متى يُنفَض الغبار عن طه حسين «المقالي»؟

متى يُنفَض الغبار عن طه حسين «المقالي»؟

طبَّقت‭ ‬شهرة‭ ‬طه‭ ‬حسين‭ ‬أديبًا‭ ‬الآفاق‭. ‬لكن‭ ‬طه‭ ‬حسين‭ ‬مؤلف‭ ‬المقال‭ ‬أو‭ ‬المقالي،‭ ‬إذا‭ ‬ما‭ ‬قورن‭ ‬إلى‭ ‬طه‭ ‬حسين‭ ‬المؤرخ‭ ‬وطه‭ ‬حسين‭ ‬المفكر‭ ‬وطه‭ ‬حسين‭ ‬الناقد‭ ‬وطه‭ ‬حسين‭ ‬السارد،‭ ‬لم‭ ‬يعره‭ ‬–‭ ‬وفق‭ ‬علمي‭ - ‬أحدٌ‭ ‬أهميةً‭ ‬بالرغم‭ ‬من‭ ‬كونه‭ ‬قد‭ ‬ذاع‭ ‬صيته‭ ‬–‭ ‬في‭ ‬وقته‭ - ‬مقاليًا،‭ ‬وبالرغم‭ ‬مما‭ ‬حظي‭ ‬به‭ ‬من‭ ‬نشر‭ ‬مقالاته‭ ‬مجمعةً‭ ‬في‭ ‬كتب‭ ‬بعد‭ ‬وفاته‭. ‬فإذا‭ ‬بـحديث‭ ‬المساء‭ (‬1983‭) ‬وغرابيل‭ (‬1984‭) ‬وتجديد‭ (‬1984‭) ‬تُضاف‭ ‬عناوين‭ ‬ثلاثة‭ ‬جديدة‭ ‬لرصيد‭ ‬طه‭ ‬حسين‭ ‬الإبداعي‭. ‬على‭ ‬أن‭ ‬ضعف‭ ‬العناية‭ ‬بالمقال‭ ‬الحسيني‭ ‬لا‭ ‬يعني‭ ‬ضربًا‭ ‬عنه‭ ‬صفحًا‭ ‬بقدر‭ ‬ما‭ ‬يعني‭ ‬أنه‭ ‬وسيلةٌ‭ ‬لسواه‭ ‬وليس‭ ‬غايةً‭ ‬في‭ ‬حد‭ ‬ذاته‭. ‬فمتى‭ ‬أريد‭ ‬التعرف‭ ‬على‭ ‬رأي‭ ‬طه‭ ‬حسين‭ ‬في‭ ‬الديمقراطية،‭ ‬مثلا،‭ ‬كان‭ ‬مقاله‭ ‬المنشور‭ ‬هنا‭ ‬أو‭ ‬هناك‭ ‬أيسرَ‭ ‬سبيلٍ‭ ‬للوقوف‭ ‬على‭ ‬هذا‭ ‬الرأي،‭ ‬نظرًا‭ ‬إلى‭ ‬كون‭ ‬المقال‭ ‬وجيزًا‭ ‬شكلاً‭ ‬واضحًا‭ ‬دلالةً‭. ‬ولكن‭ ‬العناية‭ ‬بالمقال،‭ ‬في‭ ‬ذاته،‭ ‬باعتباره‭ ‬جنسًا‭ ‬أدبيًا‭ ‬مستحدثًا‭ ‬له‭ ‬خصائص‭ ‬فنيةٌ‭ ‬تميزه‭ ‬عن‭ ‬سواه‭ ‬من‭ ‬الأجناس‭ ‬الأدبية‭ ‬الأخرى،‭ ‬لم‭ ‬تعرف‭ ‬طريقها‭ ‬إلى‭ ‬أقلام‭ ‬الدارسين‭.‬

هل‭ ‬المقال‭ ‬في‭ ‬الدرجة‭ ‬الصفر‭ ‬من‭ ‬الأدب؟

قد‭ ‬يذهب‭ ‬بعضُهم‭ ‬في‭ ‬تفسيره‭ ‬عدمَ‭ ‬اهتمام‭ ‬الباحثين‭ ‬بالمقال‭ ‬فنًا‭ ‬قوليًا‭ ‬وجنسًا‭ ‬أدبيًا‭ ‬مخصوصًا‭ ‬إلى‭ ‬إقرار‭ ‬محمود‭ ‬المسعدي،‭ ‬المؤلِف‭ ‬التونسي‭ ‬المشهور،‭ ‬على‭ ‬رأيه‭ ‬بشأنه‭. ‬فهو‭ ‬يراه‭ ‬في‭ ‬أدنى‭ ‬درجات‭ ‬الأدب‭ ‬لأنه‭ ‬معرضٌ‭ ‬لأكثر‭ ‬من‭ ‬آفة،‭ ‬ولأنه‭ ‬كثيرًا‭ ‬ما‭ ‬يكون‭ ‬ظرفيًا‭ ‬مؤقتًا‭ ‬مكيفًا‭ ‬تكييفًا‭ ‬ما‭ ‬بطابع‭ ‬الظرف‭ ‬العارض‭ ‬والزمن‭ ‬العابر‭. ‬وفي‭ ‬طبيعة‭ ‬هذا‭ ‬المقال‭ ‬ما‭ ‬يحول‭ ‬دون‭ ‬الكلية‭ ‬في‭ ‬النظر‭ ‬والشمول‭ ‬في‭ ‬البحث‭ ‬والإحاطة‭ ‬في‭ ‬التحليل‭. ‬لكن‭ ‬المسعدي‭ ‬الذي‭ ‬يذهب‭ ‬هذا‭ ‬المذهبَ‭ ‬من‭ ‬أفلح‭ ‬من‭ ‬كتب‭ ‬المقال،‭ ‬وممن‭ ‬مقالُه‭ ‬الذي‭ ‬مضت‭ ‬عليه‭ ‬الآن‭ ‬ستون‭ ‬سنةً‭ ‬أو‭ ‬أكثر‭ ‬لايزال‭ ‬حيًا‭ ‬يلذ‭ ‬القارئين‭. ‬وكذا‭ ‬شأن‭ ‬طه‭ ‬حسين‭ ‬وإبراهيم‭ ‬عبدالقادر‭ ‬المازني‭ ‬وحافظ‭ ‬إبراهيم‭. ‬فقد‭ ‬انقضت‭ ‬الآن‭ ‬سنون‭ ‬طوالٌ‭ ‬على‭ ‬كتابتهم‭ ‬مقالاتهم،‭ ‬ولكنها‭ ‬لاتزال‭ ‬حيةً‭ ‬على‭ ‬الدوام‭. ‬فما‭ ‬يُقدم‭ ‬حــــجةً،‭ ‬إذًا،‭ ‬عـــــلى‭ ‬الإهــــمال‭ ‬لا‭ ‬يستقيم‭.‬

