الشاعر عيسى مطر (1910-1992م)
حين ترجع بي ذاكرتي إلى مقاعد الدراسة في المدرسة الشرقية أرى وجه الشاعر عيسى مطر ماثلاً أمامي في ابتسامته المعهودة وكلماته الرقيقة، وهو يقرأ علينا بعضًا من قصائده ومنها قصيدة: الجندي في ميادين القتال:
قف لحظة فـي ساحة الميدان
وانظر هناك شجاعة الشجعان
وفي المسابقة الشعرية للإذاعة البريطانية اBBCب اشترك بهذه القصيدة الوطنية وكان لها أثر كبير لدى المستمعين. وأعتقد أن كثيرًا من شعره لم يسجل أو يصدر في ديوان، ولذلك أتمنى أن نحاول تجميع باقات أشعاره وإصدارها للقرّاء، ولاسيما الجيل الجديد الذي لا يعرف كثيرًا عن شعراء الكويت القدامى، هؤلاء الذين ظلوا رموزًا لأحداث الوطن في مسيرته نحو النهضة والتقدم والحرية والاستقلال.
لكنني أستطيع أن أتذكر أول درس تعلمته في تذوّق الشعر من أستاذي عيسى مطر حين سألته عن كيفية قراءة الشعر الجاهلي بما يحمله من ألفاظ وعبارات تكاد تثقل على الأذن أو تحتاج إلى إيضاحات للمعنى فابتسم وقال لي:
كل قصيدة تطرح جوانب ثرية في المعاني النادرة، والألفاظ المبتكرة والصور والأخيلة المدهشة، ويجب على القارئ أن يتذوق جماليات الشعر من خلال تلك الجوانب العذبة، وعليك أن تغوص في بحر القصيدة لتكتشف أسرارها، وحينئذ تشعر بمتعة ذهنية وأنت تقرأ.. وتتأمل.. وتبحر.. وتكتشف.
وأدركت حقًا أن ما قاله أستاذي عبّر عنه حافظ إبراهيم على لسان اللغة العربية حين قال:
أنا البحر في أحشائه الدرّ كامن
فهل ساءلوا الغواص عن صدفاتي؟
لقد كان عيسى مطر شغوفًا بالشعر، ولعل دراسته بأحد الكتاتيب وتعلّمه مبادئ اللغة وحفظ القرآن الكريم ودراسة أحكام تجويده، وكذلك دراسته الفقه وكتب السيرة والتاريخ، ساهم كل ذلك في إقباله على القراءة واقتناء كتب الشعر والأدب.
ولذلك بعد أن أنهى دراسته عمل مدرسًا في إحدى المدارس التي افتتحها، ثم اشتغل في دائرة المعارف وقام بالتدريس في المدرسة الشرقية يفتح أمام طلابه صفحات الشعر، ويلقي عليهم قصائد شعراء العربية، وظل كذلك حتى عام 1975 حيث ضعف بصره وتقاعد.
وكنت أراه دائمًا يشكو مرض عينيه الذي عاقه عن القراءة من مكتبته فيقول:
ومكتبة لديّ جمعت فيها
من الأشعار والكتب الشهيره
ولكن كيف أقرأها وما لي
عيون في قراءتها قديره
ولست بجازع من أمر ربي
ولي نفسٌ على البلوى صبوره
عاش شاعرنا عيسى مطر حياته في رحاب العلم والمعرفة يُدرس لطلابه ويقرأ في كتب الأدب ويهتم كثيرًا بالتعبير عن خلجات ذاته الرقيقة ومشاعره من خلال قصائده، فقد كان كما قال العقاد عن حافظ إبراهيم امفطورًا بطبعه على إيثار الجزالة والإعجاب بالصياغة والفحولة في العبارة.
ويعتبره النقاد من جيل الشعراء المحافظين على عمود القصيدة العربية، وهم خالد الفرج وصقر الشبيب وفهد العسكر وغيرهم من شعراء الكويت. ولكنني أراه شاعرًا مجددًا في عباراته ومبتكرًا لبعض الصور الرومانسية مما يقرّبه من مدرسة الشعر الحديث في الكويت التي تزعم ريادتها فهد العسكر.
