أساطين البيان أربعة

أساطين البيان أربعة

لا تقل مأثورات شوقي النثرية نفاسة وجودة عن مأثوراته الشعرية. من ذلك قوله: «أساطين البيان أربعة: شاعر سار بيته، ومصوّر نطق زيته، وموسيقي بكى وتره، ومثّال ضحك حجره». بعبارات قليلة، محكمة الصياغة، مرتّبة ترتيبًا سجعيًا قابلاً للحفظ، يرسم أمير الشعراء ملامح العبقرية التي تصول على الفناء وتبقى في حين يتهاتر القول العابر ويزول.
فمن أساطين البيان شاعر يسير بيته، أي ينتقل من لسان إلى آخر لقوة أصلية كامنة فيه كأن يتضمن معنى ذا شأن، أو معنى ومبنى معًا يفصحان عن كفاءة قائله ونطق هذا القائل بقول جليل معجز. في حين يكبو البيت العادي ولا ينهض لا في القلب ولا على اللسان وكأنه ولد عييّا أخرس. وكانت العرب قديما تقول: وسارت به الركبان.. ويتجاوز المتنبي قول شوقي هذا ليضيف الدهر إلى عداد رماة قصائده، وهذا يعني انتقال السير من جيل إلى آخر بلا توقف. ولم يكن كل هذا ليحصل لو لم ينطو البيت السائر على قوة دفع ذاتية موهوبة للحياة. وما لم تتوفر قوة الدفع هذه، فعبثًا يتعب الشاعر في مطاردة الأوزان والقوافي وفي إصدار الدواوين.
أما يوسف الخال صاحب مجلة «شعر» فيروي صديق له أنه التقاه يوما فعاتبه على أسلوب الحداثة الذي يكتب به شعره في حين أن له شعرًا قديمًا لا بأس به. ومما قاله له إن بيتًا واحدًا من شعره القديم (ذكره له) هو أفضل من كل شعره الحداثي. وعندما روى هذا الصديق يوما لبعض الأدباء ما جرى له مع يوسف الخال، تبين أن البيت الذي نسبه هذا الصديق ليوسف الخال ليس له بل للشاعر يوسف غصوب!
ولا تقلّ بقية عبارات شوقي اللاحقة عن أساطين البيان إحكامًا ومتانة عن عبارته عن الشاعر الذي سار بيته: المصوّر الذي ينطق زيته، والموسيقي الذي يبكي وتره، والمثّال الذي يضحك حجره. ينطق الزيت في ريشة مصوّر بارع. تتضمّن البراعة هنا لا كفاءة تقنية عالية وحسب، بل روحًا تكمن في ما يرسمه المصوّر من خطوط وألوان. فكأن الرسّام هنا شاعر لا مصوّر. وكان الصينيون القدماء يُلزمون المصوّر بأن يكتب على لوحته أبياتًآ من الشعر من نظمه، ليؤكد بها كفاءته ولينفي عنه المجانية.
الأمر نفسه في البيان العبقري. إذا شبّت النار في البيت، أو في اللوحة، أو في اللحن، أو في المنحوتة، وانتقل أثر هذه النار إلى المتلقي، وإلى متلقّين بلا حصر، تأكد لنا أننا أمام عمل معجز أو مبدع، الإبداع هو الكلمة التي نبحث عنها. الإبداع هو الذي يمنح الأثر الأدبي أو الفني الخلود. ولا إبداع إن لم يخضع المتلقي لنور يتسرب من الأثر ويؤثر فيه.
قد يقول قائل إن مأثورة شوقي هذه كلاسيكية في جوهرها وفيها عداء للحداثة والخروج عن المألوف. وهذا القول ليس في محله أبدا. لا تستوجب الحداثة إعلان حرب على الجودة، ولا يُعقل أن يكون هدفها العبث والخراب، أو إقامة بناء هندسي حقيقي مُعادٍ لمبادئ الهندسة. والحداثة الحقة هي التي تتحول مع الوقت إلى كلاسيكية، فإن عجزت عن ذلك ولم تسر في الناس كان مصيرها مصير أوراق الشجر في الخريف.
وتتفق مأثورة شوقي مع مأثورة أخرى للشاعر الفرنسي فاليري الذي يقول: «لا توسط في الشعر، إن الشعر هو فن نظم البارع من الشعر». والبارع هو ما ينبغي أن يسعى إليه الحداثي والكلاسيكي معًا، وإلا كان المتلقي أمام الدموع التي لا تلتمع، وأمام الحبر الذي لا يلتمع أيضا ■