 

المقال‭ ‬عصي‭ ‬على‭ ‬الحد

ولعل‭ ‬السبب‭ ‬الحقيقي‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬أن‭ ‬يرجع‭ ‬إلى‭ ‬طبيعة‭ ‬المقال‭ ‬ذاته‭. ‬فهو‭ ‬جنسٌ‭ ‬هجينٌ‭ ‬يقوم‭ ‬بين‭ ‬أدب‭ ‬القصة‭ ‬يمتع‭ ‬وأدب‭ ‬الفكرة‭ ‬يقنع‭. ‬وهو،‭ ‬داخل‭ ‬أدب‭ ‬الفكرة،‭ ‬يقوم‭ ‬بين‭ ‬خطاب‭ ‬الرأي‭ ‬الذي‭ ‬مقدماته‭ ‬وخواتمه‭ ‬ظنيةٌ‭ ‬وبين‭ ‬خطاب‭ ‬المعرفة‭ ‬ذي‭ ‬المقدمات‭ ‬والنتائج‭ ‬اليقينية‭. ‬وهو،‭ ‬داخل‭ ‬خطاب‭ ‬الرأي،‭ ‬يقوم‭ ‬بين‭ ‬خطاب‭ ‬مقالي‭ ‬بحصر‭ ‬المعنى،‭ ‬فيه‭ ‬جدلٌ‭ ‬أو‭ ‬تشخيص‭ ‬وبين‭ ‬خطاب‭ ‬هجائي‭ ‬فيه‭ ‬الأهجية‭ ‬والسجال‭ ‬والنقد‭ ‬اللاذع‭. ‬لذلك،‭ ‬اعتبره‭ ‬الدارسون،‭ ‬في‭ ‬العالم‭ - ‬وما‭ ‬أقلهم‭! - ‬عصيًا‭ ‬على‭ ‬الحد،‭ ‬وضعُه‭ ‬اليوم‭ ‬كوضع‭ ‬الرواية‭ ‬في‭ ‬آخر‭ ‬القرن‭ ‬التاسع‭ ‬عشر‭.‬

 

في‭ ‬المقال‭ ‬فوضى‭ ‬جميلةٌ

ولعل‭ ‬طه‭ ‬حسين‭ ‬الذي‭ ‬يقر‭ ‬له‭ ‬الخاص‭ ‬والعام‭ ‬في‭ ‬البلاد‭ ‬العربية‭ ‬بكونه‭ ‬رجلَ‭ ‬الثقافة‭ ‬الأبرزَ‭ ‬في‭ ‬القرن‭ ‬العشرين‭ ‬أن‭ ‬يكون،‭ ‬في‭ ‬مقاله،‭ ‬جاريًا‭ ‬على‭ ‬طريقة‭ ‬من‭ ‬سبقوه‭ ‬إفرنجًا‭ ‬وعربًا‭. ‬لكن‭ ‬أبرز‭ ‬ما‭ ‬يلفت‭ ‬الانتباه‭ ‬في‭ ‬مقال‭ ‬طه‭ ‬حسين‭ ‬التزامُ‭ ‬صاحبه،‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬يشعر‭ ‬أو‭ ‬لا‭ ‬يشعر،‭ ‬بسمة‭ ‬المقال‭ ‬الرئيسة‭ ‬وهي‭ ‬افوضاه‭ ‬الجميلةب‭. ‬فقد‭ ‬اتفق‭ ‬دارسون‭ ‬غربيون‭ ‬كثرٌ‭ ‬تعرضوا‭ ‬للمقال‭ ‬بالتحليل‭ ‬على‭ ‬أنه‭ - ‬منهجيا‭ - ‬غير‭ ‬ممنهَج‭. ‬قال‭ ‬بذلك‭ ‬كل‭ ‬من‭ ‬بارت‭ ‬وأدورنو‭ ‬وألدوس‭ ‬هوكسلي‭ ‬وسواهم‭. ‬وتتضح‭ ‬هذه‭ ‬الفوضى‭ ‬الجميلة‭ ‬في‭ ‬الجمع‭ ‬بصلب‭ ‬المقال‭ ‬الواحد‭ ‬بين‭ ‬التأمل‭ ‬أو‭ ‬الجدل‭ ‬وبين‭ ‬التشخيص‭. ‬فطه‭ ‬حسين‭ ‬المقاليُ،‭ ‬إذ‭ ‬يتكلم،‭ ‬يتأمل‭ ‬فيعرض‭ ‬مقدماتٍ‭ ‬وينتظر‭ ‬نتائجَ‭. ‬وهو،‭ ‬في‭ ‬الآن‭ ‬نفسِه،‭ ‬إذ‭ ‬يشخص‭ ‬وضعًا،‭ ‬يبسط‭ ‬معلوماتٍ‭ ‬على‭ ‬المتلقي‭ ‬استيعابُها‭ ‬وربما‭ ‬حفظُها‭. ‬وقد‭ ‬لا‭ ‬يكتفي،‭ ‬في‭ ‬المقال‭ ‬الواحد،‭ ‬بهذا‭ ‬التأمل‭ ‬وهذا‭ ‬التشخيص،‭ ‬بل‭ ‬يردفهما‭ ‬بما‭ ‬هما‭ ‬ليسا‭ ‬منه‭ ‬وهو‭ ‬الخطابُ‭ ‬الهجائي‭. ‬فإذا‭ ‬بالسجال‭ ‬يحضر،‭ ‬وإذا‭ ‬بالأهجية‭ ‬تبرز،‭ ‬وإذا‭ ‬بالنقد‭ ‬اللاذع‭ ‬يحل‭ ‬محل‭ ‬التروي‭ ‬والرصانة‭.‬

