ‬الواقع،‭ ‬لكنها‭ ‬بالتأكيد‭ ‬تعبّر‭ ‬بطريقة‭ ‬أو‭ ‬بأخرى‭ ‬عن‭ ‬مكان‭ ‬المثقف‭ ‬في‭ ‬المجتمع،‭ ‬الذي‭ ‬يتموضع‭ ‬في‭ ‬موضعين،‭ ‬إما‭ ‬الرفض‭ ‬المطلق‭ ‬لما‭ ‬تطرحه‭ ‬الأنظمة،‭ ‬فهو‭ ‬مناوئ‭ ‬للسلطة‭ ‬معبر‭ ‬عن‭ ‬رفضه‭ ‬لممارساتها،‭ ‬واقف‭ ‬طوال‭ ‬الوقت‭ ‬على‭ ‬يسارها،‭ ‬وإما‭ ‬الوصولية‭ ‬والانتهازية،‭ ‬والإفادة‭ ‬من‭ ‬السلطة‭ ‬وتبني‭ ‬مواقفها‭ ‬والدفاع‭ ‬عنها،‭ ‬وبينهما‭ ‬تقبع‭ ‬نماذج‭ ‬أقل‭ ‬تطرفا‭ ‬في‭ ‬علاقتها‭ ‬مع‭ ‬مكونات‭ ‬المجتمع‭ ‬الذي‭ ‬تعيش‭ ‬فيه‭.‬

استقصاء‭ ‬هذه‭ ‬الصورة‭ ‬الروائية‭ ‬إنما‭ ‬يساعد‭ ‬على‭ ‬فهم‭ ‬التحوّلات‭ ‬الاجتماعية‭ ‬والتاريخية‭ ‬والاقتصادية‭ ‬التي‭ ‬طرأت‭ ‬على‭ ‬مجتمعاتنا‭ ‬العربية،‭ ‬خاصة‭ ‬أن‭ ‬الدور‭ ‬الواقعي‭ ‬للمثقف‭ ‬شهد‭ ‬انزياحات‭ ‬كثيرة‭ ‬عن‭ ‬دوره‭ ‬التاريخي،‭ ‬وانحرافات‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬لها‭ ‬من‭ ‬مبرر‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬السلطة‭ ‬الدكتاتورية‭ ‬المستبدة‭ ‬استطاعت‭ ‬أن‭ ‬تسلبه‭ ‬دوره‭ ‬التاريخي‭ ‬عبر‭ ‬المنح‭ ‬والمنع،‭ ‬فمن‭ ‬قبل‭ ‬المنح‭ ‬من‭ ‬المثقفين‭ ‬وقف‭ ‬غير‭ ‬عابئ‭ ‬بدوره‭ ‬التاريخي‭ ‬على‭ ‬يمين‭ ‬السلطة،‭ ‬ومن‭ ‬رفض‭ ‬المنح‭ ‬استطاعت‭ ‬السلطة‭ ‬المستبدة‭ ‬أن‭ ‬تهمش‭ ‬دوره‭ ‬وتقصيه،‭ ‬وترسم‭ ‬له‭ ‬صورة‭ ‬باهتة‭ ‬لا‭ ‬قيمة‭ ‬لها‭ ‬عبر‭ ‬وسائل‭ ‬إعلامها‭ ‬المختلفة‭. ‬وفي‭ ‬الفترات‭ ‬التي‭ ‬كان‭ ‬للمثقف‭ ‬العربي‭ ‬دور‭ ‬حقيقي‭ ‬في‭ ‬المجتمع‭ ‬اتخذ‭ ‬صفات‭ ‬دالة‭ ‬وكاشفة‭ ‬لما‭ ‬ينتظر‭ ‬منه‭ ‬من‭ ‬أدوار‭ ‬مثل‭: ‬المثقف‭ ‬التنويري‭ ‬والمثقف‭ ‬النهضوي،‭ ‬والمثقف‭ ‬الطليعي،‭ ‬لكن‭ ‬أبدا‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬طموح‭ ‬المثقف‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬المجتمعات‭ ‬النامية‭ ‬المتطلعة‭ ‬إلى‭ ‬الحرية‭ ‬والتنموية‭ ‬أن‭ ‬يصير‭ ‬مثقفا‭ ‬مؤسساتيا‭ ‬يساند‭ ‬السلطة،‭ ‬ويبرر‭ ‬استبدادها‭. ‬

وعلى‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬أهمية‭ ‬الموضوع‭ ‬فإننا‭ ‬لا‭ ‬نجد‭ ‬كثيرا‭ ‬من‭ ‬الباحثين‭ ‬تصدوا‭ ‬لمعالجته،‭ ‬والاستثناء‭ ‬الوحيد‭ ‬هنا‭ ‬هو‭ ‬كتاب‭ ‬االأدب‭ ‬والأيديولوجيا‭ ‬في‭ ‬سورية‭ ‬1967-1973ب‭ ‬لمؤلفيه‭ ‬بوعلي‭ ‬ياسين‭ ‬ونبيل‭ ‬سليمان،‭ ‬وكان‭ ‬الهدف‭ ‬من‭ ‬تأليف‭ ‬الكتاب‭ ‬هو‭ ‬دراسة‭ ‬الأدب‭ ‬العربي‭ ‬السوري‭ ‬من‭ ‬زاوية‭ ‬نظر‭ ‬سياسية‭ ‬ووضع‭ ‬كل‭ ‬أديب‭ ‬في‭ ‬موقعه‭ ‬من‭ ‬الهرم‭ ‬الطبقي‭ ‬للمجتمع‭ ‬السوري‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬الوصول‭ ‬إلى‭ ‬تحديد‭ ‬أيديولوجيا‭ ‬الكتاب،‭ ‬ثم‭ ‬عرّف‭ ‬لنا‭ ‬عبدالسلام‭ ‬الشاذلي‭ ‬اشخصية‭ ‬المثقف‭ ‬في‭ ‬الروايةب،‭ ‬لكنه‭ ‬عالج‭ ‬الفترة‭ ‬من‭ ‬عام‭ ‬1882‭ ‬إلى‭ ‬1950،‭ ‬كذلك‭ ‬عالج‭ ‬الباحث‭ ‬سماح‭ ‬إدريس‭ ‬في‭ ‬كتاب‭ ‬االمثقف‭ ‬العربي‭ ‬والسلطةب‭ ‬مواقف‭ ‬المثقفين‭ ‬كما‭ ‬تبدت‭ ‬في‭ ‬الرواية‭ ‬العربية‭. ‬ودرس‭ ‬محمد‭ ‬كامل‭ ‬الخطيب‭ ‬في‭ ‬كتاب‭ ‬االرواية‭ ‬والواقعب‭ ‬شخصية‭ ‬المثقف‭ ‬في‭ ‬عدد‭ ‬من‭ ‬الروايات‭ ‬العربية،‭ ‬واهتم‭ ‬الباحث‭ ‬أحمد‭ ‬محمد‭ ‬عطية‭ ‬بشخصية‭ ‬المثقف‭ ‬الثوري‭ ‬في‭ ‬كتاب‭ ‬االبطل‭ ‬الثوري‭ ‬في‭ ‬الرواية‭ ‬العربية‭ ‬الحديثةب،‭ ‬أما‭ ‬محمد‭ ‬عزام‭ ‬فدرس‭ ‬في‭ ‬كتاب‭ ‬االبطل‭ ‬الإشكالي‭ ‬في‭ ‬الرواية‭ ‬العربية‭ ‬المعاصرةب‭ ‬شخصية‭ ‬المثقف‭ ‬الإشكالي‭.‬

