هوامش كوبيَّة

هوامش كوبيَّة

في الصباح الباكر أطلت علينا شمس البحر الكاريبي مرتدية ثوبا خفيفا غُزل من قطن الغيوم، عواجيز هافانا كانوا مثل كل عواجيز الدنيا أول من يستيقظ ليتخذوا مواقع مراقبة حركة الزمن الذي جلسوا على هامشه، يتبادلون الأحاديث المكررة بصوت زاعق ويلقون بالتحايا على الغرباء أمثالي، وينصتون برهة لأخبار المذياع.

 

صباحات هافانا لها نكهة خاصة، لأنها تعلن يوميا عن بقاء كيان عنيد يأبى الذوبان في المحيط الرأسمالي حتى وإن كان جارا لصيقا لأكبر رأس فيه، الناس في الأزقة عند الأفران والمتاجر ومحطات الأتوبيس، رغم بؤسهم وتعب الحياة الظاهر على محياهم يتبادلون ابتسامات تكفي للتصدير وإغراق مدن العبوس بالفرح، ويتشاطرون إفطارهم البسيط قبل أن ينوخ «الجمل» الذي سيقلهم كلاً لمكان رزقه.
الأطفال وسط هذا الضجيج الصباحي يذكرون الكبار بنظراتهم البريئة بأن المستقبل سيكون وما عليهم سوى حسن التدبير وسرعة التفكير، فكوبا دوما تعيش تحت ضغط الجغرافيا والأعاصير.

طلبنا كوبا طلعت جامايكا!
ما كان ضروريا سرد إجراءات روتينية يعرفها الجميع ولكن قصتنا مع الطيران الكوبي تستحق أن تروى، في طريقنا من الكويت إلى كوبا توقفنا في مطار هيثرو اللندني نصف يوم، وفور وصولنا بحثنا عن مكتب خطوط الطيران الكوبي لتأكيد موعد رحلتنا إلى هافانا، ساعة كاملة والبحث متواصل دون نتيجة، كنا ندقق في لوحة الرموز المختصرة لجميع شركات الطائرات التي تهبط في مطار هيثرو، كانت هي في العادة دليلنا لأي مكتب خطوط طيران، ولكن الرمز الكوبي مفقود، لم يكن أمامنا سوى التوجه لمكتب الاستعلامات، ولحسن الحظ جاء دوري عند موظف تبدو ملامحه شرقية، اقتربت منه وكان ينظر إلي بوجه مشرق، كلمته بالإنجليزية شارحا فردَّ علي متحدثا بلسان عربي ذي نغمة مغاربية: بماذا أستطيع خدمتك؟ شرحت له موضوعي وبسـرعة «طقطق» على أزرار الكمبيوتر ثم قال غدا ستسافر في موعدك المحدد ولكن على الخطوط الجامايكية!!! ثم أكمل: هناك اتفاق بين الشركتين الكوبية والجامايكية على هذا الأمر وستجدون جميع بياناتكم لديهم، قلت في نفسي: الحصار بدأ.
في الصباح كنا على متن الطائرة الجامايكية لتقطع بنا المحيط الأطلسي من أقصاه إلى أقصاه مدة تسع ساعات، كانت الطائرة تخلو من وسائل الترفيه التي تقتل الوقت، وهذا الوضع كان مثاليا للقراءة ومراجعة بعض المصادر بخصوص كوبا، وأستطيع القول من الآن إن كوبا «تُرى» ولا ينفع معها سمع أو قراءة.
 
