رسائل ماري فان بيليت (خاتون مريم)

رسائل ماري فان بيليت (خاتون مريم)

كثيرا ما يحملنا الحنين إلى الماضي لمعرفة تفاصيل الحياة في بلادنا في عقود سابقة، ولعل دولة شهدت طفرة اقتصادية وعمرانية هائلة مثل الكويت خير مثال على ذلك، وقد أخذ مركز البحوث والدراسات الكويـتـــية عـــلى عاتقه توثيــــق وتـــسجــــيل وتحقــيق السجلات والكتابات والرسائل والصور التي لها علاقة بالكويت: ماضيها، تراثها، ومعالم النشاط الإنساني على أرضها.

 

فقدم لنا سلسلة من الكتب التوثيقية في هذا الصدد مثل: «الكويت وروسيا في عهد الشيخ مبارك الصباح»، «الكويت في كتابات أمين الريحاني»، «من الكويت إلى مكة المكرمة: الرحلة الميمونة إلى بيت الله الحرام» التي كتبها مساعد يعقوب البدر عام 1932، وكتاب «رسائل ماري فان بيليت»، وهي السيدة التي عرفت في الكويت باسم: خاتون مريم - خاتون تعني سيدة باللغة الفارسية - وقد عملت كممرضة في مستشفى الإرسالية الأمريكية بالكويت في الفترة من عام 1920 حتى عام 1939، أي قرابة عشرين عامًا.
كان الباحث الكويتي خالد عبدالمغني قد حصل على هذه الرسائل التي تعود إلى الثلاثينيات من القرن الماضي عن طريق مزاد لموقع على شبكة الإنترنت، ومن ثم قدمها لمركز البحوث والدراسات الكويتية، ففي أواخر عام 1920 عينت ماري بيليت في الكويت لتبدأ مسيرتها الطبية وكانت الإرسالية الأمريكية في الكويت قد أكملت المستشفى النسائي الذي افتتح عام 1919 تحت إشراف الدكتورة ألينور كالفرلي التي عرفت في الكويت باسم خاتون حليمة، كتبت ماري بيليت رسائلها بالحبر الأزرق والأسود على الورق ولم تستعمل الطابعة، لذا كانت مهمة ترجمة الرسائل عملا شاقا استلزم الاستعانة بلغويين على معرفة بأساليب الكتابة واللهجات الأمريكية لتوضيح ما أمكن من عبارات.

رحلة الرسائل المكتوبة من الكويت 
إلى الولايات المتحدة
كان خط سير الرسائل المكتوبة من عام 1932 حتى عام 1937 المرسلة من الكويت إلى إحدى مدن الولايات المتحدة الأمريكية يبدأ بإرسال البريد برا إلى البصرة ثم بغداد - الرطبة - غزة - القاهرة - الإسكندرية ومنها إلى أثينا وإيطاليا وعبر القطار إلى باريس ومنها إلى بريطانيا ومدنها مثل لندن، ومن أحد موانئ بريطانيا عبر المحيط الأطلسي يتم إرسال البريد بالسفن إلى نيويورك وعبر القطار يرسل إلى باقي الولايات، إذ لم يبدأ البريد الجوي عبر المحيط الأطلسي إلا بعد صيف عام 1938، وتقدر المدة التي تستغرقها الرسالة من الكويت حتى الولايات المتحدة الأمريكية في تلك الفترة بحوالي ثلاثة أسابيع، وقد تمتد إلى فترة أطول أثناء الأزمات والطوارئ.
يعود تاريخ الرسائل التي حررتها ماري بيليت (خاتون مريم) أثناء خدمتها في الكويت إلى الفترة من
2 ديسمبر 1932 حتى 30 نوفمبر من عام 1937، وتعد من المصادر الكتابية النادرة التي تناولت فيها بالتوثيق والرصد إحدى عضوات الإرسالية الأمريكية مشاهداتها وانطباعاتها عن المجتمع العربي الكويتي المسلم في فترة الثلاثينيات من القرن الماضي.
كتبت ماري بيليت (خاتون مريم) رسالتها الأولى يوم 2 ديسمبر عام 1932، وكانت بعنوان: «يوم عيد الشكر»، تتحدث فيها مع صديقتها كيث وتسترجع ذكرياتهما الجميلة معا وتستكمل: «إن الزمن يمضي سريعا والأيام تمر والحياة تتجاوزنا، وهناك العديد من المتغيرات في الكويت في بعض الأمور، فعلى سبيل المثال تُبذل بعض المحاولات لتحسين السوق وتعديله، وقد تمت تغطيته الآن من جديد، وتم ترميمه وصيانته بصورة جيدة، وأدى هذا إلى أن يصبح القوس القديم - الذي كان يوما بوابة خارجية للمدينة - في وسط المنطقة التجارية، وتمت إزالة المباني القديمة التي في هذا المكان».
وتحكي لصديقتها عن وباء الجدري الذي داهم الكويتيين عام 1932: «أما بالنسبة للعمل فقد كان كثيرًا خلال هذا الصيف، فأكثر من ثلاثة آلاف نفس ماتوا فزادت مساحة المقابر، إنه مرض الجدري الأسود!! ومازالت حالات جديدة تظهر، والقليل ممن تكتب لهم الحياة يكون مشوها أو أعمى، والشتاء سيكون قاسيا عليهم إن عاشوا.. حصيلة الغوص على اللؤلؤ كانت قليلة هذا العام».

