الإسلام والمسلمون وتحديات القرن الواحد والعشرين

الإسلام والمسلمون وتحديات القرن الواحد والعشرين
        

          في فبراير عام 1994، نشر المؤرخ البريطاني المشهور بول كندي كتابًا بعنوان: «Preparing for the Twenty First Century» (الاستعداد للقرن الواحد والعشرين)، تحدث فيه عن التحديات التي ستواجه المجتمعات الإنسانية في القرن الواحد والعشرين، كالانفجار السكاني، وثورة الاتصالات، والمال، والشركات المتعددة الجنسيات، والزراعة والمياه والتعليم، وثورة التكنولوجيا الحيوية Biotechnology، والروبوتات ودورها في الثورة الصناعية الجديدة، وعن تأثيرات القوة الصناعية لليابان، والصين والهند والبرازيل، والثورة الصناعية الآسيوية، وعن الرابحين والخاسرين من التطورات العالمية، وعن تخلّف الأنظمة السياسية عن استيعاب التقدم الصناعي.

          لم يخصص كندي للحديث عن العالم الإسلامي والمسلمين سوى أربع صفحات (ص 208 - 211) يصف فيها مستقبل المسلمين ومجتمعاتهم بتشاؤم كبير, استنادًا إلى مرارة واقعهم المتخلّف الذي يتخبّطون فيه منذ قرون,  من دون أي بارقة أمل في خلاص قريب.

          يقول كندي «إنه بعيدًا عن الاستعداد للقرن الواحد والعشرين، يبدو أن معظم العالمين العربي والإسلامي يجد صعوبة في التعامل حتى مع القرن  التاسع عشر بمبادئه العلمانية وديموقراطياته وأسئلته الفكرية، (ص208). ويذهب إلى أبعد من ذلك عندما يعتبر هذين العالمين مثالًا عالميًا وتاريخيًا لأي مجتمع لا يستجيب للتطور العلمي الحديث في شتى حقوله (ص208).

          وكندي ليس الوحيد الذي يقول هذا الرأي المستند إلى الإحصاءات والبحوث العلمية المعاصرة، بل إن جميع الباحثين والمؤرخين في العالم مجمعون على هذا التوصيف، ومنهم المؤرخ برنارد لويس في كتابه الأخير «أين الخطأ?» «?What Went Rong» (2002)، والمؤرخ أرنولد توينبي في محاضراته التي ألقاها بمصر في ستينيات القرن الماضي، وتساءل فيها مرارًا عن سبب تخلّف العرب والمسلمين بالرغم من التحديات الكثيرة التي يواجهونها وإمكاناتهم المادية والبشرية الكبيرة، كما أن التقارير التي تنشرها الوكالات المتخصصة في الأمم المتحدة، كتقارير التنمية الإنسانية العربية السنوية مثلًا تساند هذا الرأي.

          أمام هذا الوضع التشاؤمي، لابد لأي مسلم أن يطرح على نفسه سؤالين جوهريين ملحّين: هل تكمن علّة التخلف في قصور عقول المسلمين عن إدراك المعاني الحقيقية والعميقة لتعاليم الإسلام؟ أم أنها تكمن في القصور الذاتي لتعاليم الإسلام عن مواكبة التطور البشري والتكيّف مع حقائقه العلمية، وتطلّعات الإنسان المستقبلية، والمساهمة في تقديم الحلول المجدية لمشكلاته المادية والروحية في زمن يخضع فيه المجتمع الإنساني كله لتبدّلات عميقة وسريعة في مفاهيمه وأخلاقياته وعاداته وتقاليده وثقافته وأسس تفكيره برمّتها؟

          السؤالان ليسا بجديدين، إلا أن الإجابة عليهما تزداد أهمية يومًا بعد يوم، نظرًا للمكانة الاستراتيجية التي يحتلها العالم الإسلامي في الجغرافيا البشرية والاقتصادية المعاصرة من ناحية، وإلى اعتقاد المسلمين الراسخ بتعاليم الإسلام كمنهج أبدي للحياة وللمجتمع، وما يثيره واقعهم المتردي والسائر مستقبلًا نحو مزيد من القهقرى كما يتوقع الخبراء والمحللون من ناحية أخرى.

