المسرح العربي الراهن في عين العاصفة
في غياب المنهج والمعايير الواضحة عانت حركة النقد في الثقافة العربية عمومًا، وفي الفنون السبعة خاصة، ضعفًا مزمنًا، على اختلاف الأساليب والمضامين، وكان النقد، في اتجاهاته وفروعه، هو الضلع القاصر في مضمار التجديد والانفتاح، وكأنه ملحق بثقافة الخوف، بما فيها الخوف من النقد ونقد النقد.
ظلت امتدادات النقد الكلاسيكي في الإطار الضيق في أروقة الجامعات المنغلقة على نفسها، في موازاة النقد الأفقي الذي يميل إلى المدح والقدح، في الإطار العتيق المرسوم لصحافة السلطة المعلبة، المكتوبة والمصورة.
ولا تخلو الساحة من تجارب شخصية محددة وبارزة، تستند إلى منهج واضح، ومعايير أكاديمية منفتحة على حركات التجديد والمغامرات الإبداعية، وعلوم العصر وفنونه.
برز اسم د. نديم معلا، في مجال النقد المسرحي، منذ أوائل السبعينيات، بعد تخرجه في معهد المسرح بموسكو (غيتيس)، وكان من أوائل مدرسي المعهد العالي للفنون المسرحية في دمشق، الذي تخرج فيه أبرز نجوم الدراما السورية من الممثلين والمخرجين والقليل من النقاد. ثم انتقل
د. نديم للتدريس في المعهد العالي للفنون المسرحية في الكويت، لمدة خمسة عشر عامًا، ومنذ عام 1980 أصدرخمسة عشر كتابًا متميزًا، تأليفًا وترجمة، نشرت في دمشق والكويت وبيروت والإسكندرية، من أهمها كتابه الغة العرض المسرحيب الذي قدم فيه تشريحًا مفصلًا ودقيقًا لكل الوجوه المتكاملة للعرض المسرحي، ثم نشر ترجمة كتاب ستانيسلافسكي احياتي في الفنب ذ في 576 صفحة - وهو أهم كتب المذكرات الشخصية والعملية في عالم المسرح على الإطلاق.
في حوار مع د. نديم معلا إطلالة على حاضر المسرح العربي والعالمي، أمس واليوم وغدًا:
_ في العقود القليلة الأخيرة رحل عدد كبير من أعمدة المسرح العربي الجديد، من الكتاب والمخرجين مثل: يوسف إدريس، سعد الله ونوس، عصام محفوظ، صقر الرشود، فواز الساجر، نعمان عاشور، محمود دياب، سعد الدين وهبة، محمد الماغوط ، فكيف انعكست هذه الخسارة الفادحة على الواقع الراهن للمسرح العربي؟
المسرح العربي
- كان هؤلاء في معظم الحالات ينتجون أو يبدعون نصوصًا أقرب إلى الأدب، وكانوا أصحاب مشاريع ثقافية اجتماعية - سياسية، ومع رحيل هؤلاء لم يعد للنص حضوره المؤثر، إضافة إلى عوامل موضوعية أخرى، منها الالتفات إلى الجسد (جسد الممثل) واعتباره لغة، ومنها أيضًا طغيان ظاهرة الإعداد، وظاهرة الكاتب -المخرج، وكنا نسعى في المعاهد الأكاديمية، إلى تعليم فن الكتابة المسرحية، مع يقيني بأن الاستعداد الإبداعي هو الأساس، ولكن يمكن تحريض الدارس على الكتابة وذلك بمقاربة الأنواع المعروفة والحديثة، ومناقشتها وليس تلقينها، والواقع الراهن للمسرح العربي ضعيف، وليس مستقرًا، بل هو في عين العاصفة.
-صعدت موجة من المهرجانات المسرحية العربية المتوالية، في السبعينيات والثمانينيات الماضية، ثم بدأت بالانحسار، وتحولت إلى نوع من الطقوس الاحتفالية المحلية العابرة، لماذا؟
المهرجانات المسرحية العربية
- من المؤسف أن المهرجانات كانت في بدايتها مهمة، بل وربما ضرورية، حين كان المشاركون من ممثلين ومخرجين ونقاد يحملون قيمًا فنية وفكرية حقيقية، أما الآن فإنني أرى أن كثيرًا من المشرفين عليها غير مؤهلين، لذلك نشأت ظاهرة المتعهدين والمقاولين الذين يتولون توجيه الدعوات لأناس ليسوا هامشيين فحسب، بل لا إنجازات لهم!
