تأمُّلات حكيم محزون

تأمُّلات حكيم محزون

أول ما يلتفت إليه القارئ لديوان «أحلام الفارس القديم» - بالقياس إلى «أقول لكم» - هو أن علاقة القصيدة بالفكر قد تغيرت، فبعد أن كانت القصيدة نظماً لأفكار مجردة، تمتد بتجريدها إلى الأسطر التي تصاغ صوغ الحكم، مشيعة درجة لا يمكن إغفالها من التقريرية، تحولت القصيدة إلى رؤى شعرية، لا تخلو من الفكر، ولكنه الفكر الذي يذوب في الصورة والإيقاع والرموز المتنوعة والأقنعة المتباينة، فتغدو القصيدة رؤية شعرية، عمادها تقنيات فنية تجعل الفكر شعراً، والشعر فكراً في الوقت نفسه، فلا نواجه الأفكار المصوغة في شعر أقرب إلى النظم، بل المواقف التي تتحول إلى شعر، في مدى الموازاة الرمزية، والغنائية التي تذيب كل فكر، وتحيله إلى إبداع، وتجعل من كل إبداع أصيل فكرًا بالضرورة، ما ظل منطوياً على رؤية عالم هو تجسيد لمواقف وقيم.

 

يترتب على ذلك تغير صوت الشاعر الذي كان يخلع على حضوره بعض صفات النبوة، خصوصا في أطول قصائد «أقول لكم» التي أصبحت عنوانا عليه، دالة على الصوت الذي يكمن وراءها باللجوء المتعمد إلى صيغة تذكر بأصلها «الحق أقول لكم» في خطاب المسيح؛ فتجعل من حضور الشاعر حضورا علويا بمعنى من المعاني. الأنا التي ينطقها ضمير المتكلم تبدو الأعلى في خطابها إلى الأدنى من الجمهور الذي تدعوه إليها، كي يتحلق حولها لتبشره بما ينطوي عليه «القديس» - في حالتنا التي يتوجه فيها الأعلى إلى الأدنى على النحو التالي:
إليّ، إليّ، يا غرباء، يا فقراء، يا مرضى
كسيري القلب والأعضاء، قد أنزلت مائدتي
إليّ، إليّ
لنطعم كسرة من حكمة الأجيال
وهي أسطر تنطوي على ما يشبه الإشارة المضمرة إلى «موعظة الجبل» والأهم هو ما تعلنه الكلمات من أن العقل قد أضل مسرانا، وأن ما ينجينا من ضلال العقل، هو القلب الذي تزول الحجب بينه - في حال توحده - والحقائق، فيرى بعيني الخيال الصوفي حقيقة الدنيا، ويسمع النجم والأمواه والأزهار موسيقى. وقد نصل مثل «القديس» الذي رأى الله في قلبه، وتجلى له المحجوب من الأسرار عن الكائنات، فشعر بجسمه المحموم ينبض مثل قلب الشمس، وأن شعاب قلبه قد امتلأت بالحكمة، وأنه أصبح قديسا، رسالته أن ينقل ما انطوى من حكمة أو إشراق، بلا فارق، فالمهم هو أن ما ينقله يهبط على قلبه كالوحي، في لحظة التجلي، وما يوصله هو ما يرتقي بالناس الذين يجافيهم ليعرفهم، ويعلو على عالمهم ليهبط إليهم حاملا بشارة المعرفة الجديدة والطريق إليها. وأيا كانت صدمة هذه المعرفة الجديدة فهي الحق الذي يقوله الحكيم الذي لا ينسى أن يلفت انتباه رعاياه إلى أن الزيف قد يقتات بالفطنة، وسقط القول قد يعلو بأجنحة من الترديد:
أقول لكم بأن الكون ما كانا
وما ندري بأن سيكون
وأن الليل والصبح قصارانا
ورحلة شط دنيانا
وهي كلمات تتماس ودائرة الميتافيزيقا، وتجعل وعي الوجود بما هو موجود المنطلق لمعرفة كنه الوجود ومداه، بعيدا عن أي رجم بما بعده،  أو ما وراءه، مما لا يصل إليه العقل، أو ينجح في الوصول إليه إلا بتغيير لحمة الإدراك وسداه، واستبدال القلب بالعقل، والروح بالجسد، أو الوصل بين الاثنين بما يرحل بنا عن شط دنيانا التي نجافيها لنعرفها. وعندئذ، قد نعرف الطريق إلى قدس أقداس الميتافيزيقا في ديوان «أحلام الفارس القديم» علامة على منزع آخر، يبدأ من الشعور بالعجز الحزين، بالغ الحزن:
