النقد الأدبيُّ والرّوايةُ العربيّةُ الـحَديثة

النقد الأدبيُّ والرّوايةُ العربيّةُ الـحَديثة

يرى د.جبرائيل سليمان جبور، أن «النقد الأدبي هو تطبيق علم الجمال على الأدب، وعنده يعدّ كل ناقد أدبي أديباً، ولكن ليس كل أديب ناقداً»، لذلك لابد لدارس الأدب والنقد الأدبي، من العودة إلى نظريات الأدب ومذاهبه واتجاهاته الفلسفية القديمة، التي أثّرت فيه تأثيراً مباشراً، بالإضافة إلى دراسة مراحلها التاريخية وتقدمها كي تتسنى له عملية الفهم والتقويم. وقد أصرَّ د.محمد غنيمي هلال على عدم الفصل بين النقد، بوصفه علماً من العلوم الإنسانية له نظرياته وأسسه، وبين النقد من ناحية التطبيق، فلابد من الجانب الأول كي يثمر الثاني.

 

النقد لا يحاسب الأدب للانتقام منه، أو للتقليل من درجة الإبداع فيه، أو حظر حرية الكاتب في تناول الموضوعات، التي تثير الجدل في مجتمعه، بل عمل الناقد هو إغناء النص الأدبي والارتقاء به من خلال سد الثغرات، واتخاذ المواقف المناسبة توجيهاً وتقويماً، وإدراك مناحيه الجمالية والإبداعية، لحث الناس على قراءته وتشويقهم إليه. والنقد حين يخرج عن مساره، يحوّل الناقد إلى مؤدٍّ أو ناقل أو قارئ يلخص العمل، أو مأجور يؤدي خدمات معينة سلباً أو إيجاباً، لذلك فإن العملية النقدية هي - بالدرجة الأولى - عملية تذوّق وقراءة معمقة متأنية للنص الأدبي، للخروج منه برؤية موضوعية مجردة، بعيدة عن الميول والنزعات الخاصة، فقد أشار أحمد الشايب إلى أن: «الناقد الماهر يقدّر البراعة الفنية في الأداء ولا يراها مصادفة طارئة، بل ثمرة الطبع الموهوب والذوق المصفّى»، أما بلنسكي فقد أشار إلى أهمية النقد الأدبي حين قال: «والسؤال الذي يطرح نفسه الآن هو: ماذا يُقال عن الأعمال الفنية العظيمة؟ لأن ما يقال عن العمل الفني العظيم لا يقل أهمية عن العمل نفسه».
ولدراسة الرواية العربية، يجب تتبع مسار الفن الروائي عبر التاريخ، والدوافع التي أدت إلى ظهوره، لذلك تجب العودة إلى نظرية الأنواع الأدبية التي تشير إلى أن ظهور أو انقراض الأنواع الأدبية، مرتبط بحاجة جمالية اجتماعية، أي أن النظام الاجتماعي هو الذي يفرض ظهورها، ولهذا فإن التغيير التاريخي الذي حدث في أوربا في القرنين السابع عشر والثامن عشر أدى إلى هيمنة الطبقة الوسطى على المجتمع لأول مرة في التاريخ الإنساني، فكوّن وعياً جديداً مثّلته الرواية، التي وجدت شروطاً ملائمة لتطورها وانتشارها تجلت في مجتمع متعلم، ونضج شعبي، وحرية فردية، وظهور المطابع وقيام دور النشر التجارية، وتزايد عدد المكتبات العامة، بالإضافة إلى أنها قد أصبحت سلعة رائجة يطلبها القراء.
أما الرواية عند جورج لوكاتش ولوسيان غولدمان، فهي جنس أدبي نمطي للمجتمع البرجوازي، وهي وليدة التجربة التاريخية الغربية الحديثة.
والتاريخ عند لوكاتش ينتج عن التفاعل بين الذات والموضوع، وعند غولدمان كل تفكير في العلوم الإنسانية إنما يتم داخل المجتمع لا خارجه، لأنه جزء من الحياة الفكرية لهذا المجتمع.
أما بالنسبة إلى التغيّر والتحوّل الذي يطرأ على مسيرة الرواية، فقد أشار إليه ميخائيل باختين بأنه «النوع الأدبي الوحيد الذي مازال في طور التكوّن» فهو نوع يتجدد دائماً، وهذا يعني أن الرواية تكتب ما ينتجه التاريخ، وجديدها هو جديده، وبالنسبة إليه هي النوع الأدبي الذي يمثل التحوّل التاريخي.. وأطلق عليها سيرة «التحوّل الحياتي».

