الـمحتوى الرقمي.. هل تنقذه إستراتيجية عربية؟

لا شك في أن تزايد الاهتمام بالاستخدام المتزايد لشبكة الإنترنت، من قبل الشباب العرب، والجمهور العربي بشكل عام، بوصفها الشبكة الدولية للمعلومات، يضع مزيدًا من الضغط والإلحاح على دعم المحتوى الرقمي العربي؛ الذي لايزال يعاني، مع كبير الأسف، من فقر كبير، و«أنيميا معلوماتية» فادحة، مقارنة بنظائره باللغات الأخرى، وهو ما تم التدليل عليه في هذه الزاوية في أكثر من مناسبة وباكثر من طريقة. خلال مناقشة العديد من القضايا ذات الصلة.
لكن هل يمكن حقًا أن تتبنى المؤسسات العربية المختصة، والحكومات العربية ما يمكن أن نطلق عليه ااستراتيجية عربية لصناعة المحتوى الرقميب؟
تردد هذا السؤال في ذهنـــي حينما رأيت كتابًا جديدًا أصـــدره مركــــز دراسات الوحدة العــــربية بعنوان انحو استراتيــــجية عربيـــة لصناعة المحتوى الرقميب، للدكتور رامي عبود، الباحث المصري المختص في مجال تقنية المعلومات، الذي يسلط الضوء، عبر صفحات الكتاب، على جوانب الواقع الحالي لصناعة المحتوى الرقمي العربية، ويقترح آليات تحسينه، من خلال صوغ نموذج لاستراتيجية عربية تفصيلية تدعى اإي- عربب (e-Arab)، لا تقف عند حدود السياسات العامة أو المبادرات المنفصلة.
والحقيقة أن هذه الاستراتيجية التي يتبناها الباحث في كتابه هذا مهمة، خصوصًا ان الباحث قد استند في وضعها على الكثير من الإحصاءات والاستقصاءات واستشارات الخبراء في المعلوماتية، وهو يمهد لها بالعديد من المفاهيم المبدئية المهمة حول مفهوم المحتوى الرقمي، ثم بيان وضع هذا المحتوى عربيا في الوقت الراهن. ومن جهة أخرى يقدم عديد الأسباب التي تتسبب في هذه الفجوة المعلوماتية التي نعانيها.
معوقات صناعة المحتوى الرقمي
وبما أننا نتحدث هنا عن أزمة، ونبحث عن حل علمي لها، فلعل أهم خطوة هنا هي تحديد معوقات صناعة المحتوى الرقمي العربي والتي يوردها د.رامي عبود استنادا على ملخص وصلت إليه إحدى ورش العمل الخاصة بالموضوع موضحا أن المشكلة تعود الى:
عدم وجود نظم فعالة تشجع على الابتكار لإنتاج المعرفة.
غياب السياسات العقلانية الناجحة التي تضمن تجذير القيم والأطر المؤسساتية الداعمة لمجتمع المعرفة.
الاعتقاد الخاطئ المتعلق بإمكانية بناء مجتمع المعرفة من خلال استيراد نتائج العلم فقط من دون الاستثمار في إنتاج المعرفة محليا.
الاعتماد في تكوين الكوادر العلمية على التعاون مع الجامعات ومراكز البحث فقط في البلدان المتقدمة معرفيا، من دون خلق التقاليد العلمية المؤدية لاكتساب المعرفة عربيا.
كما أن تخلف صناعة المحتوى العربية - يقول الباحث - لا يرجع إلى نقص الموارد المادية، أو قلة المواهب العربية، أو عدم توافر الأسواق، بل يرجع إلى غياب السياسات والرؤى المستقبلية، وضعف البنى التنظيمية، وغياب البعد الإقليمي ومن ثم عدم تقاسم الموارد.
وتأكيدا لما سبق أيضا، فإن تراجع صناعة المحتوى العربية يعود إلى غياب استراتيجية عربية لصناعة المحتوى، وهو ما يدلل عليه الباحث لاحقا بقوله ان المشكلة تتمثل في المواقف غير الداعمة من جانب العديد من الحكومات العربية التي ترى أن الإنترنت وتكنولوجيا المعلومات والاتصالات هي من الكماليات، ولا تعتبرها وسيلة لتحقيق إنجازات في شتى مجالات الحياة.
ولا يتوقف الأمر على هذا الفهم القاصر لدور الإنترنت في مجتمع عالمي أصبح مرتبطا ذ شئنا أم أبينا- اقتصاديا وسياسيا وثقافيا بفضل تقنيات الاتصال الحديثة، فقط، بل يمتد كذلك إلى عامل قصور آخر يتمثل في قصور الأدوات والوسائل المادية والقانونية اللازمة لدعم الأنشطة الإلكترونية المرتبطة بصناعة المحتوى، ولا سيما في إطار الكلفة العالية لإنتاج محتوى عربي عالي الجودة، وعدم مواكبة التطور التكنولوجي المتسارع في جميع جوانب صناعة المحتوى.