قد‭ ‬يجد‭ ‬المرء‭ ‬نفسَه‭ ‬في‭ ‬حيرة‭ ‬إذ‭ ‬يعجز‭ ‬عن‭ ‬تحديد‭ ‬الجنس‭ ‬الأدبي‭ ‬للنص‭ ‬الذي‭ ‬هو‭ ‬بصدد‭ ‬التعامل‭ ‬معه‭. ‬أقِوامُه‭ ‬خطابٌ‭ ‬مقاليٌ‭ ‬أم‭ ‬خطابٌ‭ ‬هجائيٌ؟‭ ‬فقد‭ ‬يبدأ‭ ‬النص‭ ‬مقاليًا،‭ ‬لكنه‭ ‬سرعان‭ ‬ما‭ ‬ينقلب‭ ‬نقدًا‭ ‬لاذعًا‭ ‬فأهجيةً،‭ ‬ليعود‭ ‬أخيرًا‭ ‬إلى‭ ‬طابعه‭ ‬المقالي‭. ‬أوَليس‭ ‬تعدد‭ ‬خطابات‭ ‬الرأي‭ ‬هذه‭ ‬دليلا‭ ‬على‭ ‬فوضى‭ ‬جميلةٍ،‭ ‬ومن‭ ‬ثم،‭ ‬على‭ ‬مقالية‭ ‬المقال‭ ‬أي‭ ‬ما‭ ‬به‭ ‬يكون‭ ‬النص‭ ‬مقالا؟‭ ‬وعندما‭ ‬تجتمع‭ ‬في‭ ‬النص‭ ‬الواحد‭ ‬الوجيز‭ ‬مثلُ‭ ‬هذه‭ ‬السمة‭ ‬إلى‭ ‬جانب‭ ‬نصوص‭ ‬سابقة‭ ‬تحضر‭ ‬علنًا‭ ‬أو‭ ‬ضمنًا‭ ‬فيه‭ ‬يتأكد‭ ‬الناظر‭ ‬من‭ ‬طبيعة‭ ‬النص‭ ‬المقالية‭. ‬

وإن‭ ‬ما‭ ‬يفعله‭ ‬طه‭ ‬حسين‭ ‬من‭ ‬جمع‭ ‬بين‭ ‬هذه‭ ‬الأجناس‭ ‬المختلفة‭ ‬والتي‭ ‬يسعى‭ ‬الدارسون‭ ‬إلى‭ ‬إقامة‭ ‬حواجز‭ ‬بينها‭ ‬يحقق‭ ‬هدفيْن‭ ‬في‭ ‬آن‭ ‬معًا،‭ ‬أولهُما‭ ‬الالتزام‭ ‬بطبيعة‭ ‬المقال‭ ‬العصي‭ ‬على‭ ‬الخضوع‭ ‬لنمط‭ ‬في‭ ‬الكتابة‭ ‬واحد،‭ ‬وإن‭ ‬بشكل‭ ‬لاواع،‭ ‬وثانيهما‭ ‬تلبية‭ ‬حاجة‭ ‬طه‭ ‬حسين‭ ‬إلى‭ ‬تعاليه‭ ‬على‭ ‬القواعد‭ ‬الفنية‭ ‬في‭ ‬الكتابة‭ ‬وإلى‭ ‬إقراره‭ ‬على‭ ‬عدم‭ ‬الرضا‭ ‬بها‭. ‬ومثلُ‭ ‬هذا‭ ‬التعالي‭ ‬عبر‭ ‬عنه‭ ‬طه‭ ‬حسين‭ ‬سواءٌ‭ ‬في‭ ‬االمعذبون‭ ‬في‭ ‬الأرضب‭ ‬أو‭ ‬في‭ ‬االحب‭ ‬الضائعب‭. ‬وإذا‭ ‬كان‭ ‬هذا‭ ‬دأبَه‭ ‬في‭ ‬الفن‭ ‬القصصي‭ ‬روائيًا‭ ‬وأقصوصيًا،‭ ‬فمن‭ ‬باب‭ ‬أولى‭ ‬وأحرى‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬في‭ ‬جنس‭ ‬هجين‭ ‬لما‭ ‬تستقر‭ ‬ملامحُه‭.‬

 