نشأة الرواية العربية
لم يتفق النقاد حول الرواية العربية، فكثيرون منهم رأوا أنها لم توجد في أدبنا العربي، وأنها مستوردة من الغرب، وأن القرّاء العرب قد تعرفوا إلى فن الرواية بعد ازدهار حركة التعريب، في سبعينيات القرن التاسع عشر، حين تم تعريب الروايات الفرنسية والإنجليزية، التي لاقت شعبية كبيرة بينهم.
وأجمع النقاد على أن أول رواية حقيقية في الأدب العربي هي رواية «زينب» لمحمد حسين هيكل، التي ظهرت في عام 1913. وبعد نجاحها تشجع الأدباء لخوض تلك التجربة، كانت في معظمها سيراً ذاتية، أو تقليداً للروايات الغربية المعرّبة.

الرواية العربية الحديثة
لا يمكن لنا الاسترسال بالكلام عن الرواية العربية الحديثة، التي انتشرت على نطاق واسع جداً، وانتشرت معها الدراسات التي تناولتها بإسهاب وكثير من التكرار، إلا إذا تعرفنا إلى الفكر الحداثي، الذي نشأ في أوربا منذ القرن السادس عشر، فثار على الفكر القديم والمعتقدات القديمة، التي كانت تقيّدها سطوة المقدسات والجمود الفكري.
والفكر الحداثي بمفهومه العالمي الإيجابي، يعتمد على حرية التفكير والتعبير، ويفكك التصورات الأصولية القديمة للعالم، وحلول التصورات العلمية والفلسفية محلّها، كما أنه يرتكز أساساً على فكرة التقدم في كل المجالات. وفي الأدب، يبتكر أساليب جديدة ويكسر قوالب الرتابة.
ولكن ما تجدر الإشارة إليه هنا أن المفهوم العالمي للحداثة قد انحرف عن مساره، الذي لو بقي كما هو، لكانت الإفادة منها كبيرة وعظيمة، ولكنها كما كل شيء جديد خضع مفهومها للاحتكار والاستئثار والتحريف والتأويل بما يتناسب مع الأهواء والمصالح.
وحين ثار الكثيرون على الحداثة، ظهر فكر جديد وهو ما بعد الحداثة، الذي انتحى منحى الغموض والفوضى والتحرر، فقد تسلل فكر ما بعد الحداثة إلى معظم مناحي الحياة، وخصوصاً الفنون، التي وجدت فيها منفذاً ومنبراً حراً، لكل من سوّلت له نفسه العبور إليها، فأتاحت الفرص لمن لم يمتلك المقدرة ولا الموهبة، التي تؤهله للاقتراب من مجالات تلك الفنون.

فرص الرواية العربية في العصر الحاضر
أمور كثيرة تتحكم بفرص الرواية العربية اليوم، وتجعل مستقبلها ضبابياً منها:
أ- تحوّل النقد الأدبي إلى أداة تتحكم بها منظومة تحتكر الساحة الثقافية والفنية والفكرية والصحافية في الوطن العربي، التي قد تسوّق عملاً فاشلاً وتجعله في القمة، وتسقط عملاً مبدعاً يستحق الظهور والصعود.
ب- الإعلام التجاري الذي يتحكم بالذوق العام.
ج- جمهور يتقبل ما يُقدم إليه ويتعوّده، بحكم أن هذا هو المتوافر.
د- دور بعض دور النشر التي تهتم بالكم لا بالنوع.
هـ- الاسم المعروف.
و- مواهب عظيمة قد تم اغتيالها، وأعمال أعظم قد شُيّعت إلى مثواها الأخير في الأدراج.

