عبقرية الحضارة العربية الإسلامية في الاحتفاء بالكتاب

عبقرية الحضارة العربية الإسلامية  في الاحتفاء بالكتاب

‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬الكتاب‭ ‬لدى‭ ‬أسلافنا‭ ‬الأوائل‭ ‬مجرد‭ ‬وسيلة‭ ‬للتزوّد‭ ‬بالمعلومات‭ ‬أو‭ ‬الاستزادة‭ ‬من‭ ‬الثقافة‭  ‬والمعرفة‭ ‬والاطلاع‭ ‬على‭ ‬العلوم‭ ‬المختلفة،‭ ‬بل‭ ‬هو‭ ‬إلى‭ ‬جانب‭ ‬ذلك‭ ‬أداة‭ ‬لصقل‭ ‬الشخصية،‭ ‬وجعلها‭ ‬ذات‭ ‬قسمات‭ ‬مستقلة‭ ‬في‭ ‬التفكير‭ ‬والتوجّه‭ ‬والفهم‭ ‬والحوار‭ ‬مع‭ ‬الغير‭. ‬

ربما‭ ‬لهذا‭ ‬السبب‭ ‬وُصفت‭ ‬الحضارة‭ ‬العربية‭ ‬والإسلامية‭ ‬بأن‭ ‬مرتكزها‭ ‬الأول‭ ‬المعرفة،‭ ‬أي‭ ‬أنها‭ ‬حضارةٌ‭ ‬تأسست‭ ‬على‭ ‬قيم‭ ‬الفكر‭ ‬والعلم‭ ‬والنظر‭ ‬وإعمال‭ ‬العقل‭ ‬والوعي‭ ‬منذ‭ ‬لحظة‭ ‬انطلاقتها‭ ‬الأولى،‭ ‬وليس‭ ‬أدل‭ ‬على‭ ‬ذلك‭ ‬من‭ ‬كون‭ ‬أول‭ ‬ما‭ ‬نزل‭ ‬من‭ ‬الوحي‭ ‬الخاتم‭ ‬ذ‭ ‬الأساس‭ ‬الأول‭ ‬لهذه‭ ‬الحضارة‭ ‬كلمة‭: (‬إقرأ‭).. ‬وفي‭ ‬ذلك‭ ‬دلالة‭ ‬لا‭ ‬تقبل‭ ‬الدحض‭ ‬على‭ ‬حقيقة‭ ‬الصبغة‭ ‬العلمية‭ ‬والأساس‭ ‬المعرفي‭ ‬لحضارة‭ ‬العرب‭ ‬والمسلمين‭.‬

فما‭ ‬حقيقة‭ ‬موقف‭ ‬الأسلاف‭ ‬والحضارة‭ ‬العربية‭ ‬الإسلامية‭ ‬من‭ ‬الكتاب؟‭ ‬وهل‭ ‬كان‭ ‬الكتاب‭ ‬يعني‭ ‬لديهم‭ ‬فحسب‭ ‬أداة‭ ‬للتثقيف‭ ‬والاستنارة‭ ‬العقلية،‭ ‬أم‭ ‬أنه‭ ‬لازمة‭ ‬من‭ ‬لوازم‭ ‬الإبداع‭ ‬وصناعة‭ ‬الحضارة‭ ‬والوفاء‭ ‬لكلّ‭ ‬مَن‭ ‬وضع‭ ‬بصمته‭ ‬على‭ ‬صرح‭ ‬من‭ ‬صروح‭ ‬العلم‭ ‬أو‭ ‬الثقافة؟

هذا‭ ‬المقال‭ ‬محاولة‭ ‬للوقوف‭ ‬على‭ ‬جوانب‭ ‬مهمة‭ ‬من‭ ‬علاقة‭ ‬أسلافنا‭ ‬بالكتاب،‭ ‬ونظرتهم‭ ‬إلى‭ ‬الكتب‭ ‬والمكتبات‭. ‬وتتجلى‭ ‬أهميّةُ‭ ‬طرْق‭ ‬هذه‭ ‬المسألة‭ ‬والتذكير‭ ‬بها،‭ ‬في‭ ‬ضرورة‭ ‬تحفيز‭ ‬أجيال‭ ‬مجتمعاتنا‭ ‬العربية‭ ‬المسلمة‭ ‬الصاعدة،‭ ‬وتوثيق‭ ‬صلتها‭ ‬بالكتاب‭ ‬والقراءة‭ ‬العميقة‭ ‬المفيدة،‭ ‬درءًا‭ ‬لظاهرة‭ ‬تسطيح‭ ‬الفكر‭ ‬والوعي،‭ ‬التي‭ ‬ما‭ ‬فتئت‭ ‬في‭ ‬التوسع‭ ‬والاندياح،‭ ‬بسبب‭ ‬البعد‭ ‬عن‭ ‬القراءة‭ ‬الحقيقية‭ ‬الواعية،‭ ‬والاعتماد‭ ‬على‭ ‬معلومات‭ ‬وسائط‭ ‬الاتصال‭ ‬المعاصرة،‭ ‬التي‭ ‬يبدو‭ ‬أن‭ ‬التعامل‭ ‬معها‭ ‬بكيفية‭ ‬سليمة‭ ‬يتطلب‭ ‬مهارات‭ ‬ووعياً‭ ‬من‭ ‬نوع‭ ‬خاص‭.‬

