سعيد شوارب وأحلام بلون الأرق

سعيد شوارب  وأحلام بلون الأرق

يُهدي الشاعر والأكاديمي الدكتور سعيد شوارب أحدث دواوينه «أحلام بلون الأرق» إلى عمّ صابر: «هذا الأمل المنطلق كصهيلٍ برِّيٍّ، فقد علّمني في شيخوخته ما لا أنساه في شيخوختي، تحت أهدابه يموج شراعٌ شابٌّ كقوس قُزح، فيه روح الفيضان وفيه روح التحرير».

 

ونحن قراءَ الديوان لا نعرف عمّ صابر، وليس ضروريًّا أن نعرفه، لكننا سنراه في مفتتح الديوان رمزًا للأمل، والانطلاق، وللصبر المشتقّ من اسمه، تحمُّلاً لمعاناة الزمان وقسوة العمر الذي أخذ به إلى الشيخوخة لكنه بلغة الشاعر شراع شابٌّ كقوس قزح.
وسعيد شوارب، في هذا الديـــوان وفــي دواوين كثيرة سبقته، يغرف شعره من أيسر سبيل، يمدُّ يده إلى أقـــرب نبع للإلـــــهام، فتسعفه اللحظــــة بــــــما لم يُغبّر جواده بحثًا عنه، وارتحالاً إليه، إنه -الشعر- أقرب إليه من حبل الوريد، يكفي أن يعلن تهيؤه له، حتى يواتيه.
عالم من الألوان، والظلال، والكلمات المتطايرة كالفراشات يملأ شعر هذا الشاعر، الذي عوّقته الأكاديمية، والبحث العلمي: أدبًا ونقدًا، عن التفرُّغ الكامل لمحبوبه الأول، الذي يظلّ يشاغله ويداوره، ويوسوس في صدره وأذنيه، حتى يتخلص من سحنة المعلم والأستاذ، ويتقمَّص ثانية وجه الشاعر.
في قصيدته «رسالة إلى أبي فراس الحمداني» إيماءات وومضات، تعيد قراءة الموروث الشعري، وإضاءة المشهد بوعي الشاعر المعاصر الذي يفتنه عندما يقترب من أبي فراس ملحمة البطولة والأسْر، ومعاناة البحث عن الافتداء وقد تقاعس المفتدي فطالت ليالي السجن، هو الذي نماه الكِبْرُ والحبّ والشعر، هو النخيل الأخضر الشامخ، الذي كلما اهتزّ جذعه انهمر التمر. 
واختيار الشعراء المعاصرين للرمز المضيء أبي فراس موقف جليل لاستدعاء التراث ومعانقة الموروث، وقد سبق محمد إبراهيم أبو سنة بقصيدته التي تحمل العنوان نفسه بعدة سنوات، لكنّ قصيدة سعيد شوارب أقرب إلى المعارضة لأنها تلتزم البحر الشعري والقافية، وأقرب إلى الزهو والافتنان بمشاغلة أبي فراس ومحاولة إخراجه من صمت أسره وسأمه الطويل، وتذكيره بالحب والنجم والأفق الحرّ، بينما يطوّف أبو سنة بشواغل العصر، وبكاء «حلَب» التي كانت قلعة الإمارة وعين الزمان، مُسْقِطًا عليها تداعيات الزمن العربي، بعد أن انهار وتداعي..
يقول سعيد شوارب:

أراك عصيَّ الصبر، أضلاعُكَ الجمرُ
وجفناك قفر، ليس يُطفئه نهرُ
نصْحتُكَ، فابكِ اليوم، لا أدمعٌ غدًا
غدٌ قدرٌ للحادثاتِ، غدٌ أمرُ
كأني أرى نَوْءًا بعينيك عاصفًا 
وترمي بك الأهوال والمدُّ والجزْرُ
وحبٌّ تولّتْهُ الوشاةُ فلم يزَلْ
يشقُّك بيْنٌ، إن مضى شقَّك الهجْرُ
وغربةُ دارٍ لا ترى أين بابُها
فلا نجمُها نجمٌ، ولا ستْرُها ستْرُ
وشَتْ بك آهٌ، خانك اليوم حبْسُها 
وقد كنْتَ ممَّن لا يذاعُ له سرُّ
فصرْتً سجينًا، أصبح السجنُ بعْدَهُ
سجينكَ، والسجّانُ يقتلهُ الذُّعْرُ
وأَسرتْ بك القضبانُ نجمًا مسافرًا
على الدهر، لا يبْلى إذا بَلِيَ الدهرُ
عدوُّك روميٌّ هوى كبرياؤهُ
وأنت نماكَ الكِبْرُ والحبُّ والشعرُ
وأنت نخيلٌ أخضرُ الظلِّ شامخٌ
إذا هُزَّ جذعٌ، راح ينهمر التَّمْرُ
***
وما عجبٌ أن يصْنَع الأسْرُ أنجُمًا
فإن اللآلي كلَّها، صاغها البحرُ
أراك بصمت الأسر يا نسْرُ غارقًا
وقد ضاق عن تحليقك الأفقُ الحرُّ
سئمْتَ سنين الأسر؟ لسْتَ بواحدٍ
أَطِلَّ علينا، فالمدى كلُّهُ أسْرُ
تذكّر هوًى أضناك والنجم راقدٌ
أما للهوى نهيٌ عليك ولا أَمْرُ؟
***
أمدُّ إلى الآفاق جسرًا مهّدْتَهُ 
وقام على حافاته الشجرُ الخُضْرُ
وقلتَ: هنا مُرُّوا إلى المجد، دَرْبُكُمْ
هو المجدُ، فاستعصوْا عليكَ، وما مرّوا
أعْرنيَ من عينيكَ نجمًا، لعلّني
أصيرُ عصيَّ الدمع شيمتيَ الصبرُ
وأُصبحُ كفًّا تُطلقُ الحُبَّ أخضرًا
وتورقُ في الدنيا أناملها العشْرُ
فرُبَّ فتًى في سدْرةِ الغيْبِ قادمٍ
 يكون على شطآنه الفرح النضْرُ
يقوم إلى فرعونَ في يوم زينةٍ
فموسى كليمُ الله، علّمهُ الخِضْرُ
تتوهج القصيدة بتضمينات مختارة من قصيدة أبي فراس التي يعارضها سعيد شوارب، كما تذكِّرنا بعبارة النقاد الفرنسيين حين يقولون :»ليس الليث إلا عدة خراف مهضومة»، وذلك في مجال تفسير ظاهرة الأدب المقارن، وانتقال الصور والصيغ والأفكار من نصٍّ أدبيّ إلى آخر، ودور الحافظة الشعرية للمبدع في تمثُّل أجمل ما قرأ وأعذبه، وإفرازه - دون تعمُّد وربما دون وعي منه - فى كتاباته هو. 
وقد جاء الشطران: «وقام على حافاته الشجر الخُضْرُ» و«تورق في الدنيا أناملُها العشْرُ»، مثالاً جميلاً لهذا الهضْم والتمثل للبيت العذري البديع لأبي صخرٍ الهُذليّ:

كأن يدي تندى إذا ما لمسْتُها
وينبت في أطرافها الورق الخضرُ
ولقول الشاعر في معنى الخلود:
وتركك في الدنيا دويًّا كأنما
تداول سمْع المرء أنملهُ العشرُ
وفي قصيدته الثانية «جملة» التي يقفز عنوانها من معجم «الأكاديمية» في عمل هذا الشاعر الأستاذ يقول:

جملةٌ مُعربة
فتحت كوّةَ العمر، وانهمرت أجوبة
أومأت كفُّها، انقشع الأفقُ، والأتربة
يا لهدبين يمتشقانِ السؤالَ
فلم أدرِ هل أنا بينهما قاتلٌ
أم قتيلٌ؟
جملةٌ فِعْلُها تحت هدبيْك
رادارها غامضٌ
ليس يُجدي بها الحرسُ المستبدُّ 
ولا يتقيها الحِذارُ الطويلْ!
مدهشٌ همسُها
التقطتْهُ المطاراتُ ملْءَ فضاءاتِ رُوحي
تُفكّكُ شفْرتهُ
يا لهذا الغموضِ الجميلْ!
فجأةً
ينهضُ العُمُر الهاجعُ
قادمٌ أنا من صهوةِ العُمْرِ؟
أم راجعٌ؟
غير أن المداراتِ.. كلَّ المدارات من حولنا 
والمدارجَ
مأخوذةٌ بالصدى، والصهيلْ!
هو السحرُ بل حُلْمنا أروعُ
هو الكون بل حُلْمنا أوسعُ
تلفّتُ أسألُ:
كيف قضيتُ القرون-ولي سعةُ البحرِ- 
في الأرخبيلْ؟
كأنا جناحانِ في مَدْرجِ الحُلْمِ
طائرةٌ تُقلعُ
فلا تعرفُ المستحيل!
حلّقتْ بيَ في لحظةٍ
- مذ أَبحْتُكَ كلَّ أثيري وعيني - 
تملأُ كفَّيَّ
يمتدُّ كونٌ جديدٌ جديدٌ وراء تخوم الذهول 