تنميط سياسي وواقع مختلف 
تعرضت صورة كوبا للتنميط سواء في وسائل الإعلام الأمريكية أو في هوليوود، وقليلا ما وجدنا ما يستحق القراءة عنها دون شعور بالتوجيه أو محاولة فرض واقع غير موجود. إن كوبا بلد يمكن الشعور فيه بالأمان حتى في الساعات التي يحل فيها الظلام، والناس فيها لا يموتون من الجوع أو المرض، لأن الطعام فيها يوزع بنظام الحصص المعمول به في النظم الشيوعية، وبين الطبيب والطبيب يوجد هناك طبيب مستعد لتقديم أفضل الرعاية الصحية بالمجان، كل ذلك لا ينفي وجود أحادية في النظام السياسي أو هجرات «قواربية» نحو الشواطئ الأمريكية ولكن العلة تكمن في تقديم صورة واحدة غير مكتملة لبلد جميل يعيش فيه شعب رقيق يعشق الحياة بعنف.

قبة.. قبة.. كوبا.. كوبا 
للساعة الأخيرة قبل أن تلامس إطارات عجلات الطائرة أرض المطار متعة خاصة، فمشاهدة الحركة البطيئة للسيارات والمراكب شبه المتجمدة في عرض البحر، المنازل والحقول المسطرة والبحيرات السوداء الصغيرة، مشاهد يصعب تكرارها كل يوم. 
 كوبا من الأعلى لم تكن تختلف عن بقية الدول التي سبق لنا أن زرناها من قبل، ولكن لكونها حملت رواية تاريخية غير مؤكدة ارتبطت بنا نحن العرب تتعلق تفاصيلها برحلة كريستوفر كولومبس الاستكشافية للعالم الجديد عام 1492 وصيحات مساعديه من البحارة العرب المسلمين عندما شاهدوا من بعيد جزيرة كوبا: «قبة.. قبة»، وكانوا في الحقيقة قد رأوا صخرة ظنوها قبة مسجد.  
هبطنا قبل مغيب الشمس بقليل في مطار خوسيه مارتي الدولي بهافانا، على سلم الطائرة كان أول شيء قمت به هو تشغيل هاتفي النقال المزود بخدمة الاتصال الدولي، انتظرت عبثا ترحيب شبكة هافانا بموجات هاتفي دون فائدة، وكانت النتيجة هي تحول هاتفي إلى مجرد ديك إلكتروني يوقظني عند كل صباح، ولاحقا اكتشفت أن هذه المشكلة بسيطة بعد تعذر الاتصال بالكويت، سواء عن طريق هواتف الفندق أو كبائن الهواتف الدولية المزروعة في أنحاء المدينة.
لاأزال أتذكر بعد دخولنا المطار حالة الحيرة التي بدت على وجه موظف الجوازات الذي قلَّب دفتر جوازي مرات عدة مستغربا ربما اللغة التي كتبت به أو المكان البعيد الذي جئت منه، ولكنه في النهاية رحَّب وتمني لي إقامة مريحة في وطنه كوبا.