‭ ‬

حضارة‭ ‬كتاب‭ ‬وعلم‭ ‬ومعرفة‭: ‬

  ‬حين‭ ‬تصدى‭ ‬المستشرق‭ ‬السويسري‭/‬الألماني‭ ‬اآدم‭ ‬متزب‭ ‬أستاذ‭ ‬اللغات‭ ‬الشرقية‭ ‬بجامعة‭ ‬ابازلب‭ ‬السويسرية،‭ ‬لدراسة‭ ‬الحضارة‭ ‬الإسلامية‭ ‬في‭ ‬القرن‭ ‬الرابع‭ ‬الهجري،‭ ‬لفت‭ ‬نظره‭ ‬شدة‭ ‬حفاوة‭ ‬هذه‭ ‬الحضارة‭ ‬بالكتاب‭ ‬والعلماء‭ ‬والفكر،‭ ‬فقال‭: ‬ا‭.. ‬وكان‭ ‬في‭ ‬كلّ‭ ‬جامع‭ ‬كبير‭ ‬مكتبة،‭ ‬لأنه‭ ‬كان‭ ‬من‭ ‬عادة‭ ‬العلماء‭ ‬أن‭ ‬يوقفوا‭ ‬كتبهم‭ ‬على‭ ‬الجوامع،‭ ‬ويقال‭: ‬إن‭ ‬خزانة‭ ‬كتب‭ ‬بمرو‭ - ‬إحدى‭ ‬مدن‭ ‬تركمانستان‭ - ‬كانت‭ ‬تحوي‭ ‬كتب‭ ‬يزدجرد؛‭ ‬لأنه‭ ‬حملها‭ ‬إليها‭ ‬وتركهاب‭... ‬وكان‭ ‬الملوك‭ ‬يفاخرون‭ ‬بجمع‭ ‬الكتب‭ ‬حتى‭ ‬كان‭ ‬لكلّ‭ ‬ملك‭ ‬من‭ ‬ملوك‭ ‬الإسلام‭ ‬الثلاثة‭ ‬الكبار‭ ‬بمصر‭ ‬وقرطبة‭ ‬وبغداد‭ ‬في‭ ‬أواخر‭ ‬القرن‭ ‬الرابع‭ ‬ولعٌ‭ ‬شديد‭ ‬للكتب،‭ ‬فكان‭ ‬الحكم‭ ‬بن‭ ‬هشام‭ ‬ت‭ ‬206هـ‭/ ‬822‭ ‬م‭ ‬صاحب‭ ‬الأندلس‭ ‬يبعث‭ ‬رجاله‭ ‬إلى‭ ‬جميع‭ ‬بلاد‭ ‬المشرق‭ ‬ليشتروا‭ ‬له‭ ‬الكتب‭ ‬عند‭ ‬أول‭ ‬ظهورها،‭ ‬وكان‭ ‬فهرس‭ ‬مكتبته‭ ‬يتألف‭ ‬من‭ ‬أربع‭ ‬وأربعين‭ ‬كراسا،‭ ‬كلّ‭ ‬منها‭ ‬عشرون‭ ‬ورقة،‭ ‬ولم‭ ‬يكن‭ ‬بها‭ ‬سوى‭ ‬أسماء‭ ‬الكتب‭.‬

‭ ‬أما‭ ‬في‭ ‬مصر‭ ‬فكان‭ ‬للخليفة‭ ‬العزيز‭ ‬ذ‭ ‬ت‭: ‬386هـ‭/ ‬996م‭- ‬خزانة‭ ‬كتب‭ ‬كبيرة؛‭ ‬وقد‭ ‬ذُكر‭ ‬عنده‭ ‬كتاب‭ ‬العين‭ ‬للخليل‭ ‬بن‭ ‬أحمد‭ ‬الفراهيدي‭ ‬فأمر‭ ‬خزّان‭ ‬دفاتره،‭ ‬فأخرجوا‭ ‬من‭ ‬خزائنه‭ ‬ثلاثين‭ ‬نسخة‭ ‬ونيفا،‭ ‬منها‭ ‬نسخة‭ ‬بخط‭ ‬الخليل‭ ‬بن‭ ‬أحمد‭ ‬نفسه‭! ‬وحمل‭ ‬إليه‭ ‬رجل‭ ‬نسخة‭ ‬من‭ ‬تاريخ‭ ‬الطبري‭ ‬اشتراها‭ ‬بمائة‭ ‬دينار؛‭ ‬فأمر‭ ‬العزيز‭ ‬الخزّان،‭ ‬فأخرجوا‭ ‬ما‭ ‬ينيف‭ ‬على‭ ‬عشرين‭ ‬نسخة‭ ‬من‭ ‬تاريخ‭ ‬الطبري‭ ‬منها‭ ‬نسخة‭ ‬بخطه‭! ‬وذكر‭ ‬عنده‭ ‬كتاب‭ ‬الجمهرة‭ ‬لابن‭ ‬دريد،‭ ‬فأخرج‭ ‬من‭ ‬الخزانة‭ ‬مائة‭ ‬نسخة‭ ‬منه‭!‬

‭ ‬وقد‭ ‬أراد‭ ‬بعض‭ ‬المؤرخين‭ ‬أن‭ ‬يقدروا‭ ‬عدد‭ ‬ما‭ ‬كانت‭ ‬تشتمل‭ ‬عليه‭ ‬هذه‭ ‬الخزانة،‭ ‬فيقول‭ ‬المقريزي‭: ‬إنها‭ ‬كانت‭ ‬تشتمل‭ ‬على‭ ‬ألف‭ ‬وستمائة‭ ‬ألف‭ ‬كتاب،‭ ‬ويُذكر‭ ‬عن‭ ‬ابن‭ ‬أبي‭ ‬واصل‭ ‬أنه‭ ‬كان‭ ‬بها‭ ‬ما‭ ‬يزيد‭ ‬على‭ ‬مائة‭ ‬وعشرين‭ ‬ألف‭ ‬مجلد،‭ ‬وقال‭ ‬ابن‭ ‬الطوير‭: ‬اإن‭ ‬خزانة‭ ‬الكتب‭ ‬كانت‭ ‬تحتوي‭ ‬على‭ ‬عدة‭ ‬رفوف،‭ ‬والرفوف‭ ‬مقطعة‭ ‬بحواجز،‭ ‬وعلى‭ ‬كلّ‭ ‬حاجز‭ ‬باب‭ ‬مقفل‭ ‬بمفصلات‭.. ‬وفيها‭ ‬من‭ ‬أصناف‭ ‬الكتب‭ ‬ما‭ ‬يزيد‭ ‬على‭ ‬مائتي‭ ‬ألف‭ ‬كتابب‭.‬