الرواية العربية الحديثة من منظور النقد الأدبي
إن المتعمق في دراسة الروايات العربية الحديثة المنتشرة اليوم في مختلف أنحاء الوطن العربي، يستطيع تصنيفها على النحو التالي: الروايات التي حصلت على جوائز كبيرة، الروايات التي لاقت رواجاً وانتشاراً واسعاً، الروايات التي تستحق الانتشار ولم تنل حقها، ولم يتعد انتشارها الأسرة والأصدقاء، الروايات التي لا تستحق عناء القراءة.
وقد تنوعت الروايات العربية الحديثة من حيث مضامينها والمواضيع التي عالجتها، فمنها الرواية الواقعية، التي حمل فيها الروائي همّ مجتمعه ووطنه، فكانت روايته انعكاساً لقضية يعاني منها مجتمعه، أو قضية وطنية، وخصوصاً تلك التي عالجت الواقع الاستعماري، الذي بقيت آثاره وتبعاته إلى ما بعد الاستقلال. ومن بين رواد هذا التوجه الكاتب الفلسطيني إبراهيم نصر الله في روايته «شرفة العار»، والروائي السوداني أمير تاج السر في روايته «أرض السودان (الحلو والمر)».

شرفة العار
رواية «شرفة العار» للكاتب الفلسطيني إبراهيم نصر الله تعكس قضية اجتماعية خطيرة، تشير إلى الإرث الجاهلي القديم وهو الجرائم، التي ترتكب تحت شعار الدفاع عن الشرف، والتي يُحجم عن معالجتها الكتّاب والصحفيون، وذلك لرهبتهم وتخوفهم من تبعات ردات الفعل عليهم، فهي واحدة من القضايا الاجتماعية العربية التي مازالت قائمة، وهي قضية خطيرة، لها جذور عميقة تنافي مبادئ العدالة الإنسانية، وتعتبر من أكثر القضايا المثيرة للجدل في مجتمعاتنا العربية.
ويؤكد إبراهيم نصر الله تفشي ظاهرة العنف ضد المرأة وانتهاك حقوقها، حين يلعب الرجل دور الحاكم والجلاد، وينفذ بيديه الحكم، فهو المسئول عن سلوك الفتاة أو المرأة الأخلاقي، ومن حقه قتلها حفاظاً على شرفه.
وقد ظهرت مقدرة إبراهيم نصر الله الأدبية حين تمكن من إيصال تجربة الفتاة منار المريرة إلى أعماق القارئ، وتحريك أحاسيسه ومشاعره، وإشعال ثورته وغضبه وحنقه، بسبب الظلم الاجتماعي، الذي يصفق للقاتل ويسيء إلى الضحية، مؤكدا الجو المرعب الذي أثاره ما حصل لمنار، بين أفراد المجتمع، وآثاره النفسية التي تبقى تطارد بنات جنسها حين تصبح كل فتاة مشروع عار وقتل شرف.
نهج إبراهيم نصر الله في التقديم لأقسام روايته، منهج استباق الأحداث، ربما كان يهدف من خلاله إلى رفع مستوى عنصر التشويق.
وتسلسل أحداث الرواية، واختيار الألفاظ الصائبة والجمل الملائمة، أعاناه على إبراز الحركة والصوت والإثارة والانفعال:
«التفت لوجه نبيلة، كان شاحباً كالموت، جسدها في مكان وروحها في مكان آخر، جافة كحطبة، وساهمة كضياع».
كما امتازت تشبيهاته بقدرتها على التقاط الصور وتقريب المتباعد، فيتداخل المشبّه بالمشبّه به كأنه وحدة واحدة:
«عيناه جامدتان كحجرين بركانيين أسودين، أصابعه متصلبة حول يد كرسيه كما لو أنه ميت».
وأجاد في تصوير قسوة لحظات اغتيال منار، إلى درجة أشعرت القارئ بثقل ظلال الحدث، وكأنه كان على مرأى منه.

