الشاعر عيسى مطر (1910-1992م)

الشاعر عيسى مطر (1910-1992م)

حين‭ ‬ترجع‭ ‬بي‭ ‬ذاكرتي‭ ‬إلى‭ ‬مقاعد‭ ‬الدراسة‭ ‬في‭ ‬المدرسة‭ ‬الشرقية‭ ‬أرى‭ ‬وجه‭ ‬الشاعر‭ ‬عيسى‭ ‬مطر‭ ‬ماثلاً‭ ‬أمامي‭ ‬في‭ ‬ابتسامته‭ ‬المعهودة‭ ‬وكلماته‭ ‬الرقيقة،‭ ‬وهو‭ ‬يقرأ‭ ‬علينا‭ ‬بعضًا‭ ‬من‭ ‬قصائده‭ ‬ومنها‭ ‬قصيدة‭: ‬الجندي‭ ‬في‭ ‬ميادين‭ ‬القتال‭:‬

قف‭ ‬لحظة‭ ‬فـي‭ ‬ساحة‭ ‬الميدان

وانظر‭ ‬هناك‭ ‬شجاعة‭ ‬الشجعان

وفي‭ ‬المسابقة‭ ‬الشعرية‭ ‬للإذاعة‭ ‬البريطانية‭ ‬اBBCب‭ ‬اشترك‭ ‬بهذه‭ ‬القصيدة‭ ‬الوطنية‭ ‬وكان‭ ‬لها‭ ‬أثر‭ ‬كبير‭ ‬لدى‭ ‬المستمعين‭. ‬وأعتقد‭ ‬أن‭ ‬كثيرًا‭ ‬من‭ ‬شعره‭ ‬لم‭ ‬يسجل‭ ‬أو‭ ‬يصدر‭ ‬في‭ ‬ديوان،‭ ‬ولذلك‭ ‬أتمنى‭ ‬أن‭ ‬نحاول‭ ‬تجميع‭ ‬باقات‭ ‬أشعاره‭ ‬وإصدارها‭ ‬للقرّاء،‭ ‬ولاسيما‭ ‬الجيل‭ ‬الجديد‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬يعرف‭ ‬كثيرًا‭ ‬عن‭ ‬شعراء‭ ‬الكويت‭ ‬القدامى،‭ ‬هؤلاء‭ ‬الذين‭ ‬ظلوا‭ ‬رموزًا‭ ‬لأحداث‭ ‬الوطن‭ ‬في‭ ‬مسيرته‭ ‬نحو‭ ‬النهضة‭ ‬والتقدم‭ ‬والحرية‭ ‬والاستقلال‭.‬

لكنني‭ ‬أستطيع‭ ‬أن‭ ‬أتذكر‭ ‬أول‭ ‬درس‭ ‬تعلمته‭ ‬في‭ ‬تذوّق‭ ‬الشعر‭ ‬من‭ ‬أستاذي‭ ‬عيسى‭ ‬مطر‭ ‬حين‭ ‬سألته‭ ‬عن‭ ‬كيفية‭ ‬قراءة‭ ‬الشعر‭ ‬الجاهلي‭ ‬بما‭ ‬يحمله‭ ‬من‭ ‬ألفاظ‭ ‬وعبارات‭ ‬تكاد‭ ‬تثقل‭ ‬على‭ ‬الأذن‭ ‬أو‭ ‬تحتاج‭ ‬إلى‭ ‬إيضاحات‭ ‬للمعنى‭ ‬فابتسم‭ ‬وقال‭ ‬لي‭:‬

كل‭ ‬قصيدة‭ ‬تطرح‭ ‬جوانب‭ ‬ثرية‭ ‬في‭ ‬المعاني‭ ‬النادرة،‭ ‬والألفاظ‭ ‬المبتكرة‭ ‬والصور‭ ‬والأخيلة‭ ‬المدهشة،‭ ‬ويجب‭ ‬على‭ ‬القارئ‭ ‬أن‭ ‬يتذوق‭ ‬جماليات‭ ‬الشعر‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬تلك‭ ‬الجوانب‭ ‬العذبة،‭ ‬وعليك‭ ‬أن‭ ‬تغوص‭ ‬في‭ ‬بحر‭ ‬القصيدة‭ ‬لتكتشف‭ ‬أسرارها،‭ ‬وحينئذ‭ ‬تشعر‭ ‬بمتعة‭ ‬ذهنية‭ ‬وأنت‭ ‬تقرأ‭.. ‬وتتأمل‭.. ‬وتبحر‭.. ‬وتكتشف‭.‬

