مع محيي الدين بن عربي في «ترجمان الأشواق»
«لقد صار قلبي قابلاً كلَّ صورةٍ
فمرعى لغزلانٍ وديرٌ لرهبانِ
وبيت لأوثانٍ، وكعبة طائفٍ
وألواح توراةٍ، ومصحفُ قرآن
أدينُ بدين الحبِّ أنَّى توجَّهتْ
ركائبهُ، فالحبُّ دينِي وإيماني»
)ابن عربي)
يقول الشيخ الإمام محيي الدين بن عربي في تقديمه لديوانه اترجمان الأشواقب:
فاستخرتُ الله تعالى تقييد هذه الأوراق، وشرحت ما نظمتُه بمكة المشرَّفة من الأبيات الغزلية في حال اعتماري في رجب وشعبان ورمضان، أشير بها إلى معارف ربّانية، وأنوار إلهية، وأسرار روحانية، وعلوم عقلية، وتنبيهات شرعية. وجعلت العبارة عن ذلك بلسان الغزل والتشبيب، لتعشق النفوس بهذه العبارات، فتتوفر الدواعي على الإصغاء إليها، وهو لسان كل أديب ظريف، روحاني لطيف. وقد نَبَّهت على المقصد في ذلك بأبيات، وهي:
كلُّما أذكره من طللٍ
أو ربوعٍ أو مغانٍ كلُّما
وكذا إن قلت ها، أو قلتُ يا،
وألا، إن جاء فيه، أو أما
وكذا إن قلت هي أو قلت هو
أو همو أو هنّ جمعًا أو هما
وكذا إن قلتُ قد أنجد لي
قدرٌ في شِعرنا أو أتهما
وكذا السُّحْبُ إذا قلتُ بكتْ
وكذا الزهر إذا ما ابتسما
أو أنادي بحُداةٍ يمّموا
بانة الحاجر أو وُرْقِ الحِمى
أو بدورٌ في خدورٍ أَفلتْ
أو شموسٌ أو نباتٌ أَنْجمَا
أو بروقٌ أو رُعودٌ أو صَبا
أو رياحٌ أو جَنوبٌ أو سَما
أو طريقٌ أو عقيقٌ أو نقا
أو جبالٌ أو تلالٌ أو رِمَا
أو خليلٌ أو رحيلٌ أو ربى
أو رياضٌ أو غياضٌ أو حِمَى
أو نساءٌ كاعباتٌ نُهّدٌ
طالعاتٌ كشموسٍ أو دُمَى
كلُّما أذكرُه مما جرى
ذكرُه أو مثْلهُ أن تَفْهَما
منه أسرارٌ وأنوارٌ جَلتْ
أو عَلتْ جاء بها ربُّ السَّما
لفؤادي أو فؤادٌ منْ له
مثْلُ ما لي من شروط العُلَما
صفة قدسيةٌ عُلويةٌ
أعلمتْ أنَّ لصدقي قِدما
فاصرِفِ الخاطر عن ظاهرها
واطلب الباطنَ حتى تَعْلَما
ثم يقول ابن عربي:
فمن ذلك حكاية جرت في الطواف، كنت أطوف ذات ليلة بالبيتِ فطاب وقتي، وهزّني حال كنت أعرفُه، فخرجتُ من البلاط من أجل الناس وطفتُ على الرمل، فحضرتني أبياتٌ فأنشدتها أُسمع بها نفسي ومن يليني لو كان هناك أحدٌ، فقلت:
ليت شعري هل دروْا
أيَّ قلبٍ ملكوا
وفؤادي لو درى
أيَّ شِعْبٍ سلكوا
أتراهم سلموا
أم تراهم هلكوا
حار أرباب الهوى
في الهوى، وارتبكوا
فلم أشعر إلا بضربة بين كتفيَّ بيدٍ ألين من الخزّ، فالتفت فإذا بجارية من بنات الروم، لم أر أحسن وجهًا ولا أعذب منطقًا، ولا أرقَّ حاشية، ولا ألطف معنًى، ولا أدقَّ إشارةً، ولا أطرف محاورةً منها، قد فاقت أهل زمانها ظرْفًا وأدبًا وجمالاً ومعرفةً، فقالت؛ ياسيدي كيف قلت؟ فقلت:
ليت شعري هل دروا
أيَّ قلبٍ ملكوا
فقالت:
عجبًا منك وأنت عارفُ زمانك، تقول مثل هذا؟ أليس كلُّ مملوكٍ معروفًا؟ وهل يصحُّ الـملْكُ إلا بعد المعرفة وتمنِّي الشعور يؤذن بعدمها، والطريق لسان صادق، فكيف يجوز لمثلك أن يقول هذا؟ قل يا سيدي، فماذا قلْتَ بعده؟
قلت:
وفؤادي لو درى
أيَّ شِعْبٍ سلكوا
فقالت:
يا سيدي، الشِّعبُ الذي بين الشغاف والفؤاد هو المانع له من المعرفة، فكيف يتمنى مثلك ما لا يمكن الوصول إليه إلا بعد المعرفة، والطريق لسان صدق، فكيف يجوز لمثلك أن يقول هذا؟ يا سيدي، فماذا قلت بعده؟
فقلت:
حار أربابُ الهوى
في الهوى وارتبكوا
فصاحت وقالت:
يا عجبًا، كيف يبقى للمشغوف فضلة يحار بها، والهوى شأنه التعميم، يُحذّر الحواسّ ويُذهبُ العقول ويدهش الخواطر، ويذهب بصاحبه في الذاهبين. فأين الحيرة وما هنا باقٍ فيحار والطريق لسان صدق، والتجوز من مثلك غير لائق؟ فقلت: يابنت الخالة، ما اسمك؟ قالت: قرَّة العين، فقلتُ: لي. ثم سلمت وانصرفت، ثم إني عرفتها بعد ذلك وعاشرتها، فرأيت عندها من لطائف المعارف الأربع ما لا يصفه واصف.
وابن عربي هو الذي يقول في أبياته البديعة:
ذبتُ اشتياقًا ووجدًا في محبتكم
فآهِ من طول شوقي، آه من كمدي
يدي وضعتُ على قلبي مخافة أن
ينشق صدريَ لما خانني جلدي
ما زال يرفعها طورًا ويخفضها
حتى وضعت يدي الأخرى تشدُّ يدي!
ويقول أيضًا:
علقْتُ بمن أهواهُ عشرين حجةً
ولم أدر ما أهوى، ولم أعرف الصبرا
ولا نظَرَتْ عيني إلى حسن وجهها
ولا سمعتْ أُذنايَ قطُّ لها ذكرا
إلى أن تراءى البرقُ من جانب الحمى
فنعّمني يومًا، وعذّبني دهرا
والمتأمل في هذه اللغة الجميلة الكاسية لهذا الشعر البديع، والأفق النوراني الـمُشعّ، يرى أن هذه الأشعار تصدر عن مبدأين يحكمان الأمر كله - عند المتصوفة من العشاق أصحاب الحب الإلهي - أولهما أن العقل الإنساني وحده غير كافٍ في الهداية إلى الله، فليس فيه غَناء في هداية الإنسان إلى الإيمان بالحق. لذا، فهم يلجأون جميعًا إلى القلب، واستشعار الحب الإلهي، طلبًا لنور الهداية والإشراق العلوي، وهو السبيل المألوفة للنجاة عندهم. فالوصول إلى طريق الأمن واليقين لا يكون - عندهم - بنظم دليل وترتيب كلام، وإنما بنور يقذفه الله تعالى في الصدر. وذلك النور - كما يقول بعضهم - هو مفتاح أكثر المعارف، فمنه ينبغي أن يُطلب الكشف، وما دام الأمر للذوق والكشف، افطريق الصوفية - أو المحبة الإلهية - إذن، مفتاحها هو استغراق القلب بالكلية بذكر الله، وآخرها الفناء بالكلية في اللهب.
وثانيهما أن العاطفة - لا العقل - هي السبيل للوصول إلى الله ، وقد رُوِي عن بعضهم قوله: كان ذلك أول حال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين تَبَتّل، حين أقبل إلى غار حراء حين كان يخلو فيه بربه ويتعبَّد، حتى قالت العرب: إن محمدًا عشق ربه.
وهكذا، كان الــحب الجــــســـدي في آثار هــــؤلاء العشاق، طريقًا إلى الحب الإلهي. إذ الجمال في الخليقة مرآة جمال الله، وهم يذهــــبون في شرحهم لخلق الكون إلى أن الأصل فيه الجمال الإلهي، فالصفة الجوهرية في الجــــمال هي أنه بطبعه ميال إلى الظهــــور والإيــحاء بنفسه. وهذا هو الباعث لدى الجمال الأقدس أن يخلق ليُعرف بهم، ويعتمد الصوفية في هذا على الحديث القدسيّ: اكنت مخفيًّا، فأردت أن أُعرف، فخلقت الخلق، فبي عرفونيب.
