«عوالم شعرية معاصرة» يبنيها ثلاثة شعراء وناقد

«عوالم شعرية معاصرة»  يبنيها ثلاثة شعراء وناقد

كيف‭ ‬قرأ‭ ‬ناقد‭ ‬مثل‭ ‬جابر‭ ‬عصفور‭ ‬ثلاثة‭ ‬من‭ ‬شعراء‭ ‬عصرنا‭ (‬صلاح‭ ‬عبدالصبور،‭ ‬وأمل‭ ‬دنقل،‭ ‬ومحمود‭ ‬درويش‭) ‬جرى‭ ‬جمعهم‭ ‬في‭ ‬كتاب‭ ‬واحد؟‭ ‬هل‭ ‬قرأهم‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬مشترك‭ ‬شعري‭ ‬يجمع‭ ‬بينهم‭ ‬بوصفهم‭ ‬شعراء‭ ‬من‭ ‬عصر‭ ‬واحد‭ ‬تقاربت‭ ‬فيه‭ ‬الرؤى،‭ ‬أو‭ ‬أنهم‭ ‬يمثلون‭ ‬التصاعد‭ ‬الزمني‭ ‬في‭ ‬رؤيتهم‭ ‬العصر‭ ‬شعريًا،‭ ‬كما‭ ‬في‭ ‬حضورهم‭ ‬الشعري،‭ ‬حيث‭ ‬كانت‭ ‬بداية‭ ‬الأول‭ ‬منهم‭ ‬مع‭ ‬بدايات‭ ‬الخمسينيات،‭ ‬ليتنامى‭ ‬شعريًا‭ ‬وتتطور‭ ‬تجربته‭  ‬في‭ ‬الستينيات‭ ‬التي‭ ‬ستشهد‭ ‬ولادة‭ ‬الشاعرين‭ ‬الآخرين،‭ ‬فيؤلفوا‭ ‬ثلاثتهم،‭ ‬على‭ ‬النحو‭ ‬الذي‭ ‬جمعهم‭ ‬فيه‭ ‬الكتاب‭ ‬بعوالمهم‭ ‬الشخصية‭ ‬في‭ ‬حدّ‭ ‬منها،‭ ‬وتقاربهم‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬حدّ‭ ‬آخر،‭ ‬زمنًا‭ ‬شعريًا‭ ‬بامتياز؟

أم‭ ‬أنه‭ ‬جمع‭ ‬بينهم،‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬أراد،‭ ‬ليكتب‭ ‬عن‭ ‬نصف‭ ‬قرن‭ ‬من‭ ‬الشعر‭ ‬العربي‭ ‬الحديث‭: ‬تأسيسًا،‭ ‬ومنجزًا‭ ‬تاسيسيًا،‭ ‬وتطويرًا‭ ‬لهذا‭ ‬المنجز‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬تفحص‭ ‬نقدي‭ ‬لبناه‭ ‬الفنية‭ ‬والموضوعية‭ ‬كما‭ ‬جسدها‭ ‬هؤلاء‭ ‬الثلاثة،‭ ‬مقدِّمًا‭ ‬منهم،‭ ‬ومن‭ ‬خلالهم،‭ ‬صورة‭ ‬مكثفة‭ ‬الأبعاد‭ ‬لما‭ ‬تكاملت‭ ‬فيه‭/ ‬وبه‭ ‬هذه‭ ‬التجربة‭ ‬الشعرية‭ ‬في‭ ‬ما‭ ‬رسمه‭ ‬لها‭ ‬هؤلاء‭ ‬الثلاثة‭ ‬من‭ ‬شعرائها‭ ‬البارزين‭ ‬من‭ ‬أبعاد‭ ‬فنية‭ ‬وأخرى‭ ‬موضوعية،‭ ‬فضلًا‭ ‬على‭ ‬تمثيلهم‭ ‬عوالم‭ ‬إن‭ ‬تقاربت‭ ‬في‭ ‬شيء‭ ‬فإنها‭ ‬تكاملت‭ ‬في‭ ‬أشياء‭ ‬مثّلت،‭ ‬أو‭ ‬تمثلت‭ ‬فيها‭ ‬معالم‭ ‬حداثة‭ ‬العصر‭ ‬الشعري‭ ‬العربي‭ ‬الحديث؟

مثل‭ ‬هذه‭ ‬التساؤلات‭ ‬يثيرها‭ ‬كتاب‭ ‬الدكتور‭ ‬جابر‭ ‬عصفور‭ ‬هذا‭: ‬اعوالم‭ ‬شعرية‭ ‬معاصرةب‭ (‬كتاب‭ ‬العربي‭ ‬88‭ - ‬أبريل‭ ‬2012‭). ‬فعلى‭ ‬أي‭ ‬نحو‭ ‬جاء‭ ‬الجواب؟