بأنَّ المقادير قد توَّجتني عُروشَ سليمانَ
جنَّ سليمانَ
سرَّ عهودِ سليمانَ
مفتاح كلِّ مدًى مستحيل
بلى..
جملةٌ نَفثتْ في غموض المجرَّةِ أشواقَها
فاستبان السبيل
فلا شيء من سرِّها يمنعُ
ولا شيء في سحْرها ينفعُ
ولا غير حرفين من سدْرة النور ينهمرانِ 
سَنًا.. أسمعُ
ولا أسالُ القلب من بعدها، عن دليلْ!
في الكويت أنجز الشاعر سعيد شوارب معظم قصائد ديوانه «أحلام بلون الأرق»، وكأنما كانت الغربة والحنين والوحدة والتذكُّر ومعاناة قوس الليل وقوس النهار مُفجِّرًا لإبداعاته هذه، كما كانت مفجرًا لكثير من قصائد دواوينه الحديثة الظهور من بينها «لغو العصافير» و»سرتُ والنيلَ وما»  (وكأنه في حوار شعري مع صديقه الشاعر والأكاديمي محمد حماسة عبداللطيف في ديوانه «النيل» الذي تبدأ أولى قصائده بعبارة «سرتُ والنيلَ» التي جعلها الشاعر سعيد شوارب عنوانًا لأحد دواوينه، وبعدهما: «ما قالت الريح للنخيل» (من قصيدة النهر الخالد لمحمود حسن إسماعيل) و«الآن أبدأ من جديد» و«أول من يرشُّ الماء صبحًا» و«خطاك تبتكر الجهات» و«أعترف الآن» الذي يسبق ديوانه الأخير بعام واحد. 
أما أقلُّ قصائد الديوان فقد أنجزها في القاهرة، في إطلالاته السريعة قبل أن يعود ويستقرّ مُوثّقا خطواته في الأرض التي نمتْهُ ورعْتهُ وشهدته غرسًا يفصح عن جناهُ، وينتشر عطرهُ بين غيره من الغراس.
ومن بين هذه القصائد القاهرية تستوقف القارئ قصيدته «أبي» التي هي في حقيقتها قصيدة الديوان المركزية، ومدار أفقه الشعري.    يقول سعيد شوارب:
مثل امتداد مصحفٍ من بيتنا الغافي على ذراعِ
النيلْ
إلى حدود حقلنا المجدول في سبائك الأصيل 
يمتدُّ صوتك الحبيبُ من حدود أحرفي الأولى
لساعة الرحيل
يمتدُّ صوتُك الثريُّ بالأشجانِ
بالقرآنْ
يمتدُّ صوتك الثريُّ بالإنسانْ
يمتدُّ صوتُك الشجيُّ أيها المزارع النبيلْ
بالشعر، بالأوزانْ
يأيها المزارعُ النبيلْ
ما أَجملكْ!
هل قال شيء لك ألف هيْتَ لك؟
قل لي إذن من أين لكْ؟
بوابةُ البرق التي فَتَحْتْ
دَخَلْتَها فما استرحْت
كتابُك المفتوح من رضًا، ومن نخيل
من أبجديات الحياة حين تنسخ الألوان 
والأيام والفصول
حروفُها جداولٌ، سنابلٌ سكرى بخمرة الأصيلْ
يأيها المزارع النبيلْ
من أيِّ غيْبٍ جئتَ باللحونِ والشجنْ؟
إني تكاد أدمعي تجري مع الترتيلْ
من أيِّ غيْبٍ جئتَ «بالخليل»؟
ما خُضْتَ موجًا في بُحورِه
لم تدْرِ ما «التفعيلْ»
يأيها المزارع النبيلْ
يأيها المحمولُ في ذاكرة الغلالِ
في ذاكرة الأطفالِ
في ذاكرة الحقول والظلالْ
يا أيها المحمول في ضفائر السّرْوِ وفي 
سَجادة النَّجِيلِ
يا أيها الهاتفُ في خواطر النوافذ المجاورة
تمدُّ قلْبَها في الفجر كي تستمع الترتيلْ
يجيء منك خاشعًا ووادعًا
كأنه في لحظة التنزيل
يا أيها القويُّ والأبيُّ والغنيُّ بالقليلْ
دنياك مذْ ولدْتَ وهي حَملٌ مهزول
فكيف تسبق الخيوِل؟
اشرح لنا معنى الرّضا
وكيف عودُ عُمرك انقضى فما انحنى وما 
انكسرْ؟
درب من السلام والدروبُ حوله، يرجُّها الخطر
دربٌ من الشموخ في ابتسامة تضئُ لي 
معالم السّبيل
كأنك الطيور تغدو خاويات البطن في البكُورْ
كأنها أغنيةٌ مشغولة بالنور
يضمُّها المساءُ والغناءُ والشجنْ
يقينها في ربِّها لم يختلط بظنّ
ما غيّرتْها مرةً شمسٌ ولا قمرْ
ولم يُغيّرْ قلْبَها تحوُّلُ الفصول
يا أيها المزارعُ النبيلْ
كم جئتُ مشدودًا إليك بالسؤال،
مثلما انشدّ وترْ
إذا لمسْتَهُ أرنّْ
وأنت لا تنكرني إذا الزمانُ أنْكَرنْ
صدرُك لي زهر ونهرٌ ووطن
يولد فيه الحبُّ في ضفائر النخيل
يمدُّ صوتك الحبيبَ من طفولتي،
لساعة الرحيل
يأيها المزارعُ النبيلْ
ويستحيلُ حلمُك القديم سيّدي،
أجنحةً، تخفّ للنزول
يمتدُّ نعْيُكَ المهيبُ في ملامح الرجالِ
في استكانة الظلال
في سكْتة البيت الحزينة الأطلالْ
يمتدُّ نعْيُك المهيب في استسلامة الأصيل 
حين يسكبُ الشجنْ
في شهقة الإناء حين يُحلب اللبنْ
يسأل أين كفُّك الفنان فوق فوهة الوعاءْ
يعزف لحن الحلْبِ للضحى وللمساءُ
فتعرفُ الحَلُوبُ لحْنَها
فتقتربْ
تجيئهُ ميعادَ حُبّ
أسألها بدمعي:
أنا الوفي
ستنفرين الآن من كفَّيّ
ويستحيل صمتُ أدمعي وصمتهُا أضرحةً
كأنها صراخُ جُبّ
ويستحيل صوت أضلعي وصوتُها مسبحةً
كأنها انفراطُ قلب
والشمس في جنازة الأفول.
وبعد..
لقد وجدتُ في الديـــــوان كثيرًا من جمال العربية، ومــن تجليـــــات الإبداع الشعـــري، ووجدتُ أحلامًا وصحْوًا، لكنني افتقـــدتُ الأَرقْ! ■