مفهوم المحتوى الرقمي
وأتوقف هنا لكي الفت الانتباه إلى أننا حين تناولنا موضوع فقر المحتوى الرقمي العربي على شبكة الإنترنت، في هذه الزاوية، من خلال تأمل عدد من الظواهر الثقافية المختلفة، كنت عادة ما أستخدم بعض المؤشرات الإحصائية البسيطة من خلال الكشف مثلا عن الاختلاف في عدد ومضمون البحث عن مصطلح معين باللغة العربية ونظيره في اللغة الإنجليزية مثلا، لكن لدينا الآن الفرصة لنتعرف على توضيح أكثر تعمقا، لمصطلح االمحتوى الرقميب.
ويجدر القول بداية أنه لا يزال مصطلحًا جدليًا، بسبب التوسع الهائل للثقافة الرقمية في الحياة اليومية للأفراد، وبشكل عام يمكن القول في تعريف مصطلح اصناعة المحتوىب أنه يشمل نطاقًا عريضًا من السلع والخدمات والأدوات، وتمثل شقين رئيسيين: الأول هو ناتج صناعة المحتوى ويشتمل بدوره على النشر (مختلف أشكال مصادر المعلومات الناتجة من النشر الإلكتروني والورقي) والبث الجماهيري (الإذاعي والتلفزيوني والشبكي عبر الإنترنت)، والوسائط المتعددة (الإنتاج السينمائي والفيديو والفنون الرقمية والتسجيلات الموسيقية وقواعد البيانات وبنوك الصور والمكتبات الرقمية والأرشيفات الإلكترونية)، والبرمجيات (البرمجيات التعليمية والثقافية وبرامج ألعاب الفيديو والألعاب الالكترونية والبرمجيات التطبيقية المختلفة).
أما الشق الثاني فيتضمن أدوات تطوير المحتوى وتأمينه وتوزيعه، وهي تشتمل على نطاق عريض من التكنولوجيات ووسائل العرض ومنافذ الإتاحة.
وهذا مفهوم عام لمصطلح المحتوى بشكل عام، فماذا عن المصطلح الرقمي؟
إيضاحًا لمفهوم المحتوى الرقمي، يمكن تشبيه شبكة الاتصالات الرقمية بشبكة الأوعية الدموية في الجسم البشري، وتشبيه المحتوى بالدماء التي تسري داخل هذه الأوعية، حاملة الغذاء والأكسجين عبر الشرايين، طاردة النفايات الضارة عبر الأوردة. وكما تتم عملية احتراق المواد الغذائية، مولدة طاقة كامنة تختزنها الخلايا إلى حين الحاجة إليها، يتم تحويل مادة المعلومات إلى طاقة معرفية إلى حين استغلالها في حل المشكلات أو توليد معرفة جديدة بناء عليها. وكما تتجمّد الدماء وتفسد وتتعرض للنزيف وضيق الشرايين، كذلك يؤدي نقص المحتوى إلى أنيميا معلوماتية حادة. لذا لا بد من مداومة تجديده والتخلص مما يعوق تدفقه ومنع نزيفه، سواء الداخلي بإهدار موارده على أيدي أصحابه، أو الخارجي بنهبها على أيدي غيرهم.
ويمكن القول إن المحتوى الرقمي عبارة عن كل ما أمكن تحويله إلى شكل رقمي، أو إنتاجه للمرة الأولى رقميا، سواء كان ذلك على شكل محتوى نصي أو بصري، أو سمعي، أو سمع ذ بصري، أو على شكل برمجيات مشفرة، وسواء ايضا كان ذلك المحتوى متاحا إما عبر شبكة الإنترنت أو غيرها من شبكات الاتصال، أو على الخط غير المباشر.
حجم المحتوى العربي ومستواه
هذا عن التعريف فماذا عن الواقع الراهن للمحتوى الرقمي العربي؟ ولماذا يوصف بأنه محتوى فقير؟ وأنه يعاني من أمراض الأنيميا المعلوماتية والهزال المعرفي؟
بداية تجدر الإشارة، وهو متوقع بطبيعة الحال، أن هناك صعوبات عديدة تعترض محاولات قياس حجم المحتوى العربي، أو غير العربي، على الإنترنت. مما يؤدي إلى عدم وجود إحصاءات دقيقة في هذا الشأن، غير أن المسألة لا تخلو من بعض الإحصاءات التقريبية التي يمكن دوما الاستفادة منها.