          يشكّل المسلمون اليوم كتلة بشرية ضخمة تعدادها أكثر من مليار ونصف المليار نسمة، أي نحو ربع سكان العالم يعيشون في بقاع شاسعة من الأرض يحوي بعضها ثروات طبيعية هائلة تشكّل عصب الحياة والتطور للمدنية المعاصرة، ومع ذلك مازالوا إحدى الخلايا الميتة في حركة التطور الحضاري المعاصر، وهذا ما دفع بعض الإصلاحيين المسلمين في القرنين التاسع عشر والعشرين إلى محاولة تجديد مفاهيم الإسلام لتتكيّف مع متطلبات العصر ظنًا منهم أنهم يستطيعون بذلك إنقاذ المجتمعات الإسلامية من تخلّفها وسباتها اللذين طال أمدهما، لكن جهودهم لم تعط الآمال المرجوّة كما يؤكد الواقع المرير لهذه المجتمعات.

خصائص الحياة الغربية المعاصرة

          وسنعرض أهم خصائص الحياة الغربية المعاصرة كما يراها بعض كبار المفكرين الغربيين. ثم موقف الإسلام منها كما يراه فريق من المفكرين المسلمين والمتعاطفين معهم، وذلك كجواب مختصر عن السؤال الثاني وكتأكيد على أن تعاليم الإسلام ليست هي المسئولة عن تخلّف المسلمين ومعاناتهم كما يدّعي ذلك بعض الباحثين، بل يتحمّل المسلمون أنفسهم هذه المسئولية في زمن أصبحت وسائل التقدم متوافرة، وتختصر كثيرًا من المسافات الزمنية اللازمة للقضاء على كل أمراض التخلّف وأسبابها.

          لقد أكّدت جميع الأبحاث الرصينة والمحايدة على أن الأمية والجهل والفقر والبطالة والإقطاع وزيادة المواليد وتصحّر الأراضي وبدائية الإنتاج وسوء استغلال الموارد الطبيعية والكبت السياسي والاجتماعي ومصادرة الحريات وتخلّف وسائل المعرفة والمواصلات التي تشكو منها المجتمعات الإسلامية هي مشكلات من صنع الإنسان وليست من مصدر ديني.

أهم خصائص الحياة الغربية المعاصرة:

          1 - حب العلم والاستطلاع:

          يقول أرنولد توينبي، أحد أعظم المؤرخين المعاصرين، في إحدى محاضراته:

          «إن حب الاستطلاع في الغرب اتجه منذ القرن السابع عشر إلى مجال البحث العلمي الموضوعي المنزّه. وقد أدى قيام هذه الأبحاث على أسس منهجية دقيقة إلى ظهور نتائج علمية مثيرة تفوق حد الخيال لم يحلم بها الباحثون الأوائل.

          ويعتبر هذا الاستطلاع العلمي المنزّه عن الغرب السبب الرئيسي لعلو مكانة الغرب في العالم الحديث، وأدى تطبيق تلك الأبحاث العلمية في الصناعة إلى نشوء التكنولوجيا الحديثة والإنتاج الآلي، وأثبت هذا الإنتاج منذ بدايته في نهاية القرن الثامن عشر حتى الآن أنه وسيلة مذهلة لتطوير الحياة المادية للمجتمعات البشرية ونشر الرفاهية في ربوعها، وقد استطاع الغربيون بعد جهود علمية مضنية استئصال شأفة الفقر والأمية وكثير من الأمراض الفتاكة من مجتمعاتهم، وتحقيق قدر كبير من التنسيق بين الحرية والنظام فيها، فكانت هذه المنجزات الرائعة، كما يقول برتراند راسل في كتابه «آمال جديدة في عالم متغير»، فتحا جديدًا في تاريخ البشرية، وأمثلة حية لمعالجة مشكلات التخلف الإنساني والقضاء على أسبابه.