من‭ ‬المهم‭ ‬لمن‭ ‬يتصدى‭ ‬لدراسة‭ ‬الصورة‭ ‬الروائية‭ ‬للمثقف‭ ‬أن‭ ‬يشتغل‭ ‬على‭ ‬محورين‭: ‬الأول‭ ‬تقصي‭ ‬مفهوم‭ ‬المثقف‭ ‬منذ‭ ‬طرحه‭ ‬المفكر‭ ‬الإيطالي‭ ‬أنطونيو‭ ‬جرامشي‭ ‬في‭ ‬كتابه‭ ‬ادفاتر‭ ‬السجنب،‭ ‬وصولا‭ ‬إلى‭ ‬أحدث‭ ‬الدراسات‭ ‬التي‭ ‬تعاملت‭ ‬مع‭ ‬مفهوم‭ ‬المثقف،‭ ‬الثاني‭ ‬استقصاء‭ ‬االصورة‭ ‬الروائيةب،‭ ‬لأن‭ ‬دراسة‭ ‬الصورة‭ ‬الروائية‭ ‬التي‭ ‬يرسمها‭ ‬الروائيون‭ ‬لفئة‭ ‬ما‭ ‬من‭ ‬فئات‭ ‬المجتمع‭ ‬إنما‭ ‬تكشف‭ ‬الفضاء‭ ‬الأيديولوجي‭ ‬والثقافي‭ ‬اللذين‭ ‬يتموضع‭ ‬الكاتب‭ ‬وجمهوره‭ ‬بداخلهما‭ ‬وتعمل‭ ‬على‭ ‬ترجمته،‭ ‬فالصورة‭ ‬الروائية‭ ‬في‭ ‬بعديها‭ ‬الجمالي‭ ‬والاجتماعي‭ ‬تحتاج‭ ‬إلى‭ ‬قراءة‭ ‬عميقة‭ ‬ومتأنية،‭ ‬لأنها‭ ‬تنتمي‭ ‬إلى‭ ‬متخيل‭ ‬مجتمع‭ ‬ما،‭ ‬لأنها‭ ‬مجموعة‭ ‬من‭ ‬الأفكار‭ ‬المتعلقة‭ ‬بالفئة‭ ‬أو‭ ‬النمط‭ ‬الذي‭ ‬يسعى‭ ‬الروائي‭ ‬إلى‭ ‬تشكيله‭ ‬في‭ ‬الفضاء‭ ‬السردي‭ ‬عبر‭ ‬آليات‭ ‬التشكيل‭ ‬وفي‭ ‬إطار‭ ‬سيرورة‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬أدبي‭ ‬واجتماعي،‭ ‬فكل‭ ‬صورة‭ ‬تنبثق‭ ‬عن‭ ‬وعي‭ ‬الكاتب‭ ‬الذي‭ ‬هو‭ ‬بمنزلة‭ ‬المحرك‭ ‬الحقيقي‭ ‬للأنماط‭ ‬التي‭ ‬يرسمها‭ ‬عبر‭ ‬تشكلاته‭ ‬السردية‭. ‬كذلك‭ ‬يمكن‭ ‬للصورة‭ ‬الروائية‭ ‬أن‭ ‬تشكل‭ ‬أيضا‭ ‬تعبيرا‭ ‬أدبيا‭ ‬عن‭ ‬النظام‭ ‬الثقافي‭ ‬في‭ ‬مجتمع‭ ‬ما،‭ ‬من‭ ‬هنا‭ ‬يمكن‭ ‬اعتبارها‭ ‬تمثلا‭ ‬لواقع‭ ‬ثقافي‭ ‬من‭ ‬خلاله‭ ‬يترجم‭ ‬الفرد‭ ‬أو‭ ‬الجماعة‭ ‬التي‭ ‬ينتجها‭ ‬الفضاء‭ ‬الاجتماعي،‭ ‬الثقافي،‭ ‬الأيديولوجي‭ ‬والتخييلي‭. ‬لذا‭ ‬تُعتبر‭ ‬دراسة‭ ‬الصورة‭ ‬الروائية‭ ‬وسيلة‭ ‬لكشف‭ ‬الخطاب‭ ‬الثقافي‭ ‬للمجتمع‭ ‬الذي‭ ‬يمثله‭ ‬الروائي،‭ ‬كما‭ ‬تعبر‭ ‬عن‭ ‬العادات‭ ‬والتقاليد‭ ‬والثقافة‭ ‬التي‭ ‬تحكم‭ ‬وعي‭ ‬الفرد‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬المجتمع‭. ‬وقد‭ ‬عالجت‭ ‬الدراسات‭ ‬النقدية‭ ‬تلك‭ ‬الصورة‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬دراسة‭ ‬صورة‭ ‬المرأة‭ ‬في‭ ‬السرد‭ ‬أو‭ ‬صورة‭ ‬الفلاح‭ ‬أو‭ ‬المثقف‭ ‬وغيرها‭ ‬من‭ ‬تلك‭ ‬الصور‭ ‬الروائية‭.‬

لقد‭ ‬استطاع‭ ‬الروائيون‭ ‬تقديم‭ ‬صور‭ ‬لأنماط‭ ‬كثيرة‭ ‬في‭ ‬المجتمع‭ ‬في‭ ‬رواياتهم‭ ‬مثل‭ ‬صورة‭ ‬المرأة‭ ‬في‭ ‬السرد‭ ‬أو‭ ‬صورة‭ ‬الوطن‭ ‬أو‭ ‬صورة‭ ‬الرجل‭ ‬الشرقي‭ ‬أو‭ ‬الفلاح‭ ‬أو‭ ‬المثقف‭. ‬ولأن‭ ‬صورة‭ ‬المثقف‭ ‬بوجه‭ ‬عام‭ ‬من‭ ‬الموضوعات‭ ‬التي‭ ‬قد‭ ‬لا‭ ‬تخلو‭ ‬منها‭ ‬رواية‭ ‬بحكم‭ ‬وضعية‭ ‬كاتب‭ ‬الرواية،‭ ‬وباعتبار‭ ‬أن‭ ‬الذات‭ ‬الساردة‭ ‬فيها‭ ‬أحد‭ ‬تجليات‭ ‬هذه‭ ‬الصورة،‭ ‬رأينا‭ ‬أن‭ ‬نبحث‭ ‬في‭ ‬تجليات‭ ‬صورة‭ ‬المثقف‭ ‬في‭ ‬السرد،‭ ‬كيف‭ ‬يرى‭ ‬الروائي‭ ‬أنماط‭ ‬المثقف‭ ‬ودوره‭ ‬كذات‭ ‬مفردة‭ ‬وكذات‭ ‬تقيم‭ ‬علاقات‭ ‬في‭ ‬المجتمع؟‭ ‬وبما‭ ‬أن‭ ‬الرواية،‭ ‬خاصة‭ ‬الواقعية‭ ‬من‭ ‬أكثر‭ ‬الفنون‭ ‬اهتماما‭ ‬بتصوير‭ ‬الإنسان‭ ‬في‭ ‬علاقته‭ ‬بالمجتمع،‭ ‬فهي‭ ‬في‭ ‬رأي‭ ‬الكثيرين‭ ‬ملحمة‭ ‬العصر‭ ‬الحديث،‭ ‬وهي‭ ‬قادرة‭ ‬على‭ ‬رصد‭ ‬التغيرات‭ ‬السياسية‭ ‬والاجتماعية‭ ‬والفكرية‭ ‬والأدبية‭ ‬التي‭ ‬حدثت‭ ‬في‭ ‬المجتمع،‭ ‬وانعكست‭ ‬في‭ ‬الرواية‭ ‬باعتبارها‭ ‬وثيقة‭ ‬الصلة‭ ‬بالواقع؛‭ ‬رأينا‭ ‬أن‭ ‬ننظر‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬زاوية‭ ‬الصورة‭ ‬الفنية‭ ‬للمثقف،‭ ‬وذلك‭ ‬لنعرف‭ ‬كيف‭ ‬عبَّر‭ ‬الروائي‭ ‬عن‭ ‬الواقع‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬تلك‭ ‬الصورة،‭ ‬باعتباره‭ ‬أحد‭ ‬أهم‭ ‬الشخوص‭ ‬في‭ ‬مجتمع‭ ‬ما‭ ‬والذي‭ ‬يقوم‭ ‬في‭ ‬بعض‭ ‬الأحيان‭ ‬بالتفكير‭ ‬نيابة‭ ‬عن‭ ‬المجتمع‭ ‬والتعبير‭ ‬عن‭ ‬واقعه،‭ ‬لأن‭ ‬هناك‭ ‬صلة‭ ‬بين‭ ‬حركية‭ ‬المثقف‭ ‬وحركية‭ ‬المجتمع‭. ‬لذا‭ ‬نطرح‭ ‬قضية‭ ‬صورة‭ ‬المثقف‭ ‬داخل‭ ‬الأعمال‭ ‬السردية‭ ‬الروائية‭ ‬على‭ ‬اعتبار‭ ‬أن‭ ‬هذه‭ ‬الأخيرة‭ ‬تكثيف‭ ‬لرؤية‭ ‬الأديب‭ ‬للواقع‭ ‬ولإدراكه‭ ‬لعلاقات‭ ‬هذا‭ ‬الواقع‭.‬
لقد‭ ‬حدثت‭ ‬تحولات‭ ‬وتغيرات‭ ‬أدت‭ ‬إلى‭ ‬تغير‭ ‬صورة‭ ‬المثقف‭ ‬التي‭ ‬دأب‭ ‬الروائيون‭ ‬على‭ ‬رسمها،‭ ‬وهذه‭ ‬التغيرات‭ ‬ربما‭ ‬تكمن‭ ‬أسبابها‭ ‬في‭ ‬سقوط‭ ‬الأيديولوجيات‭ ‬الكبرى‭ ‬وبزوغ‭ ‬دور‭ ‬الفرد‭ ‬والتغير‭ ‬من‭ ‬الجمعي‭ ‬إلى‭ ‬الشخصاني،‭ ‬كذلك‭  ‬التقدم‭ ‬المذهل‭ ‬في‭ ‬الميديا‭ ‬بشتى‭ ‬تجلياتها،‭ ‬وظهور‭ ‬عصر‭ ‬الصورة،‭ ‬ووسائط‭ ‬جديدة‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬متاحة‭ ‬للروائيين‭ ‬قبلا‭. ‬

كذلك‭ ‬مثلت‭ ‬أفكار‭ ‬ما‭ ‬بعد‭ ‬الحداثة،‭ ‬وذوبان‭ ‬هوية‭ ‬الفرد،‭ ‬وتغييب‭ ‬الذات‭ ‬البشرية،‭ ‬والسعي‭ ‬إلى‭ ‬اختفاء‭ ‬الكائن‭ ‬الإنساني‭ ‬وتذويبه‭ ‬في‭ ‬بنيات‭ ‬اقتصادية‭ ‬وسياسية‭ ‬تحولا‭ ‬في‭ ‬تمثل‭ ‬الكتاب‭ ‬لتلك‭ ‬الصورة‭ ‬الروائية‭ ‬للمثقف،‭ ‬فكل‭ ‬أفكار‭ ‬ما‭ ‬بعد‭ ‬الحداثة‭ ‬يمكن‭ ‬اعتبارها‭ ‬مؤشرا‭ ‬على‭ ‬تحوّل‭ ‬فلسفي‭ ‬هيمن‭ ‬على‭ ‬المنظومة‭ ‬الثقافية‭ ‬الغربية‭. ‬هذه‭ ‬الأفكار‭ ‬الموغلة‭ ‬في‭ ‬استبعاد‭ ‬الذات‭ ‬الإنسانية‭ ‬وتهميشها‭ ‬أو‭ ‬زحزحتها‭ ‬عن‭ ‬مركزيتها‭ ‬الأنطولوجية،‭ ‬كانت‭ ‬من‭ ‬الأسباب‭ ‬التي‭ ‬أدت‭ ‬إلى‭ ‬التحولات‭ ‬الكبرى‭ ‬في‭ ‬معالجة‭ ‬الصورة‭ ‬الروائية‭ ‬للمثقف،‭ ‬فالذات‭ ‬الإنسانية‭ ‬مهددة‭ ‬بالذوبان‭ ‬أو‭ ‬التلاشي،‭ ‬وقد‭ ‬أدى‭ ‬كل‭ ‬هذا‭ ‬إلى‭ ‬اهتزاز‭ ‬القيم،‭ ‬وتشتت‭ ‬الذات‭ ‬الجماعية،‭ ‬وحيرة‭ ‬الذات‭ ‬الفردية،‭ ‬وغموض‭ ‬الزمن‭ ‬الراهن‭ ‬والآتي‭ ‬وتشظي‭ ‬المنطق‭ ‬المألوف‭.‬

لا‭ ‬شك‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬هذه‭ ‬الإرهاصات‭ ‬التي‭ ‬بدأت‭ ‬في‭ ‬عقد‭ ‬التسعينيات‭ ‬تستند‭ ‬إلى‭ ‬أسس‭ ‬ومرتكزات‭ ‬أدبية‭ ‬وثقافية‭ ‬وسياسية‭ ‬وحضارية‭ ‬مثل‭ ‬تفتت‭ ‬الأيديولوجيات‭ ‬كما‭ ‬أشرنا‭ ‬وتراجعها‭ ‬واستفحال‭ ‬أزمة‭ ‬الديمقراطية‭ ‬وإلى‭ ‬غياب‭ ‬المثل‭ ‬وفقدان‭ ‬النموذج‭. ‬كل‭ ‬هذه‭ ‬العوامل‭ ‬دفعت‭ ‬إلى‭ ‬التمرد‭ ‬على‭ ‬الشكل‭ ‬التقليدي‭ ‬والقيم‭ ‬الجمالية‭ ‬الكلاسيكية،‭ ‬ودفعت‭ ‬إلى‭ ‬رؤية‭ ‬لا‭ ‬يقينية‭ ‬للعالم‭. ‬

وهذا‭ ‬ما‭ ‬نتوقعه‭ ‬للرواية‭ ‬الجديدة،‭ ‬فقد‭ ‬شهدت‭ ‬هذه‭ ‬الفترة‭ - ‬وأقصد‭ ‬فترة‭ ‬التسعينيات‭ - ‬أهم‭ ‬المراجعات‭ ‬الفكرية‭ ‬التي‭ ‬طالت‭ ‬مفهوم‭ ‬المثقف‭ ‬والتي‭ ‬تجلت‭ ‬في‭ ‬نقطتين‭: ‬نقد‭ ‬المثقف‭ ‬من‭ ‬جهة‭ ‬بهدف‭ ‬تأصيل‭ ‬دوره،‭ ‬والبحث‭ ‬عن‭ ‬بديل‭ ‬وجد‭ ‬تعبيره‭ ‬في‭ ‬المفكر‭ ‬المثالي‭ ‬الذي‭ ‬أضفيت‭ ‬عليه‭ ‬هالة‭ ‬من‭ ‬الأسطورة‭ ‬تتناسب‭ ‬وسعي‭ ‬الخطاب‭ ‬النهضوي‭ ‬في‭ ‬بحثه‭ ‬عن‭ ‬بديل‭ ‬أسطوري‭ ‬نهضوي‭.‬