في المقابل هناك بعض المؤشرات الدالة التي يوردها المؤلف قائلا: اوعلى الرغم من أن اللغة العربية هي إحدى اللغات الست المستخدمة في الأمم المتحدة، فإن المحتوى الرقمي العربي على الإنترنت قد احتل عام 2003 المرتبة العشرين تقريبا بين لغات العالم من حيث الكم، في حين أن المستخدم منه على شبكة الإنترنت بلغات غير الإنجليزية يصل حاليا إلى أكثر من 60 بالمئةب.
وتشير بعض التقديرات إلى أن عدد المواقع باللغة العربية على الإنترنت لا يزيد على نصف بالمئة فقط، وفي تقديرات أخرى على واحد بالمئة من إجمالي عدد المواقع العالمية، الأمر الذي يؤكد تراجع حجم المحتوى الرقمي العربي مقارنة بالمحتوى العالمي.
وعلى هذا تقر الوثيقة الخاصة بالاستراتيجية العربية لتكنولوجيا الاتصالات والمعلومات والصادرة عن مجلس الوزراء العرب للاتصالات والمعلومات أن حضور اللغة العربية على الشبكة العالمية يعد ضعيفا مقارنة باللغات الأخرى. ومن ثم، فإن المنطقة العربية تعاني من مشكلة انخفاض نسبة المحتوى الرقمي العربي مع تزايد عدد مستخدمي الإنترنت داخل الإقليم العربي.
وعلى الرغم من تزايد أعداد مستخدمي الإنترنت داخل الإقليم العربي خلال الفترة الأخيرة في مقابل نقص المحتوى العربي المتاح على الإنترنت، فإن بعض التقديرات تشير إلى أن عدد الصفحات العربية على الإنترنت قد ازداد بمعدل بلغ 43 في المئة عام 2009 مقارنة بالعام 2007. كما تشير تقديرات أخرى إلى أن حجم المحتوى العربي المتاح على الإنترنت في الوقت الحالي يقدر بنحو 1-3 بالمئة فقط من إجمالي حجم المحتوى العالمي.
وتأكيدا لما سبق فإن بعض الإحصاءات والتقارير الصادرة عن مركز بحوث الاقتصاد الرقمي تشير إلى أن الصورة القاتمة بدأت في التغيّر، وإن كان ببطء شديد، حيث أظهر المسح خلال العامين 2005 و2006 أن إجمالي المحتوى العربي على الإنترنت بما في ذلك الصفحات التي كتبت باللغتين العربية والإنجليزية بلغ 114 مليون صفحة و189 مليون صفحة على التوالي. وبمقارنة الصفحات العربية التي أنشئت في الفترة في عامي 2005 و2006 ظهر أن معدل النمو السنوي بلغ 55 بالمئة، فيما حققت الصفحات الإنجليزية التي أنشئت في الفترة نفسها نموًا سنويًا بلغ 65 بالمئة.
كما توقع التقرير ذاته أن يصل عدد الصفحات العربية عام 2012 إلى نحو 1.5 مليار صفحة، أي معدل نمو سنوي بمقدار 80 بالمئة حتى عام 2010، و60 بالمئة في السنوات التي تليها.
وضعف الحتوى العربي لا يتوقف على الحجم فقط، بل يمتد أيضا إلى عناصر أخرى تتعلق بالماهية، وبالشكل والمضمون. ففي إحدى الدراسات المسحية التي يوردها الكتاب تبين أن الملامح الأساسية للمحتوى الرقمي العربي تمثلت في مجموعة النقاط التالية:
غياب الرؤية الشاملة للمواقع العربية التي تحدد مقومات بنائه وتضمن استمراريته.
فجوة تكنولوجية في مختلف جوانب صناعة المحتوى.
فقر المحتوى وطغيان النصوص على غيرها من أنواع المحتوى السمعية والمرئية.
قصور في إدارة المواقع وعدم انتظام التحديث.
النقص الشديد في الكوادر البشرية المتخصصة.
الاعتماد شبه التام على برمجيات الشركات غير العربية، وإن كانت لا تلبي الاحتياجات الخاصة باللغة العربية، مثل البحث باللغة العربية والترجمة الآلية للغة العربية.
غياب مفهوم هندسة الاحتياجات اللازمة لبيان متطلبات الموقع الإلكتروني من الموارد والمصادر من داخل المنشأة وخارجها ومطالب تحديثه وإثرائه.
