الجذور الثقافية لفرضيات الوردي في نقد الشخصية العراقية
إذا كانت الأجيال تقاس بأعمار الدول، كما قال أستاذ الوردي «ابن خلدون»، فلن نجد بطلًا لتمثيل هذا الجيل أنسبَ من الوردي نفسه. إنه مثال حيوي للمثقَّف «البطوليِّ» في تلك الدولة، الذي حاول التوغُّلَ في مسار التصحيح، فانتهت به الرحلة مُنْشَقًَّا عن نموذج مضطرب لدولة لا تفاعلية.
فقد بدأ التعليم في الكتاتيب، في بيئة دينية، لينتقل بعدها فيدرس في الجامعات الأمريكية الحديثة، ويطلع على آخر مناهج علم الاجتماع الأمريكي ومدارسه في البحث والتحليل، وهنا طفرة مهمة أتاحت له رؤية مسافة الازدواج بين العالمين.
فقد جذبته نظرية البحث في وسائل التفاعل بين الفرد والمجتمع، التي طرحتها تلك المدارس، خاصة في تأكيدها على مركزية الفرد في التحليل الجزئي وصولًا إلى الكليات، وتركيزها على الوقائع والتفاصيل الصغيرة في المجتمع، وترجيحها غالبًا على العوامل السياسية والاقتصادية، إضافة إلى عوامل التنشئة الاجتماعية، وخصوصية اللغة بوصفها واحدة من وجوه التفاعل الرمزي المؤثر بين الأفراد.
وبين إرث أستاذه ابن خلدون، والمعطيات الحديثة في إطلاعه على مدارس علم الاجتماع الأمريكي استطاع الوردي مقاربة مشكلة الفرد العراقي صعودًا للمجتمع عبر هرمية ثلاثية تمثلت في الفرضيات الثلاث التي حكمت مجمل تحليلاته لبنية المجتمع العراقي.
فقد ظلّت تلك الفرضيات الثلاث ومجمل دراسته لطبيعة المجتمع العراقي فريدة من نوعها حقًا، ولم تعقبها، أو تجاورها، أو تنقضها، أي دراسة أخرى تضاهيها في هذا المجال حتى الآن.
وهنا محاولة لاستقصاء تلك الفرضيات الثلاث المؤسسة لتصور الوردي عن إشكالية المجتمع العراقي؟
أولًا: فرضية ازدواج الشخصية
مفهوم الازدواج هو أولى الفرضيات الثلاث التي اقترحها الوردي لدراسة الشخصية العراقية، ومن ثم المجتمع العراقي بشكل عام. وقد بدأ بالإعلان عن فرضيته الأولى فور عودته من أمريكا بعد حصوله على شهادة الدكتوراه من جامعة تكساس في العام 1950.
ولم يكن علي الوردي قد بلغ الأربعين عندما أصدر كتابه «شخصية الفرد العراقي - بحث في نفسية الشعب العراقي على ضوء علم الاجتماع الحديث - 1951»، والذي ضمنه فرضيته لمفهوم الازدواج في الشخصية العراقية.
ورغم أن هذا الكتاب صغير الحجم، وهو في الأصل محاضرة ألقاها في قاعة الملكة عالية في بغداد في العام 1951، وهو كما قال عنه في المقدمة: مقالة أدبية أشبه منها بالبحث العلمي، فإنه وقع في هذا الكتاب الصغير على اكتشافه الكبير الأول: مفهوم الازدواج في الشخصية العراقية، إضافة إلى ثنائية البداوة / التحضر التي رحَّلها عن ابن خلدون. لكن هذه المفاهيم ظلت قلقةً، أو قل سائبة، ولن تصل إلى مراميها الأدق، إلا في مرحلة لاحقة من دراساته.
ويلخّص الورديُّ مفهوم الازدواج في هذا الكتاب من خلال النظر إلى العراق من خلال ثلاث نواحٍ، الناحية الحضارية: حيث إن «العراق بلد يقع جغرافيًا بين التحضر والبداوة»، وهو ما أوجد التنازع بين التاريخ والجغرافيا: تاريخ الحضارات في بلاد الرافدين، وجغرافيا الصحارى التي تشكل ثلث مساحته. والناحية الاجتماعية: «تجزؤ المجتمع العراقي وقلة الاختلاط والتفاعل على صعيد الأسرة والجماعات الصغيرة». والناحية النفسية: «ازدواجية تربية الطفل في غياب المؤسسات الحديثة، لصالح الكتاتيب، والتربية الأخرى في الشارع»، وعدم التكامل بين الوسطين.
