مسلم بن الوليد.. صريع الـحزن

مسلم بن الوليد..  صريع الـحزن

يبدو أن الشاعر قد ارتاح كثيرا لهذا اللقب الذي حدد هويته الشعرية واحتواها في إطار جاهز. إنه مسلم بن الوليد الأنصاري الكوفي الذي يغفل التاريخ عن سنة ولادته وتفاصيل نشأته الأولى في مدينة الكوفة إلا باعتباره من الموالي على الرغم من أننا لا نجد أثرا من ذلك في قصائده، ولعل في تجاهله لوضعه الاجتماعي في قصيده ما يشير الى ذلك الأثر بطريقة عكسية، فربما كان يريد من حيث يدري أو لا يدري ألا يذكر الناس من متلقي قصائده بذلك الإعجاب الكبير أصله ونسبه في زمن كانت قد عادت فيها بعض النعرات الجاهلية إلى المجتمع العربي المسلم  في سياق صراع شعوبي كانت بغداد العباسية مسرحه الأول.
وعلى الرغم من أن هذا اللقب يشير إلى صورة شاعر متبذل بين الغواني من جواري العصر العباسي، وهي صورة يعززها شعره الغزلي إلا أن الحكايات التي تنقلها لنا كتب التاريخ الأدبي عن الشاعر بعد موت زوجته تناقض تلك الصورة العامة، ومنها حكاية تقول إنه جزع جزعا شديدا بعد موت زوجته حتى أنه عزم على التنسك مدة طويلة، ونفذ ما عزم عليه إذ اعتزل الناس والصحاب ولم يصحب معه في عزلته تلك سوى طيف زوجته الراحلة يبثها أشواقه ويستحضر ذكرياته معها. ولم يرق ذلك لأصدقائه فقرروا أن يخرجوه من عزلته تلك وألحوا عليه في سبيل ذلك بضرورة زيارتهم ففعل. وعندما أرادوا استعادة بعض من روحه المرحة التي توارت وراء غلالة الحزن وبقايا الدموع، قدموا له الشراب وتمنوا عليه أن ينشدهم، لكنه امتنع عن الاقتراب من الشراب واقترب من القصيد فقال: بكاء وكأس كيف يتفقان ِ/ سبيلهما في القلب مختلفان. وأكمل البيت بما يرسم صورته الجديدة بعيدا عن الغواني وأجوائهن ، أو عزز صورته الحقيقية التي ذهبت ضحية لقب خلعه عليه هارون الرشيد فاستسلم له استحلابا للإعجاب وما وراءه رغم كراهيته لهذا اللقب الذي غلب على اسمه كما يروى عنه. ولعل في تلك الكراهية ما يعزز رأينا بأن صورته كشاعر متبذل متهتك لم تكن انعكاسا دقيقا لصورته الحقيقية بقدر ما كانت انعكاسا لما قر في أذهان المتلقين لقصيده عنه اتكاء على ذلك اللقب الفج.
على أن هذا الرأي ربما يتقاطع مع رأي آخر وإن كان لا يتناقض معه في المحصلة النهائية، والرأي الآخر يرى أنه  تاب في أخريات أيامه عن كل ما صنع، له شخصيته الشعرية والإنسانية اللاهية والتي رأى فيها بعض النقاد خليطا من عمر بن أبي ربيعة وبشار بن برد غزلا وحدٌةً في الوقت نفسه. ومما يؤيد ذلك الرأي حكاية أوردها الأصفهاني في كتاب الأغاني كتفسير منطقي لقلة ما بقي بين الناس من قصائده على الرغم من أنه لم يكن من المقلين. وتقول الحكاية التي قد لا تخلو من مبالغة ككثير من قصص كتاب الأغاني ولكننا لا يمكن تجاهلها أيضا. وتقول الحكاية التي يفترض أنها حدثت في أخريات أيامه أن أحد مريدي شعره ومعجبيه أتاه بما جمعه له من قصائد في كراسة ليراجعها عليه ويتأكد من كل كلمة فيها لاعتمادها، وربما رأى الشاعر أن ما جمعه ذلك المريد في تلك الكراسة هي النسخة الكاملة أو شبه الكاملة الوحيدة من ديوانه، فقرر أن يتخلص منها لتكمل صورة الشاعر التائب عن كل ماقال، وهكذا أمسك بتلك الكراسة وطوح بها في الهواء وراقبها وهي تستقر في قلب النهر الذي كانا يجلسان على ضفافه.. وهكذا ودع الكثير من قصائده إلى الأبد ولم يبق من شعره إلا قليل من الغزل وبعض مدائحه التي احتفظ بها من كتب فيهم مدحا. 
ومسلم بن الوليد بدأ رحلته الشعرية صبيا موهوبا شغوفا متطلعا للخروج من ضيق الكوفة إلى رحابة بغداد وما توفره من فرص ثقافية وحياتية لأي شاعر متطلع باحث عن مجد ولا يملك من متطلباته إلا الشعر والطموح والنفس العالية.. وهل يريد المجد الكثير بعد ذلك؟
وصل بغداد ومدح من مدح فيها حتى اشتهر ليصل إلى هارون الرشيد ويكسب منه رضاه وإعجابه ولقبه الذي التصق به على كراهته له كما يبدو. 
ومع أن تاريخ مسلم بن الوليد، الذي رحل في العام 208هـ (823م)، وسيرته تفرقت في حكايات الطرافة والمفارقة لتلتهم المساحة الأكبر مما كتب عنه إلا أن المساحة الأهم كانت تغطي حديث النقاد عن كونه أول من أدخل البديع للشعر ، وسار على نهجه من تلاه من عشاق البديع وعلى رأسهم  الشعراء أبو تمام. وكان غرام صريع الغواني بالبديع سببا لتميزه وتقدمه عند فريق من النقاد وتأخره وافتعاله عند فريق آخر.. على أنه بقي لدى الجميع شاعرا ذا بصمة خاصة في سياق الشعر والحزن.. والغواني .