الصورة الروائية للمثقف
إن البحث في صورة المثقف في السرد هو موضوع جدير بالاهتمام، وذلك لأن الخطاب السردي إنما يعبر بصورة ما عن تمثلات المثقف. وصورة المثقف التي حاول الروائيون الجدد رسمها تعتبر مفهوما مفصليا في الأدبيات التي تحكم بنية وعي الكتاب، وهذا المفهوم لم يتم تداوله كثيرا، خاصة أن الروائي بصفته مثقفًا غالبًا ما يُضمّن عمله ملامح من صورة المثقف وفقا لمنظوره الخاص والتي ربما تتطابق مع حقيقة المثقف في الواقع، لكنها بالتأكيد تعبّر بطريقة أو بأخرى عن مكان المثقف في المجتمع، الذي يتموضع في موضعين، إما الرفض المطلق لما تطرحه الأنظمة، فهو مناوئ للسلطة معبر عن رفضه لممارساتها، واقف طوال الوقت على يسارها، وإما الوصولية والانتهازية، والإفادة من السلطة وتبني مواقفها والدفاع عنها، وبينهما تقبع نماذج أقل تطرفا في علاقتها مع مكونات المجتمع الذي تعيش فيه.
استقصاء هذه الصورة الروائية إنما يساعد على فهم التحوّلات الاجتماعية والتاريخية والاقتصادية التي طرأت على مجتمعاتنا العربية، خاصة أن الدور الواقعي للمثقف شهد انزياحات كثيرة عن دوره التاريخي، وانحرافات لم يكن لها من مبرر إلا أن السلطة الدكتاتورية المستبدة استطاعت أن تسلبه دوره التاريخي عبر المنح والمنع، فمن قبل المنح من المثقفين وقف غير عابئ بدوره التاريخي على يمين السلطة، ومن رفض المنح استطاعت السلطة المستبدة أن تهمش دوره وتقصيه، وترسم له صورة باهتة لا قيمة لها عبر وسائل إعلامها المختلفة. وفي الفترات التي كان للمثقف العربي دور حقيقي في المجتمع اتخذ صفات دالة وكاشفة لما ينتظر منه من أدوار مثل: المثقف التنويري والمثقف النهضوي، والمثقف الطليعي، لكن أبدا لم يكن طموح المثقف في تلك المجتمعات النامية المتطلعة إلى الحرية والتنموية أن يصير مثقفا مؤسساتيا يساند السلطة، ويبرر استبدادها.
وعلى الرغم من أهمية الموضوع فإننا لا نجد كثيرا من الباحثين تصدوا لمعالجته، والاستثناء الوحيد هنا هو كتاب االأدب والأيديولوجيا في سورية 1967-1973ب لمؤلفيه بوعلي ياسين ونبيل سليمان، وكان الهدف من تأليف الكتاب هو دراسة الأدب العربي السوري من زاوية نظر سياسية ووضع كل أديب في موقعه من الهرم الطبقي للمجتمع السوري من خلال الوصول إلى تحديد أيديولوجيا الكتاب، ثم عرّف لنا عبدالسلام الشاذلي اشخصية المثقف في الروايةب، لكنه عالج الفترة من عام 1882 إلى 1950، كذلك عالج الباحث سماح إدريس في كتاب االمثقف العربي والسلطةب مواقف المثقفين كما تبدت في الرواية العربية. ودرس محمد كامل الخطيب في كتاب االرواية والواقعب شخصية المثقف في عدد من الروايات العربية، واهتم الباحث أحمد محمد عطية بشخصية المثقف الثوري في كتاب االبطل الثوري في الرواية العربية الحديثةب، أما محمد عزام فدرس في كتاب االبطل الإشكالي في الرواية العربية المعاصرةب شخصية المثقف الإشكالي.