وأدركت‭ ‬حقًا‭ ‬أن‭ ‬ما‭ ‬قاله‭ ‬أستاذي‭ ‬عبّر‭ ‬عنه‭ ‬حافظ‭ ‬إبراهيم‭ ‬على‭ ‬لسان‭ ‬اللغة‭ ‬العربية‭ ‬حين‭ ‬قال‭:‬

أنا‭ ‬البحر‭ ‬في‭ ‬أحشائه‭ ‬الدرّ‭ ‬كامن

فهل‭ ‬ساءلوا‭ ‬الغواص‭ ‬عن‭ ‬صدفاتي؟

لقد‭ ‬كان‭ ‬عيسى‭ ‬مطر‭ ‬شغوفًا‭ ‬بالشعر،‭ ‬ولعل‭ ‬دراسته‭ ‬بأحد‭ ‬الكتاتيب‭ ‬وتعلّمه‭ ‬مبادئ‭ ‬اللغة‭ ‬وحفظ‭ ‬القرآن‭ ‬الكريم‭ ‬ودراسة‭ ‬أحكام‭ ‬تجويده،‭ ‬وكذلك‭ ‬دراسته‭ ‬الفقه‭ ‬وكتب‭ ‬السيرة‭ ‬والتاريخ،‭ ‬ساهم‭ ‬كل‭ ‬ذلك‭ ‬في‭ ‬إقباله‭ ‬على‭ ‬القراءة‭ ‬واقتناء‭ ‬كتب‭ ‬الشعر‭ ‬والأدب‭.‬

ولذلك‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬أنهى‭ ‬دراسته‭ ‬عمل‭ ‬مدرسًا‭ ‬في‭ ‬إحدى‭ ‬المدارس‭ ‬التي‭ ‬افتتحها،‭ ‬ثم‭ ‬اشتغل‭ ‬في‭ ‬دائرة‭ ‬المعارف‭ ‬وقام‭ ‬بالتدريس‭ ‬في‭ ‬المدرسة‭ ‬الشرقية‭ ‬يفتح‭ ‬أمام‭ ‬طلابه‭ ‬صفحات‭ ‬الشعر،‭ ‬ويلقي‭ ‬عليهم‭ ‬قصائد‭ ‬شعراء‭ ‬العربية،‭ ‬وظل‭ ‬كذلك‭ ‬حتى‭ ‬عام‭ ‬1975‭ ‬حيث‭ ‬ضعف‭ ‬بصره‭ ‬وتقاعد‭.‬

وكنت‭ ‬أراه‭ ‬دائمًا‭ ‬يشكو‭ ‬مرض‭ ‬عينيه‭ ‬الذي‭ ‬عاقه‭ ‬عن‭ ‬القراءة‭ ‬من‭ ‬مكتبته‭ ‬فيقول‭:‬

ومكتبة‭ ‬لديّ‭ ‬جمعت‭ ‬فيها

من‭ ‬الأشعار‭ ‬والكتب‭ ‬الشهيره

ولكن‭ ‬كيف‭ ‬أقرأها‭ ‬وما‭ ‬لي

عيون‭ ‬في‭ ‬قراءتها‭ ‬قديره

ولست‭ ‬بجازع‭ ‬من‭ ‬أمر‭ ‬ربي

ولي‭ ‬نفسٌ‭ ‬على‭ ‬البلوى‭ ‬صبوره

عاش‭ ‬شاعرنا‭ ‬عيسى‭ ‬مطر‭ ‬حياته‭ ‬في‭ ‬رحاب‭ ‬العلم‭ ‬والمعرفة‭ ‬يُدرس‭ ‬لطلابه‭ ‬ويقرأ‭ ‬في‭ ‬كتب‭ ‬الأدب‭ ‬ويهتم‭ ‬كثيرًا‭ ‬بالتعبير‭ ‬عن‭ ‬خلجات‭ ‬ذاته‭ ‬الرقيقة‭ ‬ومشاعره‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬قصائده،‭ ‬فقد‭ ‬كان‭ ‬كما‭ ‬قال‭ ‬العقاد‭ ‬عن‭ ‬حافظ‭ ‬إبراهيم‭ ‬امفطورًا‭ ‬بطبعه‭ ‬على‭ ‬إيثار‭ ‬الجزالة‭ ‬والإعجاب‭ ‬بالصياغة‭ ‬والفحولة‭ ‬في‭ ‬العبارة‭.‬