أرض السودان (الحلو والمر)
طرح فيها أمير تاج السر قضيته الوطنية، المتمثلة في الاستعمار ومظالمه، وآثاره المدمرة في الحياة الاجتماعية والاقتصادية والأخلاقية والعقدِيّة، في محاولة منه لإضاءة الماضي، الذي طبع الحاضر، ويهدد المستقبل. فالمستعمر الذي سيطر على مقدرات الشعب السوداني، وامتص دماء أبنائه، له كامل الحقوق، ويتمتع بالحرية. أما المواطن السوداني، وبسبب التبعية العمياء، فمحكوم بالشقاء.
أعاد تاج السر على لسان الشخصية الرئيسية «جلبرت أوسمان» تحديد الخطوط الرفيعة، التي بهت لونها مع مرور الأيام، وخصوصاً حين غربت شمس الحقائق عن أرض السودان وشعبها، فأظلمت تخومها، حين حفلت بالاستعمار والاستئثار والعنف والسطوة، فتوارت تفاصيل الأحداث المتمثلة في ممارسات القتل المعنوي، مخلّفة في الأذهان آثارها المبهمة القاتمة، الموغلة وجعاً وألماً وحسرة، فأرخت بظلالها على نفوس الأفراد الهشة، منتجة مجتمعاً خاضعاً، مبتور الإرادة، ومسلوب الحرية، وعاجزاً عن التغيير.
ولم يغفل تاج السر عن التركيز على اهتزاز البنيان الاجتماعي، الذي تحكمه العادات والتقاليد البالية، فشاء أن يرسم في روايته صورتين للمرأة:
الأولى: هـي صـورة المرأة الضعيفة المسيّرة والمنقادة والمغلوبة على أمرها، التي يتلاعب بمصيرها الرجل، وتحكمها عادات المجتمع وتقاليده.
والثانية: هي صورة المرأة الضعيفة عينها، القادرة على قلب المعادلات والمقاييس والموازين، وتغيير مصائر الرجال.
تميز أسلوب تاج السر في روايته بحبكة روائية تميزت بالإدهاش والإثارة، ونهاية بعيدة عن المألوف، يحكمها التناقض والغموض والالتباس، حاكها تاج السر، حين أبقاها مشرّعة الأفق والأبعاد والدلالات في ذهن القارئ، الذي سوف ينهي الرواية، وقد تاه في سراديب الخاتمة.
ومن الرواية الواقعية التي عالجت المجتمع والوطن، إلى تلك الرواية التي عالجت الصراع المحتدم والأزلي بين الشرق وبين الغرب من خلال روايتين هما: «أقاليم الخوف» للكاتبة الجزائرية فضيلة الفاروق، و«القاهرة الصغيرة» للكاتب الجزائري عمارة لخوص.

أقاليم الخوف
رواية «أقاليم الخوف»، هي رحلة بين عالمين، عالم الشرق الذي يشهد الويلات والحروب، وعالم الغرب المتمثل بأمريكا، ذلك العالم الذي تملّكه الطمع في خيرات الشرق.
يظهر الغرب ممثلاً بمارغريت، شخصية الرواية الرئيسية التي بنت عليها الكاتبة صراع الأديان والحضارات وصراع المطامع والمصالح.
حرب خفية على الشرق، خاضتها بطلة الرواية الأمريكية من أصل لبناني، التي تعودت أن ترى المجتمع الشرقي متخلفاً ومتأخراً. نراها مشحونة بالعداء وهي الصحفية المثقفة، التي ترصد القضايا القومية، فعملت على تعرية الواقع الاجتماعي ونزوعه المادي والديني.
لم يكن الولوج في أعماق مارغريت وتحليلها بالعمل الهيِّن، نظراً إلى اضطراباتها النفسية، التي يمكن وضعها في الإطار النفسي، الذي أحاط بظروف نشأتها الأولى. ولكن نجحت فضيلة الفاروق في الإمساك بزمام تلك الشخصية الجدلية المضطربة والمتناقضة، التي بقيت غامضة للقارئ، فكل ما فعلته هو انتقاد الشرق وأهله، فهي تحمل الفكر الغربي، ودمها يلفظ شرقيتها.
دخلت مارغريت في صراعها مع الشرق مدخلاً حساساً حين قالت إن: «إسرائيل هي «البعبع» الذي يخيف العرب جميعهم من الخليج إلى المحيط، وبالنسبة إلي، لم تكن أكثر من الإبرة التي يخاف منها الأطفال».
(وهنا نجد أن مارغريت قد اختزلت العدو الصهيوني الذي يهدد ويتوعد ويجتاح الأراضي، ويدنس المقدسات، ويسفك الدماء في كونه «إبرة»).