في‭ ‬مقدمته‭ ‬القصيرة‭ ‬يكشف‭ ‬الكاتب‭ ‬عن‭/ ‬ويؤكد‭ ‬جانبًا‭ ‬ذاتيًا‭ ‬اندفع‭ ‬بهذه‭ ‬القراءة‭ ‬الى‭ ‬ما‭ ‬تحققت‭ ‬به‭: ‬سواء‭ ‬في‭ ‬ما‭ ‬اعتمد‭ ‬من‭ ‬منظور‭ ‬نقدي،‭ ‬أو‭ ‬اتبع‭ ‬من‭ ‬أسلوب‭.. ‬وهو‭ ‬الجانب‭ ‬الذاتي‭ ‬ـ‭ ‬الشخصي‭ ‬في‭ ‬علاقته‭ ‬بالشعر،‭ ‬وكأنه‭ ‬يريد‭ ‬القول‭ ‬بداية،‭ ‬ومن‭ ‬باب‭ ‬التأكيد‭ ‬لرؤيته‭ ‬المنهجية،‭ ‬إنه‭ ‬في‭ ‬ما‭ ‬يقدّم‭ ‬من‭ ‬قراءة‭ ‬لشعراء‭ ‬هذا‭ ‬الكتاب‭ ‬يتصل‭ ‬طرف‭ ‬منها‭ ‬بهذه‭ ‬العلاقة‭ (‬الذاتية‭) ‬ويُصدِرُ‭ ‬عنها،‭ ‬بينما‭ ‬يخضع‭ ‬الطرف‭ ‬الآخر‭ ‬لمنظور‭ ‬نقدي‭ ‬تحدده‭ ‬نظريته‭ ‬في‭ ‬القراءة‭. ‬فإذا‭ ‬كان‭ ‬الشعر‭ ‬ملاذه‭ - ‬كما‭ ‬يحب‭ ‬التاكيد‭ - ‬فإن‭ ‬هذا‭ ‬هو‭ ‬ما‭ ‬يدفعه‭ ‬للحماسة‭ ‬للنص‭ ‬الشعري‭ ‬الذي‭ ‬يمتّعه،‭ ‬ويجعل‭ ‬قراءته‭ ‬له‭ ‬تتحول‭  ‬االى‭ ‬عملية‭ ‬متعة‭ ‬خاصةب‭.‬

إلا‭ ‬أن‭ ‬هذه‭ ‬االعلاقة‭ ‬الذاتــــيــةب‭ ‬لا‭ ‬تحـــجـــــب‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬نــقــــدي‭: ‬فهــو‭ ‬يُخــــضـــع‭ ‬ما‭ ‬يقــــرأ‭ ‬لنظـــريـــة‭ ‬في‭ ‬القراءة،‭ ‬وإن‭ ‬لـــم‭ ‬يعلــن‭ ‬حدودهــــا،‭ ‬ويأخذ‭ ‬نفسه‭ ‬بمعايير‭ ‬فنية‭ ‬في‭ ‬التقييم‭ ‬يجعل‭ ‬منها‭ ‬منطلقه‭ ‬في‭ ‬البحث‭ ‬في‭ ‬الأسس‭  ‬الفنية‭ ‬والموضوعية‭ ‬لقصيدة‭ ‬شعرائه‭ ‬الذيــن‭ ‬جمعهم‭ ‬هذا‭ ‬الكتاب،‭ ‬وإن‭ ‬كان‭ ‬الواقع‭ - ‬كما‭ ‬تقول‭ ‬القراءة‭ -‬‭ ‬قد‭ ‬جمعهم،‭ ‬هو‭ ‬الآخر،‭ ‬ولكن،‭ ‬على‭ ‬نحو‭ ‬مختلف‭.‬

ومع‭ ‬أن‭ ‬الكتاب‭ ‬كان‭ ‬قد‭ ‬وضع‭ ‬أولًا‭ ‬في‭ ‬صورة‭ ‬مقالات‭ ‬نشرت‭ ‬على‭ ‬نحو‭ ‬متتابع‭ ‬في‭ ‬مجلة‭ ‬االعربيب‭ (‬وكان‭ ‬ذلك‭ ‬سببًا‭ ‬لعدم‭ ‬تجنبه‭ ‬مغبة‭ ‬تكرار‭ ‬بعض‭ ‬الأفكار،‭ ‬والعبارات‭ ‬النقدية‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬يسلم‭ ‬منها‭ ‬كتاب‭ ‬يتم‭ ‬وضعه‭ ‬على‭ ‬هذه‭ ‬الصورة‭)‬،‭ ‬إلا‭ ‬أننا،‭ ‬على‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬ذلك،‭ ‬نجد‭ ‬خيوط‭ ‬الرؤية‭ ‬النقدية‭ ‬تتواشج‭ ‬عنده‭ ‬مؤلِّفةً‭ ‬اطريقةب‭ ‬في‭ ‬القراءة‭ ‬لها‭ ‬ما‭ ‬تؤكده‭ ‬محصلةً،‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬تأتي‭ ‬بما‭ ‬تؤسس‭ ‬له‭...‬