جزيرة ملونة بالأجناس 
الناس في كوبا أجناس والملايين الثلاثة التي تقطن كوبا في هافانا كافية لاختصار الملايين العشرة التي تنتشر في جزيرة كوبا بكاملها، في البدء لا بد من معرفة أن السكان الأصليين وهم من القبائل البدائية التي تسمى «جوانا تواهيبي» قد تمت إبادتهم بالكامل من قبل قوات الإمبراطورية الإسبانية، والشعب الحالي في كوبا هو خليط من ذوي الأصول الأوربية الذين يشكلون الغالبية العظمى من السكان ويسمون «كريولس»، أما البقية فهم من السود الذين تم جلبهم من إفريقيا للعمل كعبيد في مزارع قصب السكر وغيرها من الأعمال الشاقة، ومع مرور الزمن ظهر هناك عرق جديد هو خليط من السود والبيض، أي الخلاس أو المولاتوس بالإسبانية، حيث تجد فتاة بيضاء البشرة وشعرها أشقر مجعد وأنفها أفنس، وكذلك تجد سوداء عيناها زرقاوان ومن تلك المخالطات تجد الكثير، وعلى المنوال نفسه عندما جاء الصينيون إلى كوبا بأعداد كبيرة بعد استقلال كوبا بداية القرن المنصرم خالطوا الكوبيين وأنتجوا مزيجا رابعا.  
في الحي الدبلوماسي وقعت أنظارنا على أكثر من سفارة عربية في كوبا منها مصر والجزائر وقطر. فييرنو سائقنا عرف كيف يدهشنا بخبرته الطويلة، فقد توجه بنا إلى السفارة البريطانية وأشار بيده إلى جارتها اللصيقة سفارة كوريا الشمالية وقال: «إن جيمس بوند العميل البريطاني السري يمكنه حفر خندق بين السفارتين»، بعدها توجه بنا نحو ناطحة سحاب لم أر أعلى منها في هافانا، كان هذا المبنى سفارة الاتحاد السوفييتي السابق، ومنه استطاع السوفييت التجسس على واشنطن ونيويورك بعيدا عن أعين المخابرات الأمريكية.
فرضت الدعاية السياسية نفسها على موقع ثقافي مهم يقع ضمن نطاق ساحة الثورة، وهو مكتبة هافانا التي أسست عام 1901م وتضم خمسة ملايين كتاب ومكونة من ستة عشر طابقا، لقد عُلِّقت على الجزء العلوي من واجهة المكتبة لوحة قماشية ضخمة مطبوع عليها صور خمسة رجال معتقلين وشعارات تطالب بالإفراج عنهم، وتتلخص قصة هؤلاء في أن السلطات الأمريكية تعتقلهم منذ العام 1998م بتهمة التجسس، وقبل عامين ونصف العام حكم على ثلاثة منهم بالمؤبد والاثنين الباقيين بمدد أقل، وتصر الحكومة الكوبية على براءة مواطنيها الخمسة من التهم المنسوبة إليهم.