‭ ‬وفي‭ ‬هذا‭ ‬الوقت‭ ‬الذي‭ ‬بلغ‭ ‬فيه‭ ‬وَلًهُ‭ ‬المسلمين‭ ‬بالكتاب‭ ‬مبلغه،‭ ‬كانت‭ ‬أوربا‭ ‬سادرة‭ ‬في‭ ‬غيبوبة‭ ‬نومها‭ ‬العميق،‭ ‬غير‭ ‬عابئة‭ ‬ولا‭ ‬مكترثة‭ ‬بعلم‭ ‬أو‭ ‬معرفة‭ ‬أو‭ ‬ثقافة،‭ ‬وحتى‭ ‬النزر‭ ‬اليسير‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬قد‭ ‬بلغها‭ ‬حينئذ‭ - ‬إنما‭ ‬كان‭ ‬عن‭ ‬طريق‭ ‬الجامعات‭ ‬العربية‭ ‬والإسلامية‭ ‬بالأندلس،‭ ‬لذا‭ ‬لا‭ ‬نعجب‭ ‬كثيرا‭ ‬إذا‭ ‬ما‭ ‬وجدنا‭ ‬إبان‭ ‬الفترة‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تواكب‭ ‬القرن‭ ‬الرابع‭ ‬الهجري‭ ‬وما‭ ‬تلا‭ ‬ذلك‭ ‬بقليل‭ - ‬أن‭ ‬مكتبة‭ ‬الكاتدرائية‭ ‬بمدينة‭ ‬اكنستانزب‭ (‬مدينة‭ ‬تقع‭ ‬في‭ ‬أقصى‭ ‬جنوب‭ ‬ألمانيا‭ ‬مع‭ ‬الحدود‭ ‬السويسرية‭) ‬في‭ ‬القرن‭ ‬التاسع‭ ‬الميلادي‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬بها‭ ‬إلا‭ ‬ثمانمائة‭ ‬وستة‭ ‬وخمسون‭ ‬كتابا،‭ ‬ولم‭ ‬يكن‭ ‬في‭ ‬خزانة‭ ‬كتب‭ ‬الكاتدرائية‭ ‬بمدينة‭ ‬ابامرجب‭ ‬سنة‭ ‬1130م‭ ‬إلا‭ ‬ستة‭ ‬وتسعون‭ ‬كتابا‭ ‬فقط،‭ ‬بينما‭ ‬كانت‭ ‬مكتبة‭ ‬ادير‭ ‬البندكتينب‭ (‬بألمانيا‭) ‬سنة‭ ‬1032م‭ ‬تتضمن‭ ‬ما‭ ‬ينيف‭ ‬بقليل‭ ‬على‭ ‬المائة‭ ‬كتاب‭.‬

 

صرعى‭ ‬ميادين‭ ‬الكتاب‭ ‬والعلم

‭ ‬ويندر‭ ‬في‭ ‬تاريخ‭ ‬حضارات‭ ‬الأمم‭ ‬والشعوب‭ ‬التي‭ ‬نعرفها،‭ ‬أن‭ ‬نعثر‭ ‬على‭ ‬صرعى‭ ‬سقطوا‭ ‬في‭ ‬ساحات‭ ‬المكتبات‭ ‬وميادين‭ ‬الكتاب‭ ‬والعلم،‭ ‬كما‭ ‬هو‭ ‬الأمر‭ ‬في‭ ‬حضارتنا‭ ‬إذْ‭ ‬يروي‭ ‬التاريخ‭ ‬أن‭ ‬الجاحظ،‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬لا‭ ‬يقع‭ ‬كتاب‭ ‬بيده‭ ‬إلا‭ ‬استوفى‭ ‬قراءته،‭ ‬حتى‭ ‬إنه‭ ‬كان‭ ‬يكتري‭ ‬دكاكين‭ ‬الوراقين‭ ‬ويبيت‭ ‬فيها‭ ‬للنظر،‭ ‬قد‭ ‬مات‭ ‬في‭ ‬حبّ‭ ‬الكتب‭ ‬والمكتبات‭! ‬حيث‭ ‬روي‭ ‬أنه‭ ‬مات‭ ‬بوقوع‭ ‬مجلدات‭ ‬عليه؛‭ ‬وكان‭ ‬من‭ ‬عادته‭ ‬أن‭ ‬يضعها‭ ‬كالحائط‭ ‬محيطة‭ ‬به‭ ‬وهو‭ ‬جالس‭ ‬القرفصاء‭ ‬بينها،‭ ‬وكان‭ ‬عليلا‭ ‬ومصابًا‭ ‬بالفالج‭ ‬فسقطت‭ ‬فجأة‭ ‬عليه‭ ‬فقتلته‭.‬‭ ‬وهو‭ ‬الذي‭ ‬وصف‭ ‬الكتاب‭ ‬وصفا‭ ‬لم‭ ‬يسبقه‭ ‬إليه‭ ‬ولم‭ ‬يلحقه‭ ‬به‭ ‬أحد‭.‬