ويعتبره‭ ‬النقاد‭ ‬من‭ ‬جيل‭ ‬الشعراء‭ ‬المحافظين‭ ‬على‭ ‬عمود‭ ‬القصيدة‭ ‬العربية،‭ ‬وهم‭ ‬خالد‭ ‬الفرج‭ ‬وصقر‭ ‬الشبيب‭ ‬وفهد‭ ‬العسكر‭ ‬وغيرهم‭ ‬من‭ ‬شعراء‭ ‬الكويت‭. ‬ولكنني‭ ‬أراه‭ ‬شاعرًا‭ ‬مجددًا‭ ‬في‭ ‬عباراته‭ ‬ومبتكرًا‭ ‬لبعض‭ ‬الصور‭ ‬الرومانسية‭ ‬مما‭ ‬يقرّبه‭ ‬من‭ ‬مدرسة‭ ‬الشعر‭ ‬الحديث‭ ‬في‭ ‬الكويت‭ ‬التي‭ ‬تزعم‭ ‬ريادتها‭ ‬فهد‭ ‬العسكر‭.‬

وحين‭ ‬أقرأ‭ ‬قصائد‭ ‬عيسى‭ ‬مطر‭ ‬وأتأمل‭ ‬صُوره‭ ‬الشعرية‭ ‬تتجلى‭ ‬ذاته‭ ‬السمحة‭ ‬الطيبة‭ ‬وعاطفته‭ ‬الفيّاضة‭ ‬بالأحاسيس‭ ‬ونزعته‭ ‬الدينية‭ ‬العميقة‭. ‬وقد‭ ‬تأثرت‭ ‬به‭ ‬كثيرًا‭ ‬حتى‭ ‬أن‭ ‬إحدى‭ ‬قصائده‭ ‬رقرقت‭ ‬الدموع‭ ‬في‭ ‬عيني‭ ‬وهو‭ ‬يشكو‭ ‬مرض‭ ‬عينيه‭ ‬ويتضرّع‭ ‬إلى‭ ‬الله‭ ‬بالدعاء‭ ‬ويقول‭:‬

