صديقي الصيني
معرفتنا كانت في الطائرة، من باريس إلى برشلونة، منذ ثلاث سنوات.
أنا، كما أنا، جنسيتي، لست متأكدًا منها.. هو، صيني.. في حوالي الأربعين من عمره، أمّا أنا، فلن أبوح بعمري، هذا لا يهم أحدًا.
اسمه ايان كان بوهب.. اسمي، لن أذكره الآن، أنا لم أختره، لهذا فهو يخص مَن اختاره لي، ليس هذا فقط، فديني ورثته، وكوني رجلاً أيضًا لم يكن من اختياري، فأنا جُبلت وصُنّعت دون أن يكون لي رأي بذاتي، إن قلت شيئًا أو فعلت شيئًا فلا ذنب عليّ، هذا أنا، أما هو، فهو صيني كما قلت، مَرح، مرّت الساعتان في الطائرة بسرعة أسرع من الطائرة التي حطّت في مطار برشلونة، يقول إنه زار كل أوربا، أنا أيضًا زرت بلدانًا عـــدة، لن أطيل الحديث عن زياراته، لكني تغلّبت عليه بمعرفتي الجيدة بإسبانيا، بمدريد وضواحيها، ومكتبة الأسكوريال التي تحتوي على آلاف المخطوطات والكتب الثمينة والقديمة، أعرف أيضًا ساراغوستا، منطقة الأراغون، طليطلة، غرناطة، إشبيلية، ملقة، ومدن وقرى جبال االبيرينيهب وقد أبدل العرب اسمها بـاجبال البرانسب، لأن الثلوج البيضاء تكسوها في كل الفصول بلباس أبيض كالبرنس الأبيض.
***
عند خروجنا من مطار برشلونة، طلبت من رفيقي الصيني أن يكلّمني بالفرنسية لنتفاهم، لم يقبل، ناصحًا، بل آمرًا، أن نتكلم باللغة الصينية، اللغة التي أعرف بعض كلماتها التي تعلّمتها منه.. قبلت، أو أجبرت على القبول عندما اكتشفت أن الصينيين أكثر تيسنة من البيارتة، ورأيت أن التشابه بيني وبينه هو التيسنة فقط.
سألني ايان كان بوهب: لي تي كاماشي؟
أجبته: ماذا؟ لم أفهم.
كرّر سؤاله: كاماشي لي تــــن..؟ وفجــــأة أشار بيده إلى التواليت، وعلمــت عنـــدئذ أن اكاماشيب هي التواليت، أدخلـــت عندئذ التواليت في قاموسي الخاص.. فـاكاماشيب بأيّ لغة كانت شيء مهم وضروري ولا مفرّ منه.
دخلت أيضًا إلى كاماشي وخرجــــت وانتــظرته وقد طال غيابه.. وإذا به يظهر وعلى وجهه تبدو راحة ونشاط وهو خارج من اكاماشيب.
أخذنا اتاكسيب، هو لا يتكلم الإسبانية، أتى الآن دوري بقيادة الحديث والتكلّم مع الناس بالإسبانية، اللغة التي أحبّ، وشعرت أني أتفوّق عليه.
وصلنا إلى أوتيل الاكاتدرالب وهو مواجه للكاتدرائية في قلب برشلونة التي تبقى صاحية وصاخبة وبحركة دائمة.. لا تعرف الهدوء ولا النوم، غرفتي رقمها 48 وغرفة ايان كان بوهب رقم 50، وضعنا ما كنّا نحمله وخرجنا، سألته إن أعجبته الغرفة، هزّ رأسه وتفوّه بكلمة لم أفهم معناها، هززت رأسي موافقًا، سرنا باتجاه االرمبله Alramblaب وهو الشارع أو البولفار أو الجادة التي تبدأ في قلب برشلونة حتى المرافئ والشواطئ والأماكن السياحية والمقاهي والمطاعم الشهية والسمك المشوي والمقلي واالبايليا - Paellaب، يقال إنها أكلة عربية منذ القدم في تاريخ إسبانيا واسمها العربي هو ابقاياب، أي بقايا المأكولات التي تخلط ويزاد عليها السمك والدجاج وتصير أكلة جديدة وهي مازالت مشهورة في إسبانيا.
.. وروائح كل هذه المأكولات تـــمتــــزج وتخــرج من أماكنها لتدخل في أنوف الناس، وهذا ما أدخلنا إلــــى مطعـــم تطغى عليه أصوات وموسيقى وطرطــــقة صحــــون وكــــؤوس وكراسي وضحكات تطلع من دخان السيجار الكوبي أو الإسباني والسيجارات، محوّلة سماء المطعم إلى غيــــوم تتراقص، راسمة أشباحًا تزيد أجواء المطعم المقهــــى الــبار جوًا ساحرًا، لم نجد كرسيًا ومكانًا للجلوس، أكثر الناس وقوف، والبار محاط بالعشرات من النساء والرجال.
والكل يتكلم، والكل يستمع ومنهم من يغنّي ومنهم من يصفّق، وواحد منهم يعزف على قيثارة، نظرت إلى الصديق الصيني، رأيته مفتّح العينيـــن وفاتحًا فــــمه دون أن ينبس بكلمة، وهذا ما ارتحت له، لأنه إذا تكلّم لن أسمعه، وإن سمعته فلن أفهمه، قررت أن أتحرك، أن أهجم ونحن ننتظر التكرّم علينا بشيء للشرب والأكل إلى أن طلع صوتي:
اSenora! Por favor, quiero
!comery belor.. por favorب
أجابتني بنبرة حلوة:
اAlgo masب
ابتسمت وهززت رأسي، ابتسم الرفيق ورحنا نشرب ونأكل ونتحدث كالطرشان، أنا أتكلم بالعربية وهو بالصينية، لا أفهم ما يقوله, وهو لا يفهم ما أقوله له، وأنا واثق بأن الجميع هنا يتكلمون ويصرخون ويشيرون بأياديهم ولا أحد يفهم ما يسمعه وما لا يسمعه، وكأن أصوات الناس أصبحت صوتًا واحدًا هو صوت الضجّة، تارة يكون صارخًا وطورًا تسمع ضحكات النساء، أو فجأة يسود صمت لثوان قليلة تسمع فيها نقرات عازف القيثارة وصوت رفيقته المغنية التي لا يلبث أن يختفي ويذوب في صوت الضجة.
***
لم أدْر أي وقــت خرجـــــنا. لم نستطع الوصول إلى الأوتيل. ضعنا. مشينا حتى لاح نور الفجر. سمعنا همسات الأمواج، غفونا على رمال الشاطئ. أيقظتنا الشمس. شمس برشلونة قاسية. كانت الساعة الخامسة مساء عندما استيقظنا من القيلولة في الأوتيل اLa restaب هي في إسبانيا ليــــست عـــــادة بل حاجة، من بعدها تمتلئ شوارع المدن والقرى بالنّاس، رفيقي الصيني ايان كــــان بــــوهب اختزلته بـابوكانب مثل بو يوسف أو بوعلي أو بوجورج.
أمضينا وقتًا في زيارة متحف ميرو اMiroب. شخصيًا لا أعشق أعماله الفنية، مع أنها جريئة في أشكالها البسيطة التي تذكّر برسوم الأطفال، وهل هناك أجمل من رسوم الأطفال؟ بالاختصار إن فن اجوان ميروب لا يثيرني ولا يهزّني كما تفعل بي أعمال بيكاسو مثلا. أما ابوكانب فقد اندهش بفن ميرو عندما اكتشف - كما أفهمني - أن رسومه الملوّنة تشبه الكتابة الصينية وأنه يكاد يقرأها، لهذا فقد بقي طويلاً مشدوهًا وهو ينظر إلى اللوحات مبتسمًا، مشيرًا إلى ما يراه من أحرف صينية في لوحات ميرو.
***
مازلنا في المتحف، صادف أن كانت في جوارنا امرأتان، امرأة يابانية أو صينية وامرأة إسبانية، بسرعة تقدّم منهما بوكان موجهًا كلامه إلى الصينية، إذن هي صينية، ثم أشار إليّ أن أقترب وقدّمني إليهما. سرنا معًا إلى مقهى المتحف، ومن الطبيعي أن يكون حديثي مع الإسبانية أكثر ما يكون مع الصينية، ولسان بوكان فلت من عقاله وراحت الكلمات تتصل ببعضها دون انقطاع، وعلمت عندئذ أني بحاجة إلى مائة سنة لأتعلم اللغة الصينية، وكانت الاورا Lauraب وهو اسم الإسبانية، أستاذة تاريخ الفن في اسان فرناندوب في مدريد، لهذا فحديثنا كان عن الفن، فلاسكيز وغويا وبيكاسو وغيرهم، ثم تطوّر إلى مواضيع أخرى، عن الحياة، عن الناس، عن الحب، عن السينما والأفلام الإسبانية الحديثة وعن ابونوال Bunuelب المخرج الإسباني العبقري وصداقته مع الشاعر غارسيا لوركا والرسام دالي.
***
مضت ساعات واختفت الشمس بعد مجيء الليل، وأشعلت برشلونة أنوارها في المقاهي والشوارع التي امتلأت بالناس، كنت أذهب منذ سنوات إلى مقهى ومطعم وبار مشهور تاريخيًا، لكونه مكان التقاء رسامي وشعراء إسبانيا على رأسهم بابلو بيكاسو.. اسم هذا المكان ا4Gats = الأربع قطط =ب أمضينا سهرتنا فيه. تلك الليلة كان يوجد مغن أندلسي وعازف قيثارة وراقصة غجرية، هذا الجو الساحر جعلنا نقترب من بعضنا أكثر، حتى أن الوراب تشارك في الغناء أغنية للشاعر والموسيقي والرسام افدريكو غارسيا لوركاب.. وهي أغنية أحببتها ومازلت أحبّها، وما كان من عازف القيثارة إلا أن يقترب من مكاننا ليشاركنا بعزفه، وعلت أصوات الجميع بالغناء والضحك والتصفيق الإسباني .