‭ ‬ولعل‭ ‬ما‭ ‬نشاهده‭ ‬اليوم‭ ‬لدى‭ ‬بعض‭ ‬الأمم‭ ‬المتقدمة‭ ‬من‭ ‬ولع‭ ‬بالقراءة‭ ‬والمطالعة‭ ‬في‭ ‬الحدائق‭ ‬والساحات‭ ‬العامة‭ ‬وحتى‭ ‬في‭ ‬عربات‭ ‬القطارات‭ ‬وفي‭ ‬الطائرات‭ ‬والحافلات‭..‬إلخ،‭ ‬هو‭ ‬أثر‭ ‬من‭ ‬آثار‭ ‬الحضارة‭ ‬العربية‭ ‬الإسلامية‭ ‬في‭ ‬حقب‭ ‬الازدهار‭ ‬والإيناع‭ ‬والسؤدد،‭ ‬فقد‭ ‬كان‭ ‬المسلمون‭ ‬مولعين‭ ‬بالقراءة‭ ‬وحب‭ ‬الكتاب‭ ‬واصطحابه‭ ‬بتحدّ‭ ‬يفوق‭ ‬التصور؛‭ ‬إذ‭ ‬يُحكى‭ ‬عن‭ ‬الفتح‭ ‬بن‭ ‬خاقان‭  ‬وكان‭ ‬من‭ ‬كبار‭ ‬رجال‭ ‬دار‭ ‬الخلافة‭ - ‬أنه‭ ‬كان‭ ‬يحضر‭ ‬لمجالسة‭ ‬المتوكل،‭ ‬فإذا‭ ‬أراد‭ ‬المتوكل‭ ‬القيام‭ ‬لحاجة‭ ‬ما،‭ ‬أخرج‭ ‬الفتح‭ ‬كتابا‭ ‬من‭ ‬كمّه‭ ‬أو‭ ‬ردنه‭ ‬وقرأه‭ ‬في‭ ‬مجلس‭ ‬المتوكل‭ ‬حتى‭ ‬عودته‭ ‬إليه‭. ‬وفي‭   ‬سنة‭ ‬275هـ‭/ ‬888م‭ ‬توفي‭ ‬سليمان‭ ‬بن‭ ‬الأشعث‭ ‬السجستاني‭ ‬المحدّث‭ ‬المشهور‭ ‬بأبي‭ ‬داود،‭ ‬وكان‭ ‬له‭ ‬كُمّان‭: ‬كمّ‭ ‬واسع‭ ‬وكم‭ ‬ضيق،‭ ‬فقيل‭ ‬له‭ ‬في‭ ‬ذلك،‭ ‬فقال‭ ‬الواسع‭ ‬للكتب‭ ‬والآخر‭ ‬لا‭ ‬أحتاج‭ ‬إليه‭! ‬

وفي‭ ‬هذا‭ ‬الصدد‭ ‬يروي‭ ‬التاريخ‭ ‬أيضا‭ ‬أنه‭ ‬في‭ ‬سنة‭ ‬355هـ‭/‬965م،‭ ‬نهب‭ ‬قومٌ‭ ‬من‭ ‬الغزاة‭ ‬دار‭ ‬الوزير‭ ‬أبي‭ ‬الفضل‭ ‬بن‭ ‬العميد،‭ ‬فلما‭ ‬انصرف‭ ‬إلى‭ ‬داره‭ ‬ليلا‭ ‬لم‭ ‬يجد‭ ‬فيها‭ ‬ما‭ ‬يجلس‭ ‬عليه‭ ‬ولا‭ ‬حتى‭ ‬كوزا‭ ‬واحدا‭ ‬يشرب‭ ‬منه‭ ‬الماء؛‭ ‬وكان‭ ‬ابن‭ ‬مسكويه‭ ‬المؤرخ‭ ‬خازنا‭ ‬لكتب‭ ‬ابن‭ ‬العميد‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬الحين،‭ ‬وقد‭ ‬روى‭ ‬هذه‭ ‬القصة،‭ ‬فقال‭: ‬افأنفذ‭ ‬إليه‭ ‬أبو‭ ‬حمزة‭ ‬العلوي‭ ‬فرشا‭ ‬وآلة،‭ ‬واشتغل‭ ‬قلب‭ ‬الوزير‭ ‬ابن‭ ‬العميد‭ ‬بكتبه‭ ‬ودفاتره،‭ ‬ولم‭ ‬يكن‭ ‬شيئا‭ ‬أعزّ‭ ‬عليه‭ ‬منها،‭ ‬وكانت‭ ‬كثيرة‭ ‬فيها‭ ‬كلّ‭ ‬علم‭ ‬وكل‭ ‬أنواع‭ ‬الحِكم‭ ‬والآداب،‭ ‬تُحمل‭ ‬على‭ ‬مائة‭ ‬وِقْرٍ‭ (‬حِمْل‭)‬،‭ ‬فلما‭ ‬رآني‭ ‬سألني‭ ‬عنها،‭ ‬فقلت‭: ‬هي‭ ‬بحالها‭ ‬لم‭ ‬تمسسها‭ ‬يد،‭ ‬فسُرّي‭ ‬عنه،‭ ‬وقال‭: ‬أشهد‭ ‬أنك‭ ‬ميمون‭ ‬النقيبة،‭ ‬ورأيته‭ ‬قد‭ ‬أسفر‭ ‬وجهه‭ (‬أضاء‭ ‬وأشرق‭)‬،‭ ‬وقال‭: ‬باكر‭ ‬بها‭ ‬غدا‭ ‬إلى‭ ‬الموضع‭ ‬الفولاني،‭ ‬ففعلتب‭.‬

‭ ‬فليس‭ ‬غريبا‭ ‬إذن‭ ‬أن‭ ‬يقول‭ ‬شاعر‭ ‬العربية‭ ‬المتنبي‭ ‬مصورًا‭ ‬أحوال‭ ‬هؤلاء‭ ‬القوم‭ ‬إضافة‭ ‬إلى‭ ‬شعوره‭ ‬الذاتي‭ ‬إزاء‭ ‬الكتاب‭: ‬