وحين أقرأ قصائد عيسى مطر وأتأمل صُوره الشعرية تتجلى ذاته السمحة الطيبة وعاطفته الفيّاضة بالأحاسيس ونزعته الدينية العميقة. وقد تأثرت به كثيرًا حتى أن إحدى قصائده رقرقت الدموع في عيني وهو يشكو مرض عينيه ويتضرّع إلى الله بالدعاء ويقول:
يا من رفعت إليه بالدعاء يدي
أشكو إليك ولا أشكو إلى أحدِ
انظر إليَّ بعطف منك يسعدني
فأنت أشفق من أم على ولدِ
أزل عن العين يا ربي غشاوتها
حتى أرى في طريقي موضع الرشدِ
أسير في الليل من خوفٍ على مهلٍ
كأن رجلي في قيدٍ من الزردِ
فالعين أنفس ما الإنسان يملكه
فإنه أفضل الأعضاء في الجسدِ
ومن يعشْ فاقد العينين مدته
فالعمر يقضيه في وهم وفي نكدِ
لاشك في أننا جميعًا تأثرنا بهذا النص الشعري الحزين، وقد كنت أراه أحيانًا يقرأ ونظارته السميكة فوق عينيه ثم يتمهل ويمسح زجاجها ثم يمضي في متابعة كتابه، وقد تخيّلته أبا العلاء المعري أو الشاعر الكويتي صقر الشبيب أو فهد العسكر فكلهم فقدوا نعمة البصر، فكنت أشعر بالأسى وتتمزق نفسي من أجل معلمي الصادق الأمين.
لقد كتب عيسى مطر قصائد كثيرة، وأتمنى مرة أخرى أن نحاول تجميعها في ديوان خاص، لأنه يمثل تراثًا شعريًا يجب أن يطلع عليه المثقفون والشعراء والأدباء والأجيال الجديدة في الكويت.
وإذا درسنا أشعاره نجدها تعبّر عن قضايا نفسية وذاتية مثل قصائده عن فقدان بصره وكذلك عبّر عن قضايا وطنية في قصيدته عن الجندي، ثم كتب عن قضايا اجتماعية وإنسانية، ومنها موقف المعلم في الحياة، وكيف أنه يعاني الظلم والنكران من جانب المجتمع الذي يولي عناية تتسم بالاحترام الكبير للمهن الأخرى مثل الطبيب فيقول:
يا شعر عبّر عن ضميري ناطقًا
فلأنت أفصح من لسان مقالي
واشرح لأعضاء المعارف حالتي
فلقد غدت من أسوأ الأحوالِ
سار المدرس بالثياب تعثرًا
ومشى الطبيب بحلة المختالِ
الحظ أسعده فأصبح راقيًا
ولقد يخون الحظ بعضَ رجالِ
ضاعت هنالك للفتى آماله
والمرء لا يحيا بلا آمالِ
ولاشك في أن اهتمام عيسى مطر بأحوال المعلم ومكانته في المجتمع تنبع من تجربته الواقعية، وقد أثار قضية عامة مازالت قائمة حتى اليوم، ولعل هذا يوضح كيف كان شعراء الكويت يدعون إلى الإصلاح الاجتماعي والاهتمام بالإنسان الذي يُعد النبع الثري للتطور والنهضة.
وقد أشار عيسى مطر إلى أهمية دور المعلم في برامج التنمية الثقافية والتقدم، لأنه يهتم بالعقل وتربية الروح وصقل الوجدان، ولعل اهتمام الطبيب ينحصر في الجسد والعلة التي يشكو منها الفرد، ومن هنا تتجلى صورة المعلم بأنه رائد من رواد العلم والثقافة والتربية.
وقد عبّر أحمد شوقي عن هذا الموقف وقال:
قم للمعلم وفِّهِ التبجيلا
كاد المعلم أن يكون رسولا
أعلمت أشرف أو أجل من الذي
يبني وينشئ أنفسا وعقولا
سبحانك اللهم خير معلم
علّمت بالقلم القرون الأولى
والإخوانيات غرض شعري آخر أبدع فيه الشاعر، وهي تلك القصائد التي تقال بين الأصدقاء، إما تحية لصديق في مناسبة وإما تفصلاً لصفة من صفاته الحميدة، وقد بدأ هذا الغرض الشعري ينمو وينتشر في عصر النهضة الحديثة بين أحمد شوقي وحافظ إبراهيم، وقد يأخذ أحيانًا بين الشعراء قصائد تكتب بشكل واحد وقافية مشتركة، وإن اختلفت الأفكار والمعاني.
وفي تلك القصيدة تلاحظ قدرة عيسى مطر على وصف الصديق الذي يمدحه بجمال الطبيعة فتذكرك بقصائد أحمد شوقي في هذا المجال، ولاشك في أن الشاعر قد تأثر به كثيرًا، فيقول لصديقه:
بك يا محمد يزدهي لبنانُ
وجباله الخضراء والوديانُ
ولك الزهور تفتحت أكمامها
منها العبير يفوح والريحان
أبدت لك الأشجار خير تحيةٍ
وإلى علاك أشارت الأغصان
وبمدحك الطير المغرد شاديًا
ومرددًا شعرًا له ألحان
قد حلّ منزلك الرفيع مكانة
مرموقةً باه بها شملان
حفت به الأشجار من جَنباته
كالعين حين تحفها الأجفان
بين الصنوبر والكروم أقمتهُ
كالطود خاضعة له الأزمان
ونلمح سمة فنية تتميز بها شاعرية عيسى مطر وهي الوصف الرومانسي الذي يمزج المشاعر بعناصر الطبيعة، فهو يعزف على أوتار الأحاسيس، وبارعٌ في ابتكار المعاني اللطيفة وإصابة الغرض بسهولة دون التعسّف في اللغة أو التصوير الشاعري.