يا‭ ‬من‭ ‬رفعت‭ ‬إليه‭ ‬بالدعاء‭ ‬يدي

أشكو‭ ‬إليك‭ ‬ولا‭ ‬أشكو‭ ‬إلى‭ ‬أحدِ

انظر‭ ‬إليَّ‭ ‬بعطف‭ ‬منك‭ ‬يسعدني

فأنت‭ ‬أشفق‭ ‬من‭ ‬أم‭ ‬على‭ ‬ولدِ

أزل‭ ‬عن‭ ‬العين‭ ‬يا‭ ‬ربي‭ ‬غشاوتها

حتى‭ ‬أرى‭ ‬في‭ ‬طريقي‭ ‬موضع‭ ‬الرشدِ

أسير‭ ‬في‭ ‬الليل‭ ‬من‭ ‬خوفٍ‭ ‬على‭ ‬مهلٍ

كأن‭ ‬رجلي‭ ‬في‭ ‬قيدٍ‭ ‬من‭ ‬الزردِ

فالعين‭ ‬أنفس‭ ‬ما‭ ‬الإنسان‭ ‬يملكه

فإنه‭ ‬أفضل‭ ‬الأعضاء‭ ‬في‭ ‬الجسدِ

ومن‭ ‬يعشْ‭ ‬فاقد‭ ‬العينين‭ ‬مدته

فالعمر‭ ‬يقضيه‭ ‬في‭ ‬وهم‭ ‬وفي‭ ‬نكدِ

لاشك‭ ‬في‭ ‬أننا‭ ‬جميعًا‭ ‬تأثرنا‭ ‬بهذا‭ ‬النص‭ ‬الشعري‭ ‬الحزين،‭ ‬وقد‭ ‬كنت‭ ‬أراه‭ ‬أحيانًا‭ ‬يقرأ‭ ‬ونظارته‭ ‬السميكة‭ ‬فوق‭ ‬عينيه‭ ‬ثم‭ ‬يتمهل‭ ‬ويمسح‭ ‬زجاجها‭ ‬ثم‭ ‬يمضي‭ ‬في‭ ‬متابعة‭ ‬كتابه،‭ ‬وقد‭ ‬تخيّلته‭ ‬أبا‭ ‬العلاء‭ ‬المعري‭ ‬أو‭ ‬الشاعر‭ ‬الكويتي‭ ‬صقر‭ ‬الشبيب‭ ‬أو‭ ‬فهد‭ ‬العسكر‭ ‬فكلهم‭ ‬فقدوا‭ ‬نعمة‭ ‬البصر،‭ ‬فكنت‭ ‬أشعر‭ ‬بالأسى‭ ‬وتتمزق‭ ‬نفسي‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬معلمي‭ ‬الصادق‭ ‬الأمين‭.‬

لقد‭ ‬كتب‭ ‬عيسى‭ ‬مطر‭ ‬قصائد‭ ‬كثيرة،‭ ‬وأتمنى‭ ‬مرة‭ ‬أخرى‭ ‬أن‭ ‬نحاول‭ ‬تجميعها‭ ‬في‭ ‬ديوان‭ ‬خاص،‭ ‬لأنه‭ ‬يمثل‭ ‬تراثًا‭ ‬شعريًا‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬يطلع‭ ‬عليه‭ ‬المثقفون‭ ‬والشعراء‭ ‬والأدباء‭ ‬والأجيال‭ ‬الجديدة‭ ‬في‭ ‬الكويت‭.‬

وإذا‭ ‬درسنا‭ ‬أشعاره‭ ‬نجدها‭ ‬تعبّر‭ ‬عن‭ ‬قضايا‭ ‬نفسية‭ ‬وذاتية‭ ‬مثل‭ ‬قصائده‭ ‬عن‭ ‬فقدان‭ ‬بصره‭ ‬وكذلك‭ ‬عبّر‭ ‬عن‭ ‬قضايا‭ ‬وطنية‭ ‬في‭ ‬قصيدته‭ ‬عن‭ ‬الجندي،‭ ‬ثم‭ ‬كتب‭ ‬عن‭ ‬قضايا‭ ‬اجتماعية‭ ‬وإنسانية،‭ ‬ومنها‭ ‬موقف‭ ‬المعلم‭ ‬في‭ ‬الحياة،‭ ‬وكيف‭ ‬أنه‭ ‬يعاني‭ ‬الظلم‭ ‬والنكران‭ ‬من‭ ‬جانب‭ ‬المجتمع‭ ‬الذي‭ ‬يولي‭ ‬عناية‭ ‬تتسم‭ ‬بالاحترام‭ ‬الكبير‭ ‬للمهن‭ ‬الأخرى‭ ‬مثل‭ ‬الطبيب‭ ‬فيقول‭:‬