عندما بلغت عين الشمس كبد السماء تغيرت الأحوال، غيوم الصباح هربت مع جرس نهاية المدرسة، الرطوبة والحرارة حلتا محل طقس الصباح الجميل، هذا الطقس الاستوائي خلق في كوبا شعبا لا يعرف الملابس الشتوية أو القمصان طويلة الأكمام، يتضح هذا الأمر جليا في السيدات والفتيات، فهن متخففات من ملابسهن وكلما حاولت معرفة السبب قيل لنا إنه «الكالور»، أي الحر باللغة الإسبانية. أتذكر جيدا أن الليلة الأولى التي بتنا فيها في الفندق كانت سيئة جدا، ليس بسبب الإرهاق وإنما لإصرار إدارة الفندق على فرش الممرات بالسجاد، ما جعل رائحتها الممزوجة بالرطوبة أشبه برائحة البول التي سرعان ما تسللت إلى داخل الغرف وعبأتها بالقرف. 
عند إشارات المرور دائما ما يقع زائر كوبا في إحراج أو سوء فهم كبير، فمع انتهاء ساعات الدوام الرسمي في الدوائر الحكومية والمدارس تقف عشرات الفتيات الحسناوات غالبا والمتخففات دوما عند إشارات المرور، وفي لحظات التوقف الطويلة عند الإشارة تدور بعض الأحاديث التي لا يفهم المقصد الحقيقي منها بين ركاب السيارات والفتيات، والسيارات شبه الخاوية هي التي تفوز دائما بالأحاديث الجانبية، في بلد آخر تفهم هذه الصورة دون شرح، ولكن في كوبا الوضع مختلف، والحقيقة هي أن أزمة المرور دفعت بالكثير من الحسناوات إلى تجربة حظوظهن للحصول على توصيلة مجانية لمنازلهن ليس أكثر، وغيرهن ممن لم يحصلن على القدر الكافي من الجمال يركبن «الجمل» أو الباص الكبير، وهذا الوضع استفادت منه بائعات الهوى ليواصلن العمل خلال ساعات النهار متخفيات بغطاء التوصيلة المجانية. 
مع عودة الشمس إلى مخبئها الأزلي، يعود كل شيء إلى مكانه الطبيعي، والموسيقى التي يدمنها الكوبيون وخاصة المتحدرين من أصول إفريقية، ترتفع سحبها لتغطي كل الأصوات معلنة بدء دورة المرح، يمكن تلمس هذا المشهد بصورة أجمل عند هافانا القديمة، عرق النهار تتوقف ينابيعه الحارة لتسري محلها رعشات البرودة على أسطح الجسد المكشوف، حرارة الرقص المتواصل، الكوبيون يعشقون الرقص، الكبير والصغير، الأرستقراطي والشعبي، الطفل والسيدة العجوز، أنغام السالسا والتانغو توحدهم.. تعصرهم.. وإيقاعاتها القوية تحتضنهم في الشوارع والساحات وداخل منازلهم، إنها لغتهم البسيطة في التفاهم دون كلمات، ولعلها سلوتهم التي تنسيهم متاعب حياتهم وفقرهم المزمن.