بين‭ ‬سلب‭ ‬اللب‭ ‬والسخط

لعل‭ ‬اللذة‭ ‬التي‭ ‬يحققها‭ ‬طه‭ ‬حسين‭ ‬لقارئ‭ ‬رواياته‭ ‬وأقاصيصه‭ ‬ونقوده‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬مساويةً‭ ‬لتلك‭ ‬التي‭ ‬يحققها‭ ‬لقارئ‭ ‬مقاله‭. ‬وتتأتى‭ ‬هذه‭ ‬اللذة‭ ‬من‭ ‬شيئيْن‭ ‬رئيسيْن،‭ ‬أولهما‭ ‬سلبُ‭ ‬لب‭ ‬هذا‭ ‬القارئ‭ ‬أسلوبيًا،‭ ‬وثانيهما‭ ‬حملُه‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬يسخط‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬يسخط‭ ‬عليه‭ ‬طه‭ ‬حسين‭ ‬ذاتُه‭. ‬فالمقالي،‭ ‬إذ‭ ‬ينـزع‭ ‬إلى‭ ‬كسب‭ ‬ود‭ ‬قارئه،‭ ‬يأتيه‭ ‬بما‭ ‬يمتعه‭. ‬وإذا‭ ‬هو،‭ ‬عندما‭ ‬يسخر‭ ‬من‭ ‬خصمه،‭ ‬لا‭ ‬يكتفي‭ ‬باستعمال‭ ‬سخرية‭ ‬المقال،‭ ‬وهو‭ ‬أن‭ ‬يورد‭ ‬على‭ ‬لسانه‭ ‬ما‭ ‬يضحك،‭ ‬صنيعَه‭ ‬مع‭ ‬الوزراء‭ ‬الذين‭ ‬أفشوا‭ ‬أسرار‭ ‬الحكومة،‭ ‬فإذا‭ ‬هم‭ ‬غرابيل‭ ‬يرشح‭ ‬منها‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬يوضع‭ ‬فيها،‭ ‬بل‭ ‬يَستعمل‭ ‬سخرية‭ ‬المقام‭ ‬كأن‭ ‬يصور‭ ‬هذا‭ ‬الخصم‭ ‬في‭ ‬مظهر‭ ‬المهرج،‭ ‬وهو‭ ‬رئيس‭ ‬الحكومة‭ ‬المفروض‭ ‬فيه‭ ‬الرصانة‭ ‬والهدوء‭. ‬وفي‭ ‬ما‭ ‬فعله‭ ‬طه‭ ‬حسين‭ ‬برئيس‭ ‬الحكومة‭ ‬هذا‭ ‬في‭ ‬أحد‭ ‬مقالاته‭ ‬المنشورة‭ ‬في‭ ‬غرابيل‭ ‬بعنوان‭ ‬اسيارةب‭ ‬دليلٌ‭ ‬على‭ ‬هذا‭ ‬الإزراء‭. ‬فقد‭ ‬جعله‭ ‬يمتطي،‭ ‬في‭ ‬إحدى‭ ‬زياراته‭ ‬إلى‭ ‬باريس،‭ ‬سيارتين‭ ‬في‭ ‬الآن‭ ‬نفسِه،‭ ‬إحداهما‭ ‬موجودةٌ‭ ‬بعدُ‭ ‬في‭ ‬باريس‭ ‬والأخرى‭ ‬حمَلها‭ ‬معه‭ ‬من‭ ‬القاهرة‭. ‬وبذلك‭ ‬أوفى‭ ‬رئيس‭ ‬الوزراء‭ ‬حق‭ ‬السيارتيْن‭ ‬كلتيهما،‭ ‬عليه‭.‬

‭ ‬أما‭ ‬حمل‭ ‬القارئ‭ ‬على‭ ‬السخط‭ ‬فمأتاه‭ ‬من‭ ‬ضيق‭ ‬المقالي‭ ‬بنفسِه‭. ‬فهو،‭ ‬إذ‭ ‬يتصدى‭ ‬إلى‭ ‬مسائل‭ ‬فكريةٍ‭ ‬أو‭ ‬ثقافيةٍ‭ ‬شائكةٍ‭ ‬يحللها‭ ‬في‭ ‬غير‭ ‬العمق‭ ‬والتجريد‭ ‬والنسقية‭ ‬التي‭ ‬يتميز‭ ‬بها‭ ‬الفيلسوف‭ ‬والعالِمُ،‭ ‬يرى‭ ‬نفسَه‭ ‬في‭ ‬مرتبة‭ ‬أدنى‭ ‬منهما‭. ‬لكن‭ ‬تردده‭ ‬في‭ ‬أخذ‭ ‬المواقف‭ ‬وتناقضه‭ ‬أحيانًا‭ ‬هما‭ ‬أقرب‭ ‬إلى‭ ‬طبيعته‭ ‬البشرية‭ ‬مما‭ ‬يأتيه‭ ‬الفيلسوف‭ ‬ذو‭ ‬النسق‭ ‬الصارم‭ ‬والمنهج‭ ‬المجرد‭ ‬من‭ ‬التزام‭ ‬باستقامة‭ ‬النسق،‭ ‬حتى‭ ‬ولو‭ ‬أدى‭ ‬الأمر‭ ‬إلى‭ ‬لي‭ ‬عنق‭ ‬الحقيقة‭. ‬ولعل‭ ‬التجويد‭ ‬الأسلوبي‭ ‬أن‭ ‬يغطي‭ ‬هذا‭ ‬الشعور‭ ‬بالسخط‭ ‬ويزيدَ،‭ ‬من‭ ‬ثم،‭ ‬في‭ ‬اتهام‭ ‬المتفنن‭ ‬في‭ ‬العبارة‭ ‬بإخفائه‭ ‬ضعفًا‭ ‬في‭ ‬الفكرة‭. ‬لكن‭ ‬التعبير‭ ‬الراقي‭ ‬فنيًا‭ ‬لا‭ ‬يتناقض‭ ‬البتة‭ ‬وعمقَ‭ ‬الفكرة‭. ‬