أعزّ‭ ‬مكان‭ ‬في‭ ‬الدنا‭ ‬سرج‭ ‬سابح

وخير‭ ‬جليس‭ ‬في‭ ‬الزمان‭ ‬كتاب

ونحن‭ ‬اليوم‭ ‬حين‭ ‬نقرأ‭ ‬مثل‭ ‬هذه‭ ‬الروايات‭ ‬ليبلغ‭ ‬منا‭ ‬العجب‭ ‬مبلغه،‭ ‬بل‭ ‬إن‭ ‬الواحد‭ ‬منا‭ ‬لا‭ ‬يكاد‭ ‬ينطق‭ ‬بكلمة‭ ‬إلا‭ ‬بتمتمات‭ ‬الإعجاب‭ ‬بعظمة‭ ‬تلك‭ ‬الأجيال‭ ‬من‭ ‬الأسلاف‭ ‬التي‭ ‬ارتفعت‭ ‬بالمعرفة‭ ‬إلى‭ ‬الشأو‭ ‬الذي‭ ‬دعت‭ ‬إليه‭ ‬قيمُ‭ ‬حضارتنا‭ ‬ومبادؤها،‭ ‬وكنا‭ ‬نحن‭ ‬الوارثين‭ ‬الذين‭ ‬أضاعوا‭ ‬وفرطوا‭ ‬إلا‭ ‬من‭ ‬رحم‭ ‬الله،‭ ‬كالمنفلوطي‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬يقول‭ ‬في‭ ‬شموخ‭ ‬وثقة‭: ‬اخير‭ ‬الأوقات‭ ‬حينما‭ ‬أغلق‭ ‬عليّ‭ ‬بابي‭ ‬وأسلم‭ ‬نفسي‭ ‬إلى‭ ‬كتابيب‭.‬

 

إعارة‭ ‬الكتب‭ ‬وشروطها‭ ‬في‭ ‬حضارتنا

‭ ‬ومن‭ ‬الحرص‭ ‬على‭ ‬الكتاب‭ ‬والاعتناء‭ ‬به‭ ‬انبثقت‭ ‬في‭ ‬الحضارة‭ ‬العربية‭ ‬الإسلامية‭ ‬عدة‭ ‬أنظمة‭ ‬تقوم‭ ‬في‭ ‬مجملها‭ ‬على‭ ‬خدمة‭ ‬الكتاب،‭ ‬كالنسخ‭ ‬والإعارة‭ ‬وإعداد‭ ‬الفهارس‭ ‬والتصنيف‭...‬إلخ،‭   ‬ونحن‭ ‬نكتفي‭ ‬هنا‭ ‬بالحديث‭ ‬عن‭ ‬نظام‭ ‬أو‭ ‬طرائق‭ ‬إعارة‭ ‬الكتب،‭ ‬والضوابط‭ ‬التنظيمية‭ ‬التي‭ ‬وُضعت‭ ‬لهذه‭ ‬المسألة،‭ ‬لكونها‭ ‬تكاد‭ ‬تكون‭ ‬لصيقة‭ ‬بالواقع‭ ‬العملي‭ ‬لطلاب‭ ‬العلم‭ ‬والأدب‭ ‬والمولعين‭ ‬بالفكر‭ ‬والمعرفة‭.‬

ونظام‭ ‬إعارة‭ ‬الكتب‭ ‬نظامٌ‭ ‬يُعنى‭ ‬بكيفية‭ ‬انتقال‭ ‬الكتب‭ ‬من‭ ‬المكتبات‭ ‬العامة‭ ‬إلى‭ ‬المشتغلين‭ ‬بالعلم‭ ‬والتعليم،‭ ‬أو‭ ‬إلى‭ ‬المشغوفين‭ ‬بالمعرفة‭ ‬والتثقيف‭. ‬وقد‭ ‬كان‭ ‬هذا‭ ‬الأمر‭ ‬موضع‭ ‬خلاف‭ ‬أو‭ ‬تباين‭ ‬بين‭ ‬جمهور‭ ‬فقهاء‭ ‬وعلماء‭ ‬الأمة‭. ‬وقد‭ ‬ذهب‭ ‬بعضهم‭ ‬إلى‭ ‬وجوب‭ ‬إعارة‭ ‬الكتب‭ ‬للمحتاجين‭ ‬إليها‭ ‬لقول‭ ‬الله‭ ‬تعالى‭: ‬‭{‬إِنَّ‭ ‬الَّذِينَ‭ ‬يَكْتُمُونَ‭ ‬مَا‭ ‬أَنزَلْنَا‭ ‬مِنَ‭ ‬الْبَيِّنَاتِ‭ ‬وَالْهُدَى‭ ‬مِن‭ ‬بَعْدِ‭ ‬مَا‭ ‬بَيَّنَّاهُ‭ ‬لِلنَّاسِ‭ ‬فِي‭ ‬الْكِتَابِ‭ ‬أُولَئِكَ‭ ‬يَلعَنُهُمُ‭ ‬اللّهُ‭ ‬وَيَلْعَنُهُمُ‭ ‬اللَّاعِنُونَ‭}‬‭ ‬البقرة‭ ‬159‭. ‬وكذلك‭ ‬لقول‭ ‬النبي‭ ‬صلى‭ ‬الله‭ ‬عليه‭ ‬وسلم‭:  ‬امَن‭ ‬سُئل‭ ‬عن‭ ‬علم‭ ‬فكتمه‭ ‬ألجم‭ ‬يوم‭ ‬القيامة‭ ‬بلجام‭ ‬من‭ ‬نارب‭ (‬رواه‭ ‬ابن‭ ‬ماجه‭ ‬والحاكم‭).‬