القاهرة الصغيرة
أثارت رواية «القاهرة الصغيرة» لعمارة لخوص، العديد من القضايا الفكرية والاجتماعية المعقدة التي يتشابك فيها الدين مع السياسة، تمثلت في الصراع بين الغرب وبين الإسلام. واللغة التي سادت بينهما، هي لغة التصارع والتضاد. واتسمت عند الغرب في كون المسلمين إرهابيين ودعاة عنف. وتجسّدت نظرتهم العدائية، في تكريس شتى الوسائل لتلبية رغباتهم ومطامعهم في تطبيق سياساتهم، من غير أن يحترموا أبسط القواعد الإنسانية. وقد مثّل هذا الدور في الرواية، «كريستيان» الإيطالي - المسيحي، الذي اندسّ بين المهاجرين العرب والمسلمين في حي «ماركوني» في روما، لكشف عملية إرهابية مرتقبة، وصلت أخبارها إلى الاستخبارات الإيطالية. ووقع عليه الاختيار لكفاءته اللغوية، وتمكنه من اللهجة التونسية. فيتقمص شخصية عيسى التونسي.
تتقاطع أحداث الرواية بين صوفيا وبين عيسى، فكل منهما يعرض تجربته من خلال مخاض يُلقي الضوء على عالمين تنوعت سُبُلهما، وتشعبت ظلالهما، بغية استيعاب الدور الذي أوكل إلى كل منهما، بمنحنياته وانزلاقاته ومفاجآته.
ومن الناحية الاجتماعية، تمكن الكاتب من خلال صوفيا من إماطة اللثام عن الآفات الاجتماعية، التي تحياها المرأة العربية، حين جعلها تخوض موضوع تعدد الزوجات، وأثره السلبي، وهاجس الطلاق الذي يشكّل أكبر مصدر خوف لدى المرأة، لما تتعرض له من مضايقات اجتماعية ونفسية، وما يكتنف مصيرها من قسوة وغموض، فتؤثر الرضوخ. ثم تنتقل إلى موضوع أكثر مأساوية، حين تشير إلى عمليات ختان الإناث في مصر، التي تحرم المرأة من حقها الطبيعي في نيل اللذة، فتكون مجرد آلة لإرضاء الزوج والإنجاب.
أما بالنسبة لأسلوب الكاتب عمارة لخوص، فقد تميزت لغة الرواية بالبساطة في التعبير، من خلال الألفاظ المنتقاة والمعاني الواضحة، فجملها قصيرة ومألوفة، كما أنها ابتعدت عن الرمزية والشاعرية، واستطاعت أن تخدم أفكارها وتوظفها بشكل يتلاءم مع طبيعة المواقف ومنطق الشخصيات، وقد طغى عليها الأسلوب السردي المباشر، وقلّ فيها الحوار الذي غلبت عليه اللهجات العربية وفق جنسيات المتحاورين المهاجرين، ولذلك كثرت الألفاظ السوقية.
والآن، أود إلقاء الضوء على روايتين حازتا جائزة البوكر العربية، وهما «طوق الحمام» للكاتبة السعودية رجاء عالِم، الحائزة جائزة البوكر العربية مناصفة مع رواية «القوس والفراشة» للكاتب المغربي محمد الأشعري للعام 2011، ورواية «ترمي بشرر» للكاتب السعودي عبده خال الحائز جائزة البوكر للعام 2010.