‭- ‬فالخيط‭ ‬الأول‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬القراءة‭ ‬يشكله‭ ‬التأكيد‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬يتمثل‭ ‬فيه‭ ‬جوهر‭ ‬الإبداع‭ ‬الشعري‭ ‬في‭ ‬نظر‭ ‬الناقد‭. ‬فالشاعر‭ ‬عنده،‭ ‬أو‭ ‬كما‭ ‬يترسم‭ ‬حركة‭ ‬استجابته،‭ ‬هو‭ ‬القارئ،‭ ‬لعمله‭ ‬الشعري،‭ ‬بحكم‭ ‬ما‭ ‬يتحقق‭ ‬من‭ ‬اتلقٍ‭ ‬متفاعلب‭ ‬‭ ‬هو‭ ‬ما‭ ‬ينسج‭ ‬رؤياه‭ ‬الشعرية‭ ‬التي‭ ‬يعيدها‭ ‬الى‭ ‬أحلامه،‭ ‬عادًّا‭ ‬الحلم‭ ‬اجنين‭ ‬الواقعب‭ (‬ص129‭)‬،‭ ‬وأن‭ ‬الشاعر،‭ ‬بحسب‭ ‬هذه‭ ‬النظرة‭ ‬إليه،‭ ‬هو‭ ‬الرائي‭ ‬ـ‭ ‬كما‭ ‬تمثله‭ ‬في‭ ‬حالة‭ ‬أمل‭ ‬دنقل‭.‬

‭- ‬ويتشكل‭ ‬الخيط‭ ‬الثاني‭ ‬مما‭ ‬يبحث‭ ‬عنه،‭ ‬هو‭ ‬القارئ،‭ ‬في‭ ‬الشعر،‭ ‬أو‭ ‬ما‭ ‬يريده‭ ‬من‭ ‬الشاعر‭. ‬فإذا‭ ‬كان‭ ‬من‭ ‬بين‭ ‬ما‭ ‬يرتكز‭ ‬إليه‭ ‬مفهوم‭ ‬القراءة‭ ‬هو‭ ‬التشارك‭ ‬بين‭ ‬االقارئ‭ / ‬الناقدب‭ ‬واالنص‭ / ‬عالم‭ ‬الشاعرب،‭ ‬سنجد‭ ‬من‭ ‬بين‭ ‬ما‭ ‬يرى‭ ‬فيه‭ ‬الكاتب‭ ‬تميّز‭ ‬الشعر‭ ‬هو‭ ‬عقد‭ ‬التواصل‭ ‬ابين‭ ‬الشعر‭ ‬ولغة‭ ‬الحياة‭ ‬اليومية‭ ‬ومفرداتهاب،‭ ‬وقد‭ ‬وجدها‭ ‬متحققة‭ ‬عند‭ ‬عبدالصبور‭ ‬بوجه‭ ‬خاص،‭ ‬عادًّا‭ ‬ذلك‭ ‬اعلامة‭ ‬فارقة‭ ‬من‭ ‬علامات‭ ‬حداثة‭ ‬اللغة‭ ‬الشعرية‭.‬ب‭ (‬ص25‭)‬

 