فقد أردنا أن نرى  أوسع من أحداقنا
وأن نطول باليد القصيرة المجزورة الأصابع
سماء أمنياتنا
فلا يبقى سوى الابتهال إلى الله أن يفتح أمامنا الأبواب المغلقة، كي ندخل إلى حدائق الصفاء، لنجلس في ظلالها الوارفة، بعيدين عن ذلك الحزن: المسخ، الغامض، المستوحش، الغريب الذي لا يريد أن يفارقنا ويحول بيننا وحال الرضا بما يمنحنا إياه ربنا العظيم ناسج الأحلام في العيون، واليقين والظنون، ومرسل الآلام والأفراح والشجون..  إلى أن تحين اللحظة التي يأمر فيها بكمال خلاصنا من قيود دنيانا، كي نعلو عليها، ونجاوز ما فيها من نقص، فتغدو معرفتنا نقيضا لما في الكون من فساد، ومواجهة له بما ينقلنا من شروط الضرورة إلى آفاق الحرية.

فارس قديم معذَّب
ولذلك لا نجد في «أحلام الفارس القديم، القديس الذي يريد أن يقدسنا، بل المُعذَّب، مثلنا، على الدرب الصاعد إلى النهاية الإشراقية التي نحلم - والفارس القديم - بالوصول إليها، لكن  بوصفنا - كالفارس القديم - بشرا يعانون في سبيل أن يصلوا إلى الحقيقة المقنعة أو حفنة الصفاء الضائعة التي يصبح اسمها - في ما بعد - وردة الصقيع. لكن دون حِكَم من قديس متعال، بل من إنسان يعتوره النقص لأنه من البشر، يتحدث إلى أمثاله، دائما، عن نفسه بما لا ينفي صفاته البشرية المنطوية على النقص، شأنه شأن الآلاف المؤلفة من أشباهه، فيفتتح خطابه، أو ديوانه، بما يشبه الاعتذار:
معذرة يا صحبتي، لم تثمر الأشجار هذا العام 
فجئتكم بأردأ الطعام
ولست باخلا، وإنما فقيرة خزائني
مقفرة حقول حنطتي.
ورغم ما في المطلع من مبالغة (مقصودة، أو غير مقصودة) في مدى التواضع، فإنه يحدد، منذ البداية، العلاقة بين قائل ومستمع يشبهه، مستمع يتوقع الكثير من قائل لا يتردد  في الإقرار بعجزه عن تحقيق هذا الكثير. ولا يعني ذلك سوى أننا انتقلنا من حال إلى حال: حال الأعلى الذي يخاطب الأدنى إلى حال الإنسان الذي يخاطب أخاه الإنسان بلا تمييز، متكلما عن أوضاعه وتجاربه ومعارفه وأنواع معاناته التي هي أصل حزنه الدفين، والفضاءات التي يتحرك فيها أو يحن إليها، والمواقف التي يتخذها من زمنه الذي هو زمن القارئ، غير مغفل حرصه على مشاركة القارئ في الإعجاب بشعراء يعجب بهم، من أمثال بودلير ولوركا، غير متردد في استخدام لغة الأمثال ومراوغة الاستعارات، بل صياغة أقنعة يرسم على أولها ملامح ملك قرأ عنه في ألف ليلة مثل عجيب بن الخصيب، وصوفي مثل بشر الحافي، قادته إليه قراءات التصوف الذي أصبح عنصرا تكوينيا في خطابه. والهدف من ذلك تأكيد أن الألفاظ الملتفة بالأسمال، يمكن أن تكشف جسد الواقع، فتبدو كالصدق العريان. والصدق العريان هو ما يريد أن يعترف به الفارس القديم لنفسه، وللآخرين، بلا زهو أو ادعاء بطولة، أو حتى ما يشبه النبوة؛ فقد دخلنا في الدنيا التي ينتسب إليها الفارس القديم الذي يبدو، دائما، حكيما محزونا، ما ظل  الضوء خافتًا شحيحًا في عالمه وعالم القراء، والشمعة الوحيدة التي أشعلها لنفسه ولنا، شمعة مهزولة لهيبها دموع، فهو - مثلنا - يعيش زمن الحق الضائع، ولكنه لا يقول ذلك على سبيل التجريد، وإنما على سبيل  التصوير، متوسلا بتقنيات الشعر التي يعرفها، مؤثرا تقنيات ورمزيات يراها أقدر من غيرها على التعبير عما لا يمكن التعبير عنه إلا بها، في داخله وداخلنا.
