«عوالم شعرية معاصرة» يبنيها ثلاثة شعراء وناقد

كيف قرأ ناقد مثل جابر عصفور ثلاثة من شعراء عصرنا (صلاح عبدالصبور، وأمل دنقل، ومحمود درويش) جرى جمعهم في كتاب واحد؟ هل قرأهم من خلال مشترك شعري يجمع بينهم بوصفهم شعراء من عصر واحد تقاربت فيه الرؤى، أو أنهم يمثلون التصاعد الزمني في رؤيتهم العصر شعريًا، كما في حضورهم الشعري، حيث كانت بداية الأول منهم مع بدايات الخمسينيات، ليتنامى شعريًا وتتطور تجربته في الستينيات التي ستشهد ولادة الشاعرين الآخرين، فيؤلفوا ثلاثتهم، على النحو الذي جمعهم فيه الكتاب بعوالمهم الشخصية في حدّ منها، وتقاربهم من خلال أكثر من حدّ آخر، زمنًا شعريًا بامتياز؟
أم أنه جمع بينهم، على ما أراد، ليكتب عن نصف قرن من الشعر العربي الحديث: تأسيسًا، ومنجزًا تاسيسيًا، وتطويرًا لهذا المنجز من خلال تفحص نقدي لبناه الفنية والموضوعية كما جسدها هؤلاء الثلاثة، مقدِّمًا منهم، ومن خلالهم، صورة مكثفة الأبعاد لما تكاملت فيه/ وبه هذه التجربة الشعرية في ما رسمه لها هؤلاء الثلاثة من شعرائها البارزين من أبعاد فنية وأخرى موضوعية، فضلًا على تمثيلهم عوالم إن تقاربت في شيء فإنها تكاملت في أشياء مثّلت، أو تمثلت فيها معالم حداثة العصر الشعري العربي الحديث؟
مثل هذه التساؤلات يثيرها كتاب الدكتور جابر عصفور هذا: اعوالم شعرية معاصرةب (كتاب العربي 88 - أبريل 2012). فعلى أي نحو جاء الجواب؟
في مقدمته القصيرة يكشف الكاتب عن/ ويؤكد جانبًا ذاتيًا اندفع بهذه القراءة الى ما تحققت به: سواء في ما اعتمد من منظور نقدي، أو اتبع من أسلوب.. وهو الجانب الذاتي ـ الشخصي في علاقته بالشعر، وكأنه يريد القول بداية، ومن باب التأكيد لرؤيته المنهجية، إنه في ما يقدّم من قراءة لشعراء هذا الكتاب يتصل طرف منها بهذه العلاقة (الذاتية) ويُصدِرُ عنها، بينما يخضع الطرف الآخر لمنظور نقدي تحدده نظريته في القراءة. فإذا كان الشعر ملاذه - كما يحب التاكيد - فإن هذا هو ما يدفعه للحماسة للنص الشعري الذي يمتّعه، ويجعل قراءته له تتحول االى عملية متعة خاصةب.
إلا أن هذه االعلاقة الذاتــــيــةب لا تحـــجـــــب ما هو نــقــــدي: فهــو يُخــــضـــع ما يقــــرأ لنظـــريـــة في القراءة، وإن لـــم يعلــن حدودهــــا، ويأخذ نفسه بمعايير فنية في التقييم يجعل منها منطلقه في البحث في الأسس الفنية والموضوعية لقصيدة شعرائه الذيــن جمعهم هذا الكتاب، وإن كان الواقع - كما تقول القراءة - قد جمعهم، هو الآخر، ولكن، على نحو مختلف.
ومع أن الكتاب كان قد وضع أولًا في صورة مقالات نشرت على نحو متتابع في مجلة االعربيب (وكان ذلك سببًا لعدم تجنبه مغبة تكرار بعض الأفكار، والعبارات النقدية التي لا يسلم منها كتاب يتم وضعه على هذه الصورة)، إلا أننا، على الرغم من ذلك، نجد خيوط الرؤية النقدية تتواشج عنده مؤلِّفةً اطريقةب في القراءة لها ما تؤكده محصلةً، أكثر من أن تأتي بما تؤسس له...
- فالخيط الأول في هذه القراءة يشكله التأكيد على ما يتمثل فيه جوهر الإبداع الشعري في نظر الناقد. فالشاعر عنده، أو كما يترسم حركة استجابته، هو القارئ، لعمله الشعري، بحكم ما يتحقق من اتلقٍ متفاعلب هو ما ينسج رؤياه الشعرية التي يعيدها الى أحلامه، عادًّا الحلم اجنين الواقعب (ص129)، وأن الشاعر، بحسب هذه النظرة إليه، هو الرائي ـ كما تمثله في حالة أمل دنقل.