التواصل‭ ‬مع‭ ‬المعنى

‭- ‬والخيط‭ ‬الثالث‭ ‬هو‭ ‬خيط‭ ‬التواصل‭ ‬مع‭ ‬المعنى‭ ‬الذي‭ ‬ينسجه‭ ‬الشاعر‭ ‬في‭ ‬ما‭ ‬يقول،‭ ‬سواء‭ ‬جاء‭ ‬ذلك‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬تواصلات‭ ‬المعنى،‭ ‬أم‭ ‬في‭ ‬تعدد‭ ‬طبقات‭ ‬هذا‭ ‬المعنى‭ ‬ـ‭ ‬في‭ ‬ما‭ ‬يمضي‭ ‬فيه‭ ‬الشاعر‭ ‬من‭ ‬تفاصيل،‭ ‬حتى‭ ‬في‭ ‬القصيدة‭ ‬الواحدة‭.. ‬إذ‭ ‬يجد‭ ‬أن‭ ‬عبدالصبور،‭ ‬مثلًا،‭ ‬قد‭ ‬تنقّل‭ ‬في‭ ‬قصيدة‭ ‬واحدة‭ ‬من‭ ‬الاستهلال‭ ‬االى‭ ‬حضور‭ ‬الأغنية،‭ ‬أو‭ ‬حضور‭ ‬القصيدة‭ ‬التي‭ ‬تحولت‭ ‬الى‭ ‬صندوق‭ ‬أوتاره‭ ‬الظلام‭ ‬والخيال،‭ ‬صندوق‭ ‬يعود‭ ‬من‭ ‬الغناء‭ ‬للصحاب‭ ‬المشابهين‭ ‬في‭ ‬الجرح‭ ‬الى‭ ‬الحبيبة‭ ‬التي‭ ‬تُلهم‭ ‬الأغنية،‭ ‬كما‭ ‬تلهم‭ ‬المزيد‭ ‬من‭ ‬الغناء‭...‬ب‭ (‬ص45‭) ‬فإذا‭ ‬ما‭ ‬بحثَ‭ ‬في‭ ‬االدلالةب‭ ‬وجد‭ ‬الحب‭ ‬فيها‭ ‬يُفضي‭ ‬االى‭ ‬الشعر‭ ‬ويلازمهب،‭ ‬وأن‭ ‬البداية‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬هي‭ ‬ما‭ ‬يجده‭ ‬في‭ ‬ما‭ ‬يأتي‭ ‬به‭ ‬الشاعر‭ ‬من‭ ‬اصورة‭ ‬فريدة‭... ‬تمتزج‭ ‬فيها‭ ‬المدركات‭ ‬وتتجاذب‭ ‬الإحساسات،‭ ‬فيغدو‭ ‬المسموع‭ ‬مرئيًا‭ ‬والمرئي‭ ‬مسموعًا،‭ ‬والمحسوس‭ ‬معنويًا‭ ‬والمعنوي‭ ‬حسيًا،‭ ‬والاستعارة‭ ‬المكنية‭ ‬الأساسية‭ ‬تتحول‭ ‬الى‭ ‬استعارة‭ ‬مرشحة‭ ‬تتولد‭ ‬منها‭ ‬تشبيهات‭ ‬واستعارات‭ ‬فرعية‭ ‬متداخلةب‭ ‬لها‭ ‬إيقاعها‭. (‬ص45‭ - ‬46‭) ‬أو‭ ‬كما‭ ‬في‭ ‬قصيدة‭ ‬أمل‭ ‬دنقل‭: ‬باعتماد‭ ‬خصائص‭ ‬أسلوبية‭ ‬تقوم،‭ ‬أكثر‭ ‬ما‭ ‬تقوم،‭ ‬على‭ ‬المفارقة‭ ‬والتضاد،‭ ‬إذ‭ ‬إنه،‭ ‬أي‭ ‬الشاعر،‭ ‬يؤكد‭ ‬االسخرية‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬المفارقةب،‭ ‬وايجسد‭ ‬التضاد‭ ‬الذي‭ ‬تنبني‭ ‬عليه‭ ‬علاقات‭ ‬الواقع‭ ‬المختلب،‭ ‬وإن‭ ‬كان‭ ‬كثيرًا‭ ‬ما‭ ‬يعتمد‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬النُطقَ‭ ‬ابلغة‭ ‬أقنعته‭ ‬المستعارةب‭ (‬ص165‭)‬،‭ ‬فضلًا‭ ‬عن‭ ‬بنائها‭ ‬االقائم‭ ‬على‭ ‬التداعي،‭ ‬ومن‭ ‬ثمّ‭ ‬الذاكرةب،‭ ‬التي‭ ‬يعدها‭ ‬الكاتب‭ ‬اجوهر‭ ‬الإبداع‭ ‬ومحرّكهب‭ (‬ص218‭)‬،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬يجد‭ ‬فيه‭ ‬محمود‭ ‬درويش،‭ ‬وإن‭ ‬في‭ ‬مستوىً‭ ‬آخر،‭ ‬إذ‭ ‬إنه‭ ‬توجّه‭ ‬نحو‭ ‬االسِيَر‭ ‬الجماعية،‭ ‬والحكايات‭ ‬والأساطير‭ ‬والاقتباسات‭ ‬الدينية،‭ ‬ليقرأ‭ ‬منفاه‭ ‬الذاتي‭ ‬والوطنيب‭. (‬ص222‭)‬