‭ ‬لكن‭ ‬حسب‭ ‬علم‭ ‬اأسباب‭ ‬النزولب‭ ‬فإن‭ ‬الآية‭ ‬الكريمة‭ ‬سالفة‭ ‬الذكر‭ ‬قد‭ ‬نزلت‭ ‬في‭ ‬أهل‭ ‬الكتاب‭ ‬من‭ ‬أحبار‭ ‬اليهود‭ ‬وعلماء‭ ‬النصارى،‭ ‬إلا‭ ‬أنهم‭ ‬قالوا‭ ‬إن‭ ‬الآية‭ ‬هنا‭ ‬تفيد‭ ‬العموم؛‭ ‬لأن‭ ‬العبرة‭ ‬بعموم‭ ‬اللفظ‭ ‬لا‭ ‬بخصوص‭ ‬السبب‭. ‬فقد‭ ‬قال‭ ‬المفسر‭ ‬أبو‭ ‬بكر‭ ‬الجصاص‭: ‬ادلت‭ ‬هذه‭ ‬الآية‭ ‬على‭ ‬لزوم‭ ‬إظهار‭ ‬العلم،‭ ‬وترك‭ ‬كتمانهب‭.‬

مما‭ ‬يدل‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬مسألة‭ ‬إعارة‭ ‬الكتب‭ ‬قد‭ ‬أثارت‭ ‬بعض‭ ‬الجدل‭ ‬الفقهي‭ ‬أو‭ ‬المناظرات‭ ‬الفكرية‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬نجده‭ ‬واضحًا‭ ‬في‭ ‬مؤلفات‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬المتقدمين‭ ‬التربوية‭ ‬والفقهية‭ ‬وغيرها‭. ‬

وقد‭ ‬جمع‭ ‬التربوي‭ ‬المسلم‭ ‬عبد‭ ‬الباسط‭ ‬العلموي‭ ‬ذ‭ ‬ت‭: ‬981هـ‭/‬1573م‭- ‬بعض‭ ‬تلك‭ ‬الآراء‭ ‬في‭ ‬كتابه‭ ‬االمعيد‭ ‬في‭ ‬أدب‭ ‬المفيد‭ ‬والمستفيدب،‭ ‬فقال‭: ‬يُستحب‭ ‬إعارة‭ ‬الكتب‭ ‬لمن‭ ‬لا‭ ‬ضرر‭ ‬عليه‭ ‬فيها‭ ‬ممن‭ ‬لا‭ ‬ضرر‭ ‬منه‭ ‬بها‭. ‬وكره‭ ‬عاريتها‭ ‬قوم،‭ ‬والأول‭ ‬هو‭ ‬الأصح‭ ‬المختار‭ ‬لما‭ ‬فيه‭ ‬من‭ ‬الإعانة‭ ‬على‭ ‬العلم‭ ‬مع‭ ‬ما‭ ‬في‭ ‬مطلق‭ ‬العارية‭ ‬من‭ ‬الفضل‭ ‬والأجر‭. ‬وقد‭ ‬روي‭ ‬عن‭ ‬وكيع‭: ‬أول‭ ‬بركة‭ ‬الحديث‭ ‬إعارة‭ ‬الكتاب‭. ‬وعن‭ ‬سفيان‭ ‬الثوري‭: ‬من‭ ‬بخل‭ ‬بالعلم‭ ‬ابتلي‭ ‬بإحدى‭ ‬ثلاث‭: ‬أن‭ ‬ينساه،‭ ‬أو‭ ‬يموت‭ ‬فلا‭ ‬ينتفع‭ ‬به،‭ ‬أو‭ ‬تذهب‭ ‬كتبه‭. ‬وقال‭ ‬رجل‭ ‬لأبي‭ ‬العتاهية‭: ‬أعرني‭ ‬كتابك،‭ ‬فقال‭: ‬إني‭ ‬أكره‭ ‬ذلك‭ ‬فقال‭: ‬أمَا‭ ‬علمت‭ ‬أن‭ ‬المكارم‭ ‬موصولة‭ ‬بالمكاره؟‭ ‬فأعاره‭.‬

ثم‭ ‬ذكر‭ ‬العلموي‭ ‬بعض‭ ‬الآداب‭ ‬التي‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬تراعى‭ ‬من‭ ‬الطرفين،‭ ‬وخاصة‭ ‬من‭ ‬المستعير،‭ ‬فقال‭: ‬اوإذا‭ ‬استعار‭ ‬كتابا‭ ‬فلا‭ ‬يبطئ‭ ‬به‭ ‬من‭ ‬غير‭ ‬حاجة،‭ ‬وإذا‭ ‬طلبه‭ ‬المالك‭ ‬فيُحرم‭ ‬حبسه،‭ ‬وقد‭ ‬جاء‭ ‬في‭ ‬ذمّ‭ ‬الإبطاء‭ ‬بردّ‭ ‬الكتب‭ ‬المستعارة‭ ‬عن‭ ‬السلف‭ ‬أشياء‭ ‬كثيرة‭ ‬نظما‭ ‬ونثرا‭ ‬رويناها‭ ‬في‭ ‬كتاب‭ ‬االخطيب‭ ‬الجامع‭ ‬لأخلاق‭ ‬الراوي‭ ‬والسامعب،‭ ‬منها‭ ‬عن‭ ‬الزهري‭: ‬إياك‭ ‬وغلول‭ ‬الكتب،‭ ‬وهو‭ ‬حبسها‭ ‬عن‭ ‬أصحابها‭. ‬إذ‭ ‬بسبب‭ ‬حبسها‭ ‬امتنع‭ ‬غير‭ ‬واحد‭ ‬من‭ ‬إعارتهاب‭.‬

وقد‭ ‬قال‭ ‬أحد‭ ‬الشعراء‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الخصوص‭:‬