طوق الحمام
طوق من الغموض يُلقي بظلاله على الرواية، فقد حفلت بفضاءات فلسفية حداثية، متحررة من قيود العمل الروائي والحبكة التقليدية، بل تخطت المناحي التجديدية، حيث حرصت كاتبتها على رسم ممارستها الفنية، من خلال التركيز على مفارقات مثيرة لعبثية الحياة من جوانبها المتعددة، ثقافتها وتاريخها وهمومها وأحلامها وإحباطاتها، بلغة من الإيهام التنظيري التجديدي، وكل هذا ضمن إطار من الرموز والطلاسم والألغاز، التي تُغرق القارئ في متاهات أمكنتها، والتباس أزمنتها، وتعقيدات شخوصها، وارتباطهم بالحياة والموت، والذاكرة والنسيان، والغياب والغيب، بالإضافة إلى صراعاتهم الدينية والعقائدية والاجتماعية والوطنية، في قالب من التعتيم والضبابية، التي تُفقد القارئ مقدرته على التوغل في عمق النص، والتقاط طرف الخيط أو الخيوط، التي من شأنها أن تؤدي إلى عنصر التشويق في الحبكة، وصولاً إلى اللهفة في النهاية.
تتطلب قراءة الرواية التي يبلغ عدد صفحاتها 566، مجهوداً مضنياً، وصبراً بلا حدود.
ويمكن أن تنطبق على مضمونها مقولة: «المعنى في بطن الشاعر»، وتبقى طلاسمها إلى ما بعد الانتهاء من قراءتها، بانتظار من يفك رموزها..!
وقد تمردت رجاء عالِم على الموروثات والمعتقدات القديمة، التي تتراوح بين حالة الجمود الفكري المتأصلة في النفوس، وبين سطوة المقدسات التي تُحاك باسمها أكبر المؤامرات.
أما سر الرواية الأكبر فيكمن في بطن يوسف، الذي حث خطاه في تاريخ مكة، ضائعاً وباحثاً عن مفتاح الكعبة، فنفض الغبار عن الصنم الجاهلي هُبل، كما واجه إساف ونائلة. وقد ظهر جلياً حرص الكاتبة على كشف ثراء ثقافتها:
أ- فـــــي مــــجال الفن، تكلمت عن «باخ» ومقطوعـــــاته الموسيقية، بالإضـــــــــافة إلــــــــــــى «جولدبيرج» و«بتهوفن».
ب- فــــي مــجال الفلسفة، جالت في آفاق «تهافت التهافت» و«تفسير ما بعد الطبيعة لأرسطو» للفيلسوف ابن رشد.
ج- لم تغفل رجاء عالِم عن سرد بعض القصص التاريخية ذات المغزى.
وكلما قاربت الرواية على نهايتها، نتبين أن رواية «طوق الحمام» تخرج من غموض لتدخل في عتمة، وكل ذلك حين يتبادر إلى ذهن القارئ أن عائشة وعزة ونورة - ربما كنّ شخصاً واحداً - نسجه خيال عائشة أو ربما حلمها:
«أحياناً تفيق على صباح يقول لك إنه غير الصباحات، وإنك على قمة العالم، وإن كل ما مرّ في حلم البارحة ينتظر وراء الباب، وإن بوسعك، بأطراف أصابع قدميك أن توارب له الباب ليدخل».