الشوارع الخلفية.. الوجه المخفي
يلجأ أحيانا سائق سيارة الأجرة تحت وطأة الزحام الشديد للانحراف بك مخترقا بعض الشوارع الضيقة المليئة بالحفر والبرك الآسنة، كل ذلك من أجل أن ينال رضا زبائنه المستعجلين وبركات جيوبهم الممتلئة بالأوراق الخضراء. ليس في ذلك أمر جلل للسياح طالما أنهم بلغوا أماكنهم، ولكن قد تكون تلك الجولة السريعة في الأحياء المنسية وسط هافانا ينبوعا من الحقائق مصفى من التنميقات الرسمية والوعود الفارغة، من هنا كان لا بد من إلقاء نظرة داخل الشوارع الخلفية للبنايات القديمة والأحياء المليئة بقصص الواقع، كان أجمل ما في تلك المهمة أن السائل لا يحتاج إلى الكثير من الإلحاح أو الشرح، فبمجرد أن تتحرك الشفاه يضع الكوبيون جميع مشاغلهم خلفهم ويبدأون بالحديث مع الغرباء مثلي بكل أريحية وانسجام.
 يجلس شبه العاطلين عن العمل يوميا على كراسي خشبية مستندة إلى الحوائط، يثرثرون إلى ما لا نهاية في كل شيء وأي شيء، ومن خلالهم عرفت حكاية الوجبة الشعبية الأولى في كوبا، اسمها كونجري وهي خليط – كما يفترض – من الأرز الأبيض وقطع من اللحم أو الدجاج، الآن لم تعد الكونجري كما كانت، فقد رحل اللحم والدجاج وجاء مكانهما الفاصوليا أو البطاطس!!!، وفي مجال الطهي، اضطر الكوبيون لاستخدام الخشب لإنضاج طعامهم والماء لم يعد مضمونا شربه دون غلي، وهذه أصبحت مهنة بحد ذاتها، أحدهم يقسم أنه لولا المعونة الزهيدة التي يرسلها له أخوه المقيم في ميامي لمات هو وأسرته من الجوع.
ويتقاضى أصحاب المهن المرموقة اجتماعيا كالطبيب والمحامي والمهندس والأستاذ الجامعي رواتب لا تزيد على العشرة دولارات شهريا، دار حوار بيني وبين عاملة التنظيف وهي تجاوزت الثلاثين بقليل عن سبب اشتغالها بهذه المهنة وهي تجيد الإنجليزية أفضل عشرات المرات من بعض موظفات الاستقبال اللاتي أخطأن في أيام الحجز لرداءة لغتهن، فأجابتني الفتاة بكل واقعية وأدب جم، إنني أجني ثروة من «البخشيش» الذي أجمعه من نزلاء الفندق، وهم يدفعون لي بالدولار مبالغ زهيدة بالنسبة لهم .. دولارين وخمسة دولارات، وفي اليوم الأخير يدفعون أكثر، فهل تريد مني أن أضحي بهذا من أجل أن ألبس قميصا نظيفا وتنورة قصيرة؟
إن المواد الغذائية الأساسية التي تدعمها الدولة متوافرة في الأسواق الحكومية، ولكن المشكلة أنها تنتقل بسرعة البرق إلى السوق السوداء (ماسيتاس) وبأسعار مضاعفة، وبالدولار، وهناك من يستفيد من هذه السرقة المفضوحة بعد أن أرخت الدولة قبضتها عن بعض المهن والأنشطة التجارية التي كانت تحتكرها، ويحق لكل مواطن كوبي الحصول على رغيف واحد بحجم صحن القهوة يوميا وثلاث بيضات كل أسبوع، ولو حصل يوما أن اضطر للمبيت في المستشفى، فعليه أن يحضر معه غطاء ووسادة. 
 