إن‭ ‬العقد‭ ‬الأخير‭ ‬من‭ ‬القرن‭ ‬العشرين‭ ‬قد‭ ‬شهد‭ ‬تحولًا‭ ‬في‭ ‬صورة‭ ‬المثقف،‭ ‬كما‭ ‬شهد‭ ‬تحولًا‭ ‬أيضًا‭ ‬في‭ ‬طرائق‭ ‬السرد‭ ‬الروائي،‭ ‬كذلك‭ ‬شهد‭ ‬صدور‭ ‬مجموعة‭ ‬من‭ ‬الكتب‭ ‬التي‭ ‬تندرج‭ ‬في‭ ‬إطار‭ ‬نقد‭ ‬المثقف،‭ ‬وذلك‭ ‬في‭ ‬إطار‭ ‬بحثها‭ ‬عن‭ ‬الطريق‭ ‬إلى‭ ‬المستقبل،‭ ‬وأشير‭ ‬هنا‭ ‬إلى‭ ‬مجموعة‭ ‬من‭ ‬الكتب‭ ‬مثل‭: ‬محمد‭ ‬عابد‭ ‬الجابري‭ ‬االمثقفون‭ ‬في‭ ‬الحضارة‭ ‬العربية،‭ ‬1996ب‭ ‬وعلي‭ ‬حرب‭ ‬اأوهام‭ ‬النخبة،‭ ‬1996ب‭ ‬وعلي‭ ‬أومليل‭ ‬االسلطة‭ ‬السياسية‭ ‬والسلطة‭ ‬الثقافية،‭ ‬1996ب‭ ‬وإدوارد‭ ‬سعيد‭ ‬اصور‭ ‬المثقف،‭ ‬1996ب‭ ‬وفهمي‭ ‬جدعان‭ ‬االطريق‭ ‬إلى‭ ‬المستقبل،‭ ‬1996ب‭ ‬وعبد‭ ‬الإله‭ ‬بلقزيز‭ ‬انهاية‭ ‬الداعية،‭ ‬2000ب‭ ‬وذلك‭ ‬على‭ ‬سبيل‭ ‬المثال‭ ‬لا‭ ‬الحصر‭.‬

وقد‭ ‬اختلف‭ ‬وعي‭ ‬الكُتَّاب‭ ‬بالخطاب‭ ‬الرؤيوي‭ ‬الذي‭ ‬يكمن‭ ‬وراء‭ ‬الإبداع،‭ ‬وهذا‭ ‬الوعي‭ ‬أدّى‭ ‬إلى‭ ‬تحرر‭ ‬الرؤية‭ ‬ووجهة‭ ‬النظر‭ ‬وراء‭ ‬الكتابة،‭ ‬فجنح‭ ‬الكُتَّاب‭ ‬إلى‭ ‬التجريب‭ ‬في‭ ‬السرد،‭ ‬ومحاولة‭ ‬تكسير‭ ‬التابوهات،‭ ‬ولا‭ ‬أعني‭ ‬هنا‭ ‬التابوهات‭ ‬الفكرية‭ ‬والأيديولوجية‭ ‬فقط؛‭ ‬بل‭ ‬أعني‭ ‬كذلك‭ ‬تكسير‭ ‬تابوهات‭ ‬السرد‭ ‬التقليدي،‭ ‬والبحث‭ ‬الدائم‭ ‬عن‭ ‬طرائق‭ ‬أخرى‭ ‬للسرد‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬مطروقة‭ ‬قبلا‭.‬

