المنزلُ المسْحور

المنزلُ المسْحور

لن أذهب إليها، أنتظر وصولها منذ أكثر من ساعة، لا.. لن أنتظر أكثر، كل مواعيدها كانت تأتي متأخرة، أو.. أو لا تأتي.. لست عبدًا لها، ليتها أتت، ليتها وصلت، صحيح أنا أريد، أنا أرغب الآن برؤيتها، لكني لن أنتظر بعد، هي لم تأتِ، هي، لن تأتي، لقد أضعت وقتي بانتظارها، كنت.. لا.. لن أنتظر بعد الآن.

 

كان برفقة صديق له وصديقة، وعدهما بأن يتعرّفا عليها، وكانت تعلم هذا، أخبرها البارحة، هاتفها واتفقا على موعد اليوم، اليوم حيث ينتظرها مع صديقه وصديقته التي خفّفت من حالته العصبية أو حاولت هذا، لكنه تابع، بل ازداد في نقد التي لم تأت بعد، كنت دائمًا ومنذ أن تعرّفت عليها تتكلم عن محاسنها وعن كل ما فيها من جمال عقل وجسد.. اصبر، لابدّ أن تأتي، قال صاحبه وهو يخفي ابتسامة. كنت أريد أن تتعرّفا، أن ترياها، قاطعته الصديقة، اعتبر أننا لا ننتظر مجيئها، انسَ الموعد، لابدّ أن تأتي ولو متأخرة، قال الصديق وقد ازدادت ابتسامته: أن تأتي أفضل من ألا تأتي، وستأتي، الآن كنت تتكلم عن الموسيقى، عن فكرة تأليف مقطوعة موسيقية جديدة. هنا هدأ قليلاً وتغيّرت تعابير وجهه  وانخفض صوته، ابتسم وقال ابتدأت بالكتابة، هل هناك موضوع معيّن؟ قال لا: الموضوع هو موسيقى، موسيقى بحتة، هذا يُترك للمستمع أن يتخيّل أو يرى أو يسمع الموضوع الذي يختاره، تعني موسيقى مجرّدة؟ لا.. قال.. الموسيقى أو الأسماء التي تعطى للفنون لا تعني شيئًا، خذ مثلاً عن الأسماء.. «أسماء المدارس الفنية» أو «الحركات الفنية» التي تعطى في كل مرحلة من الزمن إلى الفن التشكيلي أو الموسيقى أو الأدب، كلها لا تعني شيئًا، العمل الفني هو الأصل، مثلاً إذا أبدلت لوحة أو صورة «موناليزا»،  أعني إذا أبدلت الاسم فقط باسم «تحية كاريوكا».. مثلاً.. لن يغيّر من قيمة اللوحة ذاتها، برأيي أفضل اسم لعمل موسيقي ضخم وغير اعتيادي بجماله وعظمته هو اسم «السيمفونية التاسعة» لبتهوفن، هنا ابتسمت الصديقة وقالت مازحة: أنت إذا غيّرت اسمك فستبقى أنت أنت ولا تتغيّر، كان الصديق مستمتعًا بما يسمعه، قال: سمعت أن الأشخاص هم الذين يعطون للاسم قيمة، هذا صحيح، فالاسم دون أن يلتصق بشخص لا معنى له، اسم طائر مع الهواء إلى أن يقع على شخص ويصبح له معنى.. شخصيّة.. أجابه: صحيح، لا أدري، ممكن، قاطعته الصديقة: «صحيح .. لا أدري .. ممكن، هذه هي الحقيقة».
- كم الساعة الآن؟
- ماذا تريد من الساعة؟ الساعة بحالة جيدة.
- الطقس جميل، تُرى هل هو الربيع؟
- لا.. نحن في شهر فبراير، والربيع في القلوب وإن هطلت الأمطار وعربدت العواصف، الربيع في القلوب.
مرّ الوقت وأسرعت الساعات وطال الانتظار.
- قلْ كم هي الساعة الآن؟
- يا صديقي.. اترك الساعة تعمل، إن تعطّلت فستتعطّل الأزمنة كلها وسيمتزج النهار بالليل وستلتصق الشمس بالقمر. فجأة ظهرت المنتظرة، التي دام انتظارها ساعات طويلة.