وتظل سمات هذا الحكيم المحزون متصلة، متصاعدة، عبر الدواوين اللاحقة إلى الدرجة التي يمكن أن نطلق على دواوين صلاح عبد الصبور - ابتداء من «أحلام الفارس القديم» وانتهاء بديوان «الإبحار في الذاكرة» - تأملات حكيم محزون في عالمه الذي لا يمكن إلا أن يؤصل الحزن عميقا في وجدان وعقل شاعر انطوى على شهوة إصلاح العالم، مثل غيره من كبار الشعراء، لكن العالم الذي ظل يتحرك فيه ظل، ولايزال، أكثر تأبيا على الإصلاح في كل المجالات، وأكثر توليدا للحزن على كل المستويات.

تراجيديا حكيم محزون
وطبيعي أن يتعدد خطاب تأمل هذا الحكيم المحزون، فيبدأ من خطاب الذات التي تنقسم على نفسها في فعل التأمل، فتغدو فاعل التأمل ومفعوله، في آن، مرورا بضمير المتكلم الذي هو ضمير المخاطب بمعنى من المعاني، وانتهاء بتوجيه الخطاب إلينا، عبر وسيط، هو حكاية رمزية أو أمثولة أو قناع، وذلك في المدى الذي لا يفارق فيه الخطاب فعل المسرحة، وذلك بالمعنى الذي تنطوي به القصائد على بذرة الدراما، والتراجيديا على وجه الخصوص، حتى لو اتخذت هذه التراجيديا ملامح،  فتغدو كوميديا سوداء، على طريقة أشد المصائب ما يضحك، كما يحدث في مسرحية «مسافر الليل» التي يغدو فيها المسافر البائس رمزا لنا وللشاعر، في علاقته بالسلطة الغاشمة والاستبداد الذي يتخذ ألف وجه، وتتكرر صوره في مئات - إن لم يكن آلاف - المستبدين الذين أمعنوا في الظلم والفساد والقسوة القمعية فكانوا وجها من أوجه الحزن، أو دوافعه التي ينطوي عليها تأمل الحكيم الحزين الذي لم يكف عن المقاومة بالكلمة إلى أن مات بسبب كلمة.
وطبيعي أن تتعدد صور هذا الحكيم المحزون، في فعل تأمله، فيغدو، مرة، عاملا بسيطا يغمس في ماء القناعة خبز أيامه الكفاف. ويغدو، مرة ثانية، متمردا على الواقع المليء ظلما، وعلى الطغاة الذين يتسببون في هذا الظلم. ويغدو، مرة ثالثة، عاشقًا يأمل في أن يكون حبه خلاصا له، وأمنا، وسلاما، في واقع لا يعرف الخلاص أو الإخلاص أو الأمن أو السلام. ويغدو، مرة رابعة، صوفيا، باحثا عن التنزلات الروحية، والمناسبات العلوية، فيرى الواقع من عدسة وجده، كونا مجنونا، رحل منه الإنسان، فلم يبق سوى بشر يغتال بعضهم البعض، كما لو كانوا في غابة، ليس فيها سوى أنقاض سوداء، وكائنات متوحشة تؤدي أدوارها في مشهد عبثي، بشع في دلالته.