 

ثلاثةٌ‭ ‬في‭ ‬المقال‭ ‬حاضرة‭: ‬الإيطوس‭ ‬والباطوس‭ ‬واللوغوس‭ ‬

وها‭ ‬هنا‭ ‬تفرض‭ ‬صورةٌ‭ ‬ماَ‭ ‬للذات‭ ‬لدى‭ ‬المقالي‭ ‬نفسَها‭. ‬فأي‭ ‬متكلم‭ ‬يسعى‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬يعطي‭ ‬إلى‭ ‬مخاطَبِه‭ ‬صورة‭ ‬عن‭ ‬ذاته‭ ‬مثلى‭. ‬وتتأتى‭ ‬صورة‭ ‬الذات‭ ‬هذه‭ ‬من‭ ‬وضع‭ ‬المتكلِم‭ ‬الاعتباري‭ ‬كأن‭ ‬يُعرَف‭ ‬صادقًا‭ ‬ليِّنَ‭ ‬العريكة‭ ‬تأتّيَه‭ ‬من‭ ‬خطابه‭ ‬لحظة‭ ‬التلفظ‭. ‬وطه‭ ‬حسين‭ ‬الذي‭ ‬عرف‭ ‬مبكرًا‭ ‬بكونه‭ ‬أولا‭ ‬عميد‭ ‬الأدب‭ ‬العربي‭ ‬وبإثارته‭ ‬ثانيًا‭ ‬مشكل‭ ‬الشك‭ ‬في‭ ‬الشعر‭ ‬الجاهلي،‭ ‬وبكتابته‭ ‬أخيرًا‭ ‬االأيامب‭ ‬ردَ‭ ‬فعل‭ ‬ضد‭ ‬المشككين‭ ‬فيه‭ ‬قد‭ ‬حقق‭ ‬لنفسه‭ ‬صورة‭ ‬للذات‭ ‬معتبرة،‭ ‬هي‭ ‬ما‭ ‬يسميها‭ ‬الفرنجة‭ ‬إيطوسًا‭. ‬وليس‭ ‬غريبًا‭ ‬أن‭ ‬يغتنم‭ ‬طه‭ ‬حسين‭ ‬هذه‭ ‬الشهرة‭ ‬التي‭ ‬حققها‭ ‬صغيرًا‭ ‬ليجد‭ ‬رؤساءَ‭ ‬تحرير‭ ‬الصحف‭ ‬يفسحون‭ ‬له‭ ‬مجال‭ ‬الكتابة‭ ‬في‭ ‬صحفهم‭ ‬فيخصصون‭ ‬له‭ ‬ركنًا‭ ‬يخاطب‭ ‬من‭ ‬خلاله‭ ‬جمهوره‭ ‬القارئ‭ ‬الواسع‭. ‬ولهذه‭ ‬الشهرة‭ ‬وهذا‭ ‬التفوق‭ ‬في‭ ‬الأدب‭ ‬ما‭ ‬يسمح‭ ‬بالتأثير‭ ‬في‭ ‬المتلقي‭. ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬يطرح‭ ‬مسألة‭ ‬الانفعالات‭ ‬أو‭ ‬العواطف‭ ‬تثار‭. ‬ويسمي‭ ‬الفرنجة‭ ‬هذه‭ ‬الانفعالات‭ ‬أو‭ ‬العواطف‭ ‬الباطوس‭. ‬وعندئذ‭ ‬يتفاعل‭ ‬جمهور‭ ‬القراء‭ ‬إيجابًا‭ ‬مع‭ ‬ما‭ ‬يطرحه‭ ‬عليهم‭ ‬المقالي‭ ‬ذو‭ ‬الوضع‭ ‬الاعتباري‭ ‬الجيد‭ ‬من‭ ‬عواطف‭ ‬وانفعالات‭. ‬وأجلى‭ ‬ما‭ ‬تتضح‭ ‬عليه‭ ‬عاطفة‭ ‬الكراهية‭ ‬والمقت‭ ‬أو‭ ‬الرضا‭ ‬والحب‭ ‬عندما‭ ‬تكون‭ ‬الدعوة‭ ‬إليها‭ ‬أو‭ ‬النهي‭ ‬عنها‭ ‬صادرًا‭ ‬عمن‭ ‬صورةُ‭ ‬الذات‭ ‬لديه‭ ‬مقدرة‭ ‬وعمن‭ ‬عبارتُه‭ ‬متأنقةٌ‭ ‬ميسرةٌ‭. ‬وهنا‭ ‬تأتي‭ ‬ثالثة‭ ‬ثلاثة‭ ‬العناصر‭ ‬الواجب‭ ‬توافرها‭ ‬للتأثير‭ ‬في‭ ‬المتلقي،‭ ‬وهي‭ ‬العبارة‭ ‬أو‭ ‬اللغة‭ (‬اللوغوس‭). ‬

