لودفيك دويتش «حارس القصر»
في العام 1886م زار الرسام النمساوي لودفيك دويتش القاهرة، فشكلت هذه الزيارة منعطفاً في حياته المهنية، التي أوقفها برمتها تقريباً بعد ذلك لرسم مواضيع استشراقية استمد معظمها من الحياة اليومية في شوارع القاهرة، فتحول بسرعة إلى واحد من ألمع الفنانين المستشرقين، إن لم نقل ألمعهم على الإطلاق.
رسم دويتش لاحقاً عدة لوحات بعنوان احارس القصرب، تمثّل كلها عسكرياً نوبياً يقف بكل أبهته ومهابته أمام مبنى مميز بحضور الأعمدة والزخارف والقناطر الإسلامية الطابع، ومن بينها هذه التي تعود إلى العام 1892، فترة الذروة في عطائه الفني.
أول ما يلفتنا إلى هذه اللوحة واقعيتها الدقيقة، حتى ليظن المرء أن الفنان اعتمد على صورة فوتوغرافية لإنجازها. ولكن لا شيء من هذا القبيل.
كان دويتش يرسم في القاهرة ااسكتشاتب فقط لبعض التفاصيل التي كان يجمعها لاحقاً في لوحة متكاملة بمرسمه في باريس، مستعيناً أيضاً بمجموعته الخاصة من التحف الفنية الإسلامية التي كان شغوفاً بها. عندما عكف الخبراء في دار المزاد العلني اكريستيزب على دراسة هذه اللوحة تمهيداً لبيعها، لاحظوا أن الخوذة التي يعتمرها هذا الحارس وترسه هما هنديان - فارسيان، وقرن البارود هندي، والبندقية (المسدس) تركية كما هي حال االياتغانب (السيف القصير)، في حين أن الجنبية عربية، ولباس الزرد الحديد غير أصلي بتاتاً.. ولكن ضعف القيمة الوثائقية لهذه اللوحة لا يؤثر في شيء على عظمتها الفنية.
ففي التركيب العام، ثمة مراسلة قوية بين العنصرين العاموديين في اللوحة: العامود الرخامي والرجل. الأول حامل القصر والثاني حاميه، فضلا عن الاستطالة المهيبة التي يضفيها هذان العنصران على لوحة تكاد تكون بالمقاييس الطبيعية.
وعلى صعيد اللون، ثمة حساسية فائقة في توليف الألوان الصارخة في قوتها مثل الأحمر والأصفر والأزرق في ملابس الرجل، مع الألوان الترابية في معمار القصر. بحيث تندمج هذه الألوان ببعضها إلى الحد الذي يفترضه وجودها كله تحت الضوء الواحد، ولكنها تتناقض أيضاً بما يكفي للفصل ما بين الإنسان الحي والجماد من حوله. غير أن أقوى ما في هذه اللوحة هو في مكان آخر. حتى أواخر القرن التاسع عشر، كان النوبيون مازالوا يتمتعون بالسمعة التي اكتسبوها منذ القدم على أنهم كعسكريين يجمعون في شخصياتهم القوة والكبرياء والنبل.. صفات تمكَّن الرسام هنا من نقلها باللون والخط على وجه الحارس، بوضوح يُطلع المشاهد على حقيقة شخصيته وما تكتنزه من مكوّنات وقيم. بعد الشهرة الكبيرة التي حظي بها دويتش في حياته، تعرض للنسيان والإهمال بعد وفاته عام 1935، كما هي حال الكثير من المستشرقين. ولكن الأنظار عادت لتتجه إليه في العقدين الماضيين كواحد من أكبر أساتذة القرن التاسع عشر. وعندما طرحت هذه اللوحة للبيع في العام 1999م، كان ثمنها مقدّراً بما يتراوح بين أربعمائة ألف وستمائة ألف دولار، ولكنها وجدت مشتريًا بنحو ثلاثة ملايين ومائتي ألف دولار!! .