ترمي بشرر
أما رواية «ترمي بشرر» للكاتب السعودي عبده خال، فنجد أنه قد بدأ روايته من نهايتها! فيشعر القارئ بأنه يواجه بطل الرواية، وهو ينفذ العقاب في حق المذنبين، وفي لحظة واحدة سريعة تشعر بالتعاطف معه وهو يصف قسوة عمله، ولكن بطل روايتنا جلاد من نوع آخر، إنه ينفذ ما يأمره به صاحب القصر. والجلاد البطل موكل من صاحب القصر بمهمة تجرّد الإنسان من آدميته، بعمل تنفر منه الفطرة الإنسانية، وتُخرجه من دائرة الأعمال البشرية.
يعجز القارئ عن إيجاد تفسير لمدى البشاعة، التي صاحبت الانتهاكات الوحشية في الرواية، فقد عصفت بكل القيم والمبادئ، والأعراف الدينية والأخلاقية، وحوّلت الجاني والمجني عليه، إلى منزلة سفلية حقيرة، وهذا الأمر يظهر في قول الكاتب:
«في كل العمليات التي خضتها، كان الجلاد والمجلود مجذوبين لهاوية سحيقة، والروح تُسحق وتذوب في ما بينهما».
إن الصور التي تبينتها من خلال قراءة رواية «ترمي بشرر» استحضرت في ذهني ما حصل في سجنيَّ «أبو غريب» و«غوانتانامو»، وفــــــــضائح الـــــــجنود الأمريكيين والبريطانيين في استباحة حقوق المساجين الإنسانية، من خلال عمليات التعذيب الوحشية، وقد تم تصوير عمليات انتهاك أعراضهم، بأفظع صور الانتهاك الجنسي وأبشعها، مستخدمين تسجيلات الفيديو، وملتقطين الصور التذكارية إلى جوار جثث ضحاياهم، الذين ماتوا تحت التعذيب.. (وهذا ما جاء في الرواية تماماً).
لقد أصر الكاتب على الربط بين لحظات الرذيلة ونهاية ليلة صاخبة بكل أشكال المجون وفنونه، وهنا لابد أن يتبادر إلى ذهن الناقد، وإلى ذهن القارئ، سؤال واحد وهو: أين الإبداع في مثل هذه الرواية، الذي أهّلها وفتح لها الباب على مصراعيه للحصول على جائزة البوكر؟
وأخيراً، فإن التحدي الحقيقي الذي يواجه الرواية العربية الحديثة، يتمثل في الإجابة عن هذا التساؤل: ما هي مقومات نجاح العمل الروائي في عصرنا الحاضر، وعلامَ تعتمد؟ هل هو:
الثالوث المحرّم المتمثل في الدين، والجنس، والسياسة؟ والذي بدأ يرسم نهجاً جديداً لمسار الرواية، ويُعدّ ركيزة أساسية في بنائها وتكوينها:
أ- عصبيات طائفية ونزاعات وخلافات واضطرابات.. تعمل على تأجيج الحروب؟
ب- الصبغة الجنسية المبتذلة وتجاوزها إلى الشذوذ غير الإنساني؟
ج- التطرف الديني والتشدد والدعوة إلى الإرهاب، والتطاول على الأديان والعقائد والموروثات وتجاوز حدود المحرّمات؟
وإن لم يكن كل ما سبق.. أهي فلسفة الغموض والضبابية التي تحمل شعار: «إذا لم يفهم القارئ.. إذاً أنا مبدع»؟
وأخيراً لابد من الإشارة إلى ثلاثة أمور:
الأول: التحذير من أمر خطير يعتمده عدد كبير من الروائيين الشباب، وهو تقليد كتابات الروائيين المشاهير في الوطن العربي ولغاتهم وأساليبهم، ظناً منهم أنهم سيصلون إلى عالم الشهرة بسرعة، ولكنهم لا يعلمون أنهم يمسخون كتاباتهم، ويحدون من إبداعهم، ويتسببون في ضياع هويتهم الأدبية.
الثاني: هو أمر شائع جداً وهو تقليد الروايات الغربية وتقريباً نسخها.
الثالث: تنازل القارئ عن حقه في الحكم على نجاح رواية أو فشلها، ومحاسبته للكاتب والناقد معاً ■