كما اظهرت نتائج أحد البحوث المهتمة بتقييم المحتوى العربي على الإنترنت أن أحد عيوب المحتوى العربي المتاح عبر مواقع الإنترنت هو عدم الثراء والتنوع باستثناء عدد محدود من المواقع، وأكبر فئات هذا العدد المحدود هي مواقع المؤسسات التي تملك في الأصل محتوى غير رقمي، مثل دور الصحف والمواقع الدينية ومراكز الآثار أو المؤسسات التي كانت سباقة في استخدام الحواسيب، كالبنوك وشركات الطيران وما شابهها.
أظهرت النتائج أيضا أن نظم المعلومات الدينية تعد أنجح فروع صناعة المحتوى العربية عبر مراحلها المختلفة: المطبوع ووسائط الأقراص على الخط غير المباشر والنشر الإلكتروني على الإنترنت.
مبررات تعزيز المحتوى الرقمي
هذا هو وضع المحتوى الرقمي العربي حجما ومضمونا كما يوضح الدكتور رامي عبود في الكتاب، ولعل معرفتنا بحجم الفجوة المعرفية التي تعاني منها مجتمعاتنا العربية يدعونا للسؤال عن مبررات تعزيز صناعة المحتوى الرقمي العربية. وهو ما نجد له إجابة ضمنية في متن الكتاب حيث يوضح رامي عبود ان المحتوى الرقمي يعد اهم سبل النفاذ إلى مجتمع المعلومات العالمي على الإطلاق وكذلك قصر الطرق لحجز دور محتمل خلاله، وهو ما يمكن أن يتسنى إقليميا من دون إيجاد صناعة عربية استراتيجية منافسة للمحتوى الرقمي.
القد بات مصير الأمة العربية معلقا بنجاحها في إقامة صناعة محتوى رقمي كشرط لا بديل له لدخول المجتمعات العربية عصر المعلومات، ودخول مجال صناعة تكنولوجيا المعلومات والاتصالات من جهة أخرى، وكذلك تجسير الفجوة الرقمية التي تزداد اتساعا بين الوطن العربي والعالم المتقدم، بل بين البلدان العربية وبعضها البعضب.
كما يمكن أن نضيف هنا كذلك أن صناعة المحتوى تعد أحد أهم صناعات مجتمع المعرفة لأنها إلى جانب كونها صناعة استراتيجية إلا أن البعد التنموي لتلك الصناعة يعد أحد أبرز ملامحها. إضافة إلى أنها باتت اليوم وسيلة بإمكانها تعزيز إمكانية مساهمة المنطقة العربية في صناعة المحتوى العالمي وبالتالي زيادة الدخل القومي وتوفير فرص عمل للشباب.
أما فيما يتعلق بالاستراتيجية المقترحة التي يطرحها الباحث فلا بد لأي مهتم أن يقرأها مفصلا في الكتاب، خصوصا إن الباحث لا يكتفي بتقديمها وتوضيح عناصرها بل يقدم كذلك استبيانات رأي حول المخاطر المحتملة لها وكيفية حلها مما يجعلها استراتيجية ترى كذلك عوامل الإعاقة وكيفية التغلب عليها.
كما أنه يحدد الأطراف الرئيسة لتحقيقها مع تفصيل كل منها بوصفهم أصحاب المصلحة، أي الأطراف المختلفة المشاركة في عملية تفعيل اإي ذ عربب وتنفيذ متضمناتها وتحقيق رؤيتها العامة ،وهم بالتتابع: المنظمات الإقليمية، المنظمات الدولية، الحكومات العربية، القطاع الخاص العربي، الشركات الدولية، المجتمع المدني، الأفراد، مؤسسات المعلومات، المؤسسات الأكاديمية والبحثية، البنوك ومؤسسات التمويل، ثم المانحون.
وبشكل عام يمكن تلخيص جوهرها في إقامة صناعة محتوى رقمية عربية تشمل مختلف المجالات االمحتوائيةب، على أن يتم ذلك وفق مراحل تدريجية، تبدأ بعدد محدود فقط من مجالات صناعة المحتوى الرقمي العربية خلال هذه الاستراتيجية ثم الانطلاق منها لاحقا نحو المجالات الأخرى، مع التوصية بالأخذ في الحسبان باقي المجالات الثمانية الرئيسية المتعارف عليها في جائزة القمة العالمية للمحتوى الرقمي: وهي الحكومة الإلكترونية، الأعمال الإلكترونية، الصحة الإلكترونية، الاحتواء الاجتماعي الإلكتروني، العلوم الإلكترونية.
لا شك في أن الكتاب جدير بالاهتمام من كل المختصين والمسئولين في هذا المجال، لأن الوطن العربي بالفعل في حاجة ماسة للانخراط في تجربة رقمية شاملة وجادة وفاعلة كما تقترح هذه الاستراتيجية، ليتنا نسمع قريبا عمن يشرع في تبني تحويل هذه الاستراتيجية من الورق إلى الواقع الافتراضي .