وهكذا‭ ‬يعيد‭ ‬المقال‭ ‬الحسيني‭ ‬إلى‭ ‬الأذهان‭ ‬ثلاثة‭ ‬العناصر‭ ‬المتوافرة‭ ‬في‭ ‬الخطبة‭ ‬قديمًا‭ ‬مما‭ ‬نبه‭ ‬عليه‭ ‬أرسطو‭ ‬في‭ ‬وقته،‭ ‬وهي‭ ‬الإيطوسُ‭ ‬والباطوسُ‭ ‬واللوغوسُ‭. ‬وتتحول‭ ‬بذلك‭ ‬شروط‭ ‬الخطاب‭ ‬الشفوي،‭ ‬زمن‭ ‬الخطابة‭ ‬القديمة،‭ ‬إلى‭ ‬المقال،‭ ‬زمن‭ ‬الخطابة‭ ‬الجديدة‭. ‬وإذا‭ ‬طه‭ ‬حسين‭ ‬اخطيبٌب‭ ‬كتابيٌ‭ ‬يتوخى‭ ‬ما‭ ‬يتوخاه‭ ‬سلفُه‭ ‬الشفويُ‭ ‬فيؤثر‭ ‬بصورة‭ ‬ذاته‭ ‬وبما‭ ‬يثيره‭ ‬من‭ ‬انفعالات‭ ‬وعواطف‭ ‬وبما‭ ‬يستخدمه‭ ‬من‭ ‬أسلوب‭ ‬جميلٍ‭ ‬يسلب‭ ‬اللب‭.‬

 

في‭ ‬المقال‭ ‬نثرٌ‭ ‬مقصده‭ ‬الحِجَاج

إن‭ ‬غاية‭ ‬المقالي‭ ‬الرئيسةَ‭ ‬من‭ ‬وراء‭ ‬فوضى‭ ‬البناء‭ ‬الجميلة‭ ‬وتعددِ‭ ‬الأنماط‭ ‬الخِطابية‭ ‬بين‭ ‬مقالي‭ ‬بحصر‭ ‬المعنى‭ ‬وهجائي‭ ‬وتقديمِ‭ ‬صورةٍ‭ ‬للذات‭ ‬مُثلى‭ ‬وإثارةِ‭ ‬العواطف‭ ‬عبر‭ ‬استخدام‭ ‬لغة‭ ‬فنية‭ ‬هي‭ ‬الإقناعُ‭. ‬فالخطاب‭ ‬المقالي‭ ‬النثري،‭ ‬إذ‭ ‬يتوافر‭ ‬فيه‭ ‬ما‭ ‬يُسمى‭ ‬الغليانُ‭ ‬الشعريُ‭ ‬الذي‭ ‬يزري‭ ‬بالنظم‭ ‬ويقرب‭ ‬من‭ ‬توهج‭ ‬القصيدة،‭ ‬مقصدُه‭ ‬حجاجيٌ‭ ‬بالأساس‭. ‬فهو‭ ‬يتوخى‭ ‬السبل‭ ‬المتعددة‭ ‬لحمل‭ ‬القارئ‭ ‬على‭ ‬الاقتناع‭ ‬إن‭ ‬لم‭ ‬يقتنع‭ ‬طوعًا‭. ‬ولذلك‭ ‬تحضر‭ ‬بكثرة‭ ‬طرائق‭ ‬الاستدلال‭ ‬استقراءً‭ ‬أو‭ ‬استنتاجًا‭. ‬وميزة‭ ‬خطاب‭ ‬حسين‭ ‬المقالي‭ ‬عدمُ‭ ‬اقتصاره‭ ‬على‭ ‬الاستدلال‭ ‬قياسًا‭ ‬خَطابيًا‭ ‬شأنه‭ ‬مثلا‭ ‬عندما‭ ‬استعار‭ ‬للوزراء‭ ‬يفشون‭ ‬أسرار‭ ‬اجتماعاتهم‭ ‬الخاصة‭ ‬عبارة‭ ‬االغرابيلب‭. ‬فإذا‭ ‬بالفكرة‭ ‬ترسخ‭ ‬في‭ ‬الذهن‭ ‬يسيرًا‭. ‬ويُعتبَر‭ ‬هذا‭ ‬القياس‭ ‬خَطابيًا‭ ‬لمناقضته‭ ‬القياس‭ ‬الجدليَ‭ ‬ذا‭ ‬المقدمات‭ ‬والنتائج‭ ‬اليقينية‭. ‬ويسميه‭ ‬المناطقة‭ ‬اضميرًاب‭ ‬لإخفاء‭ ‬المحاجّ‭ ‬إحدى‭ ‬مقدمتيْ‭ ‬القياس‭ ‬أو‭ ‬نتيجته‭. ‬وما‭ ‬عده‭ ‬طه‭ ‬حسين‭ ‬من‭ ‬سلوك‭ ‬الوزراء‭ ‬مزريًا‭ ‬بهم‭ ‬لأنه‭ ‬كشفٌ‭ ‬لأسرار‭ ‬الدولة‭ ‬قد‭ ‬يراه‭ ‬الوزراءُ‭ ‬أنفسُهم‭ ‬حقًا‭ ‬للشعب‭ ‬في‭ ‬المعلومة،‭ ‬ومن‭ ‬ثم،‭ ‬فإخفاؤهم‭ ‬إياها‭ ‬عن‭ ‬أبناء‭ ‬الشعب‭ ‬تسلطٌ‭ ‬عليهم‭ ‬واحتقارٌ‭ ‬لهم،‭ ‬لأن‭ ‬الوزراء‭ ‬قد‭ ‬نصبوا‭ ‬أنفسهم،‭ ‬آنذاك،‭ ‬أوصياء‭ ‬على‭ ‬الشعب‭.‬