عباءة تقليدية كويتية
في ثنايا الرسائل يمكن التأريخ، ليس فقط للأحداث الجسام، ولكن كذلك للعادات والتقاليد، وخاصة حين تتعلق الإشارات بمفردات الأزياء وتقاليد الطعام والحياة اليومية.
ففي رسالتها الثانية المكتوبة بتاريخ 13 يناير عام 1933، تتحدث ماري بيليت (خاتون مريم) عن سعادتها بالحصول على عباءة تقليدية كويتية من أحد الزوار المرموقين والمصنوعة من القطيفة السوداء بقيمة 9.95 دولارات، وتستكمل الرسالة: «أعــلـــنت الخــــطوط الجــــوية الإمبراطورية عن تجربة ستة أشهر (يونيو - نوفمبر) لجعل الكويت محطة ميناء جوي ومكتبا للبريد، ولكن في هذا الأسبوع طارت الطائرة فوق رءوسنا تاركة حقائب بريدنا، مما خيَّب آمالنا إلى حد كبير، وخاصة أنني قد كتبت خطابات لوالدي وأخي...».
وتنتقل إلى الحديث عن الولايات المتحدة وطنها، قائلة: «تقول التقارير الصحفية إن هناك مسيرة بسبب الجوع في واشنطن، وعلى الرغم من أن أمريكا تمتلك الكثير من الأراضي، فإن القليل منا هم الذين يعيشون على أرض مثل هذه، ولا عذر لمثل هذا النوع من المعاناة».
ثم تختتم رسالتها بفقرة مهمة: «لم يتم حتى الآن الحصول على الامتياز الخاص بالنفط في الكويت، وهذا يعني الكثير من الأمور والتأخير، أخشى أن تحدث أمور طارئة واتخاذ إجراءات لا نحبها...».