أليس مزريًا أن يتلطى مسرحيون معروفون على أبواب المقاولين والمشرفين على هذا المهرجان أو ذاك؟
- ظل شكسبير حاضرًا بقوة في حركة المسرح العالمي، في كل الفصول، وفي السينما كانت أعماله تشكل تحديًا للمخرجين والممثلين وفي الأعوام الأخيرة ظهر فيلم عن حياته الشخصية والعاطفية، وفيلم آخر يشكك في عبقريته، وينسب أعماله إلى مؤلف آخر، لماذا يثير شكسبير هذا الضجيج بعد مئات السنين؟
شكسبير دائمًا
- عندما نشر يان كوت كتابه الشهير اشكسبير معاصرناب، في أواخر الستينيات من القرن الماضي، كان يدرك ماتعنيه هذا المعاصرة.
ليست الموضوعات الشكسبيرية الخارجية المنفتحة في جلّها على فضاءات الزمان والمكان، هي السبب، بل ثمة شخصيات مبنية بتعددية وعمق نفسي واجتماعي، والأهم من ذلك إنساني، وهي قادرة على أن تثبت، المرة تلو الأخرى، أنها تفيض حياة على الورق كما على خشبة المسرح، وذلك الانفتاح على القراءات المتعددة وعدم الركون إلى أحادية التأويل هو ما يميز العبقرية الشكسبيرية.
- بعد شكسبير تردد في عالم المسرح اسمان شهيران مختلفان، هما ستانيسلافسكي وبريخت.ماهي الخصوصية البارزة في تجربة كل منهما، في حضورهما المتواصل على الساحة المسرحية في العالم؟
ستانيسلافسكي وبريخت
- يقف كل من ستانيسلافسكي وبريخت على طرفي نقيض، من حيث مقاربة العرض المسرحي (الإبعاد أو التغريب أو المعايشة).
أثّر الروسي ستانيسلافسكي، ولايزال يؤثر في المسرح الغربي لجهة إعداد الممثل، كونه يعد منهجًا متكاملًا، على مدى أكثر من نصف قرن، وترك تأثرًا واضحًا على المخرجين والممثلين المسرحيين والسينمائيين الأمريكيين الذين درسوا في معهد استوديو الممثلب الذي أسسه الي ستراسبورغب في نيويورك .
أما الألماني بريخت فقد ترافق تأثيره مع النهوض السياسي ذ الاجتماعي في ستينيات القرن الماضي، ولعل بعض مسرحياته الأقرب إلى التوجه الإنساني االأم شجاعةب التي مازالت قادرة على الحياة .
- تمتد جذور المسرح عميقًا في التاريخ، وكان تطوره جزءًا من تطور ثقافات الشعوب، وهو يتعايش اليوم مع مصدرين جديدين للفن السمعي البصري: السينما والتلفزيون، فكيف ترى مسار العلاقة بين هذه المصادر الثلاثة للفرجة؟
المسرح والسينما والتلفزيون
- تضاعف تأثير التلفزيون إلى درجة أن الممثلين الذين نعدّهم في المعاهد المسرحية باتوا يحلمون ببطولة مسلسل تلفزيوني، ولعل عملية التلقي التي تختلف بين المسرح والتلفزيون، من حيث الحضور الحيّ للمتفرج في المسرح، وكذلك حضور الممثل، هي ما تجذب طرفي المعادلة. يقبل الناس على العرض المسرحي لأنه يجري هنا الآن، ولأنهم يرون الممثل اشخصيًاب، وعلى الرغم من هذه الميزة، يستولي التلفزيون على القسم الأكبر من نسبة المشاهدة. إنه يأتيك إلى بيتك، يتوضع في إحدى زواياه، وقد لا يتطلب منك التركيز الذي يتطلبه المسرح أو السينما، لم تدخل الفنون الثلاثة تاريخيًا، منذ ظهورالسينما الصامتة، ومن ثم الناطقة في ما بعد، في مواجهة أو صراع مكشوف، واستمر كل فن ساعيًا إلى تطوير أدواته، ولم ينقرض أي منها، ولكنني أرى تبادل التأثير فيما بينها بصمت، فالنصوص المسرحية القديمة والجديدة أغنت السينما، والسينما أغنت المسرح بأساليب المونتاج والديكور والإضاءة والإثارة، والتلفزيون نقل المسرح والسينما إلى منازل المتفرجين.