من المهم لمن يتصدى لدراسة الصورة الروائية للمثقف أن يشتغل على محورين: الأول تقصي مفهوم المثقف منذ طرحه المفكر الإيطالي أنطونيو جرامشي في كتابه ادفاتر السجنب، وصولا إلى أحدث الدراسات التي تعاملت مع مفهوم المثقف، الثاني استقصاء االصورة الروائيةب، لأن دراسة الصورة الروائية التي يرسمها الروائيون لفئة ما من فئات المجتمع إنما تكشف الفضاء الأيديولوجي والثقافي اللذين يتموضع الكاتب وجمهوره بداخلهما وتعمل على ترجمته، فالصورة الروائية في بعديها الجمالي والاجتماعي تحتاج إلى قراءة عميقة ومتأنية، لأنها تنتمي إلى متخيل مجتمع ما، لأنها مجموعة من الأفكار المتعلقة بالفئة أو النمط الذي يسعى الروائي إلى تشكيله في الفضاء السردي عبر آليات التشكيل وفي إطار سيرورة ما هو أدبي واجتماعي، فكل صورة تنبثق عن وعي الكاتب الذي هو بمنزلة المحرك الحقيقي للأنماط التي يرسمها عبر تشكلاته السردية. كذلك يمكن للصورة الروائية أن تشكل أيضا تعبيرا أدبيا عن النظام الثقافي في مجتمع ما، من هنا يمكن اعتبارها تمثلا لواقع ثقافي من خلاله يترجم الفرد أو الجماعة التي ينتجها الفضاء الاجتماعي، الثقافي، الأيديولوجي والتخييلي. لذا تُعتبر دراسة الصورة الروائية وسيلة لكشف الخطاب الثقافي للمجتمع الذي يمثله الروائي، كما تعبر عن العادات والتقاليد والثقافة التي تحكم وعي الفرد في هذا المجتمع. وقد عالجت الدراسات النقدية تلك الصورة من خلال دراسة صورة المرأة في السرد أو صورة الفلاح أو المثقف وغيرها من تلك الصور الروائية.
لقد استطاع الروائيون تقديم صور لأنماط كثيرة في المجتمع في رواياتهم مثل صورة المرأة في السرد أو صورة الوطن أو صورة الرجل الشرقي أو الفلاح أو المثقف. ولأن صورة المثقف بوجه عام من الموضوعات التي قد لا تخلو منها رواية بحكم وضعية كاتب الرواية، وباعتبار أن الذات الساردة فيها أحد تجليات هذه الصورة، رأينا أن نبحث في تجليات صورة المثقف في السرد، كيف يرى الروائي أنماط المثقف ودوره كذات مفردة وكذات تقيم علاقات في المجتمع؟ وبما أن الرواية، خاصة الواقعية من أكثر الفنون اهتماما بتصوير الإنسان في علاقته بالمجتمع، فهي في رأي الكثيرين ملحمة العصر الحديث، وهي قادرة على رصد التغيرات السياسية والاجتماعية والفكرية والأدبية التي حدثت في المجتمع، وانعكست في الرواية باعتبارها وثيقة الصلة بالواقع؛ رأينا أن ننظر من خلال زاوية الصورة الفنية للمثقف، وذلك لنعرف كيف عبَّر الروائي عن الواقع من خلال تلك الصورة، باعتباره أحد أهم الشخوص في مجتمع ما والذي يقوم في بعض الأحيان بالتفكير نيابة عن المجتمع والتعبير عن واقعه، لأن هناك صلة بين حركية المثقف وحركية المجتمع. لذا نطرح قضية صورة المثقف داخل الأعمال السردية الروائية على اعتبار أن هذه الأخيرة تكثيف لرؤية الأديب للواقع ولإدراكه لعلاقات هذا الواقع.
لقد حدثت تحولات وتغيرات أدت إلى تغير صورة المثقف التي دأب الروائيون على رسمها، وهذه التغيرات ربما تكمن أسبابها في سقوط الأيديولوجيات الكبرى وبزوغ دور الفرد والتغير من الجمعي إلى الشخصاني، كذلك التقدم المذهل في الميديا بشتى تجلياتها، وظهور عصر الصورة، ووسائط جديدة لم تكن متاحة للروائيين قبلا.
كذلك مثلت أفكار ما بعد الحداثة، وذوبان هوية الفرد، وتغييب الذات البشرية، والسعي إلى اختفاء الكائن الإنساني وتذويبه في بنيات اقتصادية وسياسية تحولا في تمثل الكتاب لتلك الصورة الروائية للمثقف، فكل أفكار ما بعد الحداثة يمكن اعتبارها مؤشرا على تحوّل فلسفي هيمن على المنظومة الثقافية الغربية. هذه الأفكار الموغلة في استبعاد الذات الإنسانية وتهميشها أو زحزحتها عن مركزيتها الأنطولوجية، كانت من الأسباب التي أدت إلى التحولات الكبرى في معالجة الصورة الروائية للمثقف، فالذات الإنسانية مهددة بالذوبان أو التلاشي، وقد أدى كل هذا إلى اهتزاز القيم، وتشتت الذات الجماعية، وحيرة الذات الفردية، وغموض الزمن الراهن والآتي وتشظي المنطق المألوف.