يا‭ ‬شعر‭ ‬عبّر‭ ‬عن‭ ‬ضميري‭ ‬ناطقًا

فلأنت‭ ‬أفصح‭ ‬من‭ ‬لسان‭ ‬مقالي

واشرح‭ ‬لأعضاء‭ ‬المعارف‭ ‬حالتي

فلقد‭ ‬غدت‭ ‬من‭ ‬أسوأ‭ ‬الأحوالِ

سار‭ ‬المدرس‭ ‬بالثياب‭ ‬تعثرًا

ومشى‭ ‬الطبيب‭ ‬بحلة‭ ‬المختالِ

الحظ‭ ‬أسعده‭ ‬فأصبح‭ ‬راقيًا

ولقد‭ ‬يخون‭ ‬الحظ‭ ‬بعضَ‭ ‬رجالِ

ضاعت‭ ‬هنالك‭ ‬للفتى‭ ‬آماله

والمرء‭ ‬لا‭ ‬يحيا‭ ‬بلا‭ ‬آمالِ

ولاشك‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬اهتمام‭ ‬عيسى‭ ‬مطر‭ ‬بأحوال‭ ‬المعلم‭ ‬ومكانته‭ ‬في‭ ‬المجتمع‭ ‬تنبع‭ ‬من‭ ‬تجربته‭ ‬الواقعية،‭ ‬وقد‭ ‬أثار‭ ‬قضية‭ ‬عامة‭ ‬مازالت‭ ‬قائمة‭ ‬حتى‭ ‬اليوم،‭ ‬ولعل‭ ‬هذا‭ ‬يوضح‭ ‬كيف‭ ‬كان‭ ‬شعراء‭ ‬الكويت‭ ‬يدعون‭ ‬إلى‭ ‬الإصلاح‭ ‬الاجتماعي‭ ‬والاهتمام‭ ‬بالإنسان‭ ‬الذي‭ ‬يُعد‭ ‬النبع‭ ‬الثري‭ ‬للتطور‭ ‬والنهضة‭.‬

وقد‭ ‬أشار‭ ‬عيسى‭ ‬مطر‭ ‬إلى‭ ‬أهمية‭ ‬دور‭ ‬المعلم‭ ‬في‭ ‬برامج‭ ‬التنمية‭ ‬الثقافية‭ ‬والتقدم،‭ ‬لأنه‭ ‬يهتم‭ ‬بالعقل‭ ‬وتربية‭ ‬الروح‭ ‬وصقل‭ ‬الوجدان،‭ ‬ولعل‭ ‬اهتمام‭ ‬الطبيب‭ ‬ينحصر‭ ‬في‭ ‬الجسد‭ ‬والعلة‭ ‬التي‭ ‬يشكو‭ ‬منها‭ ‬الفرد،‭ ‬ومن‭ ‬هنا‭ ‬تتجلى‭ ‬صورة‭ ‬المعلم‭ ‬بأنه‭ ‬رائد‭ ‬من‭ ‬رواد‭ ‬العلم‭ ‬والثقافة‭ ‬والتربية‭.‬

وقد‭ ‬عبّر‭ ‬أحمد‭ ‬شوقي‭ ‬عن‭ ‬هذا‭ ‬الموقف‭ ‬وقال‭:‬

قم‭ ‬للمعلم‭ ‬وفِّهِ‭ ‬التبجيلا

كاد‭ ‬المعلم‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬رسولا

أعلمت‭ ‬أشرف‭ ‬أو‭ ‬أجل‭ ‬من‭ ‬الذي

يبني‭ ‬وينشئ‭ ‬أنفسا‭ ‬وعقولا

سبحانك‭ ‬اللهم‭ ‬خير‭ ‬معلم

علّمت‭ ‬بالقلم‭ ‬القرون‭ ‬الأولى

والإخوانيات‭ ‬غرض‭ ‬شعري‭ ‬آخر‭ ‬أبدع‭ ‬فيه‭ ‬الشاعر،‭ ‬وهي‭ ‬تلك‭ ‬القصائد‭ ‬التي‭ ‬تقال‭ ‬بين‭ ‬الأصدقاء،‭ ‬إما‭ ‬تحية‭ ‬لصديق‭ ‬في‭ ‬مناسبة‭ ‬وإما‭ ‬تفصلاً‭ ‬لصفة‭ ‬من‭ ‬صفاته‭ ‬الحميدة،‭ ‬وقد‭ ‬بدأ‭ ‬هذا‭ ‬الغرض‭ ‬الشعري‭ ‬ينمو‭ ‬وينتشر‭ ‬في‭ ‬عصر‭ ‬النهضة‭ ‬الحديثة‭ ‬بين‭ ‬أحمد‭ ‬شوقي‭ ‬وحافظ‭ ‬إبراهيم،‭ ‬وقد‭ ‬يأخذ‭ ‬أحيانًا‭ ‬بين‭ ‬الشعراء‭ ‬قصائد‭ ‬تكتب‭ ‬بشكل‭ ‬واحد‭ ‬وقافية‭ ‬مشتركة،‭ ‬وإن‭ ‬اختلفت‭ ‬الأفكار‭ ‬والمعاني‭.‬

وفي‭ ‬تلك‭ ‬القصيدة‭ ‬تلاحظ‭ ‬قدرة‭ ‬عيسى‭ ‬مطر‭ ‬على‭ ‬وصف‭ ‬الصديق‭ ‬الذي‭ ‬يمدحه‭ ‬بجمال‭ ‬الطبيعة‭ ‬فتذكرك‭ ‬بقصائد‭ ‬أحمد‭ ‬شوقي‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬المجال،‭ ‬ولاشك‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬الشاعر‭ ‬قد‭ ‬تأثر‭ ‬به‭ ‬كثيرًا،‭ ‬فيقول‭ ‬لصديقه‭:‬