- التجريب منهج، أم بدعة صارت ماثلة في كل العروض المسرحية العربية الراهنة، وكأنها ضرورة مفتوحة لمخالفة قيود الدراما، لماذا؟
التجريب المسرحي
- إن الالتباس الذي رافق مصطلح االمسرح التجريبيب وانتشاره وتداوله في العالم العربي، منذ النصف الثاني من سبعينيات القرن الماضي، مسئول إلى حد كبير عن سوء الفهم الذي قوبل به، فالدلالة العائمة الغائمة الرجراجة للمصطلح أدت إلى شيوع ما يشبه اليقين، بأن القفز والصراخ وغرائبية التشكيل الحركي (الميزانسين) وتوضع العرض في المكان رأسًا على عقب (السينوغرافيا) هو التجريب عينه.
<إضافة إلى التجريب درجت عروض «المونودراما» ذات الممثل الوحيد الفريد، الذي يحمل معه كل العرض المسرحي، ما أهمية «المونودراما» بين العروض المسرحية الجديدة؟
وجها المونودراما
- انتشر هذا النوع من المسرح وراج بين العقدين الأخيرين. وهو أساسًا مسرح الممثل الواحد، والمونودراما ذات بنية سردية تسمح بتعدد الشخصيات التي يجسدها الممثل الذي ينبغي أن يكون حاذقًا ومالكًا لمهارات تساعده على ضبط الإيقاع من جهة، والانتقال من حالة إلى أخرى، بل من شخصية إلى أخرى، دون الوقوع في مطب الرتابة والتكرار قولًا وفعلًا، وهي فن صعب ومع ذلك راح كثير من الممثلين يقبلون عليها توفيرًا للنفقات، أو استسهالًا، فالممثل الواحد، أو الوجه الواحد، يمكن أن يكون مملًا، ويمكن أن يؤثر ذلك في درامية العرض، الذي ينهض عادة على الصراع أو المواجهة .
- من خلال عملك في المعهد العالي للفنون المسرحية في الكويت لمدة خمسة عشر عامًا تابعت عن قرب تجربة المسرح الكويتي، فما العلامات البارزة في مسيرة هذه التجربة؟
خصوصية المسرح الكويتي
- في الكويت تجربة مسرحية فريدة خليجيًا، في موازاة النهوض الثقافي الذي برز في الكويت، منذ الخمسينيات الماضية، وثمة مسرحيون أدركوا معنى أن يحمل الفن المسرحي نكهة الأرض التي يتحرك عليها الفنان، من خلال احترام الثقافة المحلية وخصائصها، وتقديمها إلى المتلقي الذي يحتفي بصورته في مرآة الفن الواعي والناقد معًا، أقول هذا، وأنا أثمن تجربة الرائد محمد النشمي، في النصف الثاني من الخمسينيات، الذي التقط القيمة البصرية للخطاب المسرحي وعزف عن اتقديسب النص الأدبي.
حاول النشمي أن يُعد التربة أولًا ثم يرمي بذور التجربة المسرحية ثانية. إذ كيف تعرض نصوص عالمية معروفة، ونحن نجهل الثقافة التي ننتمي إليها، ومنظومة القيم التي تنطوي عليها، أو تبشر بها؟
ويخيل لي أن ما قام به الثنائي (عبدالعزيز السريع و صقر الرشود) في الستينيات والسبعينيات على صعيد الكتابة والإخراج، كان بناء على أساس وتطويرًا له، لقد استفادا من تقنية الكتابة (الدراما الحديثة بخاصة وتحديدًا إبسن، وصولًا إلى البريختية أو بعضها)، لقد غدا كل من السريع والرشود، من كلاسيكيات المسرح الكويتي. ولعل رائدًا آخر ربما لا يقل أهمية عنهما، هو سعد الفرج الذي كتب نصًا كويتيًا، يعد الأول الذي كتبه كويتي عام (1964)، والفرج كان يكتب ويمثل، وقد ساعدته درايته بخشبه المسرح على تجنب الكثير من الشطط الإنشائي، وفي هذا السياق تجدر الإشارة إلى الثنائي الذي شكله مع الفنان عبدالحسين عبدالرضا، الكوميدي الكويتي الذي تفرد في عروض لاحقة، اتكأت على نصوص ينهض فيها الخط السياسي مُهيمنًا على الشخصية والفعل والجو ليثمر الهجاء، هجاء نمط الحياة الاستهلاكية في الخليج.