أيها‭ ‬المستعير‭ ‬مني‭ ‬كتابا

أرضَ‭ ‬لي‭ ‬فيه‭ ‬ما‭ ‬لنفسك‭ ‬ترضى‭ ‬

وقال‭ ‬آخر‭:‬

أيها‭ ‬المستعير‭ ‬الكتاب‭ ‬منّي‭ ‬

فـإن‭ ‬إعـارتي‭ ‬للكتب‭ ‬عار

ومحبوبي‭ ‬من‭ ‬الدنيا‭ ‬كتاب

‭ ‬وهل‭ ‬أبصرت‭ ‬محبوبًا‭ ‬يُعار

أما‭ ‬المعاصرون‭ ‬من‭ ‬علماء‭ ‬المسلمين‭ ‬فقد‭ ‬حققوا‭ ‬في‭ ‬الأمر،‭ ‬ولم‭ ‬يكتفوا‭ ‬بما‭ ‬بَسَطه‭ ‬السابقون‭ ‬من‭ ‬الأسلاف؛‭ ‬وإنما‭ ‬وضعوا‭ ‬له‭ ‬ضوابط‭ ‬وشروطا،‭ ‬ومن‭ ‬هؤلاء‭ ‬الدكتور‭ ‬يوسف‭ ‬القرضاوي‭ ‬الذي‭ ‬يرى‭ ‬في‭ ‬كتابه‭ ‬االرسول‭ ‬والعلمب‭ ‬وجوب‭ ‬إعارة‭ ‬الكتب‭ ‬لطلاب‭ ‬العلم‭ ‬إذا‭ ‬احتاجوا‭ ‬إليها،‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬الوجوب‭ ‬كما‭ ‬قال‭- ‬مقيد‭ ‬بهذه‭ ‬الشروط‭ ‬المهمة‭:‬

‭- ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬طالب‭ ‬الكتاب‭ ‬في‭ ‬حاجة‭ ‬حقيقية‭ ‬إليه‭ ‬لا‭ ‬يغني‭ ‬عنه‭ ‬غيره‭.‬

‭- ‬ألا‭ ‬توجد‭ ‬مكتبات‭ ‬عامة‭ ‬تمكّنه‭ ‬من‭ ‬استعارة‭ ‬الكتاب‭ ‬منها‭ ‬خارجيا‭ ‬أو‭ ‬داخليا‭.‬

‭- ‬ألا‭ ‬يستطيع‭ ‬شراء‭ ‬الكتاب،‭ ‬لعدم‭ ‬وجوده‭ ‬في‭ ‬السوق،‭ ‬أو‭ ‬لعجزه‭ ‬عن‭ ‬شرائه‭.‬

‭- ‬ألا‭ ‬يكون‭ ‬شخصًا‭ ‬معروفا‭ ‬بالإهمال‭ ‬وإضاعة‭ ‬الكتب‭ ‬أو‭ ‬تعريضها‭ ‬للتلف‭.‬

‭- ‬ألا‭ ‬يكون‭ ‬صاحب‭ ‬الكتاب‭ ‬بحاجة‭ ‬إليه،‭ ‬لأن‭ ‬حاجته‭ ‬مقدمة‭ ‬على‭ ‬حاجة‭ ‬غيره‭.‬

وصفوة‭ ‬القول‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬السياق‭ ‬أنه‭ ‬يمكن‭ ‬القول‭ ‬إن‭ ‬هذا‭ ‬الاهتمام‭ ‬بمسألة‭ ‬إعارة‭ ‬الكتب‭ ‬يعكس‭ ‬وجها‭ ‬آخر‭ ‬من‭ ‬وجوه‭ ‬التكريم‭ ‬العلمي‭ ‬في‭ ‬التفكير‭ ‬العربي‭ ‬والإسلامي،‭ ‬كما‭ ‬يعكس‭ ‬الاهتمام‭ ‬البالغ‭ ‬الذي‭ ‬أولته‭ ‬حضارتنا‭ ‬للعلم‭ ‬والفكر‭ ‬وطرائق‭ ‬تحصيله،‭ ‬وأساليب‭ ‬تداوله‭.‬

 

شغف‭ ‬عام‭ ‬بالكتاب

‭ ‬من‭ ‬مزايا‭ ‬الحضارة‭ ‬العربية‭ ‬الإسلامية‭ ‬أنها‭ ‬لم‭ ‬تقصر‭ ‬إدخال‭ ‬حب‭ ‬الكتب‭ ‬إلى‭ ‬قلوب‭ ‬العلماء‭ ‬وحدهم،‭ ‬ولكنها‭ ‬أفلحت‭ ‬في‭ ‬بذر‭ ‬هذا‭ ‬الحب‭ ‬وإشاعته‭ ‬لدى‭ ‬الجميع،‭ ‬ومن‭ ‬كلّ‭ ‬الطبقات‭ ‬والمستويات،‭ ‬حتى‭ ‬غدا‭ ‬عشق‭ ‬الكتاب‭ ‬صفة‭ ‬عامة‭: ‬امن‭ ‬أكبر‭ ‬كبراء‭ ‬الدولة‭ ‬إلى‭ ‬بائع‭ ‬الفحمب‭. ‬وقد‭ ‬اعترف‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬المؤرخين‭ ‬والمستشرقين‭ ‬في‭ ‬الغرب‭ ‬بأصالة‭ ‬الحضارة‭ ‬الإسلامية‭ ‬وتميّزها‭ ‬في‭ ‬التعامل‭ ‬مع‭ ‬الكتاب‭ ‬بوصفه‭ ‬آلة‭ ‬العلم‭ ‬وسبيل‭ ‬المعرفة‭ ‬والرقي‭.‬