كان الإنسان الأفعى يجهد أن يلتف على الإنسان
الكرْكي
فمشى من بينهما الإنسان الثعلب
عجبا،
زور الإنسان الكركي في فك الإنسان الثعلب
نزل السوق الإنسان الكلب كي يفقأ عين الإنسان الثعلب
واهتز السوق بخطوات الإنسان الفهد
قد جاء ليبقر بطن الإنسان الكلب
ويمص نخاع الإنسان الثعلب
وتتغير الصورة في سياقات أخرى ليصبح الشاعر متوحدا، مغتربا، وحيدا في غرفته، بعد أن فر من صراعات الواقع، فلم يبق له سوى أن يستغرب حزنه الطويل كالطريق من الجحيم إلى الجحيم:
حزن صموت،
والصمت لا يعني الرضاء بأن أمنية تموت،
وبأن ريحا من عفن،
...
مسّ الحياة فأصبحت وجميع ما فيها مقيت.
وتتحول الصورة، في سياقات مغايرة، فيغدو الشاعر مغتربا ليليا، متوحدا، يستبطن رؤاه، أو يتجول في تاريخه، يتآلف ضحكه وبكاؤه. يرى نفسه، فيما يشبه الهلوسة التي تجعله يقول:
أتجمع فأرا، أهوي من عليائي
إذ تنقطع حبالي الليلية
يُلقى بي في مخزن عاديات
كي أتأمل بعيون مرتبكة
من تحت الأرفف أقدام المارة في الطرقات
وفي أحيان أخرى تصبح صورة الشاعر صورة حكيم عاقل لكنه أكثر حزنا، يسأل نفسه قبل أن يغوص في قرارة القرار من توحده سؤاله المتكرر:
رباه
رباه
ما سر هذه التعاسة العظيمة؟
ما سر هذا الفزع العظيم؟

صورة السندباد المعرفية
لكن أحب الصور إلى قلب هذا الحكيم المحزون، في مدى تأملاته، هي صورة السندباد، المرتحل أبدا وراء المعرفة، لا يهدأ ولا يتوقف، فالسندباد كالإعصار إن يهدأ يمت. ولذلك لا تتوقف تجليات «السندباد» في تأمل الحكيم المحزون، ابتداء من قصيدته «رحلة في الليل» في ديوانه الأول، حيث يغدو السندباد رمزا للنهم الدائم للمعرفة، والارتحال الدائم إليها في كل تجليات وجودها، خارجيا أو داخليا، فضلا عن اقترانها برمزية الإبداع الذي هو ارتحال من الشاعر إلى المعنى، أو رحلة المعنى إلى الشاعر كما في قصائد من مثل الرحلة، وأغنية ولاء، وأغنية حب التي نقرأ فيها:
صنعت مركبا من الدخان والمداد والورق
ربانها أمهر من قاد سفينا في خضم
وفوق قمة السفين يخفق العلم
...
جبت الليالي باحثا في جوفها عن لؤلؤة
وعدت في الجراب بضعة من المحار
وكومة من الحصى وقبضة من الجمار
وما وجدت اللؤلؤة.
وإذا كانت اللؤلؤة ترمز إلى قلب المحب الذي يود أن يهديه إلى محبوبه، فالفرق يسير جدا بين الحب والشعر:
لأن الحب مثل الشعر ميلاد بلا حسبان
لأن الحب مثل الشعر ما باحت به الشفتان
بغير أوان
لأن الحب قهار كمثل الشعر
يرفرف في فضاء الكون.. لا تعنو له جبهة
وتعلو جبهة الإنسان
ويمكن أن نضيف إلى ذلك أن الحب ارتحال متبادل بين طرفين كي يلتقيا، وكي يسفر عن التقائهما معرفة كل منهما بالآخر. وهذا الجذر المعرفي، تحديدا، هو الذي تنطوي عليه رمزية السندباد، في كل تجليات ارتحاله، وهي، هذه المرة، الارتحال على الورق لتعرف النفس الكثير عن حضورها، خلال تحديقها في نفسها، أو تحديقها في الأوراق التي تخط عليها مشاعرها، فتغدو مرآة لها، في حال انقسامها إلى فاعل للتأمل ومفعول له، وذلك في مدى معرفة الشاعر بنفسه، على نحو ما ينطق الشاعر من وراء قناع «القديس» في «أقول لكم»:
أنا، طوفت في الأوراق سواحا، شبا قلمي
حصاني، بعد أن حملت بي الأوهام والغفلة
سنين طوال، في بطن اللجاج، وظلمة المنطق
وكنت إذا أجنّ الليل، واستخفى الشجيونا
وحنّ الصدر للمرفق
وداعبت الخيالات الخليينا
ألوذ بركني العاري، بجنب فتيلي المرهق
وأنا أضع في تجليات رحلة «السندباد - الشاعر» قصيدة «الخروج» من ديوان «أحلام الفارس القديم»؛ فالقصيدة هي حال ارتحال من مكان إلى مكان ليس معروفا تماما ما يمكن أن يفضي إليه، أو ما يمكن أن يكون هو عليه. ولذلك فالرحلة ارتحال إلى مجهول لاكتساب المزيد من المعرفة، ولأنها «خروج» شاعر من عالم أشبه بعالم للضرورة إلى ما يمكن أن يكون عالما للحرية. وتتعدد مستويات القصيدة، فيغدو سطحها مؤديا معنى الارتحال إلى واقع يرجو الصوت المتكلم في القصيدة أن يكون أكثر نورا وصفاء. أما ما تحت السطح فثم القرينة التي تجعل من «خروج» الشاعر موازية لـ «هجرة» الرسول صلى الله عليه وسلم عن عالم مكة الذي أصبح معاديا له إلى عالم المدينة الذي أبدى الترحيب به، وتلفتنا القصيدة إلى ذلك من خلال القرينة التي تنبهنا إلى أننا في موازاة «هجرة» النبي:
أخرج كاليتيم
...
لم أتخير واحدا من الصحاب
لكي يفديني بنفسه، فكل ما أريد قتل نفسي الثقيلة
ولم أغادر في الفراش صاحبي يضلل الطلاب
فليس من يطلبني سوى أنا القديم
والحرص المتعمد على نفي التطابق بين واقع الهجرة ورمزية الخروج هو الحرص على الموازاة الرمزية التي لا تتطابق مع ما تشير إليه، بل تتباعد عنه أو تنفيه،  ولكن بما يقود ذهن القارئ إليه. ولكي تؤكد القصيدة حضور الموازاة الرمزية فإنها تتباعد عن المشار الرئيسي إلى مشار غيره في البيت:
حِجَارةً أكون لو نظرت إلى الوراء
وهي تيمة متكررة ما بين قصة أورفيوس الأسطورية وقصة النبي لوط الدينية، ولكي تكتمل المراوغة يلفتنا السطر القائل:
سوخي إذن في الأرض سيقان الندم
إلى سراقة بن مالك الذي كان يحاول أن يتبع النبي الكريم بفرسه فساخت قوائمه في الرمال. هكذا نعود إلى معنى «الخروج» الذي يتحول إلى «هجرة» هي ارتحال من عالم إلى عالم آخر، الهدف منه هو قتل الذات القديمة، أو إطراحها، واستبدال ذات جديدة بها، ذات:
تحيا في المدينة المنيرهْ
مدينة الصحو الذي يزخر بالأضواءْ
...
مدينة الرؤى التي تشرب ضوءا
مدينة الرؤى التي تمجّ ضوءا
والارتحال هو هدف بذاته في هذا النوع من الخروج، ذلك لأن عذاب الطريق يطرح ما يحمل الجسم من آلام قديمة، ويظل بالجسم إلى أن يشفّ فيغدو دليلا على أن
عذاب رحلتي طهارتي
والموت في الصحراء بعثي المقيم
ويعني البعث، في هذا السياق، ضمن ما يعني، التخلص من أدران العالم القديم، ومن أوضار الذات المرتحل عنها، سعيا وراء الذات الجديدة التي سوف تصبح، بالقطع، أكثر حزنا لأنها ستغدو أكثر معرفة.