الجيل الذي تلا هؤلاء الفنانين من الكتاب والمخرجين أمثال خالد عبداللطيف وحسين المسلم حاول أن يختط لنفسه طريقًا متمايزًا إلى حدّ ما، لكن قوة الاندفاع لم تكن كافية لتحقيق منسوب الطموحات، ربما لظروف اجتماعية أو نفسية، وفي السنوات الأخيرة قرر المسلم تأسيس فرقة وعمل على تدريبها من خلال ورشات خاصة، لكن جيل الشباب اليوم في المسرح الكويتي يحتاج إلى ترسيم مساره .
نجح المسرح الكويتي في التأسيس لتقاليد مسرحية، ومنها تقليد ارتياد المسرح واعتباره حدثًا اجتماعيًا، إلا أنه وفي الوقت نفسه تراجع عن قيمة ما يقدم له ولم يعد مدققًا أو فاحصًا لنوع العرض المسرحي.
وأخيرًا نتمنى ألا تتراجع الكويت، تحت تأثيرات مستجدة،عن دورها الريادي في الثقافة التنويرية والحرة، وتتحول إلى بلد لا مكان فيه إلا للمكرور، الذي يعيش خارج العصر، كما حدث فعلًا في عدد من البلدان العربية الأخرى .
- أذكر أنك تابعت تجربة سعدالله ونوس عن قرب، وكتبت عنها بتفاصيل حية، في مواجهة نقاد وصحفيين وكتاب من تيارات أخرى، في ما يشبه معارك ساخنة على الورق، فكيف ترى تلك التجربة، وما الخصوصية المميزة لها؟
تجربة سعدالله ونوس
- لفت سعدالله ونوس الأنظار منذ أن قدم مسرحية احفلة سمر من أجل 5 حزيرانب، في أواخر الستينيات، وكانت أول عمل فني عربي يثير الأسئلة الصعبة والمحرجة معًا، ولم يكن مسرحه يركن إلى شكل أو قالب جامد، أيًا كانت الجمالية التي يتكئ عليها، وهكذا برزت موضوعة اتأصيل المسرح العربيب، وانفتحت الثقافة المسرحية العربية على الثقافات الأخرى، محاورة ومجادلة، وليست محاكية أو مقلدة.
لست بصدد إطلاق أحكام القيمة، فالزمن كفيل بوضع الأمور في نصابها، أما الذين لم يعجبهم مسرحه فلهم الحق أن يعبروا عن آرائهم، وأذكر أن أحد الكتاب المخرجين قاده عجزه عن الإبداع إلى استثمار مناصبه السبعة، توسلًا لتحقيق إنجاز ما، يستحق الإشادة، ولكنه أخفق، ولم يعد يذكره أحد بعد أن فقد منصبه، وثمة كاتب كان سعدالله ونوس عقدته، ولم يكف عن توجيه أقسى العبارات ضده، وأصابتني شظايا من تلك المعارك الورقية الدونكيشوتية الساخنة، لكن الثقافة الشاملة والإنسانية لدى سعدالله كفلت له مكانة مميزة في المسرح العربي
والعالمي .
- جمعتك صداقة حميمة وعلاقات زمالة وعمل مع المخرج المسرحي الفذ الراحل فواز الساجر، ونشرت كتابًا عن تجربته بعد وفاته شابًا، في الأربعين من عمره، عام 1988، كيف ترى المؤثرات التي تركتها تجربته على مسار المسرح السوري والعربي؟
طيف فواز الساجر
- بالمناسبة، فواز الساجر هو الذي جاء بي إليك، في أواخر عام 1975، وقال لي: تعال لأعرفك على بندر، دون أن يضيف شيئًا، وهكذا مرّ الزمن سريعًا، ودخل فواز الحياة الثقافية والمسرحية من بابها الواسع، كان يختلف عن غيره من المخرجين، وتمايز بثقافته الشاملة، وفي الوقت نفسه، كان يعرف كيف يلتقط الحركة على خشبة المسرح، وكيف يؤسس لها فكريًا .