الإيمان
على عكس ما كان متوقعا في بلد تحول للشيوعية، لم يتخذ كاسترو (الرئيس السابق) موقفا معاديا للدين أو الأديان بصورة أوضح، بل على العكس ظلت الكنائس مفتوحة بعد الثورة ولم تُغلق أو تهدم أو تحوَّل لمتاحف، ومن الواضح أن الرئيس كاسترو أدرك مبكرًا، أن التخفيف الروحي أيا كان 
لابد أن تنتج عنه كارثة كما حصل في دول أوربا الشرقية، لأن سياسة الإفراغ الروحي كانت من أسباب تساقط أنظمتها الواحد تلو الآخر، وكوبا لم تكن بتلك المثالية من حيث نظرتها للدين، فقد حُرِّم حتى العام 1991م على أعضاء اللجنة المركزية للحزب الشيوعي اعتناق أي دين، وعلى كل عضو طموح في الحزب الشيوعي الكوبي أن يلحد حتى يتمكن من نيل عضوية اللجنة المركزية.
 وللرئيس السابق كاسترو آراء في الدين تعكس اهتمامه بواجبات الدولة تجاه المجتمع أكثر من النواحي الشكلية. فهو يقول مرة لمجموعة من الأساقفة يسألونه: ماذا صنعت الثورة الكوبية؟.. لو أقمتم دولة طبقا للتعاليم المسيحية فإنها ستكون مشابهة لدولتنا، أنتم لا تجيزون القمار ونحن قضينا عليه، لن يكون لديكم شحاذون وكوبا هي البلد الوحيد في أمريكا الجنوبية الذي لا يوجد فيه شحاذون، لن تسمحوا بأن يبقى طفل متشردا أو جائعا، وفي بلادنا لا يوجد طفل جائع أو متشرد، لن تسمحوا بالدعارة التي تكره النساء على بيع أجسادهن ليتحايلن على العيش، وفي كوبا صفَّينا الدعارة وألغينا التمييز القائم على الجنس. 
جاءت تلك العبارات في كتاب «فيديل كاسترو والدين»، ومن ضمنه يمتدح كاسترو السيد المسيح قائلا: «أعتقد أن المسيح كان ثوريا عظيما وكانت عقيدته بكاملها مكرسة للبسطاء..للفقراء.. هنالك الكثير مما هو مشترك في روح وجوهر تعاليمه (السيد المسيح) وبين الاشتراكية.. لا يوجد أي تناقض بين أهداف الدين وأهداف الاشتراكية». وفي هذا الكاتب الذي أعده راهب دومينكاني اسمه «فراي بيتو» التقى مرات عدة بكاسترو، عبَّر كاسترو عن سخطه الشديد عندما اكتشف أن ابتهالا دينيا قد حذف من وصية أحد الثوار- اشفيريا – وكان هناك احتفال بذكراه «وكنت سأخطب، ولاحظت عند قراءة وصيته – وهي ابتهال ذو طابع ديني كتبه اشفيريا - لاحظت أن الابتهال حذف وأحسست بسخط بالغ..عندما خطبت انتقدت ذلك وقلت إنه فعل من أفعال الغش».
 وقد توجت كوبا الشيوعية سياستها المنفتحة على الدين عندما استقبلت في منتصف التسعينيات بابا الفاتيكان يوحنا بولس الثاني.  