لكن‭ ‬هذا‭ ‬الخطاب‭ ‬يقوم‭ ‬على‭ ‬الاستقراء‭ ‬وعلى‭ ‬المثال‭ ‬أساسًا‭. ‬وضربُ‭ ‬المثال‭ ‬من‭ ‬شأنه‭ ‬تقريبُ‭ ‬المفاهيم‭ ‬من‭ ‬الذهن‭. ‬فما‭ ‬يُراد‭ ‬من‭ ‬المتلقي‭ ‬التفطن‭ ‬إليه‭ ‬يُصاغ‭ ‬له‭ ‬في‭ ‬شكل‭ ‬مثال‭ ‬كذاك‭ ‬الذي‭ ‬أقامه‭ ‬طه‭ ‬حسين‭ ‬متحدثًا‭ ‬عن‭ ‬ضرب‭ ‬الله‭ ‬مثلا‭ ‬ما‭ ‬بعوضة‭ ‬فما‭ ‬فوقها‭. ‬ومن‭ ‬باب‭ ‬النسج‭ ‬على‭ ‬المنوال‭ ‬ضرب‭ ‬طه‭ ‬حسين‭ ‬المقاليُ‭ ‬مثلا‭ ‬سيارة‭ ‬ما‭ ‬فما‭ ‬فوقها‭. ‬وهذه‭ ‬المماهاةُ‭ ‬بين‭ ‬البعوضة‭ ‬يتحدث‭ ‬عنها‭ ‬القرآن‭ ‬الكريم‭ ‬والسيارة‭ ‬يتحدث‭ ‬عنها‭ ‬طه‭ ‬حسين‭ ‬لا‭ ‬تعني‭ ‬وجوبًا‭ ‬تحقق‭ ‬النتائج‭ ‬عينِها‭ ‬في‭ ‬الحاليْن،‭ ‬بل‭ ‬قد‭ ‬ينتج‭ ‬عن‭ ‬البعوضة‭ ‬ما‭ ‬لا‭ ‬ينتج‭ ‬عن‭ ‬السيارة‭. ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬نبه‭ ‬عليه‭ ‬المناطقة‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬المثال‭ ‬استقراءٌ‭ ‬خَطابيٌ‭ ‬نتائجه‭ ‬كمقدماته‭ ‬غيرُ‭ ‬يقينية‭. ‬

 

القصة‭ ‬وسيلةَ‭ ‬إقناع

بذا‭ ‬يأتي‭ ‬هذا‭ ‬القياسُ‭ ‬وهذا‭ ‬الاستقراء‭ ‬الخطابيان‭ ‬ضميرًا‭ ‬ومثالًا‭ ‬ليكونا‭ ‬عونًا‭ ‬لطه‭ ‬حسين‭ ‬المقاليِ‭ ‬على‭ ‬الإقناع‭, ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬طه‭ ‬حسين‭ ‬لا‭ ‬يكتفي‭ ‬بتوخي‭ ‬أسلوب‭ ‬الحجاج‭ ‬المباشر،‭ ‬بل‭ ‬يعمِد‭ ‬إلى‭ ‬القصة‭ ‬يوردها‭. ‬فإذا‭ ‬هي‭ ‬تنهض‭ ‬بدور‭ ‬الاستدلال‭. ‬وفي‭ ‬ما‭ ‬عرضه‭ ‬طه‭ ‬حسين‭ ‬من‭ ‬قصة‭ ‬رئيس‭ ‬الحكومة‭ ‬مع‭ ‬سياراته‭ ‬الثلاث‭ ‬في‭ ‬القاهرة‭ ‬وسيارتيه‭ ‬في‭ ‬باريس‭ ‬ما‭ ‬يطرب‭ ‬المتلقي‭ ‬ويلذ‭ ‬له‭ ‬أن‭ ‬يعرف‭ ‬إلام‭ ‬آلت‭ ‬أمور‭ ‬رئيس‭ ‬الحكومة‭ ‬مع‭ ‬هذه‭ ‬السيارات‭. ‬فللقصة‭ ‬دورٌ‭ ‬تأثيريٌ‭ ‬وانفعاليٌ‭ ‬لا‭ ‬يُمارى‭. ‬وإذا‭ ‬كان‭ ‬هذا‭ ‬دورها‭ ‬اتخذها‭ ‬المقالي‭ ‬مطيةً‭ ‬لتبليغ‭ ‬وجهة‭ ‬نظره‭. ‬فليس‭ ‬همه،‭ ‬في‭ ‬حقيقة‭ ‬الأمر،‭ ‬أن‭ ‬يشهِّر‭ ‬برئيس‭ ‬وزرائه،‭ ‬إذ‭ ‬يستغل‭ ‬منصبه‭ ‬ليفسد‭ ‬بقدر‭ ‬ما‭ ‬يهمه‭ ‬حمل‭ ‬القارئ‭ ‬على‭ ‬الوقوف‭ ‬إلى‭ ‬صفه‭ ‬في‭ ‬رفضه‭ ‬الفسادَ‭ ‬واستغلالَ‭ ‬النفوذ‭. ‬

 

