مع رسول حمزاتوف

مع رسول حمزاتوف

يروي‭ ‬الشاعر‭ ‬الداغستاني‭ ‬رسول‭ ‬حمزاتوف‭ ‬في‭ ‬كتابه‭ ‬‮«‬بلدي‮»‬‭ ‬حكاية‭ ‬طريفة‭ ‬تتصل‭ ‬بالموهبة‭. ‬فقد‭ ‬ذكر‭ ‬أنه‭ ‬حين‭ ‬كان‭ ‬يعمل‭ ‬في‭ ‬شبابه‭ ‬بالمسرح‭ ‬انتقل‭ ‬يومًا‭ ‬مع‭ ‬الفرقة‭ ‬المسرحية‭ ‬إلى‭ ‬قرية‭ ‬جبلية،‭ ‬وهناك‭ ‬حلّ‭ ‬ضيفًا‭ ‬على‭ ‬شاعر‭ ‬كان‭ ‬يسمع‭ ‬به،‭ ‬لكن‭ ‬لم‭ ‬تتهيأ‭ ‬له‭ ‬فرصة‭ ‬لقائه‭ ‬من‭ ‬قبل‭.‬

أصحاب‭ ‬البيت‭ ‬استقبلوا‭ ‬ارسولب‭ ‬استقبالاً‭ ‬جيدًا‭ ‬حتى‭ ‬أُحرج،‭ ‬وكان‭ ‬على‭ ‬رأسهم‭ ‬أمّ‭ ‬الشاعر‭. ‬ولندع‭ ‬رسول‭ ‬حمزاتوف‭ ‬يكمّل‭ ‬بقية‭ ‬الحكاية‭:‬

اعندما‭ ‬كنتُ‭ ‬أهمُّ‭ ‬بمغادرتهم‭ ‬لم‭ ‬أجد‭ ‬من‭ ‬الكلمات‭ ‬ما‭ ‬أعبّر‭ ‬به‭ ‬عن‭ ‬شكريب‭ ‬وصدف‭ ‬أني‭ ‬كنت‭ ‬أودّع‭ ‬أمّ‭ ‬الشاعر‭ ‬حين‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬أحد‭ ‬في‭ ‬الغرفة‭. ‬كنت‭ ‬أعرف‭ ‬أنه‭ ‬لا‭ ‬شيء‭ ‬أفرح‭ ‬للأم‭ ‬من‭ ‬كلمة‭ ‬طيبة‭ ‬تقال‭ ‬في‭ ‬ابنها‭. ‬ومع‭ ‬أني‭ ‬كنت‭ ‬أنظر‭ ‬إلى‭ ‬قدرات‭ ‬شاعرنا‭ ‬المتواضعة‭ ‬نظرة‭ ‬واعية‭ ‬جدًا،‭ ‬إلا‭ ‬أني‭ ‬أخذت‭ ‬أطريه،‭ ‬فقلتُ‭ ‬لها‭ ‬إن‭ ‬ابنها‭ ‬شاعر‭ ‬تقدمي‭ ‬جدًا،‭ ‬وإنه‭ ‬يكتب‭ ‬دائمًا‭ ‬في‭ ‬مواضيع‭ ‬الساعة‭ ‬الملحة‭.‬

فقاطعتني‭ ‬أمه،‭ ‬قائلة‭ ‬بحزن‭:‬

‭- ‬قد‭ ‬يكون‭ ‬تقدميًا،‭ ‬لكنه‭ ‬بلا‭ ‬موهبة‭. ‬قد‭ ‬تكون‭ ‬أشعاره‭ ‬تعالج‭ ‬مواضيع‭ ‬ملحة،‭ ‬لكنني‭ ‬أشعر‭ ‬بملل‭ ‬حين‭ ‬آخذ‭ ‬في‭ ‬قراءتها‭. ‬فكّر‭ ‬يا‭ ‬رسول‭ ‬في‭ ‬الأمر‭ ‬كيف‭ ‬يحدث‭. ‬حين‭ ‬بدأ‭ ‬ابني‭ ‬يتعلم‭ ‬نطق‭ ‬كلماته‭ ‬الأولى‭ ‬التي‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬بالإمكان‭ ‬حتى‭ ‬فهمها،‭ ‬كنت‭ ‬أسرّ‭ ‬بشكل‭ ‬لا‭ ‬يوصف،‭ ‬لكنه‭ ‬الآن‭ ‬حين‭ ‬تعلّم‭ ‬لا‭ ‬أن‭ ‬يتكلم‭ ‬وحسب،‭ ‬بل‭ ‬أن‭ ‬يكتب‭ ‬أشعارًا‭ ‬أشعر‭ ‬بالملل‭. ‬يقال‭ ‬إن‭ ‬عقل‭ ‬المرأة‭ ‬في‭ ‬طرف‭ ‬ثوبها،‭ ‬مادامت‭ ‬جالسة‭ ‬فهو‭ ‬معها،‭ ‬لكن‭ ‬يكفي‭ ‬أن‭ ‬تنهض‭ ‬حتى‭ ‬يتدحرج‭ ‬عقلها‭ ‬ويسقط‭ ‬على‭ ‬الأرض‭.‬