ويعاودنا مجلي الارتحال - البحث في «تأملات ليلية» من ديوان «شجر الليل» الذي يتكاثف فيه الحزن أكثر، وذلك لعوامل متعددة سوف نشير إليها في ما بعد، فالمهم، في هذا السياق، بطل القصيدة، الحكيم الذي أبحر وحده في عيون الناس والأفكار والمدن، وتاه وحده في صحارى الوجد والظنون، وتقلبت به الأحوال ما بين طارق نصف الليل في فنادق المشردين، أو حوانيت الجنون. لكن ذلك لم يمنعه من المضي في البحث، عبر شوارع، لغاتها، سماتها، عماء، وحيدا، متوحدا، مغتربًا، يطلق العنان لخياله كي يطير بين الشمس والسحابة، أو ينام في أحضان غربة الكتابة. لكن المسعى طال، والبحث استنفد كل الطاقة، فلم يعد أمامه سوى التوقف، واستعادة ما فعل أو ما يمكن أن يفعل، فَبَدَهَه خوف أرعبه، وحال يصفها لنا بقوله:
أحس أني خائف،
وأن شيئا في ضلوعي يرتجف
وأنني أصابني العيُّ فلا أبين
وأني أوشك أن أبكي، وأنني
سقطت
في 
كمين

فخ وردة الصقيع
ويمكن للتأويلات أن تمضي حرة في التفسير، فترى السقوط نقيض الكشف الذي تغياه البطل منذ البداية، وانسداد أبواب المعرفة أمامه، كأن كل ما بذله من سعى، أو بحث، كان هباء، وأن فشله مقدور عليه منذ البداية، ربما لأنه أراد أن يرى أوسع من قدرة عينيه على الرؤية، وأن يلامس الحقيقة التي قد تعيد إلى نفسه السلام. لكنه يكتشف، في النهاية، أنه لا حقيقة، وأنه كان يمضي إلى فخ نصبه لنفسه، أو نُصِبَ له، بلا فارق، فيعود إلى حال توحده واغترابه، بما يزيده حزنا على حزن، ولكن بما لا يقضي في داخله على رغبة المعرفة التي لا برء منها لمن أصابته. ولذلك يبدأ البطل رحلة البحث عن «وردة الصقيع» ناصعة البياض كأنها نقطة الصفر التي يبدأ منها كل شيء ليعود إليها في تجلياتها المتكثرة، فهي تبدو كأنها البراءة المطلقة أحيانا، أو اللحظة المعرفية التي إذا توصلنا لها توصلنا إلى كشف قناع الحقيقة المقنعة، حفنة الصفاء الضائعة التي ظل يحلم بها، سدى، الملك عجيب بن الخصيب، ولكنها تتبدى هذه المرة كما لو كانت نهاية المسعى الصوفي وجائزته التي ليس كمثلها شيء في المعرفة لأنها فوق كل معرفة، وتحتوي كل معرفة. ويمضي البحث على مستويات عديدة، أولها ملاءة المساء، في ليل التوحد الصوفي، حيث تبدو وردة الصقيع كالنجوم، مغوية، مشوقة للوصل والمسامرة، لكن ما إن يحدق فيها الطالب حتى يجدها تفلت من شباك رؤيته المنحسرة، وتضيع ما بين الأرض والسماء، مختفية عن طالب نوالها الذي يسقط إعياء، لكنه لا ييأس، بل يعاود المسعى بين البشر هذه المرة، ولكن في الليل الصوفي نفسه، وبين مقاهي آخر المساء والمطاعم والحانات، فتلوح له ضاحكة مستبشرة، ولكن حين يحدق فيها كي يتأكد من أنها هى، تذوب بين النور والزجاج، ويصبح المكان خاويا ومعتما كأنه صحراء، ويفشل البحث للمرة الثانية، لكن الباحث لا يدركه اليأس فقد أصابه داء المعرفة الذي لا دواء له، ولا رجعة عنه، ويتخيل، فضلا عن ذلك، أنه يلمحها ما بين الحركات الملغزة حين يهل الصيف، ولكن سدى، فينتقل إلى مقاهي آخر المساء والمطاعم، فيراها تجلس جلسة النداء الباسم، ضاحكة مستبشرة، واعدة بالوصل والمسايرة، لكن فور أن تختلج أجفانه، تفلت هي من خيوط الوهم والدعاء:
ويصبح المكان خاويا ومعتما
كأنه صحراء