الحاجة‭ ‬إلى‭ ‬العناية‭ ‬بالمقال‭ - ‬درسًا‭ - ‬أكيدةٌ

إن‭ ‬العناية‭ ‬بالمقال‭ ‬فنًا‭ ‬قوليًا‭ ‬وجنسًا‭ ‬أدبيًا‭ ‬مستحدَثًا‭ ‬تبدو‭ ‬ضعيفةً‭ ‬جدا‭ ‬برغم‭ ‬الكثرة‭ ‬الكثيرة‭ ‬من‭ ‬المقالات‭ ‬تنشَر‭ ‬يوميًا‭ ‬في‭ ‬الصحف‭ ‬وفي‭ ‬المجلات‭ ‬وفي‭ ‬المواقع‭ ‬الإلكترونية‭ ‬وفي‭ ‬الكتب‭ ‬الجماعية‭. ‬وربما‭ ‬كان‭ ‬هذا‭ ‬سببًا‭ ‬في‭ ‬عدم‭ ‬العناية‭ ‬به‭. ‬لكنها‭ ‬تبدو،‭ ‬رغم‭ ‬ذلك‭ ‬أمرًا‭ ‬حتميًا،‭ ‬سواء‭ ‬تعلق‭ ‬الأمر‭ ‬بالمقال‭ ‬مطلقًا‭ ‬أو‭ ‬بمقال‭ ‬طه‭ ‬حسين‭ ‬تخصيصًا‭. ‬فقد‭ ‬اتفق‭ ‬كثيرٌ‭ ‬من‭ ‬الدارسين‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬وصفوه‭ ‬بالفوضى‭ ‬في‭ ‬المقال‭ ‬لطفوها‭ ‬فنعتوها‭ ‬بالجميلة‭. ‬واعتبر‭ ‬كثيرون‭ ‬منهم‭ ‬أيضًا‭ ‬الأدب‭ ‬الذي‭ ‬به‭ ‬يُكتب‭ ‬المقال‭ ‬نثرًا‭ ‬عمليًا‭ ‬وسطًا‭ ‬بين‭ ‬نثر‭ ‬فني‭ ‬هو‭ ‬السائد‭ ‬في‭ ‬أدب‭ ‬القصة‭ ‬ونثر‭ ‬يومي‭ ‬هو‭ ‬المستخدَم‭ ‬في‭ ‬لغة‭ ‬التعامل‭ ‬اليومي‭. ‬ونبه‭ ‬كثيرون‭ ‬منهم‭ ‬أخيرًا‭ ‬على‭ ‬إقبال‭ ‬كل‭ ‬من‭ ‬هب‭ ‬ودب‭ ‬على‭ ‬كتابته‭ ‬فأساءوا‭ ‬إلى‭ ‬طابعه‭ ‬الفني‭ ‬الذي‭ ‬يختلف‭ ‬بعض‭ ‬الاختلاف‭ ‬عن‭ ‬الطابع‭ ‬العملي‭ ‬المميز‭ ‬للمقال‭ ‬الصحفي‭ ‬تحديدًا‭. ‬فأين‭ ‬موقع‭ ‬مقال‭ ‬طه‭ ‬حسين‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬الإنتاج‭ ‬المقالي‭ ‬المفرط‭ ‬الغزارة؟

‭ ‬إن‭ ‬ما‭ ‬نستشفه‭ ‬من‭ ‬غليان‭ ‬شعري‭ ‬في‭ ‬مقال‭ ‬طه‭ ‬حسين‭ ‬شبيهٍ‭ ‬بذاك‭ ‬الذي‭ ‬عبر‭ ‬عنه‭ ‬ميشال‭ ‬دي‭ ‬مونتانييه‭ (‬واضعُ‭ ‬أسس‭ ‬المقال‭ ‬في‭ ‬التاريخ‭) ‬يزري‭ ‬بكثير‭ ‬مما‭ ‬يوجد‭ ‬في‭ ‬المقالات‭ ‬السيارة‭. ‬فنثره‭ ‬يتميز‭ ‬بعبارة‭ ‬تشنف‭ ‬السمع‭ ‬وتهذب‭ ‬الذوق‭ ‬وتعزز‭ ‬الملكة‭ ‬اللغوية‭. ‬وهو،‭ ‬إلى‭ ‬جانب‭ ‬ذلك،‭ ‬يقوم‭ ‬على‭ ‬بناء‭ ‬متحرر‭ ‬من‭ ‬الصرامة‭ ‬المنهجية‭ ‬لعله‭ ‬سبيل‭ ‬طه‭ ‬حسين‭ ‬إلى‭ ‬التخلص‭ ‬أحيانًا‭ ‬من‭ ‬الجد‭ ‬المفرط‭ ‬الذي‭ ‬يجد‭ ‬فيه‭ ‬نفسه‭ ‬باستمرار‭. ‬ويقوم‭ ‬هذا‭ ‬النثر‭ ‬أيضًا‭ ‬على‭ ‬تنبيه‭ ‬القارئ‭ ‬على‭ ‬الدوام‭ ‬وحفز‭ ‬همته‭ ‬إلى‭ ‬مشاطرته‭ ‬المقاليَ‭ ‬الرأيَ‭. ‬كل‭ ‬هذا‭ ‬يجعل‭ ‬العناية‭ ‬بهذا‭ ‬الفن‭ ‬القولي‭ ‬ضرورةً‭ ‬لكونه‭ ‬يرتبط‭ ‬بالفكرة‭ ‬يُدعى‭ ‬إليها‭ ‬وبالقصة‭ ‬ترفد‭ ‬الفكرة‭ ‬وتوضحها‭ ‬وبالعبارة‭ ‬يُتفنَن‭ ‬فيها‭. ‬هذا‭ ‬فضلا‭ ‬عما‭ ‬يغذي‭ ‬به‭ ‬هذا‭ ‬المقال‭ ‬الحسيني‭ ‬روح‭ ‬المناظرة‭ ‬والجدل،‭ ‬تلك‭ ‬التي‭ ‬يُحتاج‭ ‬إليها‭ ‬في‭ ‬إرساء‭ ‬قواعد‭ ‬الحوار‭ ‬وقوة‭ ‬الحجة‭ .