- ويتشكل الخيط الثاني مما يبحث عنه، هو القارئ، في الشعر، أو ما يريده من الشاعر. فإذا كان من بين ما يرتكز إليه مفهوم القراءة هو التشارك بين االقارئ / الناقدب واالنص / عالم الشاعرب، سنجد من بين ما يرى فيه الكاتب تميّز الشعر هو عقد التواصل ابين الشعر ولغة الحياة اليومية ومفرداتهاب، وقد وجدها متحققة عند عبدالصبور بوجه خاص، عادًّا ذلك اعلامة فارقة من علامات حداثة اللغة الشعرية.ب (ص25)
التواصل مع المعنى
- والخيط الثالث هو خيط التواصل مع المعنى الذي ينسجه الشاعر في ما يقول، سواء جاء ذلك من خلال تواصلات المعنى، أم في تعدد طبقات هذا المعنى ـ في ما يمضي فيه الشاعر من تفاصيل، حتى في القصيدة الواحدة.. إذ يجد أن عبدالصبور، مثلًا، قد تنقّل في قصيدة واحدة من الاستهلال االى حضور الأغنية، أو حضور القصيدة التي تحولت الى صندوق أوتاره الظلام والخيال، صندوق يعود من الغناء للصحاب المشابهين في الجرح الى الحبيبة التي تُلهم الأغنية، كما تلهم المزيد من الغناء...ب (ص45) فإذا ما بحثَ في االدلالةب وجد الحب فيها يُفضي االى الشعر ويلازمهب، وأن البداية في هذا هي ما يجده في ما يأتي به الشاعر من اصورة فريدة... تمتزج فيها المدركات وتتجاذب الإحساسات، فيغدو المسموع مرئيًا والمرئي مسموعًا، والمحسوس معنويًا والمعنوي حسيًا، والاستعارة المكنية الأساسية تتحول الى استعارة مرشحة تتولد منها تشبيهات واستعارات فرعية متداخلةب لها إيقاعها. (ص45 - 46) أو كما في قصيدة أمل دنقل: باعتماد خصائص أسلوبية تقوم، أكثر ما تقوم، على المفارقة والتضاد، إذ إنه، أي الشاعر، يؤكد االسخرية من خلال المفارقةب، وايجسد التضاد الذي تنبني عليه علاقات الواقع المختلب، وإن كان كثيرًا ما يعتمد في هذا النُطقَ ابلغة أقنعته المستعارةب (ص165)، فضلًا عن بنائها االقائم على التداعي، ومن ثمّ الذاكرةب، التي يعدها الكاتب اجوهر الإبداع ومحرّكهب (ص218)، وهو ما يجد فيه محمود درويش، وإن في مستوىً آخر، إذ إنه توجّه نحو االسِيَر الجماعية، والحكايات والأساطير والاقتباسات الدينية، ليقرأ منفاه الذاتي والوطنيب. (ص222)
- يحفّ بالخيط السابق خيط رابع يتمثّل في تداخل الموقف بين ارؤيا الشاعرب وارؤية الناقدب التي ترصد التطور وتتابع مجرياته. فهو - كما لويس عوض - لايهمه أن اينظم الشاعر في الشكل الجديد مشاعر يمكن التعبير عنها بالشكل العموديب (ص79) ـ كما جاء في ملاحظتيهما على الديوان الثاني لعبدالصبور اأقول لكمب.
واللافت هنا هو اعتماده في تشكيل خيطه النقدي هذا عن الشاعر معتمدًا ما نسجه الآخرون على نَوْلهم الخــــاص بما تضمن من رؤية يبدو أنه على توافق معها، فهو يثبتها بنصها، وإن كان لا يعتمد عليها في نسيج رؤيته.
- ويتمثل الخيط الخامس في متابعة الشاعر في رحلته الشعرية، ناظرًا في أعماله كونها تفاعلات ارتدادية، ليس غير، لحقب عاشها، وإن تميزت عن بعضها البعض فبأمرين: تطور الموقف الشعري الواقعي من خلال/ بفعل تبدلات الواقع ذاته.. وتطور رؤية الشاعر له بتنامي رؤياه الشعرية فيه. فهو إذ ينظر الى عبدالصبور في ديوانه الثاني (أقول لكم) يجده قد تحوَّل فــــــيه موقفًا عن الديــوان الأول (الناس في بلادي)... أي أن تحوله هذا قد جرى من ادائرة الوجدان الجمعيب الى االوجدان الفرديب، مقتربًا في ديوانه الثاني امن الرمزية بالتباساتها الخاصةب (ص54).. ليخلص الى ما يسميه االفكر الشعريب الذي يجد قصيدة الشاعر، في ديوانه هذا، قد أسست له.