الجمال الإلهـــي إذن هو الأصـــــل في الخليـــــقة، والفناء فيه عن طريق المحبة هو طريق الارتقاء إلى العلـــم الأقــــدس، ومـــــن أسباب المحبة التأمل في جمال الوجود، إذ أن ذلك الجمال فيض من جمــال واجــــب الوجـــــود.
فهؤلاء العشاق من المتصوفة بتأملهم في جمال الخلق - وابن عربي على رأسهم وفي طليعتهم - يتقرَّبون إلى جمال الحق، وبطول تأملهم فيه، يعتريهم ذلك الشعور الفياض الذي يستغرقون فيه - حتى يصلوا إلى حالة الوجود - ويغيبون عن وعيهم الحسّيّ، ويعتريهم من الهيام بالله ما يرقصون فيه طربًا، لاهجين بذكر الله، أو مرددين اسمه على ألسنتهم في حلقات الذكر. يقول ابن عربي في قصيدته اتناوحت الأرواحب التي يضيء بجمالها ديوانه ا ترجمان الأشواقب:
ألا يا حمامات الأراكةِ والبانِ
ترفّقْن لا تُضعفْن بالشجو أشجاني
ترفّقن لا تُظهرن بالنوح والبكا
خفيَّ صباباتي ومكنون أحزاني
أُطارحها عند الأصيل وبالضحى
بحنّةِ مشتاقٍ وأَنّة هيمانِ
تناوحت الأرواحُ في غيْضة الغضا
فمالت بأفنانٍ عليَّ، فأفناني
وجاءت من الشوق المبرّح والجوى
ومن طُرف البلوى إليَّ بأفنانِ
فمن لي بجمعٍ والـمُحصّبِ من منًى
ومن لي بذات الأثْلِ مَنْ لي بِنَعمانِ
تطوفُ بقلبي ساعةً بعد ساعةٍ
لوجدٍ وتبريحٍ وتلثمُ أركاني
كما طاف خيرُ الرُّسْلِ بالكعبة التي
يقول دليل العقل فيها بنُقْصانِ
وقبّل أحجارًا بها، وهو ناطقٌ
وأين مَقامُ البيت من قدْر إنسان
فكم عهدِتْ ألاّ تحولَ، وأَقسمتْ
وليس لمخضوبٍ وفاءٌ بأيْمانِ
ومن عجب الأشياء ظبيٌ مُبرْقعٌ
يشير بعنّابٍ، ويومي بأجفانِ
ومرعاهُ ما بين الترائبِ والحشا
ويا عجبا من روضةٍ وسط نيرانِ
لقد صار قلبي قابلاً كلَّ صورةٍ:
فمرعًى لغزلانٍ، وديْرٌ لرهبانِ
وبيتٌ لأوثانٍ، وكعبة طائفٍ
وألواحُ توراةٍ ومُصحفُ قرآنِ
أدين بدين الحبّ أنَّى توجَهتْ
ركائبهُ، فالحبُّ ديني وإيماني
لنا أُسوةٌ في بِشْرِ هندٍ وأُختها
وقيسٍ وليلى، ثم ميٍّ وغيْلانِ
وتبلغ شاعرية اابن عربيب ذروتها، وتسطع تجلياتها، كاشفةً عن لغةٍ صوفية رقراقة، وخيالٍ طلْقٍ مُحلّق، وإحكام صياغة وسبْك تعبير عندما يقول:
رأى البرق شرقيًّا، فحنَّ إلى الشرقِ
ولو لاح غربيًّا لحنَّ إلى الغرْبِ
فإن غرامي بالبُريْق ولـمْحهِ
وليس غرامي بالأماكنِ والتُّرْبِ
روتْهُ الصَّبا عنهم حديثا مُعَنْعنًا
عن البثّ عن وجدي عن الحزن عن كرْبي
عن السُّكْر عن عقلي عن الشوق عن جوًى
عن الدمع عن جفني عن النار عن قلبي
بأنّ الذي تهواه بين ضلوعكم
تُقلّبهُ الأنفاسُ جَنْبًا إلى جَنْبِ
فقلتُ لها: بَلِّغْ إليه بأنه
هو الموقدُ النار التي داخلَ القلْبِ
فإن كان إطفاءٌ، فَوصْلٌ مُخلَّدٌ
وإن كان إحراقٌ، فلا ذَنْبَ للصَّبِّ