لا شك في أن هذه الإرهاصات التي بدأت في عقد التسعينيات تستند إلى أسس ومرتكزات أدبية وثقافية وسياسية وحضارية مثل تفتت الأيديولوجيات كما أشرنا وتراجعها واستفحال أزمة الديمقراطية وإلى غياب المثل وفقدان النموذج. كل هذه العوامل دفعت إلى التمرد على الشكل التقليدي والقيم الجمالية الكلاسيكية، ودفعت إلى رؤية لا يقينية للعالم.
وهذا ما نتوقعه للرواية الجديدة، فقد شهدت هذه الفترة - وأقصد فترة التسعينيات - أهم المراجعات الفكرية التي طالت مفهوم المثقف والتي تجلت في نقطتين: نقد المثقف من جهة بهدف تأصيل دوره، والبحث عن بديل وجد تعبيره في المفكر المثالي الذي أضفيت عليه هالة من الأسطورة تتناسب وسعي الخطاب النهضوي في بحثه عن بديل أسطوري نهضوي.
إن العقد الأخير من القرن العشرين قد شهد تحولًا في صورة المثقف، كما شهد تحولًا أيضًا في طرائق السرد الروائي، كذلك شهد صدور مجموعة من الكتب التي تندرج في إطار نقد المثقف، وذلك في إطار بحثها عن الطريق إلى المستقبل، وأشير هنا إلى مجموعة من الكتب مثل: محمد عابد الجابري االمثقفون في الحضارة العربية، 1996ب وعلي حرب اأوهام النخبة، 1996ب وعلي أومليل االسلطة السياسية والسلطة الثقافية، 1996ب وإدوارد سعيد اصور المثقف، 1996ب وفهمي جدعان االطريق إلى المستقبل، 1996ب وعبد الإله بلقزيز انهاية الداعية، 2000ب وذلك على سبيل المثال لا الحصر.
وقد اختلف وعي الكُتَّاب بالخطاب الرؤيوي الذي يكمن وراء الإبداع، وهذا الوعي أدّى إلى تحرر الرؤية ووجهة النظر وراء الكتابة، فجنح الكُتَّاب إلى التجريب في السرد، ومحاولة تكسير التابوهات، ولا أعني هنا التابوهات الفكرية والأيديولوجية فقط؛ بل أعني كذلك تكسير تابوهات السرد التقليدي، والبحث الدائم عن طرائق أخرى للسرد لم تكن مطروقة قبلا.
ولم يكن روائيو تلك الفترة بعيدين عن القيم التي طالت ذلك العصر، فقد رأوا العالم برؤية متشظية ولا يقينية له، وأن الإنسان الفرد حاول مواجهة القلق والتشظي بالخروج عن السائد والمألوف في السرد، وكذلك بالخروج بمثقفه عن الصورة التي طرحت من قبل الكتاب والمفكرين قبلا، فلا نجد ذلك المثقف العضوي الذي يضطلع بقضايا مجتمعه، ويحارب من أجلها، والذي يحمل ذلك اليقين الذي يمكنه من مواجهة السلطة وفسادها ومحاولة القضاء على القهر والظلم المجتمعي. نجد ذلك المثقف العضوي في صور قليلة وباهتة لا تمثل القاعدة، ونجد بالتالي صورا أخرى لمثقف آخر حل محل المثقف العضوي، فنجد المثقف الناقد المراجع للمسلمات والقيم، والذي لا يقبل بشكل يقيني ما تفرضه ثقافة المجتمع، ولا ينهض بدوره المؤمن المصدق لقيم هذا المجتمع، ولا يقبل بما قر وثبت في الضمير الجمعي لمجتمع ما، إنما هو ناقد يحلل الفرضيات ويهدم المسلمات في سبيل الوصول إلى المعنى الأكثر صدقا والأكثر اتساقا مع القيم التي يؤمن بها. كذلك نجد المثقف المنسحب من القضايا، الذي يتخذ موقفا سلبيا من كل قضايا مجتمعه، فهو يصنع لنفسه عالما خاصا يتيح له فرصة الانسحاب والانزواء، ثم نجد المثقف والمأزوم والعدمي والفوضوي .