وهكذا‭ ‬ابني‭: ‬مادام‭ ‬يجلس‭ ‬إلى‭ ‬المائدة‭ ‬يتناول‭ ‬الطعام،‭ ‬فأنت‭ ‬تراه‭ ‬يتكلم‭ ‬بشكل‭ ‬طبيعي‭ ‬وأنا‭ ‬على‭ ‬استعداد‭ ‬لأسمع‭ ‬منه‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬يقوله،‭ ‬لكنه‭ ‬في‭ ‬طريقه‭ ‬من‭ ‬مائدة‭ ‬الطعام‭ ‬إلى‭ ‬منضدة‭ ‬العمل،‭ ‬يفقد‭ ‬كل‭ ‬الكلمات‭ ‬البسيطة‭ ‬والطيبة‭ ‬ولا‭ ‬تبقى‭ ‬عنده‭ ‬إلا‭ ‬الكلمات‭ ‬الرسمية‭ ‬الباهتة‭ ‬المملة‭.‬

هذا‭ ‬ما‭ ‬يرويه‭ ‬رسول‭ ‬حمزاتوف‭ ‬في‭ ‬كتابه‭ ‬عن‭ ‬شاعر‭ ‬داغستاني‭ ‬تصفه‭ ‬أمه‭ ‬بأنه‭ ‬بلا‭ ‬موهبة‭. ‬ووصف‭ ‬الأم‭ ‬لابنها‭ ‬على‭ ‬هذه‭ ‬الصورة‭ ‬له‭ ‬شأنه،‭ ‬لأن‭ ‬الأم‭ ‬تميل‭ ‬عادة‭ ‬إلى‭ ‬منح‭ ‬ابنها‭ ‬كل‭ ‬الصفات‭ ‬الحميدة‭ ‬ولا‭ ‬تضنّ‭ ‬عليه‭ ‬حتى‭ ‬بما‭ ‬ليس‭ ‬فيه‭. ‬ولذلك‭ ‬يبدو‭ ‬مشهد‭ ‬الحوار‭ ‬الذي‭ ‬جرى‭ ‬بين‭ ‬رسول‭ ‬حمزاتوف‭ ‬وأم‭ ‬الشاعر‭ ‬المفتقر‭ ‬إلى‭ ‬الموهبة‭ ‬مشهدًا‭ ‬يجمع‭ ‬إلى‭ ‬الطرافة‭ ‬الغرابة‭. ‬ولا‭ ‬يخفى‭ ‬أن‭ ‬نعت‭ ‬الشاعر‭ ‬أو‭ ‬المبدع،‭ ‬بوجه‭ ‬عام،‭ ‬بأنه‭ ‬دون‭ ‬موهبة،‭ ‬يعني‭ ‬إطلاق‭ ‬رصاصة‭ ‬الرحمة‭ ‬عليه‭. ‬فالثقافة،‭ ‬ومعها‭ ‬الكدّ‭ ‬والجهد،‭ ‬لا‭ ‬تكفي‭ ‬ولا‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬تعوّض‭ ‬ما‭ ‬لابد‭ ‬من‭ ‬توافره‭ ‬أصلاً‭ ‬في‭ ‬الجبلة،‭ ‬ألا‭ ‬وهو‭ ‬الموهبة‭.‬

وقد‭ ‬ورد‭ ‬في‭ ‬أخبار‭ ‬القدماء‭ ‬ما‭ ‬يؤيد‭ ‬رأي‭ ‬هذه‭ ‬الأم‭ ‬الداغستانية‭ ‬في‭ ‬كون‭ ‬الفطرة‭ ‬المزروعة‭ ‬فيها‭ ‬القابليات‭ ‬والاستعدادات‭ ‬هي‭ ‬الأساس‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬غنى‭ ‬عنه‭ ‬لصناعة‭ ‬الإبداع‭. ‬ففي‭ ‬أخبار‭ ‬المتصوفة‭ ‬العرب‭ ‬القدماء‭ ‬أن‭ ‬إبراهيم‭ ‬بن‭ ‬أدهم،‭ ‬وكان‭ ‬أميرًا‭ ‬مقبلاً‭ ‬على‭ ‬ملذات‭ ‬هذه‭ ‬الفانية،‭ ‬سمع‭ ‬ذات‭ ‬يوم‭ ‬وهو‭ ‬يمتطي‭ ‬حصانه‭ ‬في‭ ‬الصحراء،‭ ‬هاتفًا‭ ‬ناداه‭: ‬ايا‭ ‬إبراهيم‭! ‬ما‭ ‬لهذا‭ ‬خُلقت،‭ ‬ولا‭ ‬بهذا‭ ‬أمرتب‭! ‬فمن‭ ‬ساعتها‭ ‬ترك‭ ‬كل‭ ‬الملذات‭ ‬التي‭ ‬كان‭ ‬منصرفًا‭ ‬إليها،‭ ‬ولبس‭ ‬المرقّعة،‭ ‬واعتزل‭ ‬الناس‭.‬