ثورة الجياع
لا يمكن اعتبار جميع سنوات الحصار الأمريكي على كوبا ذات آثار سيئة على اقتصادها، فقد حرصت موسكو على بقاء النظام الاشتراكي في كوبا قويا ومتماسكا نظرا لموقع كوبا المتميز جغرافيا، وبفضل ارتباطها مع المعسكر الاشتراكي حصلت هافانا على معدات زراعية ساهمت في جني محاصيل وافرة من السكر اشترتها موسكو بأضعاف سعرها الحقيقي وفوقها أطنان من الوقود، وعلى ضوء تلك الإجراءات تلمَّس الكوبيون الفرق في حياتهم المعيشية وباتوا أكثر تمسكا بنظامهم وعاش كاسترو زمن الزعامة للعالم الثالث في السبعينيات، وخرجت قواته العسكرية لتساند كأي دولة عظمى في إفريقيا التي خاض بها حربين في الصومال والكونغو، كما أرسل بعثاته الطبية يمينا ويسارا لعلاج الشعوب المسحوقة. 
هذه الصورة الوردية انقلبت رأسا على عقب بعد انهيار المعسكر الاشتراكي، ليشرب النظام الكوبي وحده مر الحصار الاقتصادي بعد تقلص خياراته ورفض كاسترو الحيد عن الخط الاشتراكي ولو قيد أنملة، ولم تمض فترة طويلة على تطبيق بعض السياسات التقشفية حتى خرج آلاف الهافانيين إلى الشوارع في أغسطس عام 1994م محطمين كل شيء أمامهم، اقتحموا المحال والمتاجر بحثا عن الطعام، وفي الوقت الذي رأى فيه العساكر أن ما يحدث هو انقلاب صريح على النظام، أمر كاسترو بعدم التعرض للجماهير الغاضبة، وفي المساء ظهر على شاشات التلفزيون في خطبة وعد فيها الكوبيين باتخاذ قرارات صعبة تصب في مصلحتهم، ونجحت تلك الطريقة في امتصاص غضبة الناس، وما إن جاء الصباح حتى عاد كل شيء إلى مكانه. 
وتواجه الثورة صعوبة بالغة في التعامل مع جيل الشباب الذي لم يعاصرها ولم يرتبط برموزها، وعلى الرغم من برامج التثقيف الموجهة إعلاميا وفي مناهج التعليم لخلق أجيال مؤمنة بالفكر الاشتراكي، فإن التحولات الكبيرة في العالم وانتشار ثقافة الاستهلاك جعلا من تلك البرامج هدرا للوقت والجهد والمال. إن الشاب الكوبي يسمع بالإنترنت ولا يستطيع الاستمتاع بها، وفي الوقت الذي يبحث فيه عن مشاهدة فيلم أمريكي شهير كـ «تايتانك»، يخرج عليه الزعيم كاسترو بخطاب يتحدث فيه مدة أربع ساعات متواصلة عن الثورة والمؤامرة عليها. إن أعداد المهاجرين الكوبيين المعرضين للغرق أو الموت بين أسنان أسماك القرش لم تبدأ بالتزايد نحو شواطئ مدينة ميامي الأمريكية بحثا وراء الثراء، بل هم فقط يرغبون في رواتب مجزية تكفيهم شر الحرمان مما تشتهيه أنفسهم. شاب طريف شرح لي وضع الشعب الكوبي من خلال هرم مازلو للحاجات الأساسية للإنسان، فقاعدة الهرم تركز على توفير الغذاء والأمان وقمة الهرم يصل الإنسان فيها إلى مرحلة تحقيق الذات. يعلق ذلك الشاب الظريف: نحن في كوبا لانزال في المرحلة الأولى.
وتعتبر شواطئ فاراديروا البيضاء ومدينة هافانا القديمة بمنزلة مناجم ذهب أو حقول بترول لا تنضب بالنسبة للاقتصاد الكوبي، إذ لابد من التبادل التجاري الحر مع الآخرين وتشجيع استثمار رءوس الأموال الأجنبية وخلق فرص عمل جديدة.
عندما سقطت القلاع والمعاقل الحمر الواحد تلو الآخر أواخر ثمانينيات القرن الفائت، دارت العجلة الإعلامية في المعسكر الآخر تبشر بانهيار قريب للمعاقل المتبقية وهذا ما حدث، خصوصا من كانوا قريبين من المراكز الرأسمالية المعتقة، ولم يتبق منهم في عالم اليوم سوى بقع متباعدة معزولة دوليا، أبرزها الصين التي غيرت المضمون وحافظت على الشكل. الدعاية الموجهة ضد كوبا تتحدث عن حقيقة أو وهم واحد هو أن «كوبا عائدة لحضن الرأسمالية وكاسترو راحل»، ومر الكثير من الوقت فلا كوبا ترسملت ولا كاسترو رحل بالصورة التي تمنوها، بل سلَّم الرئاسة لشقيقه راءول ولايزال - أي كاسترو - يطل على الشعب الكوبي بين الحين والآخر بمقال أو تعليق!!!!. وكل ما قيل في الحقب الماضية ذهب أدراج الرياح.
كنا هناك، في هافانا، وشاهدنا كيف يسخر الكوبيون علنا ممن باعوا الاشتراكية بعلبة كوكاكولا وتحولوا إلى شحاذين ويفتخرون بالمقابل بصمودهم الأسطوري حتى اليوم. ورأيت أيضا كيف يتطلع الجيل الجديد غير آبه بمنجزات الثورة ولا يتفاعل مع الخطابات الحماسية، فهؤلاء يطمحون لحياة جديدة أفضل من ركوب قوارب الموت والتوجه نحو شواطئ فلوريدا لأخذ نصيبهم من الحلم الأمريكي، وإزاء تلك التطلعات يحاول الحرس القديم مد جسور الاشتراكية لأبعد نقطة في المستقبل بعد تثبيت نص أبدية الاشتراكية في الدستور الكوبي ليخلق وفق التحليل الماركسي للأشياء صراعًا حتميا بين جيلين، بين رؤيتين، بين حلمين.