كويت.. جزيرة العرب
الرسالة الثالثة المكتوبة في يوم 8 أكتوبر عام 1933 لصديقتيها ماري وكيث، تتحدث عن واقعة مهمة حدثت بين بريطانيا وبلاد فارس: «في الخليج نجد جزيرة قشم وفي طرف الجزيرة نجد باسيدو التي كانت قاعدة بحرية بريطانية منذ مائة عام وأكثر، وفي أغسطس دمر الإيرانيون هذه القاعدة وارتفع فوقها علم فارس. وحينما رجعت سفن الأدميرالية من الدورية الصيفية بحثا عن سفن الأعداء، أرسلت المدمرة فلوتيلا ورفعت العلم البريطاني بدلا من علم فارس، واعتذرت طهران إلى لندن، وتأسفت وطلبت العذر لجهلها بتصرفات بعض رعاياها».
«لقد علمت (وكذلك لندن) أن أدميرال البحرية الفارسية شخص يجهل البروتوكول وملكية بريطانيا للمنطقة، وعلمنا كذلك أنه مازال في منصبه، لكن الحكومة الفارسية تأسفت لما حدث».
الرسالة الرابعة المكتوبة في يوم 17 أغسطس عام 1934، تتحدث فيها خاتون مريم عن حرارة الصيف الشديدة في الكويت: «إن الوضع ليس عاديا، نحن دائما نعمل على أن نتجنب هذا الجو، ولكنني هنا منذ ستة أسابيع أعمل بمفردي تماما، ميلري، وبارني (طبيبا الإرسالية) كلاهما في إجازة خارج الكويت تنتهي في منتصف أكتوبر عندما يبدأ الطقس البارد».
«تأتي إمدادات الثلج بانتظام، وفي الأسواق أوانٍ يابانية (ترمس) لها فتحة كبيرة لحفظ الثلج، ومن وقت لآخر يصب كوب من الماء في ذلك الإناء ويظل لديك الماء المثلج لمدة طويلة بشرط عدم الإسراف في الشرب».
الرسالة الخامسة المكتوبة بتاريخ 24 نوفمبر عام 1934 تحت عنوان: «كويت.. جزيرة العرب»، «أكتب لكم وأنا وحيدة، لقد عاد الناس في منتصف شهر أكتوبر - وهي تعني عودة البحارة من موسم الغوص، الوقت هنا يمضي بسرعة، لقد فوجئنا بحلول عيد الفصح هنا، الجو الحار الذي صاحبنا فجأة تحول إلى بارد، وحظينا بالأمطار لمدة ولذا سيظهر الورد.. لم يكن محصول الغوص على اللؤلؤ وفيرا هذا العام، والناس حقا في حاجة ماسة، وليس لديكم فكرة عن مدى الفقر في جزيرة العرب».