إلا‭ ‬أن‭ ‬المهم‭ ‬في‭ ‬حكاية‭ ‬إبراهيم‭ ‬بن‭ ‬فاتك‭ ‬هو‭ ‬صوت‭ ‬الهاتف‭ ‬الذي‭ ‬زلزل‭ ‬قلبه‭ ‬ووجدانه‭: ‬أنه‭ ‬لم‭ ‬يُخلق‭ ‬لهذا‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬منصرفًا‭ ‬إليه،‭ ‬ولا‭ ‬أمر‭ ‬به‭. ‬فكأن‭ ‬على‭ ‬طالب‭ ‬الأدب‭ ‬أن‭ ‬يُنصت‭ ‬أولاً‭ ‬إلى‭ ‬داخله،‭ ‬أي‭ ‬أن‭ ‬يتفحص‭ ‬أوراقه‭ ‬االثبوتيةب،‭ ‬المركوزة‭ ‬أصلاً‭ ‬في‭ ‬جبلته،‭ ‬ليعرف‭ ‬على‭ ‬سبيل‭ ‬اليقين،‭ ‬ما‭ ‬خُلق‭ ‬له‭ ‬وما‭ ‬أُمر‭ ‬به‭. ‬فإذا‭ ‬لم‭ ‬يلتفت‭ ‬إلى‭ ‬انقطة‭ ‬النظامب‭ ‬هذه،‭ ‬قطع‭ ‬الحياة‭ ‬الأدبية‭ ‬بغلّةٍ‭ ‬لم‭ ‬تُنقع،‭ ‬على‭ ‬حدّ‭ ‬تعبير‭ ‬الشاعر‭ ‬القديم‭.‬

ثمة‭ ‬بذرة‭ ‬أساسية‭ ‬واجبة‭ ‬الوجود‭ ‬في‭ ‬الكينونة‭ ‬ليستوي‭ ‬المرء‭ ‬شاعرًا‭ ‬أو‭ ‬مبدعًا،‭ ‬فإذا‭ ‬لم‭ ‬تتوافر‭ ‬هذه‭ ‬البذرة،‭ ‬فعبثًا‭ ‬يتعــب‭ ‬المرء‭ ‬ليكون‭ ‬هذا‭ ‬الشاعر‭ ‬أو‭ ‬المبدع‭. ‬ولكن‭ ‬على‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬أهمية‭ ‬هذه‭ ‬البذرة‭ ‬التي‭ ‬نسمّيها‭ ‬بالموهبة،‭ ‬فإنها‭ ‬غير‭ ‬كافية‭ ‬وحدها‭ ‬في‭ ‬صناعة‭ ‬الشاعر‭ ‬أو‭ ‬المبدع‭. ‬فلابد‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬يعبّ‭ ‬المرء‭ ‬من‭ ‬دنان‭ ‬الثقافة‭ ‬بلا‭ ‬حدود،‭ ‬وأن‭ ‬يظل‭ ‬يطلب‭ ‬المزيد‭ ‬نظرًا‭ ‬لأهمية‭ ‬الثقافة‭ ‬ومعها‭ ‬التجربة‭ ‬والروية‭. ‬ومن‭ ‬دون‭ ‬هذا‭ ‬الثلاثي‭ ‬مجتمعًا‭ ‬تضيع‭ ‬الموهبة‭ ‬سدى،‭ ‬ولا‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬تعوّض‭ ‬عنها‭ ‬لا‭ ‬االتقدميةب‭ ‬ولا‭ ‬اموضوعات‭ ‬الساعة‭ ‬الملحّةب‭ ‬اللتان‭ ‬استدعاهما‭ ‬رسول‭ ‬حمزاتوف‭ ‬لمجاملة‭ ‬أمّ‭ ‬الشاعر‭ ‬التي‭ ‬وصفت‭ ‬ابنها‭ ‬بأنه‭ ‬بلا‭ ‬موهبة‭!.‬