أو كما في حال أمل دنقل الذي يجده، هو الآخر، قد وصل في تطوره الشعري الى أن شكّل عالمًا اشديد الخصوصية والأهمية في تاريخ الشعر العربي المعاصرب، إذ اوصل بالمحتوى القومي للشعر الى درجة عالية من التقنية والقيمة الفكرية في وقت واحدب، الى الحد الذي يدفعه الى القول بأن شعره اهو المحليّ الحداثي الأخير للرؤية القومية في الشعر العربي المعاصر...ب (ص155)
التواصل مع الآخر الشعري
- والخيط السادس هو خيط التواصل مع الآخر الشعري. فإذا كان شاعر مثل ات.س. إليوتب هو من اقاد عبدالصبور الى القصيدة التركيبية التي أصبحت سمة أساسية في شعرهب، فإن عبدالصبور، بدوره، هو من سيقود أمل دنقل الى مثل هذا البناء التركيبي للقصيدة التي تتكوّن من مقاطع متتابعة، متباينة في دلالة كل مقطع من مقاطعها الجزئية، لكن متجاوبة في الدلالة الكلية التي تصل بين جميع المقاطع.ب (ص104 - 105)
وفي فصلين، قد يدخلان ضمن نسيج هذا الخيط، عقد الأول منهما حول ارمزية المرآةب والثاني عن اتجليات القرينب في شعر محمود درويش، أشار الى تلك االتصادياتب الحاصلة، في هذا المستوى، بين قصيدته وقصيدة دنقل.. مهملًا البحث، إلا من إشارة عابرة، في الحضور الأوضح في هذا الجانب لقصيدة سعدي يوسف التي نجد اتمثيلاتهاب واضحة في غير قصيدة للشاعر. ولا أحسب الكاتب، وهو الناقد المتابع لمجريات عمله النقدي، بغافل عن ذلك.. ولكنه اكتفى بالإشارة، ونأى عن التفصيل الذي دخل فيه بين درويش ودنقل.
- وأما الخيط السابع فهو خيط الموضوع الشعري، والمؤثرات الفعلية في تكوينه. فإذا ما وجد أن صدمة الواقع السياسي هي التي امتدت بفعلها الأكبر في شعر عبدالصبور، فضلًا على االخيبة العاطفيةب التي دخل الكاتب في تفاصيلها... فإن ما كان من اتشابه الشخصيةب بين أمل دنقل وأحمد عبدالمعطي حجازي مصدره ريفيتهما.. فـاكلاهما ريفي ينطوي عشقه للمدينة على نوع من الريبة فيهاب... فضلًا عن أن الحسية سمة عند كل منهما.. فهي ابوصلته الحاسة التي تتمثل الملموس والمحسوس لتعيد إنتاجه بما يكشف عن الدور البارز للمدركات الحسية في تشكيل صور الإدراكب. (ص135)
ومن هنا ما يجده عند دنقل الشاعر في ما يخص ارؤية العالمب التي هي، بحسب قراءة الكاتب، ليست ابعيدة عن الصور التراثية للكون الذي يواجه فيه قناعُ الشاعر قناعَ الحاكم ويوازيه بقدر ما يتعارض وإياهب (ص137)... ممثلًا على ذلك بـامركزية الأناب عند الطرفين.. في وقت يجد فيه االحضور القوي للذات التي تحدّق في نفسهاب هو ما ما يميّز الأعمال الشعرية الأخيرة لمحمود درويش. (ص238)
غير أن اللافت للانتباه هو أن الكاتب يصطحب معه، دائمًا، صديقًا له، أوللشاعر الذي يقرأ، وكأنه يريد أن يجعل منه االشاهدب على ما يروي ويقول.. وإن التقيناه على غير حالة وموقف: فهو مرة يتعرّف من خلاله، ومرة ينقل ما له من وجهات نظر في مسارات القراءة التي يقدّم، وفي ثالثة هو أقرب إلى االدليلب وأشبه بـارفيق الدربب والقراءة: يشغله ما يشغل الكاتب، ويصاحبه في ما يتداعى عليه من ذكريات..
هذا من جانب. ومن جانب آخر هناك اخصوصيةب أخرى في هذا الكتاب، لعلها تترافق مع سابقتها، أو أنها نتيجة موضوعية لها، وتتمثل في ما يمكن أن نسميه االتداخل السيريب بين الكاتب والآخر، موضوع الكتابة. فهو إذ يكتب عن الشاعر، والكتابة نقدية في الأساس، كثيرًا ما ينعطف نحو اسيرورة العلاقةب بينه وبين من يكتب عنه، لا شعريًا وحسب، وإنما في الإطار الشخصي لهذه العلاقة.. آخذًا إياها في كثير مما لها من اانعطافات شخصيةب تتصل به، هو الآخر.. وإذا نحن أمام سيرتين في انص نقديب واحد، وهو أمر قد لا يحدث على النحو الذي يحدث فيه عند سواه من النقاد في ما لهم من عمل نقدي...
بل لنقل إنه يعقد ثلاث سير في نص نقدي واحد: فهناك اسيرة الواقعب بوصفه مسرحًا للحدث (في ما يتعلق بالمكان والزمان)، وهناك اسيرة الشاعرب التي يدوّن منها ما يساعده في عملية القراءة، تحليلًا وتفسيرًا، أو يضيء كشوفاتها.. وهناك اسيرتهب، هو القارئ، متلقيًا وشاهدًا .