بشائر الخير
يمكننا أن نقرأ عن بشائر الخير في الرسالة السادسة التي كتبتها لصديقتيها ماري وكيث والمؤرخة في يوم 27 من يناير عام 1935: «تم توقيع الامتياز الخاص بالتنقيب عن النفط (في الكويت) وقد بلغنا أن الخبراء الجيولوجيين سيصلون في غضون شهر من الآن. إنهم الأمريكان! ونحن نتساءل: أي نوع من الناس سيكون هؤلاء، ومن سيقوم باختيار الأشخاص؟».
«إن شركة نفط الكويت تم تأسيسها باستثمار متساوٍ بين الأمريكيين والبريطانيين، ويبدو أن الأمريكيين هم من أصحاب الملايين، ولكنني لا أعرف اسم شركتهم، أما البريطانيون فتمثلهم شركة النفط الأنجلو- فارسية، وسيكون عام 1934 علامة بارزة لنهاية عصر مضى في الكويت».
كتبت خاتون مريم رسالتها السابعة في الأول من شهر سبتمبر من عام 1935، وقد كانت وقتئذ في رحلة إلى قبرص وكتبتها أيضا لصديقتيها كيث وماري تحت عنوان: «ترودوس (قبرص)»: «حاليا أنا موجودة في قبرص، ولقد اتخذت هذا القرار لأني شعرت بأنه من الأهمية بمكان أن أزور هذا المكان الهادئ، ولكني الآن متضايقة إلى حد ما بسبب سُحُب الحرب التي تتجمع في البحر المتوسط، وبالتالي قد أكون مجبرة لكي أغير في خططي وأذهب إلى سورية وفلسطين رغم أن الحياة فيهما غالية، أنا أعيش الآن في معسكر - مستوطنة - من الخيام على جبل رودوس وهو بجانب «جبل الأولمب».. هناك كذلك قلاع الصليبيين والكاتدرائيات القديمة.
ذهبت إلى نيقوسيا - العاصمة - وقد زرت إحدى الكاتدرائيات، وكان بصحبتنا عدد من الأمريكيين، وقد تحولت هذه الكاتدرائية إلى مسجد».
مرة أخرى تواصل ماري بيليت كتابة رسائلها بعد عودتها إلى الكويت مجددا بتاريخ 23 نوفمبر عام 1936 في رسالتها الثامنة لصديقتيها كيث وماري: «وهذا الصيف بالذات ازددت هرما بشكل كبير، والأسباب لا يمكن التعبير عنها بالكلمات، إنه الشعور بالوحدة، وكوني غريبة في هذه البقاع الإسلامية، التي تختلف عنا في الدين والحضارة وغير ذلك، فهذا ما يجعلنا دائما حديث أهل المدينة».
وتحكي عن حادثة وقعت في المستشفى الأمريكي بالكويت قائلة: «في يونيو أعطى صيدلي المستشفى، وهو من أفضل مساعدينا، دواء بطريق الخطأ لطفل يبلغ من العمر ست سنوات، وقد توفي هذا الطفل على الرغم من محاولاتنا لإنقاذه، وقد كان الأمل مفقودا في حياته منذ البداية، ولم يحدث ذلك منذ 27 عامًا، وكان الطفل فارسيا، وقد قام ذووه المتشددون بإثارة الأمر إلى حد كبير، وقالوا إن الحادث متعمد، وطالبوا بالقصاص (النفس بالنفس) وهددونا.. إلخ، وقد وضع الشيخ الصيدلاني في السجن، وظل هناك منذ 15 يونيو.. ثم حكمت المحكمة بأن الأمر ليس متعمدا».
وتتنـــــقل في رسالتــــها بيــن موضوعات متعددة تتعلق باستخراج النفط ووصول فريق من الجيولوجيين الأمريكيين، ثم تقول في رسالتها: «ذهب صاحب السمو الشيخ - تقصد الشيخ أحمد الجابر الصباح - في رحلة إلى إنجلترا عام 1935 والناس الذين تفاوضوا معه يقولون إنه رجل صعب المراس، ولعل المشكلة الفلسطينية ستؤدي إلى زيادة الأمر تعقيدا في أي مفاوضات».
وفي رسالتيها الأخيرتين، تتحدث في الرسالة التاسعة المكتوبة بتاريخ 30 نوفمبر عام 1937 لصديقتيها كيث وماري عن طريقتها في قضاء أوقاتها في الكويت قائلة: «الراديو الفليبس الصغير هو متعتي الكبيرة، لقد كان أول نوع يصل إلى الكويت».
ثم تنتقل إلى جانب آخر من الحدث: «سيكون لدينا مستشفى جديد للنساء في الكويت، مواد البناء جاهزة والبناءون تم الاتفاق معهم...». بينما نجد رسالتها الأخيرة القصيرة جدا والمكتوبة بلا تاريخ تتحدث فيها إلى صديقتيها قائلة: «لدي خاتمان فضيان تركواز لكل منكما، خشيت أن أبعثهما لكما حتى لا تتعرضا للمتاعب مع الضرائب، ولقد خمنت القياسات...».. المحبة ماري.
نحتاج يقينا في وطننا العربي لمزيد من البحوث والدراسات لتوثيق مراحل مهمة في تاريخنا القديم، شريطة أن تتعدد المصادر والمراجع حتى نضمن مصداقيتها، إذ إن التاريخ غالبا ما يكتب من وجهة نظر من يسطرونه، ولاسيما إذا كان من يقومون بتسجيله يحملون في عقولهم وذاكرتهم تصورات مسبقة تجعل تأريخهم وكتاباتهم محل شك، وهنا يكون دورنا في التثبت والمراجعة لضمان الحفاظ على هويتنا وتاريخنا سليمين صحيحين لنا ولأجيالنا القادمة ■