‭- ‬يحفّ‭ ‬بالخيط‭ ‬السابق‭ ‬خيط‭ ‬رابع‭ ‬يتمثّل‭ ‬في‭ ‬تداخل‭ ‬الموقف‭ ‬بين‭ ‬ارؤيا‭ ‬الشاعرب‭ ‬وارؤية‭ ‬الناقدب‭ ‬التي‭ ‬ترصد‭ ‬التطور‭ ‬وتتابع‭ ‬مجرياته‭. ‬فهو‭ - ‬كما‭ ‬لويس‭ ‬عوض‭ - ‬لايهمه‭ ‬أن‭ ‬اينظم‭ ‬الشاعر‭ ‬في‭ ‬الشكل‭ ‬الجديد‭ ‬مشاعر‭ ‬يمكن‭ ‬التعبير‭ ‬عنها‭ ‬بالشكل‭ ‬العموديب‭ (‬ص79‭) ‬ـ‭ ‬كما‭ ‬جاء‭ ‬في‭ ‬ملاحظتيهما‭ ‬على‭ ‬الديوان‭ ‬الثاني‭ ‬لعبدالصبور‭ ‬اأقول‭ ‬لكمب‭. ‬

واللافت‭ ‬هنا‭ ‬هو‭ ‬اعتماده‭ ‬في‭ ‬تشكيل‭ ‬خيطه‭ ‬النقدي‭ ‬هذا‭ ‬عن‭ ‬الشاعر‭ ‬معتمدًا‭ ‬ما‭ ‬نسجه‭ ‬الآخرون‭ ‬على‭ ‬نَوْلهم‭ ‬الخــــاص‭ ‬بما‭ ‬تضمن‭ ‬من‭ ‬رؤية‭ ‬يبدو‭ ‬أنه‭ ‬على‭ ‬توافق‭ ‬معها،‭ ‬فهو‭ ‬يثبتها‭ ‬بنصها،‭ ‬وإن‭ ‬كان‭ ‬لا‭ ‬يعتمد‭ ‬عليها‭ ‬في‭ ‬نسيج‭ ‬رؤيته‭.‬

‭- ‬ويتمثل‭ ‬الخيط‭ ‬الخامس‭ ‬في‭ ‬متابعة‭ ‬الشاعر‭ ‬في‭ ‬رحلته‭ ‬الشعرية،‭ ‬ناظرًا‭ ‬في‭ ‬أعماله‭ ‬كونها‭ ‬تفاعلات‭ ‬ارتدادية،‭ ‬ليس‭ ‬غير،‭ ‬لحقب‭ ‬عاشها،‭ ‬وإن‭ ‬تميزت‭ ‬عن‭ ‬بعضها‭ ‬البعض‭ ‬فبأمرين‭: ‬تطور‭ ‬الموقف‭ ‬الشعري‭ ‬الواقعي‭ ‬من‭ ‬خلال‭/ ‬بفعل‭ ‬تبدلات‭ ‬الواقع‭ ‬ذاته‭.. ‬وتطور‭ ‬رؤية‭ ‬الشاعر‭ ‬له‭ ‬بتنامي‭ ‬رؤياه‭ ‬الشعرية‭ ‬فيه‭. ‬فهو‭ ‬إذ‭ ‬ينظر‭ ‬الى‭ ‬عبدالصبور‭ ‬في‭ ‬ديوانه‭ ‬الثاني‭ (‬أقول‭ ‬لكم‭) ‬يجده‭ ‬قد‭ ‬تحوَّل‭ ‬فــــــيه‭ ‬موقفًا‭ ‬عن‭ ‬الديــوان‭ ‬الأول‭ (‬الناس‭ ‬في‭ ‬بلادي‭)... ‬أي‭ ‬أن‭ ‬تحوله‭ ‬هذا‭ ‬قد‭ ‬جرى‭ ‬من‭ ‬ادائرة‭ ‬الوجدان‭ ‬الجمعيب‭ ‬الى‭ ‬االوجدان‭ ‬الفرديب،‭ ‬مقتربًا‭ ‬في‭ ‬ديوانه‭ ‬الثاني‭ ‬امن‭ ‬الرمزية‭ ‬بالتباساتها‭ ‬الخاصةب‭ (‬ص54‭).. ‬ليخلص‭ ‬الى‭ ‬ما‭ ‬يسميه‭ ‬االفكر‭ ‬الشعريب‭ ‬الذي‭ ‬يجد‭ ‬قصيدة‭ ‬الشاعر،‭ ‬في‭ ‬ديوانه‭ ‬هذا،‭ ‬قد‭ ‬أسست‭ ‬له‭.‬