وفي تحليله لطبيعة العلاقة ما بين هؤلاء الأفراد والمؤسسات، شدّد «مكايفر» على أهمية وجود التوافق بين مبدأ الفردية ونظام المؤسسة الاجتماعية، وإلا فإنَّ هوَّة الازدواج ستنشأ حتمًا ما بين الطرفين، كما درس التفاعلات بين المجتمع والنظم السياسية، لأنها تمثل في رأيه الإرهاصات المهمة في خلق النظريات الجديدة في الديمقراطية والتعايش بين المجموعات البشرية الصغيرة والمتعددة.
لقد (عَرْقَنَ) الوردي نظرية «مكايفر» من خلال مفهوم ازدواج الشخصية لدى الفرد العراقي، وفي تنازعه بين نظامين متناقضين من المؤسسات، أو من القيم والمفاهيم.
ويبدو أن الوردي في تأثره بطروحات «مكايفر» عن الازدواج، وجد تفاعلًا شخصيًا مع نمط شخصية عالم الاجتماع الأمريكي ذي الأصول الاسكتلندية والتحدُّر الأرثوذكسي والبيئة الدينية الصارمة، لكنه المتمرِّدُ على تعاليم المرجعيات. تمامًا كما هي حال ابن الكاظمية، الذي ولِدَ قرب روائح الأضرحة التي يفوح منها عبق التاريخ، وتضيئها هالات القداسة، ودخل في كتاتيبها المتزمتة، لكننا نراه ينشقّ بعيدًا عن الدِّين والطائفة وقوة سطوة المكان لمصلحة التحليل العقلي والمنهج العلمي في النظر إلى وقائع الحياة.
ثانيًا: فرضية التناشز الاجتماعي
ومع أنّ كتاب «شخصية الفرد العراقي» لا يخلو من خطل البدايات، وإرهاصات التأسيس، فإنّ الورديّ، وفي نوع من منهجية الجدل الصاعد، ذهب في كتابه «دراسة في طبيعة المجتمع العراقي - 1965» إلى تقصِّيات ميدانية، لا تخلو من جهد ومشقَّة جماعية. فقد أتاح له عمله، كأستاذ لعلم الاجتماع في جامعة بغداد، أن يجمع تقارير ميدانية كلَّف طلابه بتقديمها له من شتى أنحاء العراق، ليجعل من تلك التقارير، بمختلف مستوياتها، مادة حيوية في بناء فرضيته الثانية، وهي: فرضية «التناشز الاجتماعي».
لقد حاول الوردي معرفة مزاج القاع الاجتماعي العراقي والبغدادي تحديدًا، فإضافة إلى عمله كأستاذ جامعي، أتاحت له بيئته «الكاظمية»، بوصفها مَحجًَّا لشريحة مهمة من العراقيين وللبغداديين بشكل خاص، كونها تضم المزار المقدس، أتاحت له اختلاطًا خاصًا بشرائح من المجتمع، واستطاع وهو الذي عمل في صغره مع والده في مهنة العطارة، أن يطلع على رواسب تلك الشرائح. كما استغلَّ شاشة التلفزيون العراقي ليستطلع أمزجة شرائح اجتماعية، من خلال طرح المشاكل الشخصية والاجتماعية ومناقشتها بلغة يومية سلسة، وهو أسلوب طبع معظم كتاباته، وإن لاقت هذه السرديات الحكائية المبسطة، في بحوثه التي لا تحفل كثيرًا بالديباجة البلاغية المعتادة، انتقاد نخبة المثقفين وأهل البلاغة.
وعن هذه النقطة بالذات يقول الوردي:
«علم الاجتماع بطبيعته «متواضع»، يستمدُّ أكثر معلوماته من السِوقة، ومن السَّفلة والمجرمين والغوغاء. فهؤلاء بِمُنابزاتهم ومفاخراتهم، وبتعاونهم وتنازعهم، يمثلون القيم الاجتماعية السائدة أصدقَ تمثيل، وهم بهذا المعنى أفضل من المتعلمين، فالمتعلم يميل عادة إلى التحذلق، وإلى التظاهر بخلاف ما يضمر، أما العامي فهو في الغالب غير قادر على إخفاء ما في نفسه من عقد وقيم».. «دراسة في طبيعة المجتمع العراقي».
صحيح أن الآلية الإحصائية اللازمة في التطبيقات على الدراسات الاجتماعية لم تكن متاحة تمامًا أمام الورديِّ، لكنَّ الصحيح أيضًا أنه أخضع فرضيته الثانية: «التناشز الاجتماعي» إلى جملة مُحدِّدات خاصة، فيما استثنى من حقل الدراسة مناطق شمال العراق الكردية لأنه، كما يقول، ليس مطلعًا بقدر كاف على أحوال أهلها، إضافة إلى عدم إلمامه باللغة الكردية.