عقاب متحضِّر
كل من عرف برحلتنا لكوبا أسر لنا بوصية يتيمة «علبة سيجار»، حتى غير المدخنين طلبوا منا ثمرة كوبا الأشهر، كانت الوصايا كثيرة وعلب السيجار تباع في كل مكان، فإذا ما نسينا حاصرنا الباعة من كل مكان، كنا نبحث عن الأفضل نوعا وسعرا، أحد السائقين دلنا على منزل يبيع علب السيجار بعيدا عن أعين السلطات الرسمية، كانت الأسعار مذهلة والنوعية جيدة، خمس علب مليئة بـ25 إصبع سيجار طريًا ونديًا بمائة دولار أمريكي فقط، اشترينا الكميات التي نحتاج إليها ومن دون فاتورة كما هو متوقع وغادرنا المصنع السري، في المطار لم تفتش حقائبنا، وهذا ما زاد بالتأكيد من فرص تهريبنا للممنوعات التي نحملها، وظننا أن الأمر انتهى. أعترف بأن معرفتي باللغة الإسبانية أنقذتني من الوقوع في متاعب نحن في غنى عنها، كنت أتجول في قاعة الانتظار لقتل الوقت، إذاعة المطار الداخلية تصدح المرة تلو الأخرى بتعليمات مكررة واسم مألوف لدي «إبراهييييم ناسيير المـــولايفي»، عندما تيقنت مما أسمعه وأن الاسم اسمي، خفق قلبي بقوة واسترجعت جميع الصور المخيفة التي تنقل عن المعاملة التي يتلقاها المشتبه بهم في الأنظمة الشمولية عموما.
وبإيمان كامل بأن أمر الله قد نفذ، سلَّمت نفسي عند أول ضابط أمن وجدته بالقرب مني، لم يتحرك الرجل من مكانه وأشار بيده إلى باب غير بعيد وقال «انزل»، قلت لنفسي: إلى أين؟... إلى سرداب بالتأكيد، نزلت درجات السلم بصورة متثاقلة، وكلما خفتت الأنوار زاد قلقي، وعلى مسافة عشرة أمتار من آخر سلمة رأيت نورا ينبعث بقوة من باب غرفة صغيرة يحجبها بجسده سائح أوربي، وقفت بالدور وراء الرجل وفي رأسي عشرات الأسئلة، تبين لي أن الغرفة ليست مكانا للاستجواب أو التعذيب، داخل الغرفة جلست حوريتان بملابس سلطات الأمن واحدة خلف المكتب وكانت الضابط الأعلى والثانية واقفة على قدميها، الأخيرة طلبت من الأوربي فتح حقيبته، والثانية تبحلق في الجواز وتقلبه، عندما سحب الرجل حقيبته ظهرت خلفها حقيبتي، فتحها.. كانت مليئة بعلب السيجار مثل حقيبتي، وبكل هدوء سألت الضابط الأعلى الرجل الأوربي: أين فواتير شراء هذه العلب؟ أجاب صاحبنا: لا توجد، ردت بسرعة وهي تنظر بعينيه: بإمكانك الاحتفاظ بعلبتين فقط والباقي سيصادر!!!، الحورية الواقفة أمسكت كيسا ثقيلا بحنان وجلست تتلقف علب السيجار الواحدة تلو الأخرى لتملأ بها الكيس الذي غص بحصاد اليوم من السياح الذين نهبوا خيرات كوبا!!!. عندما جاء دوري قمت بالمطلوب دون أن أسال منعا للإحراج، ولكن ظل سؤال برأسي كاد يفتته، سألت الضابط الأعلى: كيف عرفتم بوجود العلب دون تفتيش؟.. أجابت: نحن نأخذ عينة عشوائية من الحقائب ونمسح محتوياتها بالأشعة الضوئية. نظرت بعينيها الزرقاوين وابتسمت ابتسامة رقيقة، هي لم تعرف قصدي ولكني كنت سعيدا في داخلي لأن نصف الكمية من علب السيجار التي اشتريتها نجت من المصادرة لكونها في حقيبة مرافقي العزيز، وشكرا للعينة العشوائية ■

 

الكوبيون يعشقون الرقص، العجوز والشاب والصغير ، الأرستقراطي والشعبي، أنغام السالسا والتانغو توحدهم .. تعصرهم .. وإيقاعاتها القوية تحتضنهم في الشوارع والساحات وداخل منازلهم  

عواجيز هافانا مثل كل عواجيز الدنيا أول من يستيقظ وأول من يتخذ مواقع مراقبة حركة الزمن الذي جلسوا على هامشه

 

في الأحياء المنسية وسط هافانا ، خلف البنايات القديمة ، نوع من قصص الواقع لا يعرفه الكثير من زوار كوبا 

 

« الحنطور » وسيلة نقل مثالية للتجول داخل مناطق مدينة هافانا القديمة التي يمنع فيها سير السيارات 

 

تحت هذه القبعات يطل علينا تشي غيفارا من هنا وهناك ومن كل مكان في هافانا ، إن جيفارا في كوبا لايزال على قيد الحياة 

 

خليط كوبا العجيب من البشر والجمال والألوان والموسيقى يترجم يوميا على شكل أعمال فنية زاهية يتمنى المرء لو استطاع اقتناءها جميعا