‭ ‬أو‭ ‬كما‭ ‬في‭ ‬حال‭ ‬أمل‭ ‬دنقل‭ ‬الذي‭ ‬يجده،‭ ‬هو‭ ‬الآخر،‭ ‬قد‭ ‬وصل‭ ‬في‭ ‬تطوره‭ ‬الشعري‭ ‬الى‭ ‬أن‭ ‬شكّل‭ ‬عالمًا‭ ‬اشديد‭ ‬الخصوصية‭ ‬والأهمية‭ ‬في‭ ‬تاريخ‭ ‬الشعر‭ ‬العربي‭ ‬المعاصرب،‭ ‬إذ‭ ‬اوصل‭ ‬بالمحتوى‭ ‬القومي‭ ‬للشعر‭ ‬الى‭ ‬درجة‭ ‬عالية‭ ‬من‭ ‬التقنية‭ ‬والقيمة‭ ‬الفكرية‭ ‬في‭ ‬وقت‭ ‬واحدب،‭ ‬الى‭ ‬الحد‭ ‬الذي‭ ‬يدفعه‭ ‬الى‭ ‬القول‭ ‬بأن‭ ‬شعره‭ ‬اهو‭ ‬المحليّ‭ ‬الحداثي‭ ‬الأخير‭ ‬للرؤية‭ ‬القومية‭ ‬في‭ ‬الشعر‭ ‬العربي‭ ‬المعاصر‭...‬ب‭ (‬ص155‭)‬

 

التواصل‭ ‬مع‭ ‬الآخر‭ ‬الشعري

‭- ‬والخيط‭ ‬السادس‭ ‬هو‭ ‬خيط‭ ‬التواصل‭ ‬مع‭ ‬الآخر‭ ‬الشعري‭. ‬فإذا‭ ‬كان‭ ‬شاعر‭ ‬مثل‭ ‬ات‭.‬س‭. ‬إليوتب‭ ‬هو‭ ‬من‭ ‬اقاد‭ ‬عبدالصبور‭ ‬الى‭ ‬القصيدة‭ ‬التركيبية‭ ‬التي‭ ‬أصبحت‭ ‬سمة‭ ‬أساسية‭ ‬في‭ ‬شعرهب،‭ ‬فإن‭ ‬عبدالصبور،‭ ‬بدوره،‭ ‬هو‭ ‬من‭ ‬سيقود‭ ‬أمل‭ ‬دنقل‭ ‬الى‭ ‬مثل‭ ‬هذا‭ ‬البناء‭ ‬التركيبي‭ ‬للقصيدة‭ ‬التي‭ ‬تتكوّن‭ ‬من‭ ‬مقاطع‭ ‬متتابعة،‭ ‬متباينة‭ ‬في‭ ‬دلالة‭ ‬كل‭ ‬مقطع‭ ‬من‭ ‬مقاطعها‭ ‬الجزئية،‭ ‬لكن‭ ‬متجاوبة‭ ‬في‭ ‬الدلالة‭ ‬الكلية‭ ‬التي‭ ‬تصل‭ ‬بين‭ ‬جميع‭ ‬المقاطع‭.‬ب‭ (‬ص104‭ - ‬105‭)‬

وفي‭ ‬فصلين،‭ ‬قد‭ ‬يدخلان‭ ‬ضمن‭ ‬نسيج‭ ‬هذا‭ ‬الخيط،‭ ‬عقد‭ ‬الأول‭ ‬منهما‭ ‬حول‭ ‬ارمزية‭ ‬المرآةب‭ ‬والثاني‭ ‬عن‭ ‬اتجليات‭ ‬القرينب‭ ‬في‭ ‬شعر‭ ‬محمود‭ ‬درويش،‭ ‬أشار‭ ‬الى‭ ‬تلك‭ ‬االتصادياتب‭ ‬الحاصلة،‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬المستوى،‭ ‬بين‭ ‬قصيدته‭ ‬وقصيدة‭ ‬دنقل‭.. ‬مهملًا‭ ‬البحث،‭ ‬إلا‭ ‬من‭ ‬إشارة‭ ‬عابرة،‭ ‬في‭ ‬الحضور‭ ‬الأوضح‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الجانب‭ ‬لقصيدة‭ ‬سعدي‭ ‬يوسف‭ ‬التي‭ ‬نجد‭ ‬اتمثيلاتهاب‭ ‬واضحة‭ ‬في‭ ‬غير‭ ‬قصيدة‭ ‬للشاعر‭. ‬ولا‭ ‬أحسب‭ ‬الكاتب،‭ ‬وهو‭ ‬الناقد‭ ‬المتابع‭ ‬لمجريات‭ ‬عمله‭ ‬النقدي،‭ ‬بغافل‭ ‬عن‭ ‬ذلك‭.. ‬ولكنه‭ ‬اكتفى‭ ‬بالإشارة،‭ ‬ونأى‭ ‬عن‭ ‬التفصيل‭ ‬الذي‭ ‬دخل‭ ‬فيه‭ ‬بين‭ ‬درويش‭ ‬ودنقل‭.‬