يعترف الوردي، كذلك، بأنَّ مفهوم التناشز الاجتماعي، استقاه من عالم اجتماع أمريكي آخر هو «أوكبرن»، من دون أن يطلعنا، مرة أخرى، على طبيعة مفهوم «أوكبرن» للتناشز الاجتماعي.
بيد أنّ (وليم فيلدنغ أوكبرن 1886 - 1959) لَم يقل بهذا المصطلح كما ورد بلفظه لدى الوردي، لكنّ أصول هذا المفهوم كما يرى أوكبرن تعود إلى جذور «ثقافية» لا تبدو متسقة، لتنتج ما اصطلح عليه علماء الاجتماع المهتمين بدراسة فرضيات التغير الاجتماعي، ما يسمونه بـ«التخلف الثقافي»، أو «التعثر الثقافي». فـ«وليم أوكبرن» يفرِّق في مقاربته لمفهوم الثقافة بين نسقين يطلق على أحدهما: «الثقافة المادية»، وعلى الآخر: «الثقافة المتكيِّفة»، فالنسق الأول يضم في رأيه الجانب المادي من الثقافة: أي التكنولوجيا والنظام المصرفي الحديث وسواهما، وهي مجموع المعطيات وأدوات العمل الحديثة والمحصلات الناتجة عنها. بينما يضم النسق الثاني الجانب الاجتماعي، كالدين والفن وإرث العادات والتقاليد، وهي الثوابت الأساسية التي ينعكس تأثيرها في نمط سلوك الفرد على مر التاريخ.
يصف الوردي الشعب العراقي بأنه شعب حائر، بين حدود الصحراء التي تحكم واقعه الراهن وتتغلغل في حياته، وعمق الحضارات القديمة ووفرة مياهه وزهو التاريخ الذي يزدهر في ذاكرته.
ويرى أن التغير السريع الذي طرأ على الجماعات العراقية الصغيرة، بعد الحرب العالمية الثانية، هو الذي أوجد مظاهر التناشز التي تتمثل في:
التناشز بين وعي الحقوق وإدراك الواجبات لدى الفرد.
والتناشز بين المدارس والوظائف: أي أنّ هنالك إقبالًا على التعليم لا تقابله قدرةٌ استيعابية على التوظيف.
والتناشز في علاقة المرأة بالرجل: حيث يكون الرجل منشقًَّا حينما يعشق، لكنه يعود ابن أبيه عندما يريد أن يتزوج امرأة «صالحة».
وأخيرًا، وليس آخرًا، تناشز الدين والجيل الجديد: أي قدرة الطقوس الدينية القديمة على التغلغل في سلوكيات جيل يفترض أنه ينتمي لثقافة أخرى.
ثالثًا: الفرضية الخلدونية
يعود اهتمام علي الوردي بابن خلدون إلى رسالته في الدكتوراه في جامعة تكساس1950. والواقع أن اهتمام العراقيين بابن خلدون أخذ شكلًا أكاديميًا حديثًا منذ ذلك التاريخ، وجرى إعادة طرحه في الثقافة الإنجليزية. ولعل كتاب الدكتور محسن مهدي (فلسفة التاريخ عند ابن خلدون)، الصادر في لندن باللغة الإنجليزية عام 1957، وهو في الأصل رسالة دكتوراه من جامعة شيكاغو، هو ما حفَّز الورديَّ على إعادة قراءة ابن خلدون في ضوء علم الاجتماع الحديث.
ومن جملة ما نبَّه إليه الورديُّ في قراءته الجديدة لابن خلدون، أنه المثقف الأول الذي نقل الفكرَ العربي الإسلامي من نَمَطيَّةِ الوعظ والخطابة، إلى فضاء النقد والتحليل. فهو مثقف «الطفرة» كما يسمِّيه، إذ نقل دراسة التاريخ الاجتماعي من الصورة إلى المادة، ومن الميتافيزيقيا إلى العقل. وقد استخلص ابن خلدون تلك النقلة، كما يرى الوردي، من خلال قراءته النقدية لكل من ابن تيمية والغزالي، في نظرتهما للعقل والميتافيزيقيا.