بك‭ ‬يا‭ ‬محمد‭ ‬يزدهي‭ ‬لبنانُ

وجباله‭ ‬الخضراء‭ ‬والوديانُ

ولك‭ ‬الزهور‭ ‬تفتحت‭ ‬أكمامها

منها‭ ‬العبير‭ ‬يفوح‭ ‬والريحان

أبدت‭ ‬لك‭ ‬الأشجار‭ ‬خير‭ ‬تحيةٍ

وإلى‭ ‬علاك‭ ‬أشارت‭ ‬الأغصان

وبمدحك‭ ‬الطير‭ ‬المغرد‭ ‬شاديًا

ومرددًا‭ ‬شعرًا‭ ‬له‭ ‬ألحان

قد‭ ‬حلّ‭ ‬منزلك‭ ‬الرفيع‭ ‬مكانة

مرموقةً‭ ‬باه‭ ‬بها‭ ‬شملان

حفت‭ ‬به‭ ‬الأشجار‭ ‬من‭ ‬جَنباته

كالعين‭ ‬حين‭ ‬تحفها‭ ‬الأجفان

بين‭ ‬الصنوبر‭ ‬والكروم‭ ‬أقمتهُ

كالطود‭ ‬خاضعة‭ ‬له‭ ‬الأزمان

ونلمح‭ ‬سمة‭ ‬فنية‭ ‬تتميز‭ ‬بها‭ ‬شاعرية‭ ‬عيسى‭ ‬مطر‭ ‬وهي‭ ‬الوصف‭ ‬الرومانسي‭ ‬الذي‭ ‬يمزج‭ ‬المشاعر‭ ‬بعناصر‭ ‬الطبيعة،‭ ‬فهو‭ ‬يعزف‭ ‬على‭ ‬أوتار‭ ‬الأحاسيس،‭ ‬وبارعٌ‭ ‬في‭ ‬ابتكار‭ ‬المعاني‭ ‬اللطيفة‭ ‬وإصابة‭ ‬الغرض‭ ‬بسهولة‭ ‬دون‭ ‬التعسّف‭ ‬في‭ ‬اللغة‭ ‬أو‭ ‬التصوير‭ ‬الشاعري‭.‬

ولذلك‭ ‬نحن‭ ‬نشعر‭ ‬بأن‭ ‬هناك‭ ‬ظلمًا‭ ‬كبيرًا‭ ‬وقع‭ ‬على‭ ‬هذا‭ ‬الشاعر‭ ‬حين‭ ‬أَهملنا‭ ‬طبع‭ ‬أعماله‭ ‬الشعرية‭ ‬وتقديمه‭ ‬من‭ ‬جديد‭ ‬للقرّاء،‭ ‬وهذا‭ ‬مشروع‭ ‬ثقافي‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬نتعاون‭ ‬جميعًا‭ ‬لبعث‭ ‬تراثنا‭ ‬الشعري،‭ ‬وقد‭ ‬كانت‭ ‬هناك‭ ‬محاولات‭ ‬جديرة‭ ‬بالذكر‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬الباحث‭ ‬الراحل‭ ‬خالد‭ ‬سعود‭ ‬الزيد‭ ‬في‭ ‬كتابه‭ ‬الكبير‭ ‬اأدباء‭ ‬الكويت‭ ‬في‭ ‬قرنينب‭ ‬حيث‭ ‬ألقى‭ ‬الضوء‭ ‬على‭ ‬نتاج‭ ‬مجموعة‭ ‬من‭ ‬الأدباء‭ ‬والشعراء،‭ ‬ومنهم‭ ‬شاعرنا‭ ‬المبدع‭ ‬عيسى‭ ‬مطر،‭ ‬وكذلك‭ ‬ما‭ ‬كتبه‭ ‬الأديب‭ ‬علي‭ ‬عبدالفتاح‭ ‬في‭ ‬كتابه‭ ‬اأعلام‭ ‬الشعر‭ ‬في‭ ‬الكويتب،‭ ‬وكذلك‭ ‬ما‭ ‬قامت‭ ‬به‭ ‬مؤسسة‭ ‬البابطين‭ ‬للإبداع‭ ‬الشعري،‭ ‬حيث‭ ‬نشرت‭ ‬موسوعة‭ ‬كبيرة‭ ‬عن‭ ‬الشعراء،‭ ‬ومنهم‭ ‬عيسى‭ ‬مطر‭ ‬والموسوعة‭ ‬هي‭: ‬معجم‭ ‬البابطين‭ ‬لشعراء‭ ‬العربية‭ ‬في‭ ‬القرنين‭ ‬التاسع‭ ‬عشر‭ ‬والعشرين،‭ ‬ولكنها‭ ‬احتوت‭ ‬على‭ ‬ثلاث‭ ‬قصائد‭ ‬فقط‭ ‬للشاعر‭ ‬بالرغم‭ ‬من‭ ‬إنتاجه‭ ‬الغزير‭.‬