ولم‭ ‬يكن‭ ‬روائيو‭ ‬تلك‭ ‬الفترة‭ ‬بعيدين‭ ‬عن‭ ‬القيم‭ ‬التي‭ ‬طالت‭ ‬ذلك‭ ‬العصر،‭ ‬فقد‭ ‬رأوا‭ ‬العالم‭ ‬برؤية‭ ‬متشظية‭ ‬ولا‭ ‬يقينية‭ ‬له،‭ ‬وأن‭ ‬الإنسان‭ ‬الفرد‭ ‬حاول‭ ‬مواجهة‭ ‬القلق‭ ‬والتشظي‭ ‬بالخروج‭ ‬عن‭ ‬السائد‭ ‬والمألوف‭ ‬في‭ ‬السرد،‭ ‬وكذلك‭ ‬بالخروج‭ ‬بمثقفه‭ ‬عن‭ ‬الصورة‭ ‬التي‭ ‬طرحت‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬الكتاب‭ ‬والمفكرين‭ ‬قبلا،‭ ‬فلا‭ ‬نجد‭ ‬ذلك‭ ‬المثقف‭ ‬العضوي‭ ‬الذي‭ ‬يضطلع‭ ‬بقضايا‭ ‬مجتمعه،‭ ‬ويحارب‭ ‬من‭ ‬أجلها،‭ ‬والذي‭ ‬يحمل‭ ‬ذلك‭ ‬اليقين‭ ‬الذي‭ ‬يمكنه‭ ‬من‭ ‬مواجهة‭ ‬السلطة‭ ‬وفسادها‭ ‬ومحاولة‭ ‬القضاء‭ ‬على‭ ‬القهر‭ ‬والظلم‭ ‬المجتمعي‭. ‬نجد‭ ‬ذلك‭ ‬المثقف‭ ‬العضوي‭ ‬في‭ ‬صور‭ ‬قليلة‭ ‬وباهتة‭ ‬لا‭ ‬تمثل‭ ‬القاعدة،‭ ‬ونجد‭ ‬بالتالي‭ ‬صورا‭ ‬أخرى‭ ‬لمثقف‭ ‬آخر‭ ‬حل‭ ‬محل‭ ‬المثقف‭ ‬العضوي،‭ ‬فنجد‭ ‬المثقف‭ ‬الناقد‭ ‬المراجع‭ ‬للمسلمات‭ ‬والقيم،‭ ‬والذي‭ ‬لا‭ ‬يقبل‭ ‬بشكل‭ ‬يقيني‭ ‬ما‭ ‬تفرضه‭ ‬ثقافة‭ ‬المجتمع،‭ ‬ولا‭ ‬ينهض‭ ‬بدوره‭ ‬المؤمن‭ ‬المصدق‭ ‬لقيم‭ ‬هذا‭ ‬المجتمع،‭ ‬ولا‭ ‬يقبل‭ ‬بما‭ ‬قر‭ ‬وثبت‭ ‬في‭ ‬الضمير‭ ‬الجمعي‭ ‬لمجتمع‭ ‬ما،‭ ‬إنما‭ ‬هو‭ ‬ناقد‭ ‬يحلل‭ ‬الفرضيات‭ ‬ويهدم‭ ‬المسلمات‭ ‬في‭ ‬سبيل‭ ‬الوصول‭ ‬إلى‭ ‬المعنى‭ ‬الأكثر‭ ‬صدقا‭ ‬والأكثر‭ ‬اتساقا‭ ‬مع‭ ‬القيم‭ ‬التي‭ ‬يؤمن‭ ‬بها‭. ‬كذلك‭ ‬نجد‭ ‬المثقف‭ ‬المنسحب‭ ‬من‭ ‬القضايا،‭ ‬الذي‭ ‬يتخذ‭ ‬موقفا‭ ‬سلبيا‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬قضايا‭ ‬مجتمعه،‭ ‬فهو‭ ‬يصنع‭ ‬لنفسه‭ ‬عالما‭ ‬خاصا‭ ‬يتيح‭ ‬له‭ ‬فرصة‭ ‬الانسحاب‭ ‬والانزواء،‭ ‬ثم‭ ‬نجد‭ ‬المثقف‭ ‬والمأزوم‭ ‬والعدمي‭ ‬والفوضوي‭ .