‭ ‬تقول‭ ‬المستشرقة‭ ‬والباحثة‭ ‬الألمانية‭ ‬الراحلة‭ ‬زيجريد‭ ‬هونكة‭: ‬القد‭ ‬أقبل‭ ‬العرب‭ ‬على‭ ‬اقتناء‭ ‬الكتب‭ ‬إقبالا‭ ‬منقطع‭ ‬النظير،‭ ‬يشبه‭ ‬إلى‭ ‬حد‭ ‬كبير،‭ ‬شغف‭ ‬الناس‭ ‬في‭ ‬عصرنا‭ ‬هذا‭ ‬باقتناء‭ ‬السيارات‭ ‬والثلاجات‭ ‬وأجهزة‭ ‬التلفاز‭. ‬وكما‭ ‬يقاس‭ ‬ثراء‭ ‬الناس‭ ‬اليوم،‭ ‬بمدى‭ ‬ما‭ ‬يملكون‭ ‬من‭ ‬عربات‭ ‬فاخرة‭ ‬مثلا،‭ ‬قدّر‭ ‬الناس‭ - ‬أي‭ ‬العرب‭ ‬والمسلمون‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬العصر‭ ‬الممتد‭ ‬من‭ ‬القرن‭ ‬التاسع‭ ‬حتى‭ ‬القرن‭ ‬الثالث‭ ‬عشر‭- ‬الثراء‭ ‬بمدى‭ ‬ما‭ ‬يُقتنى‭ ‬من‭ ‬كتب‭ ‬أو‭ ‬مخطوطات،‭ ‬فنمت‭ ‬دور‭ ‬الكتب‭ ‬في‭ ‬كلّ‭ ‬مكان‭ ‬نموّ‭ ‬العشب‭ ‬في‭ ‬الأرض‭ ‬الطيبة،‭ ‬وكان‭ ‬بإمكان‭ ‬أي‭ ‬شخص‭ ‬من‭ ‬الناس‭ ‬استعارة‭ ‬ما‭ ‬يشاء‭ ‬من‭ ‬الكتب،‭ ‬وأن‭ ‬يجلس‭ ‬بقاعات‭ ‬المطالعة‭ ‬ليقرأ‭ ‬ما‭ ‬يريد،‭ ‬كما‭ ‬كان‭ ‬المترجمون‭ ‬والمؤلفون‭ ‬يجتمعون‭ ‬في‭ ‬قاعات‭ ‬خُصّصت‭ ‬لهم‭ ‬يتجادلون‭ ‬ويتناقشون‭ ‬كما‭ ‬يحدث‭ ‬اليوم‭ ‬في‭ ‬أرقى‭ ‬الأندية‭ ‬العلميةب‭.‬

‭ ‬إن‭ ‬حب‭ ‬العرب‭ ‬والمسلمين‭ ‬للكتاب‭ ‬أيام‭ ‬المجد‭ ‬الحضاري‭ - ‬بلغ‭ ‬شأوا‭ ‬لا‭ ‬يكاد‭ ‬يدرك‭ ‬اليوم‭ ‬حتى‭ ‬لدى‭ ‬أكثر‭ ‬الأمم‭ ‬تقدما‭ ‬ونهوضا،‭ ‬وتعلقا‭ ‬بأساليب‭ ‬المعرفة‭ ‬والتثقيف‭. ‬وهو‭ ‬أمر‭ ‬ثابت،‭ ‬بل‭ ‬هو‭ ‬صفة‭ ‬أقرّها‭ ‬كلّ‭ ‬الدارسين‭ ‬للتاريخ‭ ‬بغضّ‭ ‬النظر‭ ‬عن‭ ‬أديانهم‭ ‬واتجاهاتهم‭ ‬ومعتقداتهم‭.‬

‭ ‬ومما‭ ‬يلاحظ‭ ‬أيضا‭ ‬أن‭ ‬اهتمام‭ ‬الدولة‭ ‬في‭ ‬تاريخ‭ ‬الحضارة‭ ‬العربية‭ ‬الإسلامية‭  ‬بالفكر‭ ‬والعلم‭  ‬والتنوير‭ ‬كان‭ ‬مجسدا‭ ‬على‭ ‬وجه‭ ‬الخصوص‭ ‬في‭ ‬الاهتمام‭ ‬بالمكتبة،‭ ‬حتى‭ ‬ليمكن‭ ‬القول‭ ‬إن‭ ‬نشاط‭ ‬قسم‭ ‬انسخ‭ ‬المخطوطاتب‭ - ‬خلال‭ ‬بعض‭ ‬العصور‭ ‬الإسلامية‭ - ‬كان‭ ‬كأنه‭ ‬االمطبعةب‭ ‬قبل‭ ‬قرون‭ ‬طويلة‭ ‬من‭ ‬اختراع‭ ‬جوتنبرج‭ ‬للطباعة‭.‬‭ ‬

‭ ‬ولا‭ ‬شك‭ ‬أن‭ ‬ذلك‭ ‬كله‭ ‬يعكس‭ ‬بجلاء‭ ‬ووضوح‭ ‬الصفة‭ ‬العلمية‭ ‬والمعرفية‭ ‬كمرتكز‭ ‬رئيس‭ ‬وأساس‭ ‬مكين‭ ‬لهذه‭ ‬الحضارة‭ . ‬فهل‭ ‬تعرف‭ ‬الأجيال‭ ‬الجديدة‭ ‬في‭ ‬أمتنا‭ ‬هذه‭ ‬الحقائق‭ ‬وهذه‭ ‬الخصال‭ ‬الحميدة‭ ‬التي‭ ‬تحلّى‭ ‬بها‭ ‬الأسلاف؟

إن‭ ‬القراءة‭ ‬لدينا‭ ‬في‭ ‬تراجع‭ ‬كما‭ ‬تفيد‭ ‬كشوفات‭ ‬مسح‭ ‬الآراء‭ ‬وسبر‭ ‬الاتجاهات،‭ ‬وهو‭ ‬أمر‭ ‬على‭ ‬درجة‭ ‬كبيرة‭ ‬جدا‭ ‬من‭ ‬العوار‭ ‬والعيب‭ ‬والخطورة‭. ‬وأملنا‭ ‬كبير‭ ‬أن‭ ‬تُعيد‭ ‬هذه‭ ‬الأجيال‭ ‬ترتيب‭ ‬علاقتها‭ ‬بالقراءة‭ ‬والكتاب،‭ ‬وأعتقد‭ ‬أن‭ ‬هذه‭ ‬مهمة‭ ‬الأمة‭ ‬بكلّ‭ ‬مؤسساتها‭ .