ويصل البحث إلى حميا جنونه في التطلع إلى كل شيء، ملهوفا، قلقا، مستفزاً، متوحدا لا يكف عن مراقبة مفارق الطرق، حيث تبين كالسراب:
واقفة ذاهلة، في لحظة التجلي
منصوبة كخيمة من الحرير
يهزها نسيم صيف دافئ،
أو ريح صبح غائم مبلل مطير،
فترتخي حبالها، حتى تميل في انكشافها
على سواد ظلي الأسير
ويبتدي لينتهي حوارنا القصير
ويزيد الحوار الذي لم يكد يبدأ حتى انتهى من حماسة البحث مرة أخرى، في مرايا علب المساء والمصاعد، في زحام التجمعات، في المتاجر، ومحطات القطار والمعابر، وفي الكتب الصفراء والبيضاء والمحابر، وفي حدائق الأطفال والمقابر. وكلها مجالات للبحث عن حفنة الصفاء الضائعة، الحقيقة التي تعيد كل شيء إلى توازنه في حركة الأفلاك التي تجوب العين ما تحتها، متنقلة في جنون رهيف ما بين الأرض والسماوات، وذلك من غير أن يكف العاشق عن سؤال كل عابر، سدى. ويصل به التعب إلى منتهاه، فيعود إلى بيته في الليل الأخير، ينتظر انبثاق وردة الصقيع، البغتة، كالحقيقة، مناجيا إياها كما لو كان يغويها بالظهور:
«أيتها السفينة الوهمية المسار
يا وردة الصقيع
أيتها العاصفة المحكمة الإسار
خلف فصول الزمن الدوار».
ويظل متوحدا، منتظرا، آملا، متطلعا، حتى إذا طال انتظاره المرير وشرب، وأوصلته حميا الكأس إلى الدوار، وهي حال متوسطة من أحوال النشوة التي تقع بين الوجد والوعي، متوسطة ما بين إدراك الحاسة وإدراك الحدس. ولكن هذه الحال المتوسطة تنتهي إلى ما يجعلها أشبه بالسراب، فينكفئ الباحث على نفسه، متلذذا بانكساره ويأسه، وعندئذ، عندئذ فحسب، يورق اليقين فجأة أمامه، ويتم اللقاء وكأن مستحيلا قاطعا كالسيف قد حدث. ويكون اللقاء، للمحة من طرف لا أكثر. لكن هذه اللمحة في النهاية تكفي لأن تكون مكافأة على مداومة السعي، والمثابرة في البحث، فوردة الصقيع لا تظهر إلا في لحظات الكشف التي تلمع كالبرق، وتختفي مثله، في ما يشبه اللمح. لكن هذا اللمح فيه الكفاية فهو عطاء لا يناله إلا الذين أخلصوا في السعي، وأجهدوا في البحث، متخلين عن كل ما يحول بينهم واللمع الإشراقية التي قد يفارق فيها الوجود صمته في أحوال وجد الباحث الذي يصدق في بحثه، كأنه العاشق الذي يخلص في عشقه حتى الموت، وذلك في مدى الوجود الذي يظل صامتا لا يريم، كما لو كانت نهاية كل البحث والسعي لا تفضي إلى بدايته، في دورة مقدورة، لا يفارق فيها الباحث الشعور بأنه قد وقع في كمين مقدور عليه منذ البداية. ولكن لا يبدو الأمر كما لو كان هذا الباحث صورة أخرى من سيزيف، يحمل صخرة هائلة مقدورة عليه من أعلى إلى أسفل، ومن أسفل إلى أعلى، وإنما يبدو الأمر شبيها برحلة الصوفي على درب الحقيقة الذي ينتقل عبر مراحله، واصلا ما بين البواده واللوامع، حالما بالوصول إلى لحظة الكشف أو التجلي التي لا تظهر إلا لتختفي، فتمنح لمشقة البحث معنى ينأى به عن دائرة العبث، ويبقى باب الأمل مفتوحا، مغويا في مراوغته، نائيا جدا رغم ما يبدو من قربه، كأنه القمر:
كالبدر أفرط في العلو وضوؤه
للعصبة السارين جد قريب
ومن المحتم - والأمر كذلك - أن يولّد عذاب البحث ونشوته رمزية السندباد، الباحث الأبدي الذي يشبه الإعصار، إن يهدأ يمت، وذلك على نحو متكرر دال في شعر صلاح عبدالصبور ■