وهناك‭ ‬بالطبع‭ ‬دراسات‭ ‬نشرت‭ ‬وبحوث‭ ‬حول‭ ‬الشاعر‭ ‬نتمنى‭ ‬أن‭ ‬تنال‭ ‬رعايتنا‭ ‬واهتمامنا،‭ ‬لأن‭ ‬هذا‭ ‬هو‭ ‬تراثنا‭ ‬الذي‭ ‬ننهل‭ ‬منه‭ ‬أروع‭ ‬القيم‭ ‬الإنسانية‭.‬

ونعود‭ ‬إلى‭ ‬شاعرنا‭ ‬حيث‭ ‬يكتب‭ ‬أثناء‭ ‬عيد‭ ‬جلوس‭ ‬الشيخ‭ ‬عبدالله‭ ‬السالم‭ ‬هذه‭ ‬القصيدة‭ ‬التي‭ ‬تختلف‭ ‬كثيرًا‭ ‬عن‭ ‬شعر‭ ‬المديح‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬سائدًا‭ ‬في‭ ‬عصره،‭ ‬فقد‭ ‬صوّر‭ ‬كيف‭ ‬تحتفي‭ ‬الطبيعة‭ ‬بهذه‭ ‬المناسبة‭ ‬الكبيرة‭ ‬والطيور‭ ‬تغرّد‭ ‬والروض‭ ‬تختال‭ ‬أغصانه،‭ ‬ما‭ ‬يؤكد‭ ‬شاعريته‭ ‬الفيّاضة‭ ‬بالصور‭ ‬المبتكرة‭ ‬ومدى‭ ‬تأثره‭ ‬بالتجارب‭ ‬الرومانسية‭ ‬التي‭ ‬عبّر‭ ‬عنها‭ ‬شعراء‭ ‬مدرسة‭ ‬النهضة‭ ‬مثل‭ ‬أحمد‭ ‬شوقي‭ ‬والبارودي‭ ‬وحافظ‭ ‬إبراهيم،‭ ‬واقرأ‭ ‬معي‭ ‬وتأمل‭ ‬تلك‭ ‬الصور‭ ‬الجميلة‭:‬

بادر‭ ‬إلى‭ ‬الدر‭ ‬النَّضيدِ

وانظم‭ ‬به‭ ‬غرر‭ ‬القصيدِ

فالروض‭ ‬مخضلُ‭ ‬الجوانب

غض‭ ‬بسام‭ ‬الورودِ

تتعانق‭ ‬الأغصان‭ ‬من‭ ‬شغفٍ

وتخطر‭ ‬في‭ ‬البرودِ

فاح‭ ‬الأريج‭ ‬من‭ ‬الورودِ

الزاهياتِ‭ ‬على‭ ‬الوجودِ

بشراكم‭ ‬أهل‭ ‬الكويت

ببهجة‭ ‬اليوم‭ ‬السعيدِ

وأما‭ ‬في‭ ‬مجال‭ ‬الغزل‭ ‬فهناك‭ ‬دائمًا‭ ‬تسكنه‭ ‬روح‭ ‬يشفها‭ ‬الحزن‭ ‬الرومانسي‭ ‬ويغلب‭ ‬عليها‭ ‬الإحساس‭ ‬باليأس‭ ‬أو‭ ‬الحيرة‭ ‬والقلق‭. ‬فهو‭ ‬لا‭ ‬يملك‭ ‬سوى‭ ‬أطياف‭ ‬يطاردها‭.. ‬ووجه‭ ‬جميل‭ ‬طواه‭ ‬الهجران‭ ‬ويحلم‭ ‬بعودة‭ ‬تلك‭ ‬اللحظات‭ ‬في‭ ‬ظلال‭ ‬الحبيبة‭.‬