- عدم المؤاخذة.. أني تأخرت قليلاً.
- قليلاً فقط؟ لا بأس.. شكرًا على مجيئك.
- هل نسيت موعدنا؟ جئت لأننا على موعد.. أليس كذلك؟
- بلى هو كذلك.
- صحيح.. موعدنا الساعة العاشرة.. لكني سعيد بمجيئك ولو بعد ساعتين!
- ساعة أو ساعتان.. المهم أننا التقينا.
- سهى ومنير.. أعز الأصدقاء.
- كلّمني كثيرًا عنكما.. تشرّفت.
- كنّا نتكلّم عن الموسيقى، ليتك كنت معنا، صديقنا الموسيقي يقول إن العمل الفني ليس بحاجة إلى اسم، بينما أكثر الأعمال الفنية تحمل اسمًا. إن كانت في الرسم، أو الموسيقى وطبعًا في الأدب.
ما قولك؟ هل توافقين؟
- أوافق على ماذا؟
- إذا كان للعمل الفني اسم أو عنوان أم لا؟
- أعتقد أن هذا ليس مهمًا، المهم هو ما يحمل العمل الفني من معان سامية وجمال، الاسم لا يضرّ ولا ينفع.
- هل توافق يا صديقي.. لا يضر ولا ينفع؟
- أوافق.. في هذه الأيام كثر الفنانون وكثرت معهم عناوين «فنهم» أو «تآليفهم» و«مؤلفاتهم»، وأكثرها بل كلها لا تمتُّ إلى الفن، أما العنوان الذي يضعونه فهو أكبر مما يحتوي «العمل الفني» من قيمة.. لهذا أقول إن الاسم الذي يضعونه اسم ملفّق، البرهان على ذلك ما يقدّم على المسارح تحت عنوان «أوبرا كذا» ومسرحية كذا.. والناس لافتقادها الثقافة أو الثقافة الفنية تتقبّل ما يقدّم إليها.
- اسمي ناديا. أجابها منير: أنا أدعوك نادرة.. سألته: لماذا؟ أنا أحب اسمي.. نادرة ينطبق على شخصيتك التي لم نتعرّف عليها إلا قليلاً، قلت نادرة لأنك.. قاطعه الموسيقي: لأنها.. ماذا يا منير؟ لم يردّ على سؤاله.. هنا قالت سهى: اتفقنا على أن الشخص هو الذي يجمّل الاسم ويعطيه قيمة، وأيضًا اتفقنا على أن الاسم ليس مهمًا، المهم هو صاحب الاسم. ابتسمت ناديا وقالت لصديقها الموسيقي: أجدّد اعتذاري عن تأخري، لا بأس، قال لها أنت الآن هنا، يا ناديا النادرة، وأمسك بيدها وصمت الجميع للحظات، ثم اقترح منير الذهاب إلى الجبل، لا.. قالت ناديا: نذهب إلى منزلي. وافق الجميع. المنزل مؤلف من غرفتين مع صالة ليس فيه كراسي أو طاولة، لكنه مفروش بطريقة شرقية، كل شيء على الأرض، الجلوس على أرائك، الحيطان تزيّنها لوحات فنية صغيرة الحجم، باختصار المنزل صغير وجميل وهادئ، شربنا وضحكنا وأكلنا.. ولم نشعر بمضي الوقت وباختفاء النهار، بقينا، نَعس مَن نعس، ونام من نام، وكأن سحرًا طغى على المكان أسكتنا وأدخلنا في منامات، وراح كل واحد منا يعيش في أحلامه حتى استيقظنا معًا ورحنا نروي أحلامنا، والعجيب في هذا، أن أحلامنا نحن الأربعة هي ذاتها. عندئذ اتفقنا على أن ناديا هي نادرة وبيتها ساحر ومسحور، وبكسل تحرّكنا وخرج منير برفقة سهى وبقيت الموسيقى وهوانا مع ناديا في منزلها النادر، أما أنا فقد عاد النعاس إليّ، استقبلته ونمت، وبقيت نائمًا إلى الآن ■