          كان معظم العلماء والمفكرين الغربيين خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر يعتقدون بأن التقدم العلمي خيّر بطبيعته، وكفيل بحل المشكلات المزمنة التي يواجهها البشر في المجالين المادي والروحي، وقادر على تحويل الأرض إلى نعيم كالذي وعد الله به المؤمنين، لكن هذه الآمال بدأت بالأفول والتراجع عندما أخذت الثورة الصناعية تشدّ الناس إلى التفكير المادي في الحياة، وأصبحت مُثل الحياة في النصف الثاني من القرن التاسع عشر تُستمد من الواقع بدلًا من العقل ونتج عن ذلك انحدار تام نحو المادية والآلية والضياع الروحي للإنسانية.

          يقول ألبرت شفيتزر (1875 - 1965) وهو طبيب وعالم وموسيقي، ولاهوتي وفيلسوف ألماني شهير (نوبل للسلام عام 1952) في كتابه «حياتي وفكري»: «يجب الاعتراف أولًا بأن فساد الروح هو السبب الرئيسي لتدهور الحضارة الغربية، وأن مُثل الحضارة الحقيقية أصبحت عديمة القدرة في يومنا هذا لأن المفهوم الأيديولوجي الذي تمتد فيه جذورها قد اختفى شيئًا فشيئًا، وأن مدنية تعيش في المظاهر التافهة لابد وأن ينتهي بها المسير إلى كارثة لأنها انقطعت عن القانون الجوهري الوحيد الذي يغذيها، وهو قانون الأخلاق، ومهما تكن الأهمية التي نعطيها للعلوم والقوى المادية، يبدو واضحًا أن الإنسانية التي تتبع أهدافًا أخلاقية تستطيع وحدها أن تستفيد إلى حد بعيد من التقدم المادي، والسيطرة في الوقت نفسه على ما يرافق هذا التقدم من الأخطار، ونحن نرى أن هذا الجيل الذي آمن بالتقدم العلمي يحدث آليًا، والذي فكّر بإمكانية الاستغناء عن المثل الأخلاقية للتقدم، والاقتصار على العلم والقوة وحدهما، قد أعطى البرهان من خلال الوضع الذي يعيشه اليوم على أنه كان مخدوعًا، فالتقدم المادي وحده لا يعد الجوهر الخالص لهذه الحضارة لأنه يحمل للعالم في ثناياه بذور الخير والشر على حدّ سواء.. إنني متخاصم مع روح هذا العصر لأنه شديد الاحتقار للفكر لدرجة قادتنا إلى الشك في قدرة هذا الفكر على الرد على الأسئلة المتعلقة بالكون وعلاقتنا به، وفي إعطاء معنى ومحتوى لوجودنا. ومن الغريب أن يكون جيلنا الذي يبدو عظيمًا في اكتشافاته وإنجازاته العلمية لم يستطع تجنّب الانزلاق إلى هذا الدرك المخيف في المجال الروحي، إنني أشعر في أعماق ضميري بأننا نسير في طريق سيقودنا إذا واصلنا السير فيه إلى عصور وسطى من طراز جديد».