وتنساب شاعرية اابن عربيب متدفقة رائقة، وهو يقدم صورة طريفة لم يُسبق إليها في الشعر العربي، إنها صورة االجملب الذي يحمل الأحباب ويسير بهم مسرعًا، لكنه لم يعد جملاً وإنما هو اغراب البينب الذي ينعق فيُؤْذن بالفراق، يقول:
غادروني بالأثيل والنَّقا
أسكبُ الدمع، وأشكو الحُرقا
بأبي من ذبتُ فيه كمدًا
بأبي من متُّ منه فَرقا
حمرةُ الخجْلةِ في وجْنته
وَضحُ الصبح يُناغي الشَّفقَا
قوَّض الصبرُ، فطنَّب الأسى
وأنا ما بين هذين لَقَى
من لِبثِّي، من لوجدي، دُلَّني
من لحزْني، من لصبًّ عشِقَا
كلما ضَنَّتَ تباريحُ الهوى
فضح الدمع الجوى والأرقا
فإذا قلتُ: هبُوا لي نظرةًّ
قيل ما تُمنعُ إلا شفقا
ما عسى تُغْنيكَ منهم نظرةٌ
هي إلا لمحُ برقٍ بَرَقا
لستُ أنسى إذ حدا الحادي بهم
يطلبُ البيْنَ ويبغي الأَبْرقَا
نعَقتْ أغربةُ البين بهم
لا رعى اللهُ غُرابًا نعقا
ما غرابُ البين إلا جملٌ
سار بالأحباب نصًّا عَنقا
ويرسم ابن عربي في ثنايا ديوانه البديع اترجمان الأشواقب صورة شعرية بارعة للمطوَّقة النائحة، تنوح فتُشجي بنواحها حزينًا يشجيه ترجيعها وحنينها، فكأنهما معًا موصولان بحبل المحبة، وهو يُصبِّرها في ثُكْلها بفقد وحيدها، والشجو بينهما جسر متصل وأنّات باكية، يقول:
ناحت مطوّقةٌ، فحنَّ حزينُ
وشجاه ترجيعٌ لها وحنينُ
جرت الدموع من العيون تفجُّعًا
لحنينها فكأنهنّ عيونُ
طارحْتُها ثكْلاً بفقد وحيدها
والثكل من فقد الوحيد يكونُ
طارحتُها، والشَّجو يمشي بيننا
ما إن تبينُ، وإنني لأبينُ
بي لاعجٌ من حُبِّ رملةِ لا عجٍ
حيث الخيامُ بها وحيثُ العينُ
من كلِّ فاتكة اللحاظ مريضةٍ
أجفانُها لظُبى اللّحاظ جفونُ
ما زلت أجرع دمعتي من غُلّتي
أُخفي الهوى عن عاذلي وأصونُ
وصلوا السُّرى، قطعوا البُرى، فلعيسهم
تحت المحامِل رنَّةٌ وأنينُ
عاينتُ أسباب المنية عندما
أرخوْا أزمّتها، وشُدَّ وضينُ
إنّ الفراق مع الغرام لَقاتلي
صعْبُ الغرام مع اللقاءِ يهونُ
ما لي عذولٌ في هواها، إنها
معشوقة حسناءُ حيث تكونُ
ونختتم هذه الإطلالة على ديوان اترجمان الأشواقب للشيخ الإمام محيي الدين بن عربي، بوصفه أيقونة شعرية بديعة، ونجوى صوفية حارّة، وأقباسًا من شعاعات نورانية يندمج فيها الجزئي بالكلي، والحسّي بالروحي، والعَرَضيّ بالجوهري، في مزاج من سُكْر المحبة ونشوة العرفان - نختتمها بهذه اللؤلوة الشعرية المتألقة:
سلام على سلمى، ومَنْ حلَّ بالحمى
وحُقَّ لمثلي، رقَّةً، أن يُسلِّما
وماذا عليها أن تردَّ تحيةً
علينا، ولكن لا احتكام على الدُّمى
سَروْا وظلامُ الليل أرخى سُدولَهُ
فقلتُ لها صبًّا غريبًا مُتيَّما
أحاطت به الأشواق صوْنا وأُرصدتْ
له راشقاتُ النَّبْلِ أيّانَ يمَّما
فأبدتْ ثناياها، وأومض بارقٌ
فلم أدْرِ مَنْ شقَّ الحنادسَ منهما
وقالت: أَما يكفيه أنّا بقلبه
يشاهدني في كلِّ وقتٍ، أَمَا أما؟ .