وعندما تصدّى علي الوردي، لقراءة تاريخ العراق كان خلدونيًا بامتياز. رغم أن كتابة التاريخ في العراق في ذلك الوقت تمثّلتْ في منحى آخر، فمعاصره المؤرخ عباس العزاوي، وهو من طبقة الأفنديَّة الجديدة كذلك، عالج في كتابه «تاريخ العراق بين احتلالين»، ويقصد به كلًا من الاحتلالين المغولي والعثماني للعراق، فترة زمنية لَم تعالَج كثيرًا في التاريخ المحلي والمجاور، وهي أشبه بالهوَّة أو الفراغ التاريخي الذي يحتاج إلى إعادة الشحن، لكنَّ محاولته تلك شابتها بعضُ المشكلات المنهجية، فقد جمع العزاوي بين الطريقة القديمة في التوثيق، ومحاولة قراءة الواقعة بمقاربتها من تعدُّد الوثائق. هي إذن منهجية تنحاز أكثر إلى التدوين لا إلى التحليل والمساءلة، خاصة في الأجزاء الأولى، واعتماده فيها المخطوطات والوثائق العثمانية، وهو يدوِّن لمرحلة لَم يكن شاهدًا عليها.
أما الوردي فقد تصدّى لمقاربة التاريخ، في كتابٍ شامل ذي ثمانية أجزاء سماه «لمحات اجتماعية من تاريخ العراق»، مُنطلقًا من فلسفة ابن خلدون ورؤيته للتاريخ، لكنه لَمْ يكن خلدونيًا تقليديًا، وإنما سعى إلى تجديد ابن خلدون في ضوء تطورات علم الاجتماع الحديث، وخصوصية التجربة. فمفهوم ثنائية الحضارة/ البداوة، والتنازع الديالكتيكي بينهما، كما طرحه مفكِّر الأندلس، كان يحاول من خلاله تأريخ التحولات والتبدلات التي تطرأ على الأمم والشعوب، وعلى الصراعات في ما بينها. بيد أن الوردي استطاع سحب تلك الافتراضات إلى مناطق أكثر خصوصية، وأكثر صلة بالفرد والمجتمع، فنقلها من إطارها العام إلى الخاص، بوصفها تناقضاتٍ وصراعاتٍ داخلية في نسيج المجتمع ذاته، وأحيانًا ذاتية داخل الفرد نفسه.
ففي حديثه عن ازدواج الشخصية وقلقها بين البداوة والتحضر، بين الانفتاح والانغلاق، بين التمدُّن والريف، وصراعهما الذاتي بين الصحراء والمدينة، يؤكد أن كل عنصر من هذه العناصر غير قابل للاندماج في الآخر تمامًا، لأن التناشز الاجتماعي يميز أزمة علاقة الفرد العراقي بمظاهر التحديث الوافدة وتأصُّل القيم الراسخة.
وهكذا أصبحت هذه الفرضيات الثلاث: «الازدواج» و«التناشز الاجتماعي» و«صراع الحضارة/ البداوة» هي الأثافي التي استقر عليها في «لمحات اجتماعية من تاريخ العراق» لمعاينة نار التاريخ وهي تطبخ الأحداث والوقائع التي مرَّ بها العراق خلال أربعة قرون من الزمن. لقد غدت تلك الفرضيات تُشبه مقدمة ابن خلدون التي كتبها أساسًا توطئة لكتابه ذي العنوان الطويل «كتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر في معرفة أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر».
ولَم يَبْدُ علي الوردي وهو يقدّم فرضياته تلك يقينيًا، إنما كان ديكارتي النزعة، بل إنه أول من اتهم نفسه بالتناقض، لكنه ليس التناقض بمعنى التخلي والنكوص، وإنما بمفهوم الاندفاع إلى الأمام بالفكرة على ضوء معطيات جديدة.
لم تعد تلك الفرضيات سائبة ومُوزَّعة في مقترحات وإرهاصات قلقة لدى الوردي الشاب، إذ نجح الشيخ، في منهجه بالجدل الصاعد، في نقل ظلال تلك الفرضيات من الفرد فلسفيًا، إلى الشخصية نفسيًا، ومن ثَمَّ إلى المجتمع سوسيولوجيًا، وهو ما وعد به حينما جعل من دراسة طبيعة المجتمع العراقي «محاولة تمهيدية لدراسة المجتمع العربي الأكبر في ضوء علم الاجتماع الحديث».
هذه الملامح الاجتماعية التي كشف عنها علي الوردي داخل جسد التاريخ العام في العراق ليست مجرد سرد تاريخي لوقائع يومية وأحداث في التاريخ المحليّ، إنها سمات تتشكل وتترسَّخ في أعماق الشخصية، وتغدو أحيانًا كالندوب والجراحات المضمرة، وتنعكس لاحقًا في بنية المجتمع، وتتحكم بمسار التحولات والتغيرات الاجتماعية، تطورًا أو نكوصًا، ملامح لاتزال ماثلةً في طبيعة الفرد، وتنسحب بظلالها القوية على طبيعة المجتمع برمَّته. ولعلَّها هي تلك الشروخ التي تجعل من الدولة قابلة للتصدع والتفكك أمام التحديات، وتُفقدها القدرةَ على الاستجابة لتلك التحديات.