‭- ‬وأما‭ ‬الخيط‭ ‬السابع‭ ‬فهو‭ ‬خيط‭ ‬الموضوع‭ ‬الشعري،‭ ‬والمؤثرات‭ ‬الفعلية‭ ‬في‭ ‬تكوينه‭. ‬فإذا‭ ‬ما‭ ‬وجد‭ ‬أن‭ ‬صدمة‭ ‬الواقع‭ ‬السياسي‭ ‬هي‭ ‬التي‭ ‬امتدت‭ ‬بفعلها‭ ‬الأكبر‭ ‬في‭ ‬شعر‭ ‬عبدالصبور،‭ ‬فضلًا‭ ‬على‭ ‬االخيبة‭ ‬العاطفيةب‭ ‬التي‭ ‬دخل‭ ‬الكاتب‭ ‬في‭ ‬تفاصيلها‭... ‬فإن‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬من‭ ‬اتشابه‭ ‬الشخصيةب‭ ‬بين‭ ‬أمل‭ ‬دنقل‭ ‬وأحمد‭ ‬عبدالمعطي‭ ‬حجازي‭ ‬مصدره‭ ‬ريفيتهما‭.. ‬فـاكلاهما‭ ‬ريفي‭ ‬ينطوي‭ ‬عشقه‭ ‬للمدينة‭ ‬على‭ ‬نوع‭ ‬من‭ ‬الريبة‭ ‬فيهاب‭... ‬فضلًا‭ ‬عن‭ ‬أن‭ ‬الحسية‭ ‬سمة‭ ‬عند‭ ‬كل‭ ‬منهما‭.. ‬فهي‭ ‬ابوصلته‭ ‬الحاسة‭ ‬التي‭ ‬تتمثل‭ ‬الملموس‭ ‬والمحسوس‭ ‬لتعيد‭ ‬إنتاجه‭ ‬بما‭ ‬يكشف‭ ‬عن‭ ‬الدور‭ ‬البارز‭ ‬للمدركات‭ ‬الحسية‭ ‬في‭ ‬تشكيل‭ ‬صور‭ ‬الإدراكب‭. (‬ص135‭)‬

ومن‭ ‬هنا‭ ‬ما‭ ‬يجده‭ ‬عند‭ ‬دنقل‭ ‬الشاعر‭ ‬في‭ ‬ما‭ ‬يخص‭ ‬ارؤية‭ ‬العالمب‭ ‬التي‭ ‬هي،‭ ‬بحسب‭ ‬قراءة‭ ‬الكاتب،‭ ‬ليست‭ ‬ابعيدة‭ ‬عن‭ ‬الصور‭ ‬التراثية‭ ‬للكون‭ ‬الذي‭ ‬يواجه‭ ‬فيه‭ ‬قناعُ‭ ‬الشاعر‭ ‬قناعَ‭ ‬الحاكم‭ ‬ويوازيه‭ ‬بقدر‭ ‬ما‭ ‬يتعارض‭ ‬وإياهب‭ (‬ص137‭)... ‬ممثلًا‭ ‬على‭ ‬ذلك‭ ‬بـامركزية‭ ‬الأناب‭ ‬عند‭ ‬الطرفين‭.. ‬في‭ ‬وقت‭ ‬يجد‭ ‬فيه‭ ‬االحضور‭ ‬القوي‭ ‬للذات‭ ‬التي‭ ‬تحدّق‭ ‬في‭ ‬نفسهاب‭ ‬هو‭ ‬ما‭ ‬ما‭ ‬يميّز‭ ‬الأعمال‭ ‬الشعرية‭ ‬الأخيرة‭ ‬لمحمود‭ ‬درويش‭. (‬ص238‭) ‬