ولذلك نحن نشعر بأن هناك ظلمًا كبيرًا وقع على هذا الشاعر حين أَهملنا طبع أعماله الشعرية وتقديمه من جديد للقرّاء، وهذا مشروع ثقافي يجب أن نتعاون جميعًا لبعث تراثنا الشعري، وقد كانت هناك محاولات جديرة بالذكر من قبل الباحث الراحل خالد سعود الزيد في كتابه الكبير اأدباء الكويت في قرنينب حيث ألقى الضوء على نتاج مجموعة من الأدباء والشعراء، ومنهم شاعرنا المبدع عيسى مطر، وكذلك ما كتبه الأديب علي عبدالفتاح في كتابه اأعلام الشعر في الكويتب، وكذلك ما قامت به مؤسسة البابطين للإبداع الشعري، حيث نشرت موسوعة كبيرة عن الشعراء، ومنهم عيسى مطر والموسوعة هي: معجم البابطين لشعراء العربية في القرنين التاسع عشر والعشرين، ولكنها احتوت على ثلاث قصائد فقط للشاعر بالرغم من إنتاجه الغزير.
وهناك بالطبع دراسات نشرت وبحوث حول الشاعر نتمنى أن تنال رعايتنا واهتمامنا، لأن هذا هو تراثنا الذي ننهل منه أروع القيم الإنسانية.
ونعود إلى شاعرنا حيث يكتب أثناء عيد جلوس الشيخ عبدالله السالم هذه القصيدة التي تختلف كثيرًا عن شعر المديح الذي كان سائدًا في عصره، فقد صوّر كيف تحتفي الطبيعة بهذه المناسبة الكبيرة والطيور تغرّد والروض تختال أغصانه، ما يؤكد شاعريته الفيّاضة بالصور المبتكرة ومدى تأثره بالتجارب الرومانسية التي عبّر عنها شعراء مدرسة النهضة مثل أحمد شوقي والبارودي وحافظ إبراهيم، واقرأ معي وتأمل تلك الصور الجميلة:
بادر إلى الدر النَّضيدِ
وانظم به غرر القصيدِ
فالروض مخضلُ الجوانب
غض بسام الورودِ
تتعانق الأغصان من شغفٍ
وتخطر في البرودِ
فاح الأريج من الورودِ
الزاهياتِ على الوجودِ
بشراكم أهل الكويت
ببهجة اليوم السعيدِ
وأما في مجال الغزل فهناك دائمًا تسكنه روح يشفها الحزن الرومانسي ويغلب عليها الإحساس باليأس أو الحيرة والقلق. فهو لا يملك سوى أطياف يطاردها.. ووجه جميل طواه الهجران ويحلم بعودة تلك اللحظات في ظلال الحبيبة.
ليلاي عودي فإن الروح تائقة
إلى لقاكِ وما في الهجر فائدة
تذكري العهد لا خانتك ذاكرة
وأنتِ في مجلس الريحان لاهية
ما سرت من سامرٍ إلا إلى نادي
يا ليت ليلى تعود اليوم ثانية
لترتوي غلتي منها معانقة
قد شفني الوجد رفقًا بي مسارعة
تذكري قبلة في الشعر حائرة
أضلها فمشت في فرعك الهادي
تلك بعض لمحات عن أحد شعراء الكويت الذي يستحق منا أن نذكره ونوليه حقه من الإنصاف والتكريم. إنّ قضيتنا أن نبحث في تراثنا وننفض عنه غبار السنين ونكشف أعماقه المضيئة ونبعثه من الظلمات إلى النور، ليقرأ الجيل الجديد ويلمس أغوار تراثه الكبير الزاخر بالمواقف الوطنية والقيم الإنسانية. فكل قصيدة تشهد بصوَر ومشاهد من تطوّر مجتمعنا الكويتي وتسجل أحداثًا كثيرة. فالشعر مرآة أحاسيس وأفكار الشعوب، وإذا وددنا أن نعرف مدى تقدم الأمم، فلابد أن نرجع إلى تراثها الشعري، والأمة التي لا تملك تراثًا شعريًا لا يمكنها أن تتجاوز عثرات الحاضر أو تتوقع آفاق المستقبل البعيد.
رحم الله شاعرنا عيسى مطر أستاذًا ومعلمًا وشاعرًا لا يمكن أن ننساه أو نغفله من ذاكرة تاريخ الشعر والأدب في الكويت .