في المرحلة الأولى من حياته الإبداعية كان يصر على الحمولة الفكرية، والخطاب المسرحي الذي يحمل كل الدلالات الاجتماعية والسياسية التي يحتفي بها الحاضر، وفي المرحلة التالية ، بعد عودته الثانية من موسكو عام 1985، التفت إلى تأكيد القيمة الفنية للعرض المسرحي، دون أن يعني ذلك تخليه عن القيمة الفكرية، وكان فواز الساجر في هذه المرحلة، وحتى وفاته، يرى أن يكون الطابع الفني (في الصورة والتشكيل الحركي) مدخله إلى ماهو فكري، وتغيرت جماليته قليلًا، ودخل نسيج حراك جديد في الواقع، كما في داخل الذات.
-في العلاقة بين العمل الفني والجمهور هناك مايسمى «الاستجابة» التي تحدد درجة التواصل بين هذا العمل الفني وذاك الجمهور، فما تدرجات الاستجابة لدى الجمهور المسرحي العربي؟
الاستجابة المسرحية
- الاستجابة المسرحية غير الاستجابة الأدبية، فهذه الأخيرة تنهض على فعل القراءة، والأولى تنهض على لقاء الممثل الحي بالمتفرج وجهًا لوجه، مع وجود مادي ملموس، هو خشبة المسرح، وماعليها من دلالات مادية عيانية، تملأ فراغ الخشبة، ونظام الاستجابة في كلتا الحالتين مختلف، فعل يشاهد وآخر ينطوي على أنساق كلامية دالّة، وفي حالة العرض المسرحي لابد أن تكون الاستجابة آنية راهنة، لأنها مؤطرة بزمان ومكان محددين، ونحن الآن معنيون بالاستجابة المسرحية، أكثر من أي وقت، لأن عزوفًا خطيرًا من العروض المسرحية (التي تحمل معنى)، يحدث في عالمنا العربي، ومهما أفضنا في التعليل، تعليل العزوف هذا، فإن الحقيقة المزرية تبقى ماثلة للعيان: مسرح مهجور أو شبه مهجور.
- على مدى العقود الأربعة العجاف الماضية اختفت ملامح الكوميديا من المسرح والشارع العربيين، وانتشرت الكآبة ذات الرءوس المتعددة، وأنا أسميها «الكآبة الوطنية»، التي سحقت الكوميديا، بما فيها من الفكاهة الشعبية والأدب الساخر، في المسرح والحياة معًا، فماذا حدث؟
الكوميديا و«الكآبة الوطنية»
- تعنى الكوميديا بالموضوعات الاجتماعية والسياسية والأخلاقية، امتدادًا لموضوعات المسرح الإغريقي، مرورًا بالكوميديا المرتجلة التي تأصلت في أعمال كارلو غولدوني، مع التيارات الأخرى التي تشكلت على أيدي موليير وجوجول.
في المسرح العربي اتجهت الكوميديا إلى الأوساط الشعبية وقدمت أعمالها في أنماط منذ منتصف القرن التاسع عشر، في أعمال النقـاش ويعقوب صنوع، ثم نجيب الريحاني وعلي الكسار، حيث كانت العيوب الاجتماعية هدفًا للسخرية والضحك، ولم تكن تلك الأعمال مجانية كما يتخيل البعض، وفي الستينيات والسبعينيات الماضية حاول بعض الكتاب، مثل نعمان عاشور وألفريد فرج، مقاربة الشخصيات الكوميدية ثقافيًا وأدبيًا، لكن التسييس والحمولة الفكرية أفقداها الرشاقة وخفة الظل، ويبدو أن عادل إمام ودريد لحام وعبدالحسين عبدالرضا استطاعوا الحفاظ على التوازن بين ماهو شعبي وماهو فكري وسياسي، بين المضحك قليلًا جدًا والمبكي كثيرًا،
كثيرًا، معًا، ونحن بحاجة ماسة إلى الكوميديا الإنسانية التي توقظ فينا حب الحياة، بعد كل مامر بنا من كوارث، تثير الرغبة في العودة إلى البكاء على الأطلال .