غير‭ ‬أن‭ ‬اللافت‭ ‬للانتباه‭ ‬هو‭ ‬أن‭ ‬الكاتب‭ ‬يصطحب‭ ‬معه،‭ ‬دائمًا،‭ ‬صديقًا‭ ‬له،‭ ‬أوللشاعر‭ ‬الذي‭ ‬يقرأ،‭ ‬وكأنه‭ ‬يريد‭ ‬أن‭ ‬يجعل‭ ‬منه‭ ‬االشاهدب‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬يروي‭ ‬ويقول‭.. ‬وإن‭ ‬التقيناه‭ ‬على‭ ‬غير‭ ‬حالة‭ ‬وموقف‭: ‬فهو‭ ‬مرة‭ ‬يتعرّف‭ ‬من‭ ‬خلاله،‭ ‬ومرة‭ ‬ينقل‭ ‬ما‭ ‬له‭ ‬من‭ ‬وجهات‭ ‬نظر‭ ‬في‭ ‬مسارات‭ ‬القراءة‭ ‬التي‭ ‬يقدّم،‭ ‬وفي‭ ‬ثالثة‭ ‬هو‭ ‬أقرب‭ ‬إلى‭ ‬االدليلب‭ ‬وأشبه‭ ‬بـارفيق‭ ‬الدربب‭ ‬والقراءة‭: ‬يشغله‭ ‬ما‭ ‬يشغل‭ ‬الكاتب،‭ ‬ويصاحبه‭ ‬في‭ ‬ما‭ ‬يتداعى‭ ‬عليه‭ ‬من‭ ‬ذكريات‭..‬

هذا‭ ‬من‭ ‬جانب‭. ‬ومن‭ ‬جانب‭ ‬آخر‭ ‬هناك‭ ‬اخصوصيةب‭ ‬أخرى‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الكتاب،‭ ‬لعلها‭ ‬تترافق‭ ‬مع‭ ‬سابقتها،‭ ‬أو‭ ‬أنها‭ ‬نتيجة‭ ‬موضوعية‭ ‬لها،‭ ‬وتتمثل‭ ‬في‭ ‬ما‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬نسميه‭ ‬االتداخل‭ ‬السيريب‭ ‬بين‭ ‬الكاتب‭ ‬والآخر،‭ ‬موضوع‭ ‬الكتابة‭. ‬فهو‭ ‬إذ‭ ‬يكتب‭ ‬عن‭ ‬الشاعر،‭ ‬والكتابة‭ ‬نقدية‭ ‬في‭ ‬الأساس،‭ ‬كثيرًا‭ ‬ما‭ ‬ينعطف‭ ‬نحو‭ ‬اسيرورة‭ ‬العلاقةب‭ ‬بينه‭ ‬وبين‭ ‬من‭ ‬يكتب‭ ‬عنه،‭ ‬لا‭ ‬شعريًا‭ ‬وحسب،‭ ‬وإنما‭ ‬في‭ ‬الإطار‭ ‬الشخصي‭ ‬لهذه‭ ‬العلاقة‭.. ‬آخذًا‭ ‬إياها‭ ‬في‭ ‬كثير‭ ‬مما‭ ‬لها‭ ‬من‭ ‬اانعطافات‭ ‬شخصيةب‭ ‬تتصل‭ ‬به،‭ ‬هو‭ ‬الآخر‭.. ‬وإذا‭ ‬نحن‭ ‬أمام‭ ‬سيرتين‭ ‬في‭ ‬انص‭ ‬نقديب‭ ‬واحد،‭ ‬وهو‭ ‬أمر‭ ‬قد‭ ‬لا‭ ‬يحدث‭ ‬على‭ ‬النحو‭ ‬الذي‭ ‬يحدث‭ ‬فيه‭ ‬عند‭ ‬سواه‭ ‬من‭ ‬النقاد‭ ‬في‭ ‬ما‭ ‬لهم‭ ‬من‭ ‬عمل‭ ‬نقدي‭...‬

بل‭ ‬لنقل‭ ‬إنه‭ ‬يعقد‭ ‬ثلاث‭ ‬سير‭ ‬في‭ ‬نص‭ ‬نقدي‭ ‬واحد‭: ‬فهناك‭ ‬اسيرة‭ ‬الواقعب‭ ‬بوصفه‭ ‬مسرحًا‭ ‬للحدث‭ (‬في‭ ‬ما‭ ‬يتعلق‭ ‬بالمكان‭ ‬والزمان‭)‬،‭ ‬وهناك‭ ‬اسيرة‭ ‬الشاعرب‭ ‬التي‭ ‬يدوّن‭ ‬منها‭ ‬ما‭ ‬يساعده‭ ‬في‭ ‬عملية‭ ‬القراءة،‭ ‬تحليلًا‭ ‬وتفسيرًا،‭ ‬أو‭ ‬يضيء‭ ‬كشوفاتها‭.. ‬وهناك‭ ‬اسيرتهب،‭ ‬هو‭ ‬القارئ،‭ ‬متلقيًا‭ ‬وشاهدًا‭ .