(شاعر العدد) ممدوح عدوان.. مغني الهوى القتَّال

شاعر العدد) ممدوح عدوان.. مغني الهوى القتَّال
        

          في آخر لقاء تلفزيوني له قدر لي أن أتابعه, قبيل رحيله بقليل ظهر الشاعر ممدوح عدوان متحاورا مع المذيع بنفسية المحارب الأخير ولكن بتفاؤل المنتصر أبدًا.

          تحدث عن مرضه الذي قضى على جسده في نهاية الأمر، كمن يتحدث عن عدو ما من صداقته بد، وأبدى ثقة لا محدودة بالعلم الحديث وبأطبائه الكثيرين وهم سادرون في تعاملهم مع سرطان احتل الجسد على حين غرة من صاحب الجسد المشاكس على كل جبهات الكتابة بالحيوية ذاتها وبالشجاعة كلها.

          في سنوات الحرب العالمية الأولى، تحديدًا في العام 1941، ولد ممدوح عدوان في بلدة «قيرون» الواقعة شمال سورية حيث تلقى تعليمه الابتدائي والإعدادي والثانوي فيها قبل أن يحصل على درجة الإجازة في اللغة الإنجليزية من جامعة دمشق ويلتحق بالعمل الصحفي والمسرحي والتلفزيوني، ويمضي حياته فيما بعد ممارسا لمهن يكون القلم هو أداتها الأولى، والشعر فيضها الأجمل.

          وفي سنوات حروب عالمية لا تواريخ محددة لبداياتها ونهاياتها رحل بعد أن أيقن بأنه لا شيء قادرًا على أن يوقف الغياب عن أن يحتل مساحته المفضلة في جغرافيات البشرِِ حتى لو كان هذا الشيء هو الكثير من الشعر والنثر والروايات والمقالات والمسرحيات والمسلسلات والترجمات والنكات والضحكات التي درج الشاعر على اختراعها كتابة وسبيل عيش ايضا.

          إنها إذًا أدوات، مجرد أدوات ناقصة، سعى لاستكمالها من أجل استدراج المزيد من الحياة في مساحات كونية للموت، وربما لهذا كان فجًا وحالمًا في آن واحد، عندما وضع ملامح خطته المحكمة، هكذا تصورها لمعركته الأخيرة، هكذا توقعها في كتاب الموت.

          وممدوح عدوان الذي رحل في الشهر الأخير من العام 2004 عن 63 عاما وما يقرب من ثمانين كتابًا مطبوعًا، ظل قادرًا باستمرار على رفد كيانه المتعدد بما يجعله يعيش الحلم وكأنه الواقع، ويعيش الواقع وكأنه الحلم من دون أن يتخلى عن مهمته في التقريب بين الاثنين بالمزيد من الكتابة، وردم الهوة التي يستشعرها في عيون البشر بين الحلم والواقع بقصيدته المتجاوزة لحدود ممكنها الفني دائما حتى وإن عبرت عن ذاتها بمسرحية أو بمقالة صحفية، أو بمسلسل تلفزيوني أو دراسة نقدية. وعلى هذا الصعيد يقول: «أنا بالدرجة الأولى شاعر، وأظن أن كل ما أكتبه

          لا يخلو من لمسة شعرية، لكن بقية الفنون أتعامل معها بشكل مستقل، أي أنني عندما أكتب مسرحًا أحاول أن أنسى ممدوح عدوان الشاعر، وأكتب بشروط المسرح، وعندما أكتب مقالاً صحفيًا أنسى أيضا أنني شاعر، ومسرحي، وأكتب المقال الصحفي بشروط المقال الصحفي ولغته، وأتوجه إلى القارئ على هذا الاساس، أعتقد أنه في كل كتاباتي المتنوعة توجد لمسة من الشعر، مع أنني في كل كتابة ألتزم بقواعد الفن الذي أكتبه».

          لكن هذا الالتزام الفني الذي يبديه ممدوح عدوان تجاه كل كتابة يشرع بها، لا يعني شيئًا على الإطلاق أمام «عدم التزامه» الواقعي تجاه الحياة بكل تنوعاتها الذاهبة به من منابع الطفولة الأولى وحتى لحظة الغياب المدوي بعد أن غنى للهوى القتَّال أغنية على طلل يصير ركامًا!، ولكنه الركام الذي يحترق بنار الإبداع المقدسة فتنتفض من بين الرماد طيور الفينيق خفاقة بأجنحة الحرية والخلود، على الرغم من كل محاولات المنع . لقد قاوم ممدوح عدوان محاولات كثيرة لمنعه من الكتابة، بحجج واهية، لكنه لم يستسلم بل استقوى على المنع بالمزيد من الكتابة، وعندما عمل في تدريس الكتابة المسرحية في المعهد العالي للفنون المسرحية في دمشق كانت متعته الأولى أن يعلم طلبته كيف يقولون ما يودون قوله بالرغم من الرقابة والرقيب.

          وفي كل المسرحيات التي كتبها عدوان ظل يطبق ما علمه لطلبته من انحياز للحرية والجماهير. أما كتاباته التلفزيونية فقد كانت فتحًا جديدًا في ذلك العالم الذي اقتحمه من دون أن يجد في ذلك أي غضاضة أو هشاشة يمكن أن توحي بها التجربة التلفزيونية بشكل عام.

          وقد لخص عنوان مجموعته الشعرية الوحيدة التي كتبها في سياق قصيدة النثر «حياة متناثرة» حياته الإبداعية التي تناثرت فعلاً في سياقات متنوعة وأنتج من خلالها عناوينه الكثيرة استغرق الشعر أغلبها، ومن تلك العناوين: «المخاض»، و«الظل الأخضر»، و«تلويحة الأيدي المتعبة»، و«ليل العبيد»، و«محاكمة الرجل الذي لم يحارب»، و«الدماء تدق النوافذ»، و«أقبل الزمن المستحيل»، و«أمي تطارد قاتلها»، و«هاملت يستيقظ متأخرًا»، و«زنوبيا تندحر عدا»، و«لو كنت فلسطينيًا»، و«حكي السرايا»، و«القناع»، و«يآلفونك فانفر». وفي هذا العنوان الأخير يمكننا أن نجد سر الشاعر الذي نفر من كل من حاول ائتلافه أو توليفه في سياق ما. وبالرغم من ألفته مع الجميع فإنه نفر من كل سلطة.. حاله حال كل الشعراء الحقيقيين.

 

 سعدية مفرح