ليلاي‭ ‬عودي‭ ‬فإن‭ ‬الروح‭ ‬تائقة

إلى‭ ‬لقاكِ‭ ‬وما‭ ‬في‭ ‬الهجر‭ ‬فائدة

تذكري‭ ‬العهد‭ ‬لا‭ ‬خانتك‭ ‬ذاكرة

وأنتِ‭ ‬في‭ ‬مجلس‭ ‬الريحان‭ ‬لاهية

ما‭ ‬سرت‭ ‬من‭ ‬سامرٍ‭ ‬إلا‭ ‬إلى‭ ‬نادي

يا‭ ‬ليت‭ ‬ليلى‭ ‬تعود‭ ‬اليوم‭ ‬ثانية

لترتوي‭ ‬غلتي‭ ‬منها‭ ‬معانقة

قد‭ ‬شفني‭ ‬الوجد‭ ‬رفقًا‭ ‬بي‭ ‬مسارعة

تذكري‭ ‬قبلة‭ ‬في‭ ‬الشعر‭ ‬حائرة

أضلها‭ ‬فمشت‭ ‬في‭ ‬فرعك‭ ‬الهادي

تلك‭ ‬بعض‭ ‬لمحات‭ ‬عن‭ ‬أحد‭ ‬شعراء‭ ‬الكويت‭ ‬الذي‭ ‬يستحق‭ ‬منا‭ ‬أن‭ ‬نذكره‭ ‬ونوليه‭ ‬حقه‭ ‬من‭ ‬الإنصاف‭ ‬والتكريم‭. ‬إنّ‭ ‬قضيتنا‭ ‬أن‭ ‬نبحث‭ ‬في‭ ‬تراثنا‭ ‬وننفض‭ ‬عنه‭ ‬غبار‭ ‬السنين‭ ‬ونكشف‭ ‬أعماقه‭ ‬المضيئة‭ ‬ونبعثه‭ ‬من‭ ‬الظلمات‭ ‬إلى‭ ‬النور،‭ ‬ليقرأ‭ ‬الجيل‭ ‬الجديد‭ ‬ويلمس‭ ‬أغوار‭ ‬تراثه‭ ‬الكبير‭ ‬الزاخر‭ ‬بالمواقف‭ ‬الوطنية‭ ‬والقيم‭ ‬الإنسانية‭. ‬فكل‭ ‬قصيدة‭ ‬تشهد‭ ‬بصوَر‭ ‬ومشاهد‭ ‬من‭ ‬تطوّر‭ ‬مجتمعنا‭ ‬الكويتي‭ ‬وتسجل‭ ‬أحداثًا‭ ‬كثيرة‭. ‬فالشعر‭ ‬مرآة‭ ‬أحاسيس‭ ‬وأفكار‭ ‬الشعوب،‭ ‬وإذا‭ ‬وددنا‭ ‬أن‭ ‬نعرف‭ ‬مدى‭ ‬تقدم‭ ‬الأمم،‭ ‬فلابد‭ ‬أن‭ ‬نرجع‭ ‬إلى‭ ‬تراثها‭ ‬الشعري،‭ ‬والأمة‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬تملك‭ ‬تراثًا‭ ‬شعريًا‭ ‬لا‭ ‬يمكنها‭ ‬أن‭ ‬تتجاوز‭ ‬عثرات‭ ‬الحاضر‭ ‬أو‭ ‬تتوقع‭ ‬آفاق‭ ‬المستقبل‭ ‬البعيد‭.‬

رحم‭ ‬الله‭ ‬شاعرنا‭ ‬عيسى‭ ‬مطر‭ ‬أستاذًا‭ ‬ومعلمًا‭ ‬وشاعرًا‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬ننساه‭ ‬أو‭ ‬نغفله‭ ‬من‭ ‬ذاكرة‭ ‬تاريخ‭ ‬الشعر‭ ‬والأدب‭ ‬في‭ ‬الكويت‭ .