          ويؤكد المؤرخ أرنولد توينبي في إحدى محاضراته على الناحية التي أشار إليها ألبرت شفيتزر فيقول: «إن عجز الإنسان عن التأمل الروحي الباطني يتضمن إهدارًا لإنسانيته لا يقل عن ذلك الذي يتضمنه عجزه عن النشاط العملي، لكي يكون المرء إنسانًا بحق، عليه أن يجمع ويوفق بين هذين النوعين من السلوك الظاهري والباطني، فالتأمل والصلاة ليسا بأقل أهمية من النشاط العملي الخارجي من حيث إنهما عنصران ضروريان لا غنى عنهما في حياة الإنسان، ولقد كان الغرب يمارس هذا الوجه الباطني من النشاط قبل أن يبدأ المرحلة الحديثة من تاريخه مثلما تمارسه المجتمعات غير الغربية في الوقت الحالي. وعلى ذلك فإنني أود أن أقول لغير الغربيين: كونوا عمليين بالمعنى الغربي إذا شئتم، ولكن لا تمضوا في اقتباسكم لهذا الطابع العملي إلى حدّ التطرف، ولا تأخذوا به إلى الحد الذي يشلّ قدرتكم الحالية على التأمل، إذ إن أي شخص لكي يكون آدميًا بالمعنى الكامل، ينبغي أن يكون تأمليًا وعمليًا في آن واحد، فلن يكتمل أي إنسان إذا قضى على واحد من هذين العنصرين الأساسيين في تركيب الشخصية الإنسانية».

وجهة نظر الإسلام

          إن وجهة نظر الإسلام حول سيادة الإنسان على الأرض وتطوره عليها تتفق مع وجهة نظر الحضارة الغربية، لكن الفرق بين النظريتين يتركز حول نوعية الرقي الإنساني ونتائجه، فالغرب الحديث يعتقد بإمكانية التطور الروحي للبشرية عن طريق الرقي العملي وتطور التفكير العلمي، وهذا ما ثبت خطأه باعتراف المفكرين الغربيين أنفسهم، أما وجهة النظر الإسلامية فتقول بأن الناحية الروحية صفة كامنة في أعماق الطبيعة البشرية، وهذه الطبيعة لا تخضع لعملية تبدّل ارتقائي كما يقول الغربيون لأنها ليست كمية عضوية قابلة للقياس الكمي والكيفي، كما هو الشأن في العناصر المادية. والخطأ الرئيسي في النظرية الغربية - كما يقول محمد أسد في كتابه «الإسلام على مفترق الطرق» - هو اعتبار الترقي في الرفاهية والمعارف المادية أساسًا للترقي الروحي والأخلاقي للإنسانية وتطبيق مبادئ العلوم الطبيعية على الحقائق الروحية، ومصدر هذا الخطأ هو إنكار وجود نفس مفارقة للمادة ومنفصلة عنها، بينما الإسلام يعتبر وجود النفس حقيقة إلهية لا تقبل النقاش، كما يعتبر أن الرقي المادي والرقي الروحي للإنسانية لا يعارض أحدهما الآخر، مع أنهما وجهان مختلفان للحياة الإنسانية. وفي الوقت الذي يؤكد فيه الإسلام على إمكانية الرقي المادي للإنسانية في مجموعها، ويحث عليه، نجده ينكر إمكانية تطورها الروحي عن طريق الرقي المادي الجماعي، ويعتبر أن العنصر الفعال في الرقي الروحي مقصور على كل إنسان بمفرده، لأننا لا نستطيع أن نتقدم نحو الكمال الروحي كمجموع، بل على كل فرد أن يكدح بنفسه إلى هذا الهدف.

          وفي مقابل هذا التأكيد على الفردية في الحياة الروحية يؤكد الإسلام أيضًا على أثر البيئة الاجتماعية وفضيلة التعاون بين البشر، فمن واجب البيئة الاجتماعية أن تنظم الحياة الخارجية للإنسان بطريقة تمكّنه من العيش بأقل عدد ممكن من الصعاب والمشكلات، وأكبر قدر ممكن من التشجيع والمساعدة، ولهذا السبب اهتم الشرع الإسلامي بالحياة الإنسانية من ناحيتيها الروحية والمادية، وفي وجهتيها الفردية والاجتماعية. إن مفهومًا كهذا لا يمكن أن يقوم إلا على أساس اعتقاد إيجابي بوجود النفس الإنسانية، وبوجود هدف سام للحياة، وبذلك يكون موقف الإسلام من العلم والتكنولوجيا موقفًا إيجابيًا من حيث أنهما يطوّران الوسائل المادية التي تؤمّن السعادة الأرضية للإنسان، ويكون موقفه سلبيًا عندما تخرج هذه التكنولوجيا وذلك العلم عن الرقابة الأخلاقية للمجتمع، ويصبح مصدرًا للكوارث والشرور كما هو الشأن في اختراع أسلحة الإبادة الجماعية، فالإسلام يكرّم العلم ويحثّ عليه ولا يرتفع المسلم بفضيلة كما يرتفع بفضيلة العلم، والحضارة الإسلامية لم تأخذ بعدها العالمي والإنساني إلا من خلال إنجازاتها العلمية ودعوتها إلى العدالة الاجتماعية والأخوّة والمساواة بين جميع البشر، وازدهار حرية الفرد فيها، وتفاعل هذا الفكر مع أفكار وعلوم الحضارات الأخرى التي عاصرته أو سبقته، ففي سورة المجادلة نقرأ في الآية 11: يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ، وفي سورة الزمر الآية 9 نقرأ: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ  . وفي سورة طه الآية 114: وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا ، وفي سورة فاطر الآية 28: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ، كما نقرأ ذلك في أحاديث نبوية كثيرة منها: من خرج في طلب العلم فهو في سبيل الله حتى يرجع ، وفضل العالم على العابد كفضلي على ادناكم  فالإسلام كغيره من الأديان يدعو إلى العلم على أساس منافعه الخيّرة للناس، أما أن يصبح هذا العلم وسيلة لقتل الإنسان وتدمير حضارته واستعباد البشر الآخرين وقهرهم، فهذا ما يرفضه الإسلام رفضًا قاطعًا لأن الإنسان في المفهوم الإسلامي خليفة الله في الأرض، وحامل الأمانة الإلهية فيها، كما هو واضح في آيات قرآنية عدة.

          2 - النزعة الفردية

          يقول أرنولد توينبي إن هذه  النزعة لعبت دورًا مهمًا في تطور المجتمعات البشرية: «إذ لكل إنسان مواهبه الخاصة وشخصيته المميزة، والإبداع البشري هو دائمًا نتيجة لجهد فردي معين، وهذه القدرة الفردية الخلاّقة هي رأس المال الوحيد الذي يملكه الإنسان، والمجتمعات التي أعطت الفرد الفرص الضرورية للقيام بعمل منتج هي المجتمعات الأكثر تقدمًا وتطورًا، وعندما تقيّد هذه  الفرص بمطالب سياسية أو عائلية، فمعنى ذلك شلل القدرة الإبداعية للأفراد، والإنسان الذي يمتلك مواهب شخصية ممتازة يستطيع استخدام هذه المواهب بطريقة أخلاقية خيّرة كما يستطيع استخدامها للإضرار بمصالح الآخرين، وهذا يعني أن النزعة الفردية يمكن أن تؤدي إلى نتائج ضارّة بالمجتمع إذا لم توضع تحت السيطرة الأخلاقية. ويبدو أن الغرب قد أطلق العنان لهذه النزعة فكانت نتائجها سلبية على حساب الصالح العام وعلى صعيد العلاقات الإنسانية».

          أما في الإسلام فإن هذه النزعة تخضع بدورها للفلسفة القرآنية القائلة بأن كل أعمال البشر يجب أن تهدف إلى رضوان الله باعتباره مصدر الحق المطلق والخير المطلق والجمال المطلق. فالإسلام لا ينكر الدور الذي تلعبه النزعة الفردية في تطوّر الحضارات، وهو نفسه لم ينشأ وينتشر إلا بفضل المواهب الفردية الفذة التي كان يتمتع بها الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته رضوان الله عليهم ومَن جاء بعدهم من المشرّعين والعلماء والقادة، لكن الإسلام من ناحية أخرى لا يطلق العنان لهذه النزعة، بل يخضعها لمراقبة إلهية واجتماعية صارمة: وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ . «التوبة - آية 105». وقوله تعالى في سورة إبراهيم، آية 18: مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لَا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ . فالسلوك الإنساني في الإسلام خاضع لموازين دقيقة يوزن بها خوفًا من الشطط أو التطرف حفاظًا على العلاقات الخيّرة بين الناس: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ. وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ، وكُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ ، و وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ .

          إن الفضائل المثلى التي يحض عليها القرآن الكريم والرسول صلى الله عليه وسلم هي التي ترفع الإنسان إلى الكمال المرتجى في هذا العالم، والسعادة الروحية المنشودة في العالم الآخر. فالصبر والأخوّة والأمانة والعدل والإحسان والأمل والحلم والعفو، هي من الصفات المثلى التي أوصى الله بها الإنسان من أجل بناء مجتمع فاضل لا أنانية فيه ولا استعباد، بل عدل ومساواة وأخوّة بين الناس: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ . و إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ . إن مثل هذه الصفات تطهّر روح الإنسان وتساعدها على السموّ تدريجيًا نحو الله، فالشريعة الإسلامية ليست وقفًا على الشعائر والطقوس، بل تخضع لها الحياة الاجتماعية والشخصية كلها لأنها تهدف إلى ربط كل عمل من أعمال الفرد بواجباته الدينية كما تقول الآية 162 من سورة الأنعام: قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

          3 - النزعة العملية:

          يفخر الغربيون، كما يقول توينبي في محاضرته «أسلوب الحياة الغربية في الميزان»، «بأنهم قوم نشيطون وعمليون، يخططون وينفذون أمورهم بسرعة وكفاءة، ولاشك في أن هذه الصفات تعدّ مصدرًا من مصادر العمران والرقيّ في المجتمع البشري، غير أنها قد تتجه أحيانا إلى غايات غير مرغوب فيها أخلاقيًا وتكون لها نتائج مضرّة بالمجتمع، إذ إنها قد تصرف الإنسان عن ممارسة أوجه نشاطه الروحي كالصلاة والتأمل، وهي نشاطات كانت في الماضي تؤلف جزءًا من حياة المجتمعات الغربية، لكنها اليوم أصبحت شبه معدومة، إذ حلّت عبادة الحياة، والرفاهية، والمال، والقوة، مكان عبادة الله، فقد تخلّى هذا الإنسان عن شخصيته الروحية وفضائله الخلقية التي كان يتصف بها قبل بداية المرحلة الحديثة من تاريخه، وأعلن خضوعه لمقتضيات الحياة المادية وقوانينها، مما شلّ قدرته على التأمل الروحي بعد أن أسقط الله من دائرة حياته العملية».

          كانت النزعة العملية أحد الأسس التي قامت عليها الحضارة الإسلامية وازدهرت، فكان النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته رضوان الله عليهم والمسلمون الأوائل يسيرون وفق هذه النزعة في الحياة التي كانت مرتبطة دائمًا بالعنصر الأخلاقي والروحي، وخير تعبير عن هذا الاتجاه قول علي بن أبي طالب رضي الله عنه: «اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدًا، واعمل لآخرتك كأنك تموت غدًا». وقوله أيضًا: «ليس بخيركم من ترك دنياه لآخرته، ولا من ترك آخرته لدنياه بل خيركم من جمع بينهما». فحياة المسلم يجب أن تقوم على التعاون التام والمطلق بين ذاته الروحية وذاته المادية، لأن الحياة وحدة مركبة تضم أعمق المظاهر الخلقية والعلمية والشخصية والاجتماعية - كما يقول محمد أسد - والإسلام عندما يدل أتباعه على طريق الفضيلة من خلال القرآن والسنة لا يترك حاجات الطبيعة البشرية جانبًا، وعندما يقدم إليهم سلوكًا أخلاقيًا يفزعون إليه في ساعات يأسهم فإنه لا يذهب إلى خارج نطاق الواقع ولا يعطيهم مثلًا  أعلى في الفضيلة لا يستطيعون احتماله، بل يرسم لهم قواعد سليمة في الحياة تثبت عند وضعها موضع التنفيذ أنها قواعد عملية أصيلة (انظر كتاب نويل كولسون N.Coulson) «Conflicts and Tension in Islamic Jurisprudence».

          هذه هي أهم الصفات التي تتميز بها الحياة الغربية المعاصرة كما يراها بعض أئمة الفكر الغربي، ومع أنهم لا يشيرون إلى صفات أخرى مثل الحرية والديمقراطية والعدالة والمساواة وغيرها، فإن مفهوم الغرب لهذه المواضيع يختلف اختلافًا عميقًا بين العقيدتين الرأسمالية والماركسية اللتين نبعتا منه نتيجة لتطورات اقتصادية واجتماعية معينة، ومع أنهما يتناقضان معًا في كثير من القضايا، إلا أنهما يتفقان في النهاية على أمر مهم، وهو النظرة المادية للحياة الإنسانية، وهذا ما يتناقض مع مبادئ الأديان السماوية جميعها. إن نظرة الإسلام إلى الإنسان والحياة إذا فهمت فهمًا صحيحًا تؤلف أيديولوجية مثالية متكاملة تحاكي الطبيعة الإنسانية في أعمق معانيها المادية والروحية.

أخطاء فادحة

          ومن الأخطاء الفادحة التي يقع فيها بعض الباحثين عند تصدّيهم لهذا الموضوع تطبيق مصطلحات الحضارة الغربية على مفاهيم الإسلام ونظمه، فالإسلام له نظامه الاجتماعي الخاص المميز الذي يختلف في منطلقاته وأهدافه عن منطلقات وأهداف الأيديولوجيات السائدة في الغرب، ولا يمكن دراسة ذلك النظام إلا في حدود مفاهيمه ومصطلحاته الخاصة، وأي خروج على هذا المبدأ يؤدي إلى تشويه موقف الشرع الإسلامي من كثير من القضايا السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تشغل فكر الإنسان المعاصر، فالحضارة الإسلامية حضارة دينية في أساسها، ولا يمكن فهمها فهمًا صحيحًا إلا إذا بيّنا الدور الذي يقوم به الدين في الحياة الإنسانية، كما يقول محمد أسد، وهذا لا يدخل في نطاق هذه الدراسة.

          لقد وضع القرآن - كما يعتقد المسلمون - الخطوط العريضة لحياة إنسانية سعيدة، لكنه لم يفرغها في قوالب قانونية دقيقة جامدة، بل ترك لحكمة أتباعه في كثير من الأحوال حرية الانسجام مع المؤسسات التي تلائم العصر والبلد الذي يعيشون فيه، فهو يمسّ حياة الناس في الكليات، أي في الثوابت، وليس في الجزئيات، أي في المتغيرات، إنه يهتمّ ببيان ما هو صواب وما هو خطأ، وما هو خير وما هو شر.

          كان من الطبيعي في كتاب يمجّد الإنسان ويجعله خليفة الله على الأرض ويعلن أن الكون كله مسخّر له، أن يعطي لهذا الإنسان فرصة واسعة للاختيار ولتكييف واقعه تبعًا لاحتياجاته ولما يستجد في حياته الدائمة الحركة والتطور. وقد تنبّه المعتزلة وأكثر الفقهاء إلى هذه القضية عندما قالوا إن أحكام الشرع معلّلة بمصالح العباد، كما أن الإمام الشاطبي أشار إلى ذلك في كتابه «الموافقات» عندما قال: إن الشرائع تابعة للمصالح، وكانت معظم المدارس الفقهية الإسلامية صورة حية لهذه القاعدة، كما يقول كولسون، أستاذ الشريعة الإسلامية بمعهد الدراسات الآسيوية والإفريقية بجامعة لندن.

مستقبل الإسلام والمسلمين

          إن مستقبل الإسلام والمسلمين في عالمنا المعاصر وفي المستقبل متوقف على كيفية تطبيق هذه القاعدة الدقيقة على الحياة المعاصرة من قبل فقهاء مسلمين متنوّرين بالفكر العلمي الحديث ومناهجه، ومنفتحين على مشكلات هذا العصر وقضاياه، فقهاء يقرأون الإسلام بعقول وقلوب وعيون مفتوحة بعيدة عن الجمود والتحجّر وعصور الانحطاط التي ترزح بأثقالها على الإسلام والمسلمين. ولاشك في أن عدم وجود مرجعية مؤسساتية للإسلام - كالفاتيكان بالنسبة للمسيحية - تضم كبار المفكرين والمشرعين المسلمين، دينيين ومدنيين، تقوم عن طريق الاجتهاد بتطوير مفاهيم الإسلام وتجديدها لتتكيّف مع تطورات العصر ومفاهيمه السياسية والعلمية والاقتصادية والاجتماعية ومناهجه البحثية، هو أحد الأسباب الرئيسية لأزمة الإسلام والمسلمين مع هذا العصر وتطوراته. ولو كانت مثل هذه المرجعية موجودة لما وصلت الأزمة إلى ما وصلت إليه الآن بين العالم الإسلامي والغرب وتداعياتها الخطيرة، ولما راجت الفتاوى الدينية كلون من ألوان التجارة الدينية المعاصرة التي من ضحاياها البسطاء من الناس، ولما كان للأصولية هذا الدور المدمّر على الإسلام والمسلمين لمصالح شخصية أو سياسية لا تمتّ إلى الإسلام بصلة، وهذا ما يجعل الإسلام يقف على مفترق طرق مصيري وخطير.

          إن صراع الإنسان الطويل من أجل التقدم إنما يهدف إلى تحقيق تلك المثل التي تكلم عنها القرآن وألحّ عليها كقواعد للسلوك البشري، وعندما يبطل اعتبار هذه المثل من أساسيات التفكير الإنساني والحياة الإنسانية يصبح الإسلام تراثًا من الماضي وعبئًا ثقيلًا على أتباعه، فالقرآن يحوي صورة رائعة عن ذلك الحوار الأزلي بين الله والإنسان، والإنسان وأخيه الإنسان، وبين الإنسان والكون ومخلوقاته، وهو بذلك يربط الإنسان مع الله والكون برباط روحي وثيق يجعل لوجوده معنى تحت الإشراف الإلهي أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ  «المؤمنون 115»، أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى    «القيامة 36». ثم إن الإنسان في المفهوم القرآني ليس مخلوقًا ماديًا تطور عبر ملايين السنين من تركيب مادي خاص إلى ما هو عليه اليوم، وإنما هو مخلوق إلهي وجد لغاية وينتهي إلى غاية، وهو خليفة الله على الأرض, ولهذا السبب تتشابك في الإسلام وتتداخل خيوط الوحي الإلهي مع العقل البشري بصورة لا تقبل الانفصال، لأن الغاية الأساسية للإسلام هي تحقيق اقتران ناجح بين المادة والروح لقيام مدنية قوامها القوة والرحمة, القوة المادية تحت إشراف قلب رحيم، وبذلك تقوم دولة الإنسان الكامل.

-------------------------------

أغني للهوى القتال أغنيةً
على طللٍ يصيرُ ركام
أغنّي كي أنقبَ في بقَايا الصّمتِ عن أشلاءَ مجزرةٍ.
يغطيها اخضرار كلام
وها أنّي عثرتُ الآنَ
على شيءٍ سأفعلهُ بلِا استئذان
أموتُ لكي أفاجئَ راحةَ الموتَى
وأحرم قاتِلي من متعةِ التصويبِ
نحو دريئةِ القلبِ
الذي لم يعرف الإذعان
سأحرمُ ظَالمي من جعلِ عُمرِي
مرتعًا لسهامِ أحقادِ
وأرضًا أجبرتْ أن تكتمَ البركان

ممدوح